فصل: تفسير الآية رقم (128):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (128):

{رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنا مَناسِكَنا وَتُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)}
قوله تعالى: {رَبَّنا وَاجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ} أي صيرنا، و{مُسْلِمَيْنِ} مفعول ثان، سألا التثبيت والدوام. والإسلام في هذا الموضع: الايمان والأعمال جميعا، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ} ففي هذا دليل لمن قال: إن الايمان والإسلام شيء واحد، وعضدوا هذا بقوله تعالى في الآية الأخرى: {فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ}. وقرأ ابن عباس وعوف الأعرابي {مسلمين} على الجمع.
قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} أي ومن ذريتنا فاجعل، فيقال: إنه لم يدع نبي إلا لنفسه ولأمته إلا إبراهيم فإنه دعا مع دعائه لنفسه ولأمته ولهذه الامة. و{من} في قوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا} للتبعيض، لأن الله تعالى قد كان أعلمه أن منهم ظالمين.
وحكى الطبري: أنه أراد بقوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِنا} العرب خاصة. قال السهيلي: وذريتهما العرب، لأنهم بنو نبت بن إسماعيل، أو بنو تيمن بن إسماعيل، ويقال: قيدر بن نبت بن إسماعيل. أما العدنانية فمن نبت، وأما القحطانية فمن قيدر بن نبت بن إسماعيل، أو تيمن على أحد القولين. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، لأن دعوته ظهرت في العرب وفيمن آمن من غيرهم. والامة: الجماعة هنا، وتكون واحدا إذا كان يقتدي به في الخير، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ}، وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في زيد بن عمرو بن نفيل: «يبعث أمة وحده» لأنه لم يشرك في دينه غيره، والله أعلم. وقد يطلق لفظ الامة على غير هذا المعنى، ومنه قوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ} أي على دين وملة، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً}. وقد تكون بمعنى الحين والزمان، ومنه قوله تعالى: {وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ} أي بعد حين وزمان. ويقال: هذه أمة زيد، أي أم زيد. والامة أيضا: القامة، يقال: فلان حسن الامة، أي حسن القامة، قال:
وإن معاوية الاكرمي ** ن حسان الوجوه طوال الأمم

وقيل: الامة الشجة التي تبلغ أم الدماغ، يقال: رجل مأموم وأميم.
قوله تعالى: {وَأَرِنا مَناسِكَنا} {أرنا} من رؤية البصر، فتتعدى إلى مفعولين، وقيل: من رؤية القلب، ويلزم قائله أن يتعدى الفعل منه إلى ثلاثة مفاعيل. قال ابن عطية: وينفصل بأنه يوجد معدى بالهمزة من رؤية القلب إلى مفعولين كغير المعدي، قال حطايط بن يعفر أخو الأسود بن يعفر:
أريني جوادا مات هزلا لأنني ** أرى ما ترين أو بخيلا مخلدا

وقرأ عمر بن عبد العزيز وقتادة وابن كثير وابن محيصن والسدي وروح عن يعقوب ورويس والسوسي {أرنا} بسكون الراء في القرآن، واختاره أبو حاتم. وقرأ أبو عمرو باختلاس كسرة الراء، والباقون بكسرها، واختاره أبو عبيد. وأصله أرينا بالهمز، فمن قرأ بالسكون قال: ذهبت الهمزة وذهبت حركتها وبقيت الراء ساكنة على حالها، واستدل بقول الشاعر:
أرنا إداوة عبد الله نملؤها ** من ماء زمزم إن القوم قد ظمئوا

ومن كسر فإنه نقل حركة الهمزة المحذوفة إلى الراء، وأبو عمرو طلب الخفة. وعن شجاع بن أبي نصر وكان أمينا صادقا أنه رأى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المنام فذاكره أشياء من حروف أبي عمرو فلم يرد عليه إلا حرفين: هذا، والآخر {ما ننسخ من آية أو ننسأها} مهموزا.
قوله تعالى: {مَناسِكَنا} يقال: إن أصل النسك في اللغة الغسل، يقال منه: نسك ثوبه إذا غسله. وهو في الشرع اسم للعبادة، يقال: رجل ناسك إذا كان عابدا. واختلف العلماء في المراد بالمناسك هنا، فقيل: مناسك الحج ومعالمه، قاله قتادة والسدي.
وقال مجاهد وعطاء وابن جريج: المناسك المذابح، أي مواضع الذبح.
وقيل: جميع المتعبدات. وكل ما يتعبد به إلى الله تعالى يقال له منسك ومسك. والناسك: العابد. قال النحاس: يقال نسك ينسك، فكان يجب أن يقال على هذا: منسك، إلا أنه ليس في كلام العرب مفعل. وعن زهير بن محمد قال: لما فرغ إبراهيم عليه السلام من بناء البيت الحرام قال: أي رب، قد فرغت فأرنا مناسكنا، فبعث الله تعالى إليه جبريل فحج به، حتى إذا رجع من عرفة وجاء يوم النحر عرض له إبليس، فقال له: أحصبه، فحصبه بسبع حصيات، ثم الغد ثم اليوم الثالث، ثم علا ثبيرا فقال: يا عباد الله، أجيبوا، فسمع دعوته من بين الأبحر ممن في قلبه مثقال ذرة من إيمان، فقال: لبيك، اللهم لبيك، قال: ولم يزل على وجه الأرض سبعة مسلمون فصاعدا، لولا ذلك لأهلكت الأرض ومن عليها. وأول من أجابه أهل اليمن. وعن أبي مجلز قال: لما فرغ إبراهيم من البيت جاءه جبريل عليه السلام فأراه الطواف بالبيت- قال: وأحسبه قال: والصفا والمروة- ثم انطلقا إلى العقبة فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات، فرمى وكبر، وقال لإبراهيم: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان. ثم انطلقا إلى الجمرة الوسطى، فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات، وقال: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان. ثم أتيا الجمرة القصوى فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات، وقال: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان. ثم أتيا الجمرة القصوى فعرض لهما الشيطان، فأخذ جبريل سبع حصيات وأعطى إبراهيم سبع حصيات، وقال: ارم وكبر، فرميا وكبرا مع كل رمية حتى أفل الشيطان. ثم أتى به جمعا فقال: ها هنا يجمع الناس الصلوات. ثم أتى به عرفات فقال: عرفت؟ فقال نعم، فمن ثم سمي عرفات. وروي أنه قال له: عرفت، عرفت، عرفت؟ أي مني والجمع وهذا، فقال نعم، فسمي ذلك المكان عرفات. وعن خصيف بن عبد الرحمن أن مجاهدا حدثه قال: لما قال إبراهيم عليه السلام: {وَأَرِنا مَناسِكَنا} أي الصفا والمروة، وهما من شعائر الله بنص القرآن، ثم خرج به جبريل، فلما مر بجمرة العقبة إذا إبليس عليها، فقال له جبريل: كبر وارمه، فارتفع إبليس إلى الوسطى، فقال جبريل: كبر وارمه، ثم في الجمرة القصوى كذلك. ثم انطلق به إلى المشعر الحرام، ثم أتى به عرفة فقال له: هل عرفت ما أريتك؟ قال نعم، فسميت عرفات لذلك فيما قيل، قال: فأذن في الناس بالحج، قال: كيف أقول؟ قال قل: يا أيها الناس، أجيبوا ربكم، ثلاث مرار، ففعل، فقالوا: لبيك، اللهم لبيك. قال: فمن أجاب يومئذ فهو حاج.
وفي رواية أخرى: أنه حين نادى استدار فدعا في كل وجه، فلبى الناس من كل مشرق ومغرب، وتطأطأت الجبال حتى بعد صوته.
وقال محمد بن إسحاق: لما فرغ إبراهيم خليل الرحمن صلوات الله عليه من بناء البيت الحرام جاءه جبريل عليه السلام فقال له: طف به سبعا، فطاف به سبعا هو وإسماعيل عليهما السلام، يستلمان الأركان كلها في كل طواف، فلما أكملا سبعا صليا خلف المقام ركعتين. قال: فقام جبريل فأراه المناسك كلها: الصفا والمروة ومنى والمزدلفة. قال: فلما دخل مني وهبط من العقبة تمثل له إبليس...، فذكر نحو ما تقدم. قال ابن إسحاق: وبلغني أن آدم عليه السلام كان يستلم الأركان كلها قبل إبراهيم عليه السلام. وقال: حج إسحاق وسارة من الشام، وكان إبراهيم عليه السلام يحجه كل سنة على البراق، وحجته بعد ذلك الأنبياء والأمم.
وروى محمد بن سابط عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «كان النبي من الأنبياء إذا هلكت أمته لحق مكة فتعبد بها هو ومن آمن معه حتى يموتوا فمات بها نوح وهود وصالح وقبورهم بين زمزم والحجر».
وذكر ابن وهب أن شعيبا مات بمكة هو ومن معه من المؤمنين، فقبورهم في غربي مكة بين دار الندوة وبين بني سهم.
وقال ابن عباس: في المسجد الحرام قبران ليس فيه غيرهما، قبر إسماعيل وقبر شعيب عليهما السلام، فقبر إسماعيل في الجحر، وقبر شعيب مقابل الحجر الأسود.
وقال عبد الله بن ضمرة السلولي: ما بين الركن والمقام إلى زمزم قبور تسعة وتسعين نبيا جاءوا حجاجا فقبروا هنالك، صلوات الله عليهم أجمعين.
قوله تعالى: {وَتُبْ عَلَيْنا} اختلف في معنى قول إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام: {وَتُبْ عَلَيْنا} وهم أنبياء معصومون، فقالت طائفة: طلبا التثبيت والدوام، لا أنهما كان لهما ذنب.
قلت: وهذا حسن، وأحسن منه أنهما لما عرفا المناسك وبنيا البيت أرادا أن يبينا للناس ويعرفاهم أن ذلك الموقف وتلك المواضع مكان التنصل من الذنوب وطلب التوبة.
وقيل: المعنى وتب على الظلمة منا. وقد مضى الكلام في عصمة الأنبياء عليهم السلام في قصة آدم عليه السلام، وتقدم القول في معنى قوله: {إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} فأغنى عن إعادته.

.تفسير الآية رقم (129):

{رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)}
قوله تعالى: {رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي قراءة أبي {وابعث في آخرهم رسولا منهم}. وقد روى خالد بن معدان: أن نفرا من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالوا له: يا رسول الله، أخبرنا عن نفسك، قال: «نعم أنا دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى». و{رَسُولًا} أي مرسلا، وهو فعول من الرسالة. قال ابن الأنباري: يشبه أن يكون أصله من قولهم: ناقة مرسال ورسله، إذا كانت سهلة السير ماضية أمام النوق. ويقال للجماعة المهملة المرسلة: رسل، وجمه أرسال. يقال: جاء القوم أرسالا، أي بعضهم في أثر بعض، ومنه يقال للبن رسل، لأنه يرسل من الضرع.
قوله تعالى: {وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ} {الكتاب} القرآن و{الحكمة}: المعرفة بالدين، والفقه في التأويل، والفهم الذي هو سجية ونور من الله تعالى، قاله مالك، ورواه عنه ابن وهب، وقاله ابن زيد.
وقال قتادة: {الحكمة} السنة وبيان الشرائع.
وقيل: الحكم والقضاء خاصة، والمعنى متقارب. ونسب التعليم إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من حيث هو يعطي الأمور التي ينظر فيها، ويعلم طريق النظر بما يلقيه الله إليه من وحيه. {وَيُزَكِّيهِمْ} أي يطهرهم من وضر الشرك، عن ابن جريج وغيره. والزكاة: التطهير، وقد تقدم.
وقيل: إن الآيات تلاوة ظاهر الألفاظ. والكتاب معاني الألفاظ. والحكمة الحكم، وهو مراد الله بالخطاب من مطلق ومقيد، ومفسر ومجمل، وعموم وخصوص، وهو معنى ما تقدم، والله تعالى أعلم. و{العزيز} معناه المنيع الذي لا ينال ولا يغالب.
وقال ابن كيسان: معناه الذي لا يعجزه شي، دليله: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ}. الكسائي: {العزيز} الغالب، ومنه قوله تعالى: {وَعَزَّنِي فِي الْخِطابِ}.
وفي المثل: من عز بز أي من غلب سلب.
وقيل: {العزيز} الذي لا مثل له، بيانه {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. وقد زدنا هذا المعنى بيانا في اسمه العزيز في كتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى وقد تقدم معنى: {الحكيم} والحمد الله.

.تفسير الآية رقم (130):

{وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130)}
قوله تعالى: {وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} {مَنْ} استفهام في موضع رفع بالابتداء، و{يَرْغَبُ} صلة {مَنْ}... {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} في موضع الخبر. وهو تقريع وتوبيخ وقع فيه معنى النفي، أي وما يرغب، قاله النحاس. والمعنى: يزهد فيها وينأى بنفسه عنها، أي عن الملة وهي الدين والشرع. {إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ} قال قتادة: هم اليهود والنصارى، رغبوا عن ملة إبراهيم واتخذوا اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله تعالى. قال الزجاج: {سَفِهَ} بمعنى جهل، أي جهل أمر نفسه فلم يفكر فيها.
وقال أبو عبيدة: المعنى أهلك نفسه.
وحكى ثعلب والمبرد أن {سَفِهَ} بكسر الفاء يتعدى كسفه بفتح الفاء وشدها. وحكي عن أبي الخطاب ويونس أنها لغة.
وقال الأخفش: {سَفِهَ نَفْسَهُ} أي فعل بها من السفه ما صار به سفيها. وعنه أيضا هي لغة بمعنى سفه، حكاه المهدوي، والأول ذكره الماوردي. فأما سفه بضم الفاء فلا يتعدى، قاله المبرد وثعلب.
وحكى الكسائي عن الأخفش أن المعنى جهل في نفسه، فحذفت في فانتصب. قال الأخفش: ومثله {عُقْدَةَ النِّكاحِ}، أي على عقدة النكاح. وهذا يجري على مذهب سيبويه فيما حكاه من قولهم: ضرب فلان الظهر والبطن، أي في الظهر والبطن. الفراء: هو تمييز. قال ابن بحر: معناه جهل نفسه وما فيها من الدلالات والآيات الدالة على أن لها صانعا ليس كمثله شي، فيعلم به توحيد الله وقدرته.
قلت: وهذا هو معنى قول الزجاج، فيفكر في نفسه من يدين يبطش بهما، ورجلين يمشي عليهما، وعين يبصر بها، وأذن يسمع بها، ولسان ينطق به، وأضراس تنبت له عند غناه عن الرضاع وحاجته إلى الغذاء ليطحن بها الطعام، ومعدة أعدت لطبخ الغذاء، وكبد يصعد إليها صفوه، وعروق ومعابر ينفذ فيها إلى الاطراف، وأمعاء يرسب إليها ثفل الغذاء ويبرز من أسفل البدن، فيستدل بهذا على أن له خالقا قادرا عليما حكيما، وهذا معنى قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} أشار إلى هذا الخطابي رحمه الله تعالى. وسيأتي له مزيد بيان في سورة والذاريات إن شاء الله تعالى. وقد استدل بهذه الآية من قال: إن شريعة إبراهيم شريعة لنا إلا ما نسخ منها، وهذا كقوله: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ}، {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ}. وسيأتي بيانه.
قوله تعالى: {وَلَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا} أي اخترناه للرسالة فجعلناه صافيا من الأدناس والأصل في: {اصْطَفَيْناهُ} اصتفيناه، أبدلت التاء طاء لتناسبها مع الصاد في الاطباق. واللفظ مشتق من الصفوة، ومعناه تخير الاصفى.
قوله تعالى: {وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ} الصالح في الآخرة هو الفائز. ثم قيل: كيف جاز تقديم {فِي الْآخِرَةِ} وهو داخل في الصلة، قال النحاس: فالجواب أنه ليس التقدير إنه لمن الصالحين في الآخرة، فتكون الصلة قد تقدمت، ولأهل العربية فيه ثلاثة أقوال: منها أن يكون المعنى وإنه صالح في الآخرة، ثم حذف.
وقيل: {فِي الْآخِرَةِ} متعلق بمصدر محذوف، أي صلاحه في الآخرة. والقول الثالث: أن {الصَّالِحِينَ} ليس بمعنى الذين صلحوا، ولكنه اسم قائم بنفسه، كما يقال الرجل والغلام.
قلت: وقول رابع أن المعنى وإنه في عمل الآخرة لمن الصالحين، فالكلام على حذف مضاف.
وقال الحسين بن الفضل: في الكلام تقديم وتأخير، مجازه ولقد اصطفيناه في الدنيا والآخرة وإنه لمن الصالحين.
وروى حجاج بن حجاج- وهو حجاج الأسود، وهو أيضا حجاج الأحول المعروف بزق العسل- قال: سمعت معاوية بن قرة يقول: اللهم إن الصالحين أنت أصلحتهم ورزقتهم أن عملوا بطاعتك فرضيت عنهم، اللهم كما أصلحتهم فأصلحنا، وكما رزقتهم أن عملوا بطاعتك فرضيت عنهم فارزقنا أن نعمل بطاعتك، وأرض عنا.