فصل: تفسير الآيات (69- 71):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (69- 71):

{قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71)}
قوله تعالى: {قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ} أي {قُلْ} لهؤلاء الكفار {سِيرُوا} في بلاد الشام والحجاز واليمن. {فَانْظُرُوا} أي بقلوبكم وبصائركم {كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ} المكذبين لرسلهم. {وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ} أي على كفار مكة إن لم يؤمنوا {وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ} في حرج {مِمَّا يَمْكُرُونَ} نزلت في المستهزئين الذين اقتسموا عقاب مكة وقد تقدم ذكرهم. وقرئ: {في ضيق} بالكسر وقد مضى في آخر النحل. {وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ} أي يجيئنا العذاب بتكذيبنا {إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}.

.تفسير الآيات (72- 75):

{قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (74) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75)}
قوله تعالى: {قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ} أي اقترب لكم ودنا منكم {بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} أي من العذاب، قاله ابن عباس. وهو من ردفه إذا تبعه وجاء في أثره، وتكون اللام أدخلت لان المعنى اقترب لكم ودنا لكم. أو تكون متعلقة بالمصدر.
وقيل: معناه معكم.
وقال ابن شجرة: تبعكم، ومنه ردف المرأة، لأنه تبع لها من خلفها، ومنه قول أبى ذؤيب:
عاد السواد بياضا في مفارقه ** لا مرحبا ببياض الشيب إذ ردفا

قال الجوهري: وأردفه أمر لغة في ردفه، مثل تبعه وأتبعه بمعنى، قال خزيمة بن مالك بن نهد:
إذا الجوزاء أردفت الثريا ** ظننت بآل فاطمة الظنونا

يعنى فاطمة بنت يذكر بن عنزة أحد القارظين.
وقال الفراء: {رَدِفَ لَكُمْ} دنا لكم ولهذا قال: {لَكُمْ}.
وقيل: ردفه وردف له بمعنى فتزاد اللام للتوكيد، عن الفراء أيضا. كما تقول نقدته ونقدت له، وكلته ووزنته، وكلت له ووزنت له، ونحو ذلك. {بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ} من العذاب فكان ذلك يوم بدر.
وقيل: عذاب القبر. {وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ} في تأخير العقوبة وإدرار الرزق {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ} فضله ونعمه. قوله تعالى: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} أي تخفى صدورهم {وَما يُعْلِنُونَ} يظهرون في الأمور. وقرأ ابن محيصن وحميد: {ما تكن} من كننت الشيء إذا سترته هنا. وفي القصص تقديره: ما تكن صدورهم عليه، وكان الضمير الذي في الصدور كالجسم الساتر. ومن قرأ: {تكن} فهو المعروف، يقال: أكننت الشيء إذا أخفيته في نفسك.
قوله تعالى: {وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ} قال الحسن: الغائبة هنا القيامة.
وقيل: ما غاب عنهم من عذاب السماء والأرض، حكاه النقاش.
وقال ابن شجرة: الغائبة هنا جميع ما أخفى الله تعالى عن خلقه وغيبه عنهم، وهذا عام. وإنما دخلت الهاء في {غائبة} إشارة إلى الجمع، أي. ما من خصلة غائبة عن الخلق إلا والله عالم بها قد أثبتها في أم الكتاب عنده، فكيف يخفى عليه ما يسر هؤلاء وما يعلنونه.
وقيل: أي كل شيء هو مثبت في أم الكتاب يخرجه للأجل المؤجل له، فالذي يستعجلونه من العذاب له أجل مضروب لا يتأخر عنه ولا يتقدم عليه. والكتاب اللوح المحفوظ أثبت الله فيه ما أراد ليعلم بذلك من يشاء من ملائكته.

.تفسير الآيات (76- 81):

{إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)}
قوله تعالى: {إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} وذلك أنهم اختلفوا في كثير من الأشياء حتى لعن بعضهم بعضا فنزلت. والمعنى: إن هذا القرآن يبين لهم ما اختلفوا فيه لو أخذوا به، وذلك ما حرفوه من التوراة والإنجيل، وما سقط من كتبهم من الأحكام. {وَإِنَّهُ} يعني القرآن {لَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} خص المؤمنين لأنهم المنتفعون به. {إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ} أي يقضى بين بنى إسرائيل فيما اختلفوا فيه في الآخرة، فيجازى المحق والمبطل.
وقيل: يقضى بينهم في الدنيا فيظهر ما حرفوه. {وَهُوَ الْعَزِيزُ} المنيع الغالب الذي لا يرد أمره {الْعَلِيمُ} الذي لا يخفى عليه شي.
قوله تعالى: {فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ} أي فوض إليه أمرك واعتمد عليه، فإنه ناصرك. {إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ} أي الظاهر.
وقيل: المظهر لمن تدبر وجه الصواب. {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى} يعني الكفار لتركهم التدبر، فهم كالموتى لا حس لهم ولا عقل.
وقيل: هذا فيمن علم أنه لا يؤمن. {وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ} يعني الكفار الذين هم بمنزلة الصم عن قبول المواعظ، فإذا دعوا إلى الخير أعرضوا وولوا كأنهم لا يسمعون، نظيره {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} كما تقدم. وقرأ ابن محيصن وحميد وابن كثير وابن أبى إسحاق وعباس عن أبى عمرو {ولا يسمع} بفتح الياء والميم {الصم} رفعا على الفاعل. الباقون {تسمع} مضارع أسمعت {الصم} نصبا. مسألة: وقد احتجت عائشة رضي الله عنها في إنكارها أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أسمع موتى بدر بهذه الآية، فنظرت في الامر بقياس عقلي ووقفت مع هذه الآية. وقد صح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «ما أنتم بأسمع منهم» قال ابن عطية: فيشبه أن قصة بدر خرق عادة لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أن رد الله إليهم إدراكا سمعوا به مقاله ولولا إخبار رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسماعهم لحملنا نداءه إياهم على معنى التوبيخ لمن بقي من الكفرة، وعلى معنى شفاء صدور المؤمنين. قلت: روى البخاري رضي الله عنه، حدثني عبد الله بن محمد سمع روح بن عبادة قال حدثنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة قال: ذكر لنا أنس بن مالك عن أبى طلحة أن نبى الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر يوم بدر بأربعة وعشرين رجلا من صناديد قريش فقذفوا في طوى من أطواء بدر خبيث مخبث، وكان إذا ظهر على قوم أقام بالعرصة ثلاث ليال، فلما كان ببدر اليوم الثالث أمر براحلته فشد عليها رحلها ثم مشى وتبعه أصحابه، قالوا: ما نرى ينطلق إلا لبعض حاجته، حتى قام على شفير الركي، فجعل يناديهم بأسمائهم وأسماء آبائهم يا فلان بن فلان ويا فلان بن فلان أيسركم أنكم أطعتم الله ورسوله، فإنا قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقا فهل وجدتم ما وعد ربكم حقا، قال فقال عمر: يا رسول الله! ما تكلم من أجساد لا أرواح لها، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «والذي نفس محمد بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم» قال قتادة: أحياهم الله حتى أسمعهم قوله توبيخا وتصغيرا ونقمة وحسرة وندما. خرجه مسلم أيضا. قال البخاري: حدثنا عثمان قال حدثنا عبدة عن هشام عن أبيه عن ابن عمر قال: وقف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على قليب بدر فقال: «هل وجدتم ما وعد ربكم حقا» ثم قال: «إنهم الآن ليعلمون أن الذي كنت أقول لهم هو الحق» ثم قرأت {إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى} حتى قرأت الآية. وقد عورضت هذه الآية بقصة بدر وبالسلام على القبور، وبما روي في ذلك من أن الأرواح تكون على شفير القبور في أوقات، وبأن الميت يسمع قرع النعال إذا انصرفوا عنه، إلى غير ذلك، فلو لم يسمع الميت لم يسلم عليه. وهذا واضح وقد بيناه في كتاب التذكرة. قوله تعالى: {وَما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ} أي كفرهم، أي ليس في وسعك خلق الايمان في قلوبهم. وقرأ حمزة: {وما أنت تهدي العمي عن ضلالتهم} كقوله: {أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ}. الباقون: {بِهادِي الْعُمْيِ} وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم وفي الروم مثله. وكلهم وقف على {بِهادِي} بالياء في هذه السورة وبغير ياء في الروم أتباعا للمصحف، إلا يعقوب فإنه وقف فيهما جميعا بالياء. وأجاز الفراء وأبو حاتم: {وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ} وهي الأصل.
وفي حرف عبد الله {وما أن تهدي العمي}. {إِنْ تُسْمِعُ} أي ما تسمع. {إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا} قال آبن عباس: أي إلا من خلقته للسعادة فهم مخلصون في التوحيد.

.تفسير الآيات (82- 86):

{وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جَاءُوا قالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)}
قوله تعالى: {وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} اختلف في معنى وقع القول وفي الدابة، فقيل: معنى {وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ} وجب الغضب عليهم، قاله قتادة.
وقال مجاهد: أي حق القول عليهم بأنهم لا يؤمنون.
وقال ابن عمر وأبو سعيد الخدري رضي الله عنهما: إذا لم يأمروا بالمعروف وينهوا عن المنكر وجب السخط عليهم.
وقال عبد الله بن مسعود: وقع القول يكون بموت العلماء، وذهاب العلم، ورفع القرآن. قال عبد الله: أكثروا تلاوة القرآن قبل أن يرفع، قالوا هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الرجال؟ قال: يسرى عليه ليلا فيصبحون منه قفرا، وينسون لا إله إلا الله، ويقعون في قول الجاهلية وأشعارهم، وذلك حين يقع القول عليهم. قلت: أسنده أبو بكر البزار قال حدثنا عبد الله بن يوسف الثقفي قال حدثنا عبد المجيد بن عبد العزيز عن موسى بن عبيدة عن صفوان بن سليم عن ابن لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن أبيه أنه قال: أكثروا من زيارة هذا البيت من قبل أن يرفع وينسى الناس مكانه، وأكثروا تلاوة القرآن من قبل أن يرفع، قالوا: يا أبا عبد الرحمن هذه المصاحف ترفع فكيف بما في صدور الرجال؟ قال: فيصبحون فيقولون كنا نتكلم بكلام ونقول قولا فيرجعون إلى شعر الجاهلية وأحاديث الجاهلية، وذلك حين يقع القول عليهم.
وقيل: القول هو قوله تعالى: {وَلكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} فوقوع القول وجوب العقاب على هؤلاء، فإذا صاروا إلى حد لا تقبل توبتهم ولا يولد لهم ولد مؤمن فحينئذ تقوم القيامة، ذكره القشيري. وقول سادس: قالت حفصة بنت سيرين سألت أبا العالية عن قول الله تعالى: {وَإِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ} فقال: أوحى الله إلى نوح {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} وكأنما كان على وجهي غطاء فكشف. قال النحاس: وهذا من حسن الجواب، لان الناس ممتحنون ومؤخرون لان فيهم مؤمنين وصالحين، ومن قد علم الله عز وجل أنه سيؤمن ويتوب، فلهذا أمهلوا وأمرنا بأخذ الجزية، فإذا زال هذا وجب القول عليهم، فصاروا كقوم نوح حين قال الله تعالى: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ}.
قلت: وجميع الأقوال عند التأمل ترجع إلى معنى واحد. والدليل عليه آخر الآية {أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ} وقرئ: {أن} بفتح الهمزة وسيأتي.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها {لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خير} طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض» وقد مضى. واختلف في تعيين هذه الدابة وصفتها ومن أين تخرج اختلافا كثيرا، قد ذكرناه في كتاب التذكرة ونذكره هنا إن شاء الله تعالى مستوفي. فأول الأقوال أنه فصيل ناقة صالح وهو أصحها- والله أعلم- لما ذكره أبو داود الطيالسي في مسنده عن حذيفة قال: ذكر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدابة فقال: «لها ثلاث خرجات من الدهر فتخرج في أقصى البادية ولا يدخل ذكرها القرية- يعني مكة- ثم تكمن زمانا طويلا ثم تحرج خرجة أخرى دون ذلك فيفشو ذكرها في البادية ويدخل ذكرها القرية» يعني مكة قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ثم بينما الناس في أعظم المساجد على الله حرمة خيرها وأكرمها على الله المسجد الحرام لم يرعهم إلا وهي ترغو بين الركن والمقام تنفض عن رأسها التراب فأرفض الناس منها شتى ومعا وثبتت عصابة من المؤمنين وعرفوا أنهم لم يعجزوا الله فبدأت بهم فجلت وجوههم حتى جعلتها كأنها الكوكب الدري وولت في الأرض لا يدركها طالب ولا ينجو منها هارب حتى إن الرجل ليتعوذ منها بالصلاة فتأتيه من خلفه فتقول يا فلان الآن تصلي فتقبل عليه فتسمه في وجهه ثم تنطلق ويشترك الناس في الأموال ويصطلحون في الأمصار يعرف المؤمن من الكافر حتى إن المؤمن يقول يا كافر اقض حقي». وموضع الدليل من هذا الحديث أنه الفصيل قول: «وهي ترغو» والرغاء إنما هو للإبل، وذلك أن الفصيل لما قتلت الناقة هرب فانفتح له حجر فدخل في جوفه ثم انطبق عليه، فهو فيه حتى يخرج بإذن الله عز وجل. وروي أنها دابة مزغبة شعراء، ذات قوائم طولها ستون ذراعا، ويقال: إنها الجساسة، وهو قول عبد الله بن عمر وروي عن ابن عمر أنها على خلقة الآدميين، وهي في السحاب وقوائمها في الأرض. وروي أنها جمعت من خلق كل حيوان. وذكر الماوردي والثعلبي رأسها رأس ثور، وعينها عين خنزير، وأذنها أذن فيل، وقرنها قرن أيل، وعنقها عنق نعامة، وصدرها صدر أسد، ولونها لون نمر، وخاصرتها خاصرة هر، وذنبها ذنب كبش، وقوائمها قوائم بعير بين كل مفصل ومفصل اثنا عشر ذراعا- الزمخشري: بذراع آدم عليه السلام- ويخرج معها عصا موسى وخاتم سليمان، فتنكت في وجه المسلم بعصا موسى نكتة بيضاء فيبيض وجهه، وتنكت في وجه الكافر بخاتم سليمان عليه السلام فيسود وجهه، قاله ابن الزبير رضي الله عنهما.
وفي كتاب النقاش عن ابن عباس رضي الله عنهما: إن الدابة الثعبان المشرف على جدار الكعبة التي اقتلعتها العقاب حين أرادت قريش بناء الكعبة.
وحكى الماوردي عن محمد بن كعب عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه سئل عن الدابة فقال: أما والله ما لها ذنب وإن لها للحية. قال الماوردي: وفي هذا القول منه إشارة إلى أنها من الانس وإن لم يصرح به. قلت: ولهذا- والله أعلم- قال بعض المتأخرين من المفسرين: إن الأقرب أن تكون هذه الدابة إنسانا متكلما يناظر أهل البدع والكفر ويجادلهم لينقطعوا، فيهلك من هلك عن بينة: ويحيا من حي عن بينة. قال شيخنا الامام أبو العباس أحمد بن عمر القرطبي في كتاب المفهم له: وإنما كان عند هذا القائل الأقرب لقوله تعالى: {تُكَلِّمُهُمْ} وعلى هذا فلا يكون في هذه الدابة آية خاصة خارقة للعادة، ولا يكون من العشر الآيات المذكورة في الحديث، لان وجود المناظرين والمحتجين على أهل البدع كثير، فلا آية خاصة بها فلا ينبغي أن تذكر مع العشر، وترتقع خصوصية وجودها إذا وقع القول، ثم فيه العدول عن تسمية هذا الإنسان المناظر الفاضل العالم الذي على أهل الأرض أن يسموه باسم الإنسان أو بالعالم أو بالإمام إلى أن يسمى بدابة، وهذا خروج عن عادة الفصحاء، وعن تعظيم العلماء، وليس ذلك دأب العقلاء، فالأولى ما قاله أهل التفسير، والله أعلم بحقائق الأمور. قلت: قد رفع الاشكال في هذه الدابة ما ذكرناه من حديث حذيفة فليعتمد عليه. واختلف من أي موضع تخرج، فقال عبد الله بن عمر: تخرج من جبل الصفا بمكة، يتصدع فتخرج منه. قال عبد الله بن عمرو نحوه وقال: لو شئت أن أضع قدمي على موضع خروجها لفعلت وروي في خبر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن الأرض تنشق عن الدابة وعيسى عليه السلام يطوف بالبيت ومعه المسلمون من ناحية المسعى وإنها تخرج من الصفا فتسم بين عيني المؤمن هو مؤمن سمة كأنها كوكب دري وتسم بين عيني الكافر نكتة سوداء كافر» وذكر في الخبر أنها ذات وبر وريش، ذكره المهدوي. وعن ابن عباس أنها تخرج من شعب فتمس رأسها السحاب ورجلاها في الأرض لم تخرجا، وتخرج ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام. وعن حذيفة: تخرج ثلاث خرجات، خرجة في بعض البوادي ثم تكمن، وخرجة في القرى يتقاتل فيها الأمراء حتى تكثر الدماء، وخرجة من أعظم المساجد وأكرمها وأشرفها وأفضلها الزمخشري: تخرج من بين الركن حذاء دار بني مخزوم عن يمين الخارج من المسجد، فقوم يهربون، وقوم يقفون نظارة. وروي عن قتادة أنها تخرج في تهامة. وروي أنها تخرج من مسجد الكوفة من حيث فار تنور نوح عليه السلام.
وقيل: من أرض الطائف، قال أبو قبيل: ضرب عبد الله بن عمرو أرض الطائف برجله وقال: من هنا تخرج الدابة التي تكلم الناس.
وقيل: من بعض أودية تهامة، قال ابن عباس.
وقيل: من صخرة من شعب أجياد، قال عبد الله بن عمرو.
وقيل: من بحر سدوم، قاله وهب بن منبه. ذكر هذه الأقوال الثلاثة الأخيرة الماوردي في كتابه. وذكر البغوي أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز قال: حدثنا علي بن الجعد عن فضيل بن مرزوق الرقاشي الأغر- وسيل عنه يحيي بن معين فقال ثقة- عن عطية العوفي عن ابن عمر قال تخرج الدابة من صدع في الكعبة كجري الفرس ثلاثة أيام لا يخرج ثلثها. قلت: فهذه أقوال الصحابة والتابعي في خروج الدابة وصفتها، وهي ترد قول من قال من المفسرين: إن الدابة إنما هي إنسان متكلم يناظر أهل البدع والكفر وقد روى أبو أمامة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «تخرج الدابة فتسم الناس على خراطيمهم» ذكره الماوردي. {تُكَلِّمُهُمْ} بضم التاء وشد اللام المكسورة- من الكلام- قراءة العامة، يدل عليه قراءة أبي: {تنبئهم}.
وقال السدي: تكلمهم ببطلان الأديان سوى دين الإسلام.
وقيل: تكلمهم بما يسوءهم.
وقيل: تكلمهم بلسان ذلق فتقول بصوت يسمعه عن قرب وبعد {أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ} أي بخروجي، لان خروجها من الآيات. وتقول: ألا لعنة الله على الظالمين. وقرأ أبو زرعة وابن عباس والحسن وأبو رجاء: {تكلمهم} بفتح التاء من الكلم وهو الجرح قال عكرمة: أي تسمهم.
وقال أبو الجوزاء: سألت ابن عباس عن هذه الآية {تُكَلِّمُهُمْ} أو {تكلمهم}؟ فقال: هي والله تكلمهم وتكلمهم، تكلم المؤمن وتكلم الكافر والفاجر أي تجرحه.
وقال أبو حاتم: {تكلمهم} كما تقول تجرحهم، يذهب إلى أنه تكثير من {تكلمهم}. {أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ} وقرأ الكوفيون وابن أبي إسحاق ويحيي: {أن} بالفتح. وقرأ أهل الحرمين واهل الشام واهل البصرة: {إن} بكسر الهمزة. قال النحاس: في المفتوحة قولان وكذا المكسورة، قال الأخفش: المعنى بأن وكذا قرأ ابن مسعود {بأن} وقال أبو عبيدة: موضعها نصب بوقوع الفعل عليها، أي تخبرهم أن الناس. وقرأ الكسائي والفراء: {إن الناس} بالكسر على الاستئناف وقال الأخفش: هي بمعنى تقول إن الناس، يعني الكفار. {بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ} يعني بالقرآن وبمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وذلك حين لا يقبل الله من كافر إيمانا ولم يبق إلا مؤمنون وكافرون في علم الله قبل خروجها، والله أعلم. قوله تعالى: {وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً} أي زمرة وجماعة. {مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا} يعني بالقرآن وبأعلامنا الدالة على الحق. {فَهُمْ يُوزَعُونَ} أي يدفعون ويساقون إلى موضع الحساب. قال الشماخ:
وكم وزعنا من خميس جحفل ** وكم حبونا من رئيس مسحل

وقال قتادة: {يُوزَعُونَ} أي يرد أولهم على آخرهم. {حَتَّى إِذا جَاءُوا قالَ} أي قال الله: {أَكَذَّبْتُمْ بِآياتِي} التي أنزلتها على رسلي، وبالآيات التي أقمتها دلالة على توحيدي. {وَلَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً} أي ببطلانها حتى تعرضوا عنها، بل كذبتهم جاهلين غير مستدلين. {أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} تقريع وتوبيخ أي ماذا كنتم تعملون حين لم تبحثوا عنها ولم تتفكروا ما فيها. {وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا} أي وجب العذاب عليهم بظلمهم أي بشركهم. {فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ} أي ليس لهم عذر ولا حجة.
وقيل: يختم على أفواههم فلا ينطقون، قاله أكثر المفسرين. قوله تعالى: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ} أي يستقرون فينامون. {وَالنَّهارَ مُبْصِراً} أي يبصر فيه لسعي الرزق. {إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} بالله. ذكر الدلالة على إلهيته وقدرته أي ألم يعلموا كمال قدرتنا فيؤمنوا.