فصل: تفسير الآيات (29- 31):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (29- 31):

{قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)}
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ} في الكلام حذف، والمعنى: فذهب فألقاه إليهم فسمعها وهي تقول: {يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا} ثم وصفت الكتاب بالكريم إما لأنه من عند عظيم في نفسها ونفوسهم فعظمته إجلالا لسليمان عليه السلام، وهذا قول ابن زيد. وإما أنها أشارت إلى أنه مطبوع عليه بالخاتم، فكرامة الكتاب ختمه، وروى ذلك عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقيل: لأنه بدأ فيه بـ {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «كل كلام لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم».
وقيل: لأنه بدأ فيه بنفسه، ولا يفعل ذلك إلا الجلة.
وفي حديث ابن عمر أنه كتب إلى عبد الملك بن مروان يبايعه: من عبد الله لعبد الملك بن مروان أمير المؤمنين، إنى أقر لك بالسمع والطاعة ما استطعت، وإن بنى قد أقروا لك بذلك.
وقيل: توهمت أنه كتاب جاء من السماء إذ كان الموصل طيرا.
وقيل: {كَرِيمٌ} حسن، كقول: {وَمَقامٍ كَرِيمٍ} أي مجلس حسن.
وقيل: وصفته بذلك، لما تضمن من لين القول والموعظة في الدعاء إلى عبادة الله عز وجل، وحسن الاستعطاف والاستلطاف من غير أن يتضمن سبا ولا لعنا، ولا ما يغير النفس، ومن غير كلام نازل ولا مستغلق، على عادة الرسل في الدعاء إلى الله عز وجل، ألا ترى إلى قول الله عز وجل لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ» وقوله لموسى وهرون: {فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى}. وكلها وجوه حسان وهذا أحسنها. وقد روى أنه لم يكتب بسم الله الرحمن الرحيم أحد قبل سليمان.
وفي قراءة عبد الله: {وإنه من سليمان} بزيادة واو.
الثانية: الوصف بالكريم في الكتاب غاية الوصف، ألا ترى قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} واهل الزمان يصفون الكتاب بالخطير وبالاثير وبالمبرور، فإن كان لملك قالوا: العزيز وأسقطوا الكريم غفلة، وهو أفضلها خصلة. فأما الوصف بالعزيز فقد وصف به القرآن في قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} فهذه عزته وليست لاحد إلا له، فاجتنبوها في كتبكم، واجعلوا بدلها العالي، توفية لحق الولاية، وحياطة للديانة، قال القاضي أبو بكر بن العربي.
الثالثة: كان رسم المتقدمين إذا كتبوا أن يبدءوا بأنفسهم من فلان إلى فلان، وبذلك جاءت الآثار.
وروى الربيع عن أنس قال: ما كان أحد أعظم حرمة من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وكان أصحابه إذا كتبوا بدءوا بأنفسهم.
وقال ابن سيرين قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن أهل فارس إذا كتبوا بدءوا بعظمائهم فلا يبدأ الرجل إلا بنفسه»
قال أبو الليث في كتاب البستان له: ولو بدأ بالمكتوب إليه لجاز، لان الامة قد اجتمعت عليه وفعلوه لمصلحة رأوا في ذلك، أو نسخ ما كان من قبل، فالأحسن في زماننا هذا أن يبدأ بالمكتوب إليه، ثم بنفسه، لان البداية بنفسه تعد منه استخفافا بالمكتوب إليه وتكبرا عليه، إلا أن يكتب إلى عبد من عبيده، أو غلام من غلمانه.
الرابعة: وإذا ورد على إنسان كتاب بالتحية أو نحوها ينبغي أن يرد الجواب، لان الكتاب من الغائب كالسلام من الحاضر.
وروى عن ابن عباس أنه كان يرى رد الكتاب واجبا كما يرى رد السلام. والله أعلم.
الخامسة: اتفقوا على كتب {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} في أول الكتب والرسائل، وعلى ختمها، لأنه أبعد من الريبة، وعلى هذا جرى الرسم، وبه جاء الأثر عن عمر بن الخطاب أنه قال: أيما كتاب لم يكن مختوما فهو أغلف.
وفي الحديث: «كرم الكتاب ختمه».
وقال بعض الأدباء، هو ابن المقفع: من كتب إلى أخيه كتابا ولم يختمه فقد استخف به، لان الختم ختم.
وقال أنس: لما أراد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكتب إلى العجم قيل له: إنهم لا يقبلون إلا كتابا عليه ختم، فاصطنع خاتما ونقش على فصه لا إله إلا الله محمد رسول الله وكأني أنظر إلى وبيصه وبياضه في كفه.
السادس: قوله تعالى: {إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} {وَإِنَّهُ} بالكسر فيهما أي وإن الكلام، أو إن مبتدأ الكلام {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}. وأجاز الفراء {أنه من سليمان وأنه} بفتحهما جميعا على أن يكونا في موضع رفع بدل من الكتاب، بمعنى ألقى إلى أنه من سليمان. وأجاز أن يكونا في موضع نصب على حذف الخافض، أي لأنه من سليمان ولأنه، كأنها عللت كرمه بكونه من سليمان وتصديره بسم الله. وقرأ الأشهب العقيلي ومحمد بن السميقع {ألا تغلوا} بالغين المعجمة، وروى عن وهب بن منبه، من غلا يغلو إذا تجاوز وتكبر. وهى راجعة إلى معنى قراءة الجماعة. {وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} أي منقادين طائعين مؤمنين.

.تفسير الآيات (32- 34):

{قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} الملا أشراف القوم وقد مضى في سورة البقرة القول فيه. قال ابن عباس: كان معها ألف قيل.
وقيل: اثنا عشر ألف قيل مع كل قيل مائة ألف. والقيل الملك دون الملك الأعظم. فأخذت في حسن الأدب مع قومها، ومشاورتهم في أمرها، وأعلمتهم أن ذلك مطرد عندها في كل أمر يعرض، بقولها: {ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} فكيف في هذه النازلة الكبرى. فراجعها الملا بما يقر عينها، من إعلامهم إياها بالقوة والبأس، ثم سلموا الامر إلى نظرها، وهذه محاورة حسنة من الجميع. قال قتادة: ذكر لنا أنه كان لها ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا هم أهل مشورتها، كل رجل منهم على عشرة آلاف.
الثانية: في هذه الآية دليل على صحة المشاورة. وقد قال الله تعالى لنبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {وَشاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ} في آل عمران إما استعانة بالآراء، وإما مداراة للأولياء. وقد مدح الله تعالى الفضلاء بقوله: {وَأَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ}. والمشاورة من الامر القديم وخاصة في الحرب، فهذه بلقيس امرأة جاهلية كانت تعبد الشمس: {قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ} لتختبر عزمهم على مقاومة عدوهم، وحزمهم فيما يقيم أمرهم، وإمضائهم على الطاعة لها، بعلمها بأنهم إن لم يبذلوا أنفسهم وأموالهم ودماءهم دونها لم يكن لها طاقة بمقاومة عدوها، وإن لم يجتمع أمرهم وحزمهم وجدهم كان ذلك عونا لعدوهم عليهم، وإن لم تختبر ما عندهم، وتعلم قدر عزمهم لم تكن على بصيرة من أمرهم، وربما كان في استبدادها برأيها وهن في طاعتها، ودخيلة في تقدير أمرهم، وكان في مشاورتهم واخذ رأيهم عون على ما تريده من قوة شوكتهم، وشدة مدافعتهم، ألا ترى إلى قولهم في جوابهم: {نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ} قال ابن عباس: كان من قوة أحدهم أنه يركض فرسه حتى إذا احتد ضم فخذيه فحبسه بقوته.
الثالثة: قوله تعالى: {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ} سلموا الامر إلى نظرها مع ما أظهروا لها من القوة والبأس والشدة، فلما فعلوا ذلك أخبرت عند ذلك بفعل الملوك بالقرى التي يتغلبون عليها.
وفي هذا الكلام خوف على قومها، وحيطة واستعظام لأمر سليمان عليه السلام. {وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ} قيل: هو من قول بلقيس تأكيدا للمعنى الذي أرادته.
وقال ابن عباس: هو من قول الله عز وجل معرفا لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته بذلك ومخبرا به.
وقال وهب: لما قرأت عليهم الكتاب لم تعرف اسم الله، فقالت: ما هذا؟! فقال بعض القوم: ما نظن هذا إلا عفريتا عظيما من الجن يقتدر به هذا الملك على ما يريده، فسكتوه.
وقال الآخر: أراهم ثلاثة من العفاريت، فسكتوه، فقال شاب قد علم: يا سيدة الملوك! إن سليمان ملك قد أعطاه ملك السماء ملكا عظيما فهو لا يتكلم بكلمة إلا بدأ فيها بتسمية إلهه، والله اسم مليك السماء، والرحمن الرحيم نعوته، فعندها قالت: {أَفْتُونِي فِي أَمْرِي} فقالوا: {نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ} في القتال {وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ} في الحرب واللقاء {وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ} ردوا أمر هم إليها لما جربوا على رأيها من البركة {فَانْظُرِي ماذا تَأْمُرِينَ} فـ {قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً} أهانوا شرفاءها لتستقيم لهم الأمور، فصدق الله قولها. {وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ} قال ابن الأنباري: {وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً} هذا وقف تام، فقال الله عز وجل تحقيقا لقولها: {وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ} وشبيه به في سورة الأعراف {قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ} تم الكلام، فقال فرعون: {فَما ذا تَأْمُرُونَ}.
وقال ابن شجرة. هو قول بلقيس، فالوقف {وَكَذلِكَ يَفْعَلُونَ} أي وكذلك يفعل سليمان إذا دخل بلادنا.

.تفسير الآية رقم (35):

{وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)}
فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ} هذا من حسن نظرها وتدبيرها، أي إنى أجرب هذا الرجل بهدية، وأعطيه فيها نفائس من الأموال، وأغرب عليه بأمور المملكة، فإن كان ملكا دنياويا أرضاه المال وعملنا معه بحسب ذلك، وإن كان نبيا لم يرضه المال ولازمنا في أمر الدين، فينبغي لنا أن نؤمن به ونتبعه على دينه، فبعثت إليه بهدية عظيمة أكثر الناس في تفصيلها، فقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: أرسلت إليه بلبنة من ذهب، فرأت الرسل الحيطان من ذهب فصغر عندهم ما جاءوا به.
وقال مجاهد: أرسلت إليه بمائتي غلام ومائتي جارية.
وروى عن ابن عباس: باثنتي عشرة وصيفة مذكرين قد ألبستهم زي الغلمان، واثنى عشر غلاما مؤنثين قد ألبستهم زي النساء، وعلى يد الوصائف أطباق مسك وعنبر، وباثنتي عشرة نجيبة تحمل لبن الذهب، وبخرزتين إحداهما غير مثقوبة، والأخرى مثقوبة ثقبا معوجا، وبقدح لا شيء فيه، وبعصا كان يتوارثها ملوك حمير، وأنفذت الهدية مع جماعة من قومها.
وقيل: كان الرسول واحدا ولكن كان في صحبته أتباع وخدم.
وقيل: أرسلت رجلا من أشراف قومها يقال له المنذر بن عمرو، وضمت إليه رجالا ذوى رأى وعقل، والهدية مائة وصيف ومائة وصيفة، وقد خولف بينهم في اللباس، وقالت للغلمان: إذا كلمكم سليمان فكلموه بكلام فيه تأنيث يشبه كلام النساء، وقالت للجواري: كلمنه بكلام فيه غلظ يشبه كلام الرجال، فيقال: إن الهدهد جاء وأخبر سليمان بذلك كله.
وقيل: إن الله أخبر سليمان بذلك، فأمر سليمان عليه السلام أن يبسط من موضعه إلى تسع فراسخ بلبنات الذهب والفضة، ثم قال: أي الدواب رأيتم أحسن في البر والبحر؟ قالوا: يا نبى الله رأينا في بحر كذا دواب منقطة مختلفة ألوانها، لها أجنحة وأعراف ونواصي، فأمر بها فجاءت فشدت على يمين الميدان وعلى يساره، وعلى لبنات الذهب والفضة، وألقوا لها علوفاتها، ثم قال: للجن على بأولادكم، فأقامهم- أحسن ما يكون من الشباب- عن يمين الميدان ويساره. ثم قعد سليمان عليه السلام على كرسيه في مجلسه، ووضع له أربعة آلاف كرسي من ذهب عن يمينه ومثلها عن يساره، وأجلس عليها الأنبياء والعلماء، وأمر الشياطين والجن والانس أن يصطفوا صفوفا فراسخ، وأمر السباع والوحوش والهوام والطير فاصطفوا فراسخ عن يمينه وشماله، فلما دنا القوم من الميدان ونظروا إلى ملك سليمان، ورأوا الدواب التي لم تر أعينهم أحسن منها تروث على لبنات الذهب والفضة، تقاصرت إليهم أنفسهم، ورموا ما معهم من الهدايا.
وفي بعض الروايات: إن سليمان لما أمرهم بفرش الميدان بلبنات الذهب والفضة أمرهم أن يتركوا على طريقهم موضعا على قدر موضع بساط من الأرض غير مفروش، فلما مروا به خافوا أن يتهموا بذلك فطرحوا ما معهم في ذلك المكان، فلما رأوا الشياطين رأوا منظرا هائلا فظيعا ففزعوا وخافوا، فقالت لهم الشياطين: جوزوا لا بأس عليكم، فكانوا يمرون على كردوس كردوس من الجن والانس والبهائم والطير والسباع والوحوش حتى وقفوا بين يدي سليمان، فنظر إليهم سليمان نظرا حسنا بوجه طلق، وكانت قالت لرسولها: إن نظر إليك نظر مغضب فاعلم أنه ملك فلا يهولنك منظره فأنا أعز منه، وإن رأيت الرجل بشا لطيفا فاعلم أنه نبى مرسل فتفهم قول ورد الجواب، فأخبر الهدهد سليمان بذلك على ما تقدم. وكانت عمدت إلى حقه من ذهب فجعلت فيها درة يتيمة غير مثقوبة، وخرزة معوجة الثقب، وكتبت كتابا مع رسولها تقول فيه: إن كنت نبيا فميز بين الوصفاء والوصائف، وأخبر بما في الحقة، وعرفني رأس العصا من أسفلها، واثقب الدرة ثقبا مستويا، وأدخل خيط الخرزة، وأملأ القدح ماء من ندى ليس من الأرض ولا من السماء، فلما وصل الرسول ووقف بين يدي سليمان أعطاه كتاب الملكة فنظر فيه، وقال: أين الحقة؟ فأتى بها فحركها، فأخبره جبريل بما فيها، ثم أخبرهم سليمان. فقال له الرسول: صدقت، فاثقب الدرة، وأدخل الخيط في الخرزة، فسأل سليمان الجن والانس عن ثقبها فعجزوا، فقال للشياطين: ما الرأى فيها؟ فقالوا: ترسل إلى الأرضة، فجاءت الأرضة فأخذت شعرة في فيها حتى خرجت من الجانب الآخر، فقال لها سليمان: ما حاجتك؟ قالت: تصير رزقي في الشجرة، فقال لها: لك ذلك. ثم قال سليمان: من لهذه الخرزة يسلكها الخيط؟ فقالت دودة بيضاء: أنا لها يا نبى الله، فأخذت الدودة الخيط في فيها ودخلت الثقب حتى خرجت من الجانب الآخر، فقال لها سليمان: ما حاجتك؟ قالت تجعل رزقي في الفواكه، قال: ذلك لك. ثم ميز بين الغلمان والجواري. قال السدى: أمرهم بالوضوء، فجعل الرجل يحدر الماء على اليد والرجل حدرا، وجعل الجواري يصببن من اليد اليسرى على اليد اليمنى، ومن اليمنى على اليسرى، فميز بينهم بهذا.
وقيل: كانت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها، ثم تحمله على الأخرى، ثم تضرب به على الوجه، والغلام كان يأخذ الماء من الآنية يضرب به في الوجه، والجارية تصب على بطن ساعدها، والغلام على ظهر الساعد، والجارية تصب الماء صبا، والغلام يحدر على يديه، فميز بينهم بهذا.
وروى يعلى بن مسلم عن سعيد بن جبير قال: أرسلت بلقيس بمائتي وصيفة ووصيف، وقالت: إن كان نبيا فسيعلم الذكور من الإناث، فأمرهم فتوضئوا، فمن توضأ منهم فبدأ بمرفقه قبل كفه قال هو من الإناث، ومن بدأ بكفه قبل مرفقه قال هو من الذكور، ثم أرسل العصا إلى الهواء فقال: أي الرأسين سبق إلى الأرض فهو أصلها، وأمر بالخيل فأجريت حتى عرقت وملأ القدح من عرقها، ثم رد سليمان الهدية، فروى أنه لما صرف الهدية إليها وأخبرها رسولها بما شاهد، قالت لقومها: هذا أمر من السماء.
الثانية: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبل الهدية ويثبت عليها ولا يقبل الصدقة، وكذلك كان سليمان عليه السلام وسائر الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين. وإنما جعلت بلقيس قبول الهدية أو ردها علامة على ما في نفسها، على ما ذكرناه من كون سليمان ملكا أو نبيا، لأنه قال لها في كتابه: {أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ} وهذا لا تقبل فيه فدية، ولا يؤخذ عنه هدية، وليس هذا من الباب الذي تقرر في الشريعة عن قبول الهدية بسبيل، وإنما هي رشوة وبيع الحق بالباطل، وهى الرشوة التي لا تحل. وأما الهدية المطلقة للتحبب والتواصل فإنها جائزة من كل أحد وعلى كل حال، وهذا ما لم يكن من مشرك.
الثالثة: فإن كانت من مشرك ففي الحديث: «نهيت عن زبد المشركين» يعني رفدهم وعطاياهم.
وروى عنه عليه السلام أنه قبلها كما في حديث مالك عن ثور بن زيد الدبلى وغيره، فقال جماعة من العلماء بالنسخ فيهما، وقال آخرون: ليس فيها ناسخ ولا منسوخ، والمعنى فيها: أنه كان لا يقبل هدية من يطمع بالظهور عليه واخذ بلده ودخوله في الإسلام، وبهذه الصفة كانت حالة سليمان عليه السلام، فعن مثل هذا نهى أن تقبل هديته حملا على الكف عنه، وهذا أحسن تأويل للعلماء في هذا، فإنه جمع بين الأحاديث. وقيل غير هذا.
الرابعة: الهدية مندوب إليها، وهى مما تورث المودة وتذهب العداوة، روى مالك عن عطاء بن عبد الله الخراساني قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «تصافحوا يذهب الغل وتهادوا تحابوا وتذهب الشحناء».
وروى معاوية بن الحكم قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «تهادوا فإنه يضعف الود ويذهب بغوائل الصدر».
وقال الدارقطني: تفرد به ابن بجير عن أبيه عن مالك، ولم يكن بالرضى، ولا يصح عن مالك ولا عن الزهري. وعن ابن شهاب قال: بلغنا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «تهادوا بينكم فإن الهدية تذهب السخيمة» قال ابن وهب: سألت يونس عن السخيمة ما هي فقال: الغل. وهذا الحديث وصله الوقاصي عثمان عن الزهري وهو ضعيف. وعلى الجملة: فقد ثبت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقبل الهدية، وفية الأسوة الحسنة. ومن فضل الهدية مع اتباع السنة أنها تزيل حزازات النفوس، وتكسب المهدى والمهدى إليه رنة في اللقاء والجلوس. ولقد أحسن من قال:
هدايا الناس بعضهم لبعض ** تولد في قلوبهم الوصالا

وتزرع في الضمير هوى وودا ** وتكسبهم إذا حضروا جمالا

آخر:
إن الهدايا لها حظ إذا وردت ** أحظى من الابن عند الوالد الحدب

الخامسة: روى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «جلساؤكم شركاؤكم في الهدية» واختلف في معناه، فقيل: هو محمول على ظاهره.
وقيل: يشاركهم على وجه الكرم والمروءة، فإن لم يفعل فلا يجبر عليه.
وقال أبو يوسف: ذلك في الفواكه ونحوها.
وقال بعضهم: هم شركاؤه في السرور لا في الهدية. والخبر محمول في أمثال أصحاب الصفة والخوانق والرباطات، أما إذا كان فقيها من الفقهاء اختص بها فلا شركة فيها لأصحابه، فإن أشركهم فذلك كرم وجود منه.
السادسة: قوله تعالى: {فَناظِرَةٌ} أي منتظرة {بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ} قال قتادة: يرحمها الله أن كانت لعاقلة في إسلامها وشركها، قد علمت أن الهدية تقع موقعا من الناس. وسقطت الالف في {بم} للفرق بين ما الخبرية. وقد يجوز إثباتها، قال:
على ما قام يشتمني لئيم ** كخنزير تمرغ في رماد