فصل: تفسير الآيات (71- 73):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (71- 73):

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)}
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً} أي دائما، ومنه قول طرفة.
لعمرك ما أمري علي بغمة ** نهاري ولا ليلي بسرمد

بين سبحانه أنه مهد أسباب المعيشة ليقوموا بشكر نعمه. {مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ} أي بنور تطلبون فيه المعيشة.
وقيل: بنهار تبصرون فيه معايشكم وتصلح فيه الثمار والنبات. {أَفَلا تَسْمَعُونَ} سماع فهم وقبول. {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ} أي تستقرون فيه من النصب. {أَفَلا تُبْصِرُونَ} ما أنتم فيه من الخطإ في عبادة غيره، فإذا أقررتم بأنه لا يقدر على إيتاء الليل والنهار غيره فلم تشركون به. {وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ} أي فيهما.
وقيل: الضمير للزمان وهو الليل والنهار. {وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} أي لتطلبوا من رزقه فيه أي في النهار فحذف. {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الله على ذلك.

.تفسير الآيات (74- 75):

{وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)}
قوله تعالى: {وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} أعاد هذا الضمير لاختلاف الحالين، ينادون مرة فيقال لهم: {أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} فيدعون الأصنام فلا يستجيبون، فتظهر حيرتهم، ثم ينادون مرة أخرى فيسكتون. وهو توبيخ وزيادة خزي. والمناداة هنا ليست من الله؟ لان الله تعالى لا يكلم الكفار لقوله تعالى: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ} لكنه تعالى يأمر من يوبخهم ويبكتهم، ويقيم الحجة عليهم في مقام الحساب.
وقيل: يحتمل أن يكون من الله، وقوله: {وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ} حين يقال لهم: {اخْسَؤُا فِيها وَلا تُكَلِّمُونِ} وقال: {شُرَكائِيَ} لأنهم جعلوا لهم نصيبا من أموالهم. قوله تعالى: {وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً} أي نبيا، عن مجاهد.
وقيل: هم عدول الآخرة يشهدون على العباد بأعمالهم في الدنيا. والأول أظهر، لقوله تعالى: {فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً} وشهيد كل أمة رسولها الذي يشهد عليها. والشهيد الحاضر. أي أحضرنا رسولهم المبعوث إليهم. {فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ} أي حجتكم. {فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ} أي علموا صدق ما جاءت به الأنبياء. {وَضَلَّ عَنْهُمْ} أي ذهب عنهم وبطل. {ما كانُوا يَفْتَرُونَ} أي يختلقونه من الكذب على الله تعالى من أن معه آلهة تعبد.

.تفسير الآيات (76- 77):

{إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)}
قوله تعالى: {إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى} لما قال تعالى: {وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها} بين أن قارون أوتيها واغتر بها ولم تعصمه من عذاب الله كما لم تعصم فرعون، ولستم أيها المشركون بأكثر عددا ومالا من قارون وفرعون، فلم ينفع فرعون جنوده وأمواله، ولم ينفع قارون قرابته من موسى ولا كنوزه. قال النخعي وقتادة وغيرهما: كان ابن عم موسى لحا، وهو قارون بن يصهر بن قاهث بن لاوى بن يعقوب، وموسى بن عمران بن قاهث.
وقال ابن إسحاق: كان عم موسى لاب وام.
وقيل: كان ابن خالته. ولم ينصرف للعجمة والتعريف. وما كان على وزن فاعول أعجميا لا يحسن فيه الالف واللام لم ينصرف في المعرفة وانصرف في النكرة، فإن حسنت فيه الالف واللام انصرف إن كان اسما لمذكر نحو طاوس وراقود. قال الزجاج: ولو كان قارون من قرنت الشيء لانصرف. {فَبَغى عَلَيْهِمْ} بغيه أنه زاد في طول ثوبه شبرا، قاله شهر بن حوشب.
وفي الحديث {لا ينظر الله إلى من جر إزاره بطرا} وقيل: بغيه كفره بالله عز وجل، قاله الضحاك.
وقيل: بغيه استخفافه بهم بكثرة ماله وولده، قاله قتادة.
وقيل: بغيه نسبته ما آتاه الله من الكنوز إلى نفسه بعلمه وحيلته، قاله ابن بحر.
وقيل: بغيه قوله إذا كانت النبوة لموسى والمذبح والقربان في هرون فمالي! فروى أنه لما جاوز بهم موسى البحر وصارت الرسالة لموسى والحبورة لهارون، يقرب القربان ويكون رأسا فيهم، وكان القربان لموسى فجعله موسى إلى أخيه، وجد قارون في نفسه وحسدهما فقال لموسى: الامر لكما وليس لي شيء إلى متى أصبر. قال موسى: هذا صنع الله. قال: والله لا أصدقنك حتى تأتي بآية، فأمر رؤساء بني إسرائيل أن يجئ كل واحد منهم بعصاه، فحزمها وألقاها في القبة التي كان الوحي ينزل عليه فيها، وكانوا يحرسون عصيهم بالليل فأصبحوا وإذا بعصا هرون تهتز ولها ورق أخضر- وكانت من شجر اللوز- فقال قارون: ما هو بأعجب مما تصنع من السحر. {فَبَغى عَلَيْهِمْ} من البغي وهو الظلم.
وقال يحيى بن سلام وابن المسيب: كان قارون غنيا عاملا لفرعون على بني إسرائيل فتعدى عليهم وظلمهم وكان منهم وقول سابع: روي عن ابن عباس قال: لما أمر الله تعالى برجم الزاني عمد قارون إلى امرأة بغي وأعطاها مالا، وحملها على أن ادعت على موسى أنه زنى بها وأنه أحبلها، فعظم على موسى ذلك وأحلفها بالله الذي فلق البحر لبني إسرائيل، وأنزل التوراة على موسى إلا صدقت. فتداركها الله فقالت: أشهد أنك برئ، وأن قارون أعطاني مالا، وحملني على أن قلت ما قلت، وأنت الصادق وقارون الكاذب. فجعل الله أمر قارون إلى موسى وأمر الأرض أن تطيعه. فجاءه وهو يقول للأرض: يا أرض خذيه، وهي تأخذه شيئا فشيئا وهو يستغيث يا موسى! إلى أن ساخ في الأرض هو وداره وجلساؤه الذين كانوا على مذهبه. وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى: استغاث بك عبادي فلم ترحمهم، أما أنهم لو دعوني لوجدوني قريبا مجيبا. ابن جريج: بلغنا أنه يخسف بهم كل يوم قامة، فلا يبلغون إلى أسفل الأرض إلى يوم القيامة، وذكر ابن أبي الدنيا في كتاب الفرج: حدثني إبراهيم بن راشد قال حدثني داود بن مهران، عن الوليد بن مسلم، عن مروان ابن جناح، عن يونس بن ميسرة بن حلبس قال: لقي قارون يونس في ظلمات البحر، فنادى قارون يونس، فقال: يا يونس: تب إلى الله فإنك تجده عند أول قدم ترجع بها إليه. فقال يونس: ما منعك من التوبة. فقال: إن توبتي جعلت إلى ابن عمي فأبى أن يقبل مني.
وفي الخبر: إذا وصل قارون إلى قرار الأرض السابعة نفخ إسرافيل في الصور. والله أعلم. قال السدي: وكان أسم البغي سبرتا، وبذل لها قارون ألفي درهم. قتادة: وكان قطع البحر مع موسى وكان يسمى المنور من حسن صورته في التوراة، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري. قوله تعالى: {وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ} قال عطاء: أصاب كثيرا من كنوز يوسف عليه السلام.
وقال الوليد بن مروان: إنه كان يعمل الكيمياء. {ما إِنَّ مَفاتِحَهُ} {إِنَّ} واسمها وخبرها في صلة {ما} و{ما} مفعولة {آتَيْناهُ}. قال النحاس: وسمعت علي بن سليمان يقول ما أقبح ما يقول الكوفيون في الصلات، إنه لا يجوز أن تكون صلة الذي وأخواته {إِنَّ} وما عملت فيه، وفي القرآن {ما إِنَّ مَفاتِحَهُ}. وهو جمع مفتح بالكسر وهو ما يفتح به. ومن قال مفتاح قال مفاتيح. ومن قال هي الخزائن فواحدها مفتح بالفتح. {لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ} أحسن ما قيل فيه أن المعنى لتنئ العصبة أي تميلهم بثقلها، فلما انفتحت التاء دخلت الباء. كما قالوا هو يذهب بالبؤس ومذهب البؤس. فصار {لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ} فجعل العصبة تنوء أي تنهض متثاقلة، كقولك قم بنا أي اجعلنا نقوم. يقال: ناء ينوء نوءا إذا نهض بثقل. قال الشاعر:
تنوء بأخراها فلأيا قيامها ** وتمشي الهوينى عن قريب فتبهر

وقال آخر:
أخذت فلم أملك ونوت فلم أقم ** كأني من طول الزمان مقيد

وأناءني إذا أثقلني، عن أبي زيد.
وقال أبو عبيدة: قوله: {لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ} مقلوب، والمعنى لتنوء بها العصبة أي تنهض بها. أبو زيد: نوت بالحمل إذا نهضت. قال الشاعر:
إنا وجدنا خلفا بئس الخلف ** عبدا إذا ما ناء بالحمل وقف

والأول معنى قول ابن عباس وأبي صالح والسدي. وهو قول الفراء واختاره النحاس. كما يقال: ذهبت به وأذهبته وجئت به وأجأته ونوت به وأناته، فأما قولهم: له عندي ما ساءه وناءه فهو إتباع كان يجب أن يقال وأناءه. ومثله هنأني الطعام ومرأني، واخذه ما قدم وما حدث وقيل: هو مأخوذ من النأي وهو البعد. ومنه قول الشاعر:
ينأون عنا وما تنأى مودتهم ** فالقلب فيهم رهين حيثما كانوا

وقرا بديل بن ميسرة: {لينوء} بالياء، أي لينوء الواحد منها أو المذكور فحمل على المعنى.
وقال أبو عبيدة: قلت لرؤبة بن العجاج في قوله:
فيها خطوط من سواد وبلق ** كأنه في الجلد توليع البهق

إن كنت أردت الخطوط فقل كأنها، وإن كنت أردت السواد والبلق فقل كأنهما. فقال: أردت كل ذلك. واختلف في العصبة وهي الجماعة التي يتعصب بعضهم لبعض على أحد عشر قولا: الأول- ثلاثة رجال، قاله ابن عباس. وعنه أيضا من الثلاثة إلى العشرة.
وقال مجاهد: العصبة هنا ما بين العشرين إلى خمسة عشر. وعنه أيضا: ما بين العشرة إلى الخمسة عشر. وعنه أيضا: من عشرة إلى خمسة. ذكر الأول الثعلبي، والثاني القشيري والماوردي، والثالث المهدوي.
وقال أبو صالح والحكم بن عتيبة وقتادة والضحاك: أربعون رجلا. السدي ما بين العشرة إلى الأربعين. وقاله قتادة أيضا.
وقال عكرمة: منهم من يقول أربعون، ومنهم من يقول سبعون. وهو قول أبي صالح إن العصبة سبعون رجلا، ذكره الماوردي. والأول ذكره عنه الثعلبي.
وقيل: ستون رجلا.
وقال سعيد بن جبير: ست أو سبع.
وقال عبد الرحمن بن زيد: ما بين الثلاثة والتسعة وهو النفر.
وقال الكلبي: عشرة لقول إخوة يوسف {وَنَحْنُ عُصْبَةٌ} وقاله مقاتل.
وقال خيثمة: وجدت في الإنجيل أن مفاتيح خزائن قارون وقر ستين بغلا غراء محجلة، وأنها لتنوء بها من ثقلها، وما يزيد مفتح منها على إصبع، لكل مفتح منها كنز مال، لو قسم ذلك الكنز على أهل البصرة لكفاهم. قال مجاهد: كانت المفاتيح من جلود الإبل.
وقيل: من جلود البقر لتخف عليه، وكانت تحمل معه إذا ركب على سبعين بغلا فيما ذكره القشيري.
وقيل: على أربعين بغلا. وهو قول الضحاك. وعنه أيضا: إن مفاتحه أوعيته. وكذا قال أبو صالح: إن المراد بالمفاتح الخزائن، فالله أعلم. {إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ} أي المؤمنون من بني إسرائيل، قاله السدي.
وقال يحيي بن سلام: القوم هنا موسى. وقاله الفراء. وهو جمع أريد به واحد كقوله: {الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ} وإنما هو نعيم بن مسعود على ما تقدم. {لا تَفْرَحْ} أي لا تأشر ولا تبطر. {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} أي البطرين، قاله مجاهد والسدي. قال الشاعر: ولست بمفراح إذا الدهر سرني ولا ضارع في صرفه المتقلب وقال الزجاج: المعنى لا تفرح بالمال فإن الفرح بالمال لا يؤدي حقه.
وقال مبشر بن عبد الله: لا تفرح لا تفسد. قال الشاعر:
إذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة ** وتحمل أخرى أفرحتك الودائع

أي أفسدتك.
وقال أبو عمرو: أفرحه الدين أثقله. وأنشده:
إذا أنت

البيت.
وأفرحه سره فهو مشترك. قال الزجاج: والفرحين والفارحين سواء. وفرق بينهما الفراء فقال: معنى الفرحين الذين هم في حال فرح، والفارحين الذين يفرحون في المستقبل. وزعم أن مثله طمع وطامع وميت ومائت. ويدل على خلاف ما قال قول الله عز وجل: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} ولم يقل مائت.
وقال مجاهد أيضا: معنى {لا تَفْرَحْ} لا تبغ {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ} أي الباغين.
وقال ابن بحر: لا تبخل إن الله لا يحب الباخلين. قوله تعالى: {وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ} أي أطلب فيما أعطاك الله من الدنيا الدار الآخرة وهي الجنة، فإن من حق المؤمن أن يصرف الدنيا فيما ينفعه في الآخرة لا في التجبر والبغي. قوله تعالى: {وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا} اختلف فيه، فقال ابن عباس والجمهور: لا تضيع عمرك في ألا تعمل عملا صالحا في دنياك، إذ الآخرة إنما يعمل لها، فنصيب الإنسان عمره وعمله الصالح فيها. فالكلام على هذا التأويل شدة في الموعظة.
وقال الحسن وقتادة: معناه لا تضيع حظك من دنياك في تمتعك بالحلال وطلبك إياه، ونظرك لعاقبة دنياك. فالكلام على هذا التأويل فيه بعض الرفق به وإصلاح الامر الذي يشتهيه. وهذا مما يجب استعماله مع الموعوظ خشية النبوة من الشدة، قاله ابن عطية. قلت: وهذان التأويلان قد جمعهما ابن عمر في قوله: أحرث لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا وعن الحسن: قدم الفضل، وأمسك ما يبلغ.
وقال مالك: هو الأكل والشرب بلا سرف.
وقيل: أراد بنصيبه الكفن. فهذا وعظ متصل، كأنهم قالوا: لا تنس أنك تترك جميع مالك إلا نصيبك هذا الذي هو الكفن. ونحو هذا قول الشاعر:
نصيبك مما تجمع الدهر كله ** رداء ان تلوى فيهما وحنوط

وقال آخر:
وهي القناعة لا تبغي بها بدلا ** فيها النعيم وفيها راحة البدن

أنظر لمن ملك الدنيا بأجمعها ** هل راح منها بغير القطن والكفن

قال ابن العربي: وأبدع ما فيه عندي قول قتادة: ولا تنس نصيبك الحلال، فهو نصيبك من الدنيا ويا ما أحسن هذا. {وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ} أي أطع الله وأعبده كما أنعم عليك.
ومنه الحديث: ما الإحسان؟ قال: «أن تعبد الله كأنك تراه» وقيل: هو أمر بصلة المساكين. قال ابن العربي: فيه أقوال كثيرة جماعها استعمال نعم الله في طاعة الله.
وقال مالك: هو الأكل والشرب من غير سرف. قال ابن العربي: أرى مالكا أراد الرد على الغالين في العبادة والتقشف، فإن النبي صلي الله عليه وسلم كان يحب الحلواء، ويشرب العسل، ويستعمل الشواء، ويشرب الماء البارد. وقد مضى هذا المعنى في غير موضع {وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ} أي لا تعمل بالمعاصي {إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ}