فصل: تفسير الآية رقم (35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (35):

{اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)}
قوله تعالى: {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} الآية النور في كلام العرب: الأضواء المدركة بالبصر. واستعمل مجازا فيما صح من المعاني ولاح فيقال منه: كلام له نور. ومنه: الكتاب المنير، ومنه قول الشاعر:
نسب كأن عليه من شمس الضحا ** نورا ومن فلق الصباح عمودا

والناس يقولون: فلان نور البلد، وشمس العصر وقمره. وقال:
فإنك شمس والملوك كواكب

وقال آخر:
هلا خصصت من البلاد بمقصد ** قمر القبائل خالد بن يزيد

وقال آخر:
إذا سار عبد الله من مرو ليلة ** فقد سار منها نورها وجمالها

فيجوز أن يقال: لله تعالى نور من جهة المدح لأنه أوجد الأشياء ونور جميع الأشياء منه ابتداؤها وعنه صدورها وهو سبحانه ليس من الأضواء المدركة جل وتعالى عما يقول الظالمون علوا كبيرا. وقد قال هشام الجوالقي وطائفة من المجسمة: هو نور لا كالانوار، وجسم لا كالأجسام. وهذا كله محال على الله تعالى عقلا ونقلا على ما يعرف في موضعه من علم الكلام. ثم إن قولهم متناقض، فإن قولهم جسم أو نور حكم عليه بحقيقة ذلك، وقولهم لا كالانوار ولا كالأجسام نفي لما أثبتوه من الجسمية والنور، وذلك متناقض، وتحقيقه في علم الكلام. والذي أوقعهم في ذلك ظواهر اتبعوها منها هذه الآية، وقول عليه السلام إذا قام من الليل يتهجد: «اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض».
وقال عليه السلام وقد سئل: هل رأيت ربك؟ فقال: «رأيت نورا». إلى غير ذلك من الأحاديث. واختلف العلماء في تأويل هذه الآية، فقيل: المعنى أي به وبقدرته أنارت أضواؤها، واستقامت أمورها، وقامت مصنوعاتها. فالكلام على التقريب للذهن، كما يقال: الملك نور أهل البلد، أي به قوام أمرها وصلاح جملتها، لجريان أموره على سنن السداد. فهو في الملك مجاز، وهو في صفة الله حقيقة محضة، إذ هو الذي أبدع الموجودات وخلق العقل نورا هاديا، لان ظهور الموجود به حصل كما حصل بالضوء ظهور المبصرات، تبارك وتعالى لا رب غيره. قال معناه مجاهد والزهري وغيرهما. قال ابن عرفة: أي منور السموات والأرض. وكذا قال الضحاك والقرظي. كما يقولون: فلان غياثنا، أي مغيثنا. وفلان زادي، أي مزودي. قال جرير:
وأنت لنا نور وغيث وعصمة ** ونبت لمن يرجو نداك وريق

أي ذو ورق.
وقال مجاهد: مدبر الا امور في السموات والأرض. أبى بن كعب والحسن وأبو العالية: مزين السموات بالشمس والقمر والنجوم، ومزين الأرض بالأنبياء والعلماء والمؤمنين.
وقال ابن عباس وأنس: المعنى الله هادي أهل السموات والأرض. والأول أعم للمعاني وأصح مع التأويل. أي صفة دلائله التي يقذفها في قلب المؤمن، والدلائل تسمى نورا. وقد سمى الله تعالى كتابه نورا فقال: {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً} [النساء: 174] وسمي نبيه نورا فقال: {قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15]. وهذا لان الكتاب يهدي ويبين، وكذلك الرسول. ووجه الإضافة إلى الله تعالى أنه مثبت الدلالة ومبينها وواضعها. وتحتمل الآية معنى آخر ليس فيه مقابلة جزء من المثال بجزء من الممثل به، بل وقع التشبيه فيه جملة بجملة، وذلك أن يريد مثل نور الله الذي هو هداه وإتقانه صنعة كل مخلوق وبراهينه الساطعة على الجملة، كهذه الجملة من النور الذي تتخذونه أنتم على هذه الصفة، التي هي أبلغ صفات النور الذي بين أيدي الناس، فمثل نور الله في الوضوح كهذا الذي هو منتهاكم أيها البشر. والمشكاة: الكوة في الحائط غير النافذة، قال ابن جبير وجمهور المفسرين، وهي أجمع للضوء، والمصباح فيها أكثر إنارة منه في غيرها، واصلها الوعاء يجعل فيه الشيء. والمشكاة وعاء من أدم كالدلو يبرد فيها الماء، وهو على وزن مفعلة كالمقراة والمصفاة. قال الشاعر:
كأن عينيه مشكاتان في حجر ** قيضا اقتياضا بأطراف المناقير

وقيل: المشكاة عمود القنديل الذي فيه الفتيلة.
وقال مجاهد: هي القنديل. وقال: {فِي زُجاجَةٍ} لأنه جسم شفاف، والمصباح فيه أنور منه في غير الزجاج. والمصباح: الفتيل بناره أي في الإنارة والضوء. وذلك يحتمل معنيين: إما أن يريد أنها بالمصباح كذلك، وإما أن يريد أنها في نفسها لصفائها وجودة جوهرها كذلك. وهذا التأويل أبلغ في التعاون على النور. قال الضحاك: الكوكب الدري هو الزهرة. أي من زيت شجرة، فحذف المضاف. والمبارة المنماة، والزيتون من أعظم الثمار نماء، والرمان كذلك. والعيان يقتضي ذلك. وقول أبى طالب يرثي مسافر بن أبى عمرو بن أمية بن عبد شمس:
ليت شعري مسافر بن أبى عم ** رو وليت يقولها المحزون

بورك الميت الغريب كما بو ** رك نبع الرمان والزيتون

وقيل: من بركتهما أن أغصانهما تورق من أسفلها إلى أعلاها.
وقال ابن عباس: في الزيتونة منافع، يسرج بالزيت، وهو إدام ودهان ودباغ، ووقود يوقد بحطبه وتفله، وليس فيه شيء إلا وفية منفعة، حتى الرماد يغسل به الإبريسم. وهي أول شجرة نبتت في الدنيا، وأول شجرة نبتت بعد الطوفان، وتنبت في منازل الأنبياء والأرض المقدسة، ودعا لها سبعون نبيا بالبركة، منهم إبراهيم، ومنهم محمد صلى الله عليه وسلم فإنه قال: «اللهم بارك في الزيت والزيتون». قاله مرتين. اختلف العلماء في قوله تعالى: {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} فقال ابن عباس وعكرمة وقتادة وغيرهم: الشرقية التي تصيبها الشمس إذا شرقت ولا تصيبها إذا غربت لان لها سترا. والغربية عكسها، أو أنها شجرة في صحراء ومنكشف من الأرض لا يواريها عن الشمس شيء وهو أجود لزيتها، فليست خالصة للشرق فتسمى شرقية ولا للغرب فتسمى غربية، بل هي شرقيا غربية.
وقال الطبري عن ابن عباس: إنها شجرة في دوحة قد أحاطت بها، فهي غير منكشفة من جهة الشرق ولا من جهة الغرب. قال ابن عطية: وهذا قول لا يصح عن ابن عباس لان الثمرة التي بهذه الصفة يفسد جناها وذلك مشاهد في الوجود.
وقال الحسن: ليست هذه الشجرة من شجر الدنيا، وإنما هو مثل ضربه الله تعالى لنوره، ولو كانت في الدنيا لكانت إما شرقية وإما غربية. الثعلبي: وقد أفصح القرآن بأنها من شجر الدنيا، لأنها بدل من الشجرة، فقال: {زَيْتُونَةٍ}.
وقال ابن زيد: إنها من شجر الشام، فإن شجر الشام لا شرقي ولا غربي، وشجر الشام هو أفضل الشجر، وهى الأرض المباركة. و{شَرْقِيَّةٍ} نعت ل {زَيْتُونَةٍ} و{لا} ليست تحول بين النعت والمنعوت، {وَلا غَرْبِيَّةٍ} عطف عليه. قوله تعالى: {يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ} مبالغة في حسنه وصفائه وجودته. {نُورٌ عَلى نُورٍ} أي اجتمع في المشكاة ضوء المصباح إلى ضوء الزجاجة وإلى ضوء الزيت فصار لذلك نور على نور. واعتقلت هذه الأنوار في المشكاة فصارت كأنور ما يكون، فكذلك براهين الله تعالى واضحة، وهى برهان بعد برهان، وتنبيه بعد تنبيه، كإرساله الرسل وإنزاله الكتب، ومواعظ تتكرر فيها لمن له عقل معتبر. ثم ذكر تعالى هداه لنوره من شاء وأسعد من عباده، وذكر تفضله للعباد في ضرب الأمثال لتقع لهم العبرة والنظر المؤدي إلى الايمان. وقرأ عبد الله بن عياش بن أبى ربيعة وأبو عبد الرحمن السلمى {اللَّهُ نُورُ} بفتح النون والواو المشددة. واختلف المتأولون في عود الضمير في {نُورِهِ} على من يعود، فقال كعب الأحبار وابن جبير: هو عائد على محمد صلى اله عليه وسلم، أي مثل نور محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن الأنباري: {اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} وقف حسن، ثم تبتدئ {مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ} على معنى نور محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال أبى بن كعب وابن جبير أيضا والضحاك: هو عائد على المؤمنين.
وفي قراءة أبى: {مثل نور المؤمنين}. وروي أن في قراءته {مثل نور المؤمن}. وروي أن فيها {مثل نور من آمن به}.
وقال الحسن: هو عائد على القرآن والايمان. قال ما: وعلى هذه الأقوال يوقف على قوله: {وَالْأَرْضِ}. قال ابن عطية: وهذه الأقوال فيها عود الضمير على من لم يجر له ذكر، وفيها مقابلة جزء من المثال بجزء من الممثل، فعلى من قال الممثل به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو قول كعب الحبر، فرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو المشكاة أو صدره والمصباح هو النبوة وما يتصل بها من عمله وهداه، والزجاجة قلبه، والشجرة المباركة هي الوحى، والملائكة رسل الله إليه وسببه المتصل به، والزيت هو الحجج والبراهين والآيات التي تضمنها الوحى. ومن قال: الممثل به المؤمن، وهو قول أبى، فالمشكاة صدره، والمصباح الايمان والعلم، والزجاجة قلبه، وزيتها هو الحجج والحكمة التي تضمنها. قال أبى: فهو على أحسن الحال يمشى في الناس كالرجل الحي يمشى في قبور الأموات. ومن قال: إن الممثل به هو القرآن والايمان، فتقدير الكلام: مثل نوره الذي هو الايمان في صدر المؤمن في قلبه كمشكاة، أي كهذه الجملة. وهذا القول ليس في مقابلة التشبيه كالأولين، لان المشكاة ليست تقابل الايمان. وقالت طائفة: الضمير في {نُورِهِ} عائد على الله تعالى. وهذا قول ابن عباس فيما ذكر الثعلبي والماوردي والمهدوي، وقد تقدم معناه. ولا يوقف على هذا القول على {الْأَرْضِ}. قال المهدوي: الهاء لله عز وجل، والتقدير: الله هادي أهل السموات والأرض، مثل هداه في قلوب المؤمنين كمشكاة، وروي ذلك عن ابن عباس. وكذلك قال زيد بن أسلم، والحسن: إن الهاء لله عز وجل. وكان أبى وابن مسعود يقرءانها {مثل نوره في قلب المؤمن كمشكاة}. قال محمد بن على الترمذي: فأما غيرهما فلم يقرأها في التنزيل هكذا، وقد وافقهما في التأويل أن ذلك نوره قلب المؤمن، وتصديقه في آية أخرى يقول: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} [الزمر: 22]. واعتل الأولون بأن قالوا: لا يجوز أن يكون الهاء لله عز وجل، لان الله عز وجل لا حد لنوره. وأمال الكسائي فيما روى عنه أبو عمر الدوري الالف من {مشكاة} وكسر الكاف التي قبلها. وقرأ نصر بن عاصم: {زجاجة} بفتح الزاي و{الزُّجاجَةُ} كذلك، وهى لغة. وقرأ ابن عامر وحفص عن عاصم: {دُرِّيٌّ} بضم الدال وشد الياء، ولهذه القراءة وجهان: إما أن ينسب الكوكب إلى الدر لبياضه وصفائه، وإما أن يكون أصله درئ مهموز، فعيل من الدرء وهو الدفع، وخففت الهمزة. ويقال للنجوم العظام التي لا تعرف أسماؤها: الدراري، بغير همز فلعلهم خففوا الهمزة، والأصل من الدرء الذي هو الدفع. وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم: {درئ} بالهمز والمد، وهو فعيل من الدرء، بمعنى أنها يدفع بعضها بعضا. وقرأ الكسائي وأبو عمرو: {درئ} بكسر الدال والهمز من الدرء والدفع، مثل السكير والفسيق. قال سيبويه: أي يدفع بعض ضوئه بعضا من لمعانه. قال النحاس: وضعف أبو عبيد قراءة أبى عمرو والكسائي تضعيفا شديدا، لأنه تأولها من درأت أي دفعت، أي كوكب يجري من الأفق إلى الأفق. وإذا كان التأويل على ما تأوله لم يكن في الكلام فائدة، ولا كان لهذا الكوكب مزية على أكثر الكواكب، ألا ترى أنه لا يقال جاءني إنسان من بنى آدم. ولا ينبغي أن يتأول لمثل أبى عمرو والكسائي مع علمهما وجلالتهما هذا التأويل البعيد، ولكن التأويل لهما على ما روي عن محمد بن يزيد أن معناهما في ذلك: كوكب مندفع بالنور، كما يقال: اندرأ الحريق أن اندفع. وهذا تأويل صحيح لهذه القراءة. وحكى سعيد بن مسعدة أنه يقال: درأ الكوكب بضوئه إذا امتد ضوءه وعلا.
وقال الجوهري في الصحاح: ودرأ علينا فلان يدرأ دروءا أي طلع مفاجأة. ومنه كوكب درئ، على فعيل، مثل سكير وخمير، لشدة توقده وتلألئه. وقد درأ الكوكب دروءا.
وقال أبو عمرو بن العلاء سألت رجلا من سعد بن بكر من أهل ذات عرق فقلت: هذا الكوكب الضخم ما تسمونه؟ قال: الدري، وكان من أفصح الناس. قال النحاس: فأما قراءة حمزة فأهل اللغة جميعا قالوا: هي لحن لا تجوز، لأنه ليس في كلام العرب اسم على فعيل. وقد اعترض أبو عبيد في هذا فاحتج لحمزة فقال: ليس هو فعيل وإنما هو فعول، مثل سبوح، أبدل من الواو ياء، كما قالوا: عتى. قال أبو جعفر النحاس: وهذا الاعتراض والاحتجاج من أعظم الغلط وأشده، لان هذا لا يجوز البتة، ولو جاز ما قال لقيل في سبوح سبيح، وهذا لا يقوله أحد، وليس عتى من هذا، والفرق بينهما واضح بين، لأنه ليس يخلو عتي من إحدى جهتين: إما أن يكون جمع عات فيكون البدل فيه لازما، لان الجمع باب تغيير، والواو لا تكون طرفا في الأسماء وقبلها ضمة، فلما كان قبل هذه ساكن وقبل الساكن ضمة والساكن ليس بحاجز حصين أبدل من الضمة كسرة فقلبت الواو ياء. وإن كان عتى واحدا كان بالواو أولى، وجاز قلبها لأنها طرف، والواو في فعول ليست طرفا فلا يجوز قلبها. قال الجوهري: قال أبو عبيد إن ضممت الدال قلت دري، يكون منسوبا إلى الدر، على فعلى ولم تهمزه لأنه ليس في كلام العرب فعيل. ومن همزه من القراء فإنما أراد فعولا مثل سبوح فاستثقل لكثرة الضمات فرد بعضه إلى الكسر. وحكى الأخفش عن بعضهم: {درئ} من درأته، وهمزها وجعلها على فعيل مفتوحة الأول. قال: وذلك من تلألئه. قال الثعلبي: وقرأ سعيد بن المسيب وأبو رجاء: {درئ} بفتح الدال مهموزا. قال أبو حاتم: هذا خطأ لأنه ليس في الكلام فعيل، فإن صح عنهما فهما حجة. {يُوقَدُ} قرأ شيبة ونافع وأيوب وسلام وابن عامر واهل الشام وحفص: {يُوقَدُ} بياء مضمومة وتخفيف القاف وضم الدال. وقرأ الحسن والسلمى وأبو جعفر وأبو عمرو بن العلاء البصري: {توقد} مفتوحة الحروف كلها مشددة القاف، واختارها أبو حاتم وأبو عبيد. قال النحاس: وهاتان القراءتان متقاربتان، لأنهما جميعا للمصباح، وهو أشبه بهذا الوصف، لأنه الذي ينير ويضيء، وإنما الزجاجة وعاء له. و{توقد} فعل ماض من توقد يتوقد، ويوقد فعل مستقبل من أوقد يوقد. وقرأ نصر ابن عاصم: {توقد} والأصل على قراءته تتوقد حذف إحدى التاءين لان الأخرى تدل عليها. وقرأ الكوفيون: {توقد} بالتاء يعنون الزجاجة. فهاتان القراءتان على تأنيث الزجاجة. {مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} تقدم القول فيه.
{يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ} على تأنيث النار. وزعم أبو عبيد أنه لا يعرف إلا هذه القراءة. وحكى أبو حاتم أن السدي روى عن أبى مالك عن ابن عباس أنه قرأ: {وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ} بالياء. قال محمد بن يزيد: التذكير على أنه تأنيث غير حقيقي، وكذا سبيل المؤنث عنده.
وقال ابن عمر: المشكاة جوف محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والزجاجة قلبه، والمصباح النور الذي جعله الله تعالى في قلبه يوقد شجرة مباركة، أي أن أصله من إبراهيم وهو شجرته، فأوقد الله تعالى في قلب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النور كما جعله في قلب إبراهيم عليه السلام.
وقال محمد بن كعب: المشكاة إبراهيم، والزجاجة إسماعيل، والمصباح محمد صلوات الله عليهم أجمعين، سماه الله تعالى مصباحا كما سماه سراجا فقال: {وَداعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً} [الأحزاب: 46] يوقد من شجرة مباركة وهى آدم عليه السلام، بورك في نسله وكثر منه الأنبياء والأولياء.
وقيل: هي إبراهيم عليه السلام، سماه الله تعالى مباركا لان أكثر الأنبياء كانوا من صلبه. {لا شَرْقِيَّةٍ وَلا غَرْبِيَّةٍ} أي لم يكن يهوديا ولا نصرانيا وإنما كان حنيفا مسلما. وإنما قال ذلك لان اليهود تصلى قبل المغرب والنصارى تصلى فبل المشرق. {يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ} أي يكاد محاسن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تظهر للناس قبل أن أوحى الله تعالى إليه. {نُورٌ عَلى نُورٍ} نبى من نسل نبى.
وقال الضحاك: شبه عبد المطلب بالمشكاة وعبد الله بالزجاجة والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالمصباح كان في قلبهما، فورث النبوة من إبراهيم. {مِنْ شَجَرَةٍ} أي شجرة التقى والرضوان وعشيرة الهدى والايمان شجرة أصلها نبوة، وفرعها مروءة، وأغصانها تنزيل، وورقها تأويل، وخدمها جبريل وميكائيل. قال القاضي أبو بكر ابن العربي: ومن غريب الامر أن بعض الفقهاء قال إن هذا مثل ضربه الله تعالى لإبراهيم ومحمد ولعبد المطلب وابنه عبد الله، فالمشكاة هي الكوة بلغة الحبشة، فشبه عبد المطلب بالمشكاة فيها القنديل وهو الزجاجة، وشبه عبد الله بالقنديل وهو الزجاجة، ومحمد كالمصباح يعني من أصلابهما، وكأنه كوكب دري وهو المشتري {يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ} يعني إرث النبوة من إبراهيم عليه السلام هو الشجرة المباركة، يعني حنيفية لا شرقية ولا غربية، لا يهودية ولا نصرانية. {يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ} يقول: يكاد إبراهيم يتكلم بالوحي من قبل أن يوحى إليه. {نُورٌ عَلى نُورٍ} إبراهيم ثم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال القاضي: وهذا كله عدول عن الظاهر، وليس يمتنع في التمثيل أن يتوسع المرء فيه.
قلت: وكذلك في جميع الأقوال لعدم ارتباطه بالآية ما عدا القول الأول، وأن هذا مثل ضربه الله تعالى لنوره، ولا يمكن أن يضرب لنوره المعظم مثلا تنبيها لخلقه إلا ببعض خلقه، لان الخلق لقصورهم لا يفهمون إلا بأنفسهم ومن أنفسهم، ولولا ذلك ما عرف الله إلا الله وحده، قاله ابن العربي. قال ابن عباس: هذا مثل نور الله وهداه في قلب المؤمن كما يكاد الزيت الصافي يضئ قبل أن تمسه النار، فإن مسته النار، زاد ضوءه، كذلك قلب المؤمن يكاد يعمل بالهدى قبل أن يأتيه العلم، فإذا جاءه العلم زاده هدى على هدى ونورا على نور، كقول إبراهيم من قبل أن تجيئه المعرفة: {هذا رَبِّي}، من قبل أن يخبره أحد أن له ربا، فلما أخبره الله أنه ربه زاد هدى، ف {قالَ لَهُ رَبُّهُ: أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ}[البقرة: 131]. ومن قال إن هذا مثل للقرآن في قلب المؤمن قال: كما أن هذا المصباح يستضاء به ولا ينقص فكذلك القرآن يهتدى به ولا ينقص، فالمصباح القرآن، والزجاجة قلب المؤمن، والمشكاة لسانه وفهمه، والشجرة المباركة شجرة الوحى. {يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ} تكاد حجج القرآن تتضح ولو لم يقرأ. {نُورٌ عَلى نُورٍ} يعني أن القرآن نور من الله تعالى لخلقه، مع ما أقام لهم من الدلائل والاعلام قبل نزول القرآن، فازدادوا بذلك نورا على نور. ثم أخبر أن هذا النور المذكور عزيز، وأنه لا يناله إلا من أراد الله هداه فقال: {يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ} أي يبين الأشباه تقريبا إلى الافهام. {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} أي بالمهدي والضال. وروي عن ابن عباس أن اليهود قالوا: يا محمد، كيف يخلص نور الله تعالى من دون السماء، فضرب الله تعالى ذلك مثلا لنوره.