فصل: تفسير الآية رقم (20):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (20):

{وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20)}
فيه تسع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ} نزلت جوابا للمشركين حيث قالوا: {مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْواقِ}.
وقال ابن عباس: لما عير المشركون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالفاقة وقالوا: {مالِ هذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ} الآية حزن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لذلك فنزلت تعزية له، فقال جبريل عليه السلام: السلام عليك يا رسول الله! الله ربك يقرئك السلام ويقول لك: {وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ} أي يبتغون المعايش في الدنيا.
الثانية: قوله تعالى: {إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ} إذا دخلت اللام لم يكن في {إن} إلا الكسر، ولو لم تكن اللام ما جاز أيضا إلا الكسر، لأنها مستأنفة. هذا قول جميع النحويين. قال النحاس: إلا أن علي بن سليمان حكى لنا عن محمد بن يزيد قال: يجوز في {إن} هذه الفتح ون كان بعدها اللام، وأحسبه وهما منه. قال أبو إسحاق الزجاج: وفى الكلام حذف، والمعنى وما أرسلنا قبلك رسلا إلا إنهم ليأكلون الطعام، ثم حذف رسلا، لان في قوله: {مِنَ الْمُرْسَلِينَ} ما يدل عليه. فالموصوف محذوف عند الزجاج. ولا يجوز عنده حذف الموصول وتبقية الصلة كما قال الفراء. قال الفراء: والمحذوف {من} والمعنى إلا من إنهم ليأكلون الطعام. وشبهه بقوله: {وَما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ}، وقوله: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها} أي ما منكم إلا من هو واردها. وهذا قول الكسائي أيضا. وتقول العرب: ما بعثت إليك من الناس إلا من إنه ليطيعك. فقولك: إنه ليطيعك صلة من. قال الزجاج: هذا خطأ، لان من موصولة فلا يجوز حذفها.
وقال أهل المعاني: المعنى، وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا قيل إنهم ليأكلون، دليله قوله تعالى: {ما يُقالُ لَكَ إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ}.
وقال ابن الأنباري: كسرت {إِنَّهُمْ} بعد {إِلَّا} للاستئناف بإضمار واو. أي إلا وإنهم. وذهبت فرقة إلى أن قوله: {لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ} كناية عن الحدث. قلت: وهذا بليغ في معناه، ومثله {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ}. {ويمشون في الأسواق} قرأ الجمهور {يَمْشُونَ} بفتح الياء وسكون الميم وتخفيف الشين. وقرأ على وابن عوف وابن مسعود بضم الياء وفتح الميم وشد الشين المفتوحة، بمعنى يدعون إلى المشي ويحملون عليه. وقرأ أبو عبد الرحمن السلمى بضم الياء وفتح الميم وضم الشين المشددة، وهى بمعنى يمشون، قال الشاعر:
ومشى بأعطان المباءة وابتغى ** قلائص منها صعبة وركوب

وقال كعب بن زهير:
منه تظل سباع الجو ضامزة ** ولا تمشى بواديه الاراجيل

بمعنى تمشى.
الثالثة: هذه الآية أصل فتناول الأسباب وطلب المعاش بالتجارة والصناعة وغير ذلك. وقد مضى هذا المعنى في غير موضع، لكنا نذكر هنا من ذلك ما يكفى فنقول: قال لي بعض مشايخ هذا الزمان في كلام جرى: إن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا ليسنوا الأسباب للضعفاء، فقلت مجيبا له: هذا قول لا يصدر إلا من الجهال والأغبياء، والرعاع السفهاء، أو من طاعن في الكتاب والسنة العلياء، وقد أخبر الله تعالى في كتابه عن أصفيائه ورسله وأنبيائه بالأسباب والاحتراف فقال وقوله الحق: {وَعَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ}. وقال: {وَما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ} قال العلماء: أي يتجرون ويحترفون.
وقال عليه الصلاة والسلام: «جعل رزقي تحت ظل رمحي» وقال تعالى: {فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالًا طَيِّباً} وكان الصحابة رضي الله عنهم يتجرون ويحترفون وفى أموالهم يعملون، ومن خالفهم من الكفار يقاتلون، أتراهم ضعفاء! بل هم كانوا والله الأقوياء، وبهم الخلف الصالح اقتدى، وطريقهم فيه الهدى والاهتداء. قال: إنما تناولوها لأنهم أئمة الاقتداء، فتناولوها مباشرة في حق الضعفاء، فأما في حق أنفسهم فلا، وبيان ذلك أصحاب الصفة. قلت: لو كان ذلك لوجب عليهم وعلى الرسول معهم البيان، كما ثبت في القرآن {وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} وقال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَالْهُدى} الآية. وهذا من البيات الهدى. وأما أصحاب الصفة فإنهم كانوا ضيف الإسلام عند ضيق الحال، فكان عليه السلام إذا أتته صدقة خصهم بها، وإذا أتته هدية أكلها معهم، وكانوا مع هذا يحتطبون ويسوقون الماء إلى أبيات رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كذا وصفهم البخاري وغيره. ثم لما افتتح الله عليهم البلاد ومهد لهم المهاد تأمروا، وبالأسباب أمروا. ثم إن هذا القول يدل على ضعف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه، لأنهم أيدوا بالملائكة وثبتوا بهم، فلو كانوا أقوياء ما احتاجوا إلى تأييد الملائكة وتأييدهم إذ ذلك سبب من اسباب النصر، نعوذ بالله من قول وإطلاق يؤول إلى هذا، بل القول بالأسباب والوسائط سنة الله وسنة رسوله، وهو الحق المبين، والطريق المستقيم الذي انعقد عليه إجماع المسلمين، وإلا كان يكون قوله الحق {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ}- الآية- مقصورا على الضعفاء، وجميع الخطابات كذلك. وفى التنزيل حيث خاطب موسى الكليم {اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ} وقد كان قادرا على فلق البحر دون ضرب عصا. وكذلك مريم عليها السلام {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} وقد كان قادرا على سقوط الرطب دون هز ولا تعب، ومع هذا كله فلا ننكر أن يكون رجل يلطف به ويعان، أو تجاب دعوته، أو يكرم بكرامة في خاصة نفسه أو لأجل غيره، ولا تهد لذلك القواعد الكلية والأمور الجميلة. هيهات هيهات! لا يقال فقد قال الله تعالى: {وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ} فإنا نقول: صدق الله العظيم، وصدق رسوله الكريم، وأن الرزق هنا المطر بإجماع أهل التأويل، بدليل قوله: {وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً} وقال: {وَنَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ} ولم يشاهد ينزل من السماء على الخلق أطباق الخبز ولا جفان اللحم، بل الأسباب أصل في وجود ذلك، وهو معنى قوله عليه السلام: «اطلبوا الرزق في خبايا الأرض» أي بالحرث والحفر والغرس. وقد يسمى الشيء بما يؤول إليه، وسمي المطر رزقا لأنه عنه يكون الرزق، وذلك مشهور في كلام العرب.
وقال عليه السلام: «لان يأخذ أحدكم حبله فيحتطب على ظهره خير له من يسأل أحد أعطاه أو منعه» وهذا فيما خرج من غير تعب من الحشيش والحطب. ولو قدر رجل بالجبال منقطعا عن الناس لما كان له بد من الخروج إلى ما تخرجه الآكام وظهور الاعلام حتى يتناول من ذلك ما يعيش به، وهو معنى قوله عليه السلام: «لو أنكم كنتم توكلون على الله حق توكله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا» فغدوها ورواحها سبب، فالعجب العجب ممن يدعى التجريد والتوكل على التحقيق، ويقعد على ثنيات الطريق، ويدع الطريق المستقيم، والمنهج الواضح القويم. ثبت في البخاري عن ابن عباس قال: كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون، فإذا قدموا سألوا الناس، فأنزل الله تعالى: {وَتَزَوَّدُوا}. ولم ينقل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه رضوان الله عليهم أنهم خرجوا إلى أسفارهم بغير زاد، وكانوا المتوكلين حقا. والتوكل اعتماد القلب على الرب في أن يلم شعثه ويجمع عليه أربه، ثم يتناول الأسباب بمجرد الامر. وهذا هو الحق. سأل رجل الامام أحمد بن حنبل فقال: إنى أريد الحج على قدم التوكل. فقال: اخرج وحدك، فقال: لا، إلا مع الناس. فقال له: أنت إذن متكل على أجربتهم. وقد أتينا على هذا في كتاب قمع الحرص بالزهد والقناعة ورد ذل السؤال بالكتب والشفاعه.
الرابعة: خرج مسلم عن أبى هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «أحب البلاد إلى الله مساجدها وأبغض البلاد ألى الله أسواقها». وخرج البزاز عن سلمان الفارسي قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لا تكونن إن استطعت أول من يدخل السوق. ولا آخر من يخرج منها فإنها معركة الشيطان وبها ينصب رايته». أخرجه أبو بكر البرقاني مسندا عن أبى محمد عبد الغنى- من رواية عاصم- عن أبى عثمان النهدي عن سلمان قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لا تكن أول من يدخل السوق ولا آخر من يخرج منها فبها باض الشيطان وفرخ». ففي هذه الأحاديث ما يدل على كراهة دخول الأسواق، لا سيما في هذه الأزمان التي يخالط فيها الرجال النسوان. وهكذا قال علماؤنا لما كثر الباطل في الأسواق وظهرت فيها المناكر: كره دخولها لأرباب الفضل والمقتدى بهم في الدين تنزيها لهم عن البقاع التي يعصى الله فيها. فحق على من ابتلاه الله بالسوق أن يخطر بباله أنه قد دخل محل الشيطان ومحل جنوده، وأنه إن أقام هناك هلك، ومن كانت هذه حاله اقتصر منه على قدر ضرورته، وتحرز من سوء عاقبته وبليته.
الخامسة: تشبيه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ السوق بالمعركة تشبيه حسن، وذلك أن المعركة موضع القتال، سمى بذلك لتعارك الابطال فيه، ومصارعة بعضهم بعضا. فشبه السوق وفعل الشيطان بها ونيله منهم مما يحملهم من المكر، والخديعة، والتساهل في البيوع الفاسدة والكذب والايمان الكاذبة، واختلاط الأصوات وغير ذلك بمعركة الحرب ومن يصرع فيها.
السادسة: قال ابن العربي: أما أكل الطعام فضرورة الخلق لا عار ولا درك فيه، وأما الأسواق فسمعت مشيخة أهل العلم يقولون: لا يدخل إلا سوق الكتب والسلاح، وعندي أنه يدخل كل سوق للحاجة إليه ولا يأكل فيها، لان ذلك أسقاط للمروءة وهدم للحشمة، ومن الأحاديث الموضوعة: «الأكل في السوق دناءة». قلت: ما ذكرته مشيخة أهل العلم فنعما هو، فإن ذلك خال عن النظر إلى النسوان ومخالطتهن، إذ ليس بذلك من حاجتهن. وأما غيرهما من الأسواق فمشحونة منهن، وقلة الحياء قد غلبت عليهن، حتى ترى المرأة في القيساريات وغيرهن قاعدة متبرجة بزينتها، وهذا من المنكر الفاشي في زماننا هذا. نعوذ بالله من سخطه.
السابعة: خرج أبو داود الطيالسي في مسنده حدثنا حماد بن زيد قال حدثنا عمرو ابن دينار قهرمان آل الزبير عن سالم عن أبيه عن عمر بن الخطاب قال: «من دخل سوقا من هذه الأسواق فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو حي لا يموت بيده الخير وهو على كل شيء قدير كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة وبنى له قصرا في الجنة» خرجه الترمذي أيضا وزاد بعد: «ومحا عنه ألف ألف سيئة»: «ورفع له ألف ألف درجة وبنى له بيتا في الجنة». وقال: هذا حديث غريب. قال ابن العربي: وهذا إذا لم يقصد في تلك البقعة سواه ليعمرها بالطاعة إذ عمرت بالمعصية، وليحليها بالذكر إذ عطلت بالغفلة، وليعلم الجهلة ويذكر الناسين.
الثامنة: قوله تعالى: {وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} أي إن الدنيا دار بلاء وامتحان، فأراد سبحانه أن يجعل بعض العبيد فتنة لبعض على العموم في جميع الناس مؤمن وكافر، فالصحيح فتنة للمريض، والغنى فتنة للفقير، والفقير الصابر فتنة للغنى. ومعنى هذا أن كل واحد مختبر بصاحبه، فالغنى ممتحن بالفقير، عليه أن يواسيه ولا يسخر منه. والفقير ممتحن بالغنى، عليه ألا يحسده. ولا يأخذ منه إلا ما أعطاه، وأن يصبر كل واحد منها على الحق، كما قال الضحاك في معنى {أَتَصْبِرُونَ}: أي على الحق. وأصحاب البلايا يقولون: لم لم نعاف؟ والأعمى يقول: لم لم أجعل كالبصير؟ وهكذا صاحب كل آفة. والرسول المخصوص بكرامة النبوه فتنة لاشراف الناس من الكفار في عصره. وكذلك العلماء وحكام العدل. ألا ترى إلى قولهم: {لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم}. فالفتنة أن يحسد المبتلى المعافى. والصبر: أن يحبس كلاهما نفسه، هدا عن البطر، وذاك عن الضجر. {أَتَصْبِرُونَ} محذوف الجواب، يعني أم لا تصبرون. فيقتضي جوابا كما قاله المزني، وقد أخرجته الفاقة فرأى خصيا في مراكب ومناكب، فخطر بباله شيء فسمع من يفرا الآية {أتصبرون} فقال: بلى ربنا! نصبر ونحتسب. وقد تلا ابن القاسم صاحب مالك هذه الآية حين رأى أشهب بن عبد العزيز في مملكته عابرا عليه، ثم أجاب نفسه بقوله: سنصبر. وعن أبى الدرداء أنه سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «ويل للعالم من الجاهل وويل للجاهل من العالم وويل للمالك من المملوك وويل للمملوك من المالك وويل للشديد من الضعيف وويل للضعيف من الشديد وويل للسلطان من الرعية وويل للرعية من السلطان وبعضهم لبعض فتنة» وهو قوله: {وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ} أسنده الثعلبي تغمده الله برحمته.
وقال مقاتل: نزلت في أبى جهل ابن هشام والوليد بن المغيره والعاص بن وائل، وعقبه بن أبى معيط وعتبة بن ربيعه والنصر ابن الحرث حين رأوا أبا ذر وعبد الله بن مسعود، وعمارا وبلالا وصهيبا وعامر بن فهيرة وسالما مولى أبى حذيفة ومهجعا مولى عمر بن الخطاب وجبرا مولى الحضرمي، وذويهم فقالوا على سبيل الاستهزاء: أنسلم فنكون مثل هؤلاء؟ فأنزل الله تعالى يخاطب هؤلاء المؤمنين: {أَتَصْبِرُونَ} على ما ترون من هذه الحال الشديدة والفقر، فالتوقيف بـ {أَتَصْبِرُونَ} خاص للمؤمنين المحققين من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. كأنه جعل إمهال الكفار والتوسعة عليهم فتنة للمؤمنين، أي اختبارا لهم. ولما صبر المسلمون أنزل الله فيهم {إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا}.
التاسعة: قوله تعالى: {وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً} أي بكل امرئ. وبمن يصبر أو يجزع، ومن يؤمن ومن لا يؤمن، وبمن أدى ما عليه من الحق ومن لا يؤدى.
وقيل: {أَتَصْبِرُونَ} أي اصبروا. مثل {فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} أي انتهوا، فهو أمر للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. بالصبر.

.تفسير الآيات (21- 22):

{وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22)}
قوله تعالى: {وَقالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا} يريد لا يخافون البعث ولقاء الله، أي لا يؤمنون بذلك. قال:
إذا لسعت النحل لم يرج لسعها ** وخالفها في بيت نوب عوامل

وقيل: {لا يَرْجُونَ} لا يبالون. قال:
لعمرك ما أرجو إذا كنت مسلما ** على أي جنب كان في الله مصرعي

ابن شجر: لا يأملون، قال:
أترجو أمة قتلت حسينا ** شفاعة جده يوم الحساب

{لَوْ لا أُنْزِلَ} أي هلا أنزل. {عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ} فيخبروا أن محمدا صادق. {أَوْ نَرى رَبَّنا} عيانا فيخبرنا برسالته. نظيره قوله تعالى: {وَقالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً}
إلى قوله: {أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ قَبِيلًا}. قال الله تعالى: {لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً} حيث سألوا الله الشطط، لان الملائكة لا ترى إلا عند الموت أو عند نزول العذاب، والله تعالى لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، فلا عين تراه.
وقال مقاتل: {عَتَوْا} علوا في الأرض. والعتو: أشد الكفر وأفحش الظلم. وأذا لم يكتفوا بالمعجزات وهذا القرآن فكيف يكتفون بالملائكة؟ وهم لا يميزون بينهم وبين الشياطين، ولا بد لهم من معجزه يقيمها من يدعى أنه ملك، وليس للقوم طلب معجز بعد أن شاهدوا معجزه، وأن {يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ} يريد أن الملائكة لا يراها أحد إلا عند الموت، فتبشر المؤمنين بالجنة، وتضرب المشركين والكفار بمقامع الحديد حتى تخرج أنفسهم. {وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} يريد تقول الملائكة حراما محرما أن يدخل الجنة إلا من قال لا إله إلا الله، وأقام شرائعها، عن ابن عباس وغيره.
وقيل: إن ذلك يوم القيامة، قاله مجاهد وعطية العوفى. قال عطية: إذا كان يوم القيامة تلقى المؤمن بالبشرى، فإذا رأى ذلك الكافر تمناه فلم يره من الملائكة. وانتصب {يَوْمَ يَرَوْنَ} بتقدير لا بشرى للمجرمين يوم يرون الملائكة. {يَوْمَئِذٍ} تأكيد ل {يَوْمَ يَرَوْنَ}. قال النحاس: لا يجور أن يكون {يَوْمَ يَرَوْنَ} منصوبا ب {بُشْرى} لان ما في حيز النفي لا يعمل فيما قبله، ولكن فيه تقدير ان يكون المعنى يمنعون البشارة يوم يرون الملائكة، ودل على هذا الحذف ما بعده. ويجوز أن يكون التقدير: لا بشرى تكون يوم يرون الملائكة، و{يَوْمَئِذٍ} مؤكد. ويجوز أن يكون المعنى: اذكر يوم يرون الملائكة، ثم ابتدأ فقال: {لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً} أي وتقول الملائكة حراما محرما أن تكون لهم البشرى إلا للمؤمنين. قال الشاعر: ألا أصبحت أسماء حجرا محرما وأصبحت من أدنى حموتها حما أراد ألا أصبحت أسماء حراما محرما.
وقال آخر: حنت إلى النخلة القصوى فقلت لها حجر حرام ألا تلك الدهاريس وروى عن الحسن أنه قال: {وَيَقُولُونَ حِجْراً} وقف من قول المجرمين، فقال الله عز وجل: {مَحْجُوراً} عليهم أن يعاذوا أو يجاروا، فحجر الله ذلك عليهم يوم القيامة. والأول قول ابن عباس وبه قال الفراء، قاله ابن الأنباري. وقرأ الحسن وأبو رجاء {حجرا} بضم الحاء والناس على كسرها.
وقيل: أن ذلك من قول الكفار قالوه لأنفسهم، قاله قتادة فيما ذكر الماوردي.
وقيل: هو من قول الكفار للملائكة. وهى كلمة استعاذه وكانت معروفة في الجاهلية، فكان إذا لقى الرجل من يخافه قال: حجزا محجورا، أي حراما عليك التعرض لي. وانتصابه على معنى: حجرت عليك، أو حجر الله عليك، كما تقول: سقيا ورعيا. أي إن المجرمين أذا رأوا الملائكة يلقونهم في النار قالوا: نعوذ بالله منكم، ذكره القشيري، وحكى معناه المهدى عن مجاهد.
وقيل: {حِجْراً} من قول المجرمين. {مَحْجُوراً} من قول الملائكة، أي قالوا للملائكة نعوذ بالله منكم أن تتعرضوا لنا. فنقول الملائكة: {مَحْجُوراً} أن تعاذوا من شر هذا اليوم، قاله الحسن.