فصل: تفسير الآية رقم (32):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (32):

{وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)}
قوله تعالى: {وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ} قال مقاتل: كالجبال.
وقال الكلبي: كالسحاب، وقاله قتادة- جمع ظلة، شبه الموج بها لكبرها وارتفاعها. قال النابغة في وصف بحر:
يماشيهن أخضر ذو ظلال ** على حافاته فلق الدنان

وإنما شبه الموج وهو واحد بالظل وهو جمع، لان الموج يأتي شيئا بعد شيء ويركب بعضه بعضا كالظلل.
وقيل: هو بمعنى الجمع، وإنما لم يجمع لأنه مصدر. وأصله من الحركة والازدحام، ومنه: ماج البحر، والناس يموجون. قال كعب:
فجئنا إلى موج من البحر وسطه ** أحابيش منهم حاسر ومقنع

وقرا محمد بن الحنفية: {موج كالظلال} جمع ظل. {دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} موحدين له لا يدعون لخلاصهم سواه، وقد تقدم. {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ} يعني من البحر. {إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ} قال ابن عباس: موف بما عاهد عليه الله في البحر. النقاش: يعني عدل في العهد، وفى في البر بما عاهد عليه الله في البحر.
وقال الحسن: {مُقْتَصِدٌ} مؤمن متمسك بالتوحيد والطاعة.
وقال مجاهد: {مُقْتَصِدٌ} في القول مضمر للكفر.
وقيل: في الكلام حذف، والمعنى: فمنهم مقتصد ومنهم كافر. ودل على المحذوف قوله تعالى: {وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ} الختار: الغدار. والختر: أسوأ الغدر. قال عمرو بن معد يكرب:
فإنك لو رأيت أبا عمير ** ملأت يديك من غدر وختر

وقال الأعشى:
بالابلق الفرد من تيماء منزله ** حصن حصين وجار غير ختار

قال الجوهري: الختر الغدر، يقال: ختره فهو ختار. الماوردي: وهو قول الجمهور.
وقال عطية: إنه الجاحد. ويقال: ختر يختر ويختر بالضم والكسر خترا، ذكره القشيري. وجحد الآيات إنكار أعيانها. والجحد بالآيات إنكار دلائلها.

.تفسير الآية رقم (33):

{يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)}
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ} يعني الكافر والمؤمن، أي خافوه ووحدوه. {وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً} تقدم معنى {يَجْزِي} في البقرة وغيرها. فإن قيل: فقد قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من مات له ثلاثة من الولد لم يبلغوا الحنث لم تمسه النار إلا تحلة القسم». وقال: «من ابتلي بشيء من هذا البنات فأحسن إليهن كن له حجابا من النار». قيل له: المعنى بهذه الآية أنه لا يحمل والد ذنب ولده، ولا مولود ذنب والده، ولا يؤاخذ أحدهما عن الآخر. والمعنى بالأخبار أن ثواب الصبر على الموت والإحسان إلى البنات يحجب العبد عن النار، ويكون الولد سابقا له إلى الجنة. {إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} أي البعث {فَلا تَغُرَّنَّكُمُ} أي تخدعنكم {الْحَياةُ الدُّنْيا} بزينتها وما تدعوا إليه فتتكلوا عليها وتركنوا إليها وتتركوا العمل للآخرة {وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ} قراءة العامة هنا وفي سورة الملائكة والحديد بفتح الغين، وهو الشيطان في قول مجاهد وغيره، وهو الذي يغر الخلق ويمنيهم الدنيا ويلهيهم عن الآخرة، وفي سورة النساء: {يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ}. وقرأ سماك بن حرب وأبو حيوة وابن السميقع بضم الغين، أي لا تغتروا. كأنه مصدر غر يغر غرورا. قال سعيد بن جبير: هو أن يعمل بالمعصية ويتمنى المغفرة.

.تفسير الآية رقم (34):

{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَما تَدْرِي نَفْسٌ ماذا تَكْسِبُ غَداً وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)}
زعم الفراء أن هذا معنى النفي، أي ما يعلمه أحد إلا الله تعالى. قال أبو جعفر النحاس: وإنما صار فيه معنى النفي والإيجاب بتوقيف الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على ذلك، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في قوله الله عز وجل: {وَعِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ} [الأنعام: 59]: «إنها هذه»: قلت: قد ذكرنا في سورة الأنعام حديث ابن عمر في هذا، خرجه البخاري.
وفي حديث جبريل عليه السلام قال: «أخبرني عن الساعة؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:» ما المسئول عنها بأعلم من السائل، هن خمس لا يعلمهن إلا الله تعالى: {إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غدا} قال: «صدقت». لفظ أبي داود الطيالسي.
وقال عبد الله بن مسعود: كل شيء أوتي نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غير خمس: {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}، الآية إلى آخرها.
وقال ابن عباس: هذه الخمسة لا يعلمها إلا الله تعالى، ولا يعلمها ملك مقرب ولا نبي مرسل، فمن ادعى أنه يعلم شيئا من هذه فقد كفر بالقرآن، لأنه خالفه. ثم إن الأنبياء يعلمون كثيرا من الغيب بتعريف الله تعالى إياهم. والمراد إبطال كون الكهنة والمنجمين ومن يستسقى بالأنواء وقد يعرف بطول التجارب أشياء من ذكورة الحمل وأنوثته إلى غير ذلك، حسبما تقدم ذكره في الأنعام. وقد تختلف التجربة وتنكسر العادة ويبقى العلم لله تعالى وحده. وروي أن يهوديا كان يحسب حساب النجوم، فقال لابن عباس: إن شئت نبأتك نجم ابنك، وأنه يموت بعد عشرة أيام، وأنت لا تموت حتى تعمى، وأنا لا يحول علي الحول حتى أموت. قال: فأين موتك يا يهودي؟ فقال: لا أدري. فقال ابن عباس: صدق الله. {وَما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ} فرجع ابن عباس فوجد ابنه محموما، ومات بعد عشرة أيام. ومات اليهودي قبل الحول، ومات ابن عباس أعمى. قال علي بن الحسين راوي هذا الحديث: هذا أعجب الأحاديث.
وقال مقاتل: إن هذه الآية نزلت في رجل من أهل البادية اسمه الوارث ابن عمرو بن حارثة، أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: إن امرأتي حبلى فأخبرني ماذا تلد، وبلادنا جدبة فأخبرني متى ينزل الغيث، وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت، وقد علمت ما عملت اليوم فأخبرني ماذا أعمل غدا، وأخبرني متى تقوم الساعة؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية، ذكره القشيري والماوردي.
وروى أبو المليح عن أبي عزة الهذلي قال قال رسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا أراد الله تعالى قبض روح عبد بأرض جعل له إليها حاجة فلم ينته حتى يقدمها- ثم قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- {إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ} إلى قوله: {بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ}»ذكره الماوردي، وخرجه ابن ماجه من حديث ابن مسعود بمعناه. وقد ذكرناه في كتاب التذكرة مستوفى. وقراءة العامة: {وَيُنَزِّلُ} مشددا. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة والكسائي مخففا. وقرأ أبي بن كعب: {بأية أرض} الباقون {بِأَيِّ أَرْضٍ}. قال الفراء: اكتفى بتأنيث الأرض من تأنيث أي.
وقيل: أراد بالأرض المكان فذكر. قال الشاعر:
فلا مزنة ودقت ودقها ** ولا أرض أبقل إبقالها

وقال الأخفش: يجوز مررت بجارية أي جارية، وأية جارية. وشبه سيبويه تأنيث {أي} بتأنيث كل في قولهم: كلتهن. {إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} {خَبِيرٌ} نعت ل {عَلِيمٌ} أو خبر بعد خبر. والله تعالى أعلم.

.سورة السجدة:

وهي مكية، غير ثلاث آيات نزلت بالمدينة، وهي قوله تعالى: {أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً} [السجدة: 18] تمام ثلاث آيات، قاله الكلبي ومقاتل. وقال غيرهما: إلا خمس آيات، من قوله تعالى: {تَتَجافى جُنُوبُهُمْ}- إلى قوله- الذي {كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} [السجدة: 20- 16]. وهي ثلاثون آية. وقيل تسع وعشرون. وفي الصحيح عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقرأ في صلاة الفجر يوم الجمعة {الم. تَنْزِيلُ} السجدة، و{هل أتى على الإنسان حين من الدهر} الحديث. وخرج الدارمي أبو محمد في مسنده عن جابر بن عبد الله قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ينام حتى يقرأ: {الم. تَنْزِيلُ} السجدة. و{تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ} [الملك: 1]. قال الدارمي: وأخبرنا أبو المغيرة قال حدثنا عبدة عن خالد بن معدان قال: اقرءوا المنجية، وهي {الم. تَنْزِيلُ} فإنه بلغني أن رجلا كان يقرؤها، ما يقرأ شيئا غيرها، وكان كثير الخطايا فنشرت جناحها عليه وقالت: رب اغفر له فإنه كان يكثر من قراءتي، فشفعها الرب فيه وقال: «اكتبوا له بكل خطيئة حسنة وارفعوا له درجة».

.تفسير الآيات (1- 2):

{الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2)}
قوله تعالى: {الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ} الإجماع على رفع {تَنْزِيلُ الْكِتابِ} ولو كان منصوبا على المصدر لجاز، كما قرأ الكوفيون: {إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ} [يس: 5- 3]. و{تَنْزِيلُ} رفع بالابتداء والخبر {لا رَيْبَ فِيهِ}. أو خبر على إضمار مبتدأ، أي هذا تنزيل، أو المتلو تنزيل، أو هذه الحروف تنزيل. ودلت: {الم}
على ذكر الحروف. ويجوز أن يكون {لا رَيْبَ فِيهِ} في موضع الحال من {الْكِتابِ}. و{مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} الخبر. قال مكي: وهو أحسنها. ومعنى: {لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} لا شك فيه أنه من عند الله، فليس بسحر ولا شعر ولا كهانة ولا أساطير الأولين.

.تفسير الآية رقم (3):

{أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)}
قوله تعالى: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ} هذه {أَمْ} المنقطعة التي تقدر ببل وألف الاستفهام، أي بل أيقولون. وهي تدل على خروج من حديث إلى حديث، فإنه عز وجل أثبت أنه تنزيل من رب العالمين، وأن ذلك مما لا ريب فيه، ثم أضرب عن ذلك إلى قوله: {أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ} أي افتعله واختلقه. {بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} كذبهم في دعوى الافتراء {لِتُنْذِرَ قَوْماً} قال قتادة: يعني قريشا، كانوا أمة أمية لم يأتهم نذير من قبل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. و{لِتُنْذِرَ} متعلق بما قبلها فلا يوقف على {مِنْ رَبِّكَ}. ويجوز أن يتعلق بمحذوف، التقدير: أنزله لتنذر قوما، فيجوز الوقف على {مِنْ رَبِّكَ}. و{ما} في قوله: {ما أَتاهُمْ} نفي. {مِنْ نَذِيرٍ} صلة. و{نَذِيرٍ} في محل الرفع، وهو المعلم المخوف.
وقيل: المراد بالقوم أهل الفترة بين عيسى ومحمد عليهما السلام، قاله ابن عباس ومقاتل.
وقيل: كانت الحجة ثابتة لله عز وجل عليهم بإنذار من تقدم من الرسل وإن لم يروا رسولا، وقد تقدم هذا المعنى.

.تفسير الآية رقم (4):

{اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ (4)}
قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} عرفهم كمال قدرته ليسمعوا القرآن ويتأملوه. ومعنى: {خَلَقَ} أبدع وأوجد بعد العدم وبعد أن لم تكن شيئا. {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} من يوم الأحد إلى آخر يوم الجمعة. قال الحسن: من أيام الدنيا.
وقال ابن عباس: إن اليوم من الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض مقداره ألف سنة من سني الدنيا.
وقال الضحاك: في ستة آلاف سنة، أي في مدة ستة أيام من أيام الآخرة. {ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ} تقدم في الأعراف والبقرة وغيرهما وذكرنا ما للعلماء في ذلك مستوفى في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى. وليست {ثُمَّ} للترتيب وإنما هي بمعنى الواو. {ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ} أي ما للكافرين من ولي يمنع من عذابهم ولا شفيع. ويجوز الرفع على الموضع. {أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} في قدرته ومخلوقاته.

.تفسير الآية رقم (5):

{يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)}
قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ} قال ابن عباس: ينزل القضاء والقدر.
وقيل: ينزل الوحي مع جبريل.
وروى عمرو بن مرة عن عبد الرحمن بن سابط قال: يدبر أمر الدنيا أربعة: جبريل، وميكائيل، وملك الموت، وإسرافيل، صلوات الله عليهم أجمعين. فأما جبريل فموكل بالرياح والجنود. وأما ميكائيل فموكل بالقطر والماء. وأما ملك الموت فموكل بقبض الأرواح. وأما إسرافيل فهو ينزل بالأمر عليهم. وقد قيل: إن العرش موضع التدبير، كما أن ما دون العرش موضع التفصيل، قال الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ} [الرعد: 2]. وما دون السماوات موضع التصريف، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا} [الفرقان: 50].
قوله تعالى: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} قال يحيى بن سلام: هو جبريل يصعد إلى السماء بعد نزوله بالوحي. النقاش: هو الملك الذي يدبر الامر من السماء إلى الأرض.
وقيل: إنها أخبار أهل الأرض تصعد إليه مع حملتها من الملائكة، قاله ابن شجرة. {فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ}.
وقيل: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ} أي يرجع ذلك الامر والتدبير إليه بعد انقضاء الدنيا {فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} وهو يوم القيامة. وعلى الأقوال المتقدمة فالكناية في {يَعْرُجُ} كناية عن الملك، ولم يجر له ذكر لأنه مفهوم من المعنى، وقد جاء صريحا في {سأل سائل} قوله: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]. والضمير في {إِلَيْهِ} يعود على السماء على لغة من يذكرها، أو على مكان الملك الذي يرجع إليه، أو على اسم الله تعالى، والمراد إلى الموضع الذي أقره فيه، وإذا رجعت إلى الله فقد رجعت إلى السماء، أي إلى سدرة المنتهى، فإنه إليها يرتفع ما يصعد به من الأرض ومنها ينزل ما يهبط به إليها، ثبت معنى ذلك في صحيح مسلم. والهاء في {مِقْدارُهُ} راجعة إلى التدبير، والمعنى: كان مقدار ذلك التدبير ألف سنة من سني الدنيا، أي يقضي أمر كل شيء لألف سنة في يوم واحد، ثم يلقيه إلى ملائكته، فإذا مضت قضى لألف سنة أخرى، ثم كذلك أبدا، قاله مجاهد.
وقيل: الهاء للعروج.
وقيل: المعنى أنه يدبر أمر الدنيا إلى أن تقوم الساعة، ثم يعرج إليه ذلك الامر فيحكم فيه في يوم كان مقداره ألف سنة.
وقيل: المعنى يدبر أمر الشمس في طلوعها وغروبها ورجوعها إلى موضعها من الطلوع، في يوم كان مقداره في المسافة ألف سنة.
وقال ابن عباس: المعنى كان مقداره لو ساره غير الملك ألف سنة، لان النزول خمسمائة والصعود خمسمائة. وروي ذلك عن جماعة من المفسرين، وهو اختيار الطبري، ذكره المهدوي. وهو معنى القول الأول. أي أن جبريل لسرعة سيره يقطع مسيرة ألف سنة في يوم من أيامكم، ذكره الزمخشري. وذكر الماوردي على ابن عباس والضحاك أن الملك يصعد في يوم مسيرة ألف سنة. وعن قتادة أن الملك ينزل ويصعد في يوم مقداره ألف سنة، فيكون مقدار نزوله خمسمائة سنة، ومقدار صعوده خمسمائة على قول قتادة والسدي. وعلى قول ابن عباس والضحاك: النزول ألف سنة، والصعود ألف سنة. {مما تعدون} أي مما تحسبون من أيام الدنيا. وهذا اليوم عبارة عن زمان يتقدر بألف سنة من سني العالم، وليس بيوم يستوعب نهارا بين ليلتين، لان ذلك ليس عند الله. والعرب قد تعبر عن مدة العصر باليوم، كما قال الشاعر:
يومان يوم مقامات وأندية ** ويوم سير إلى الاعداء تأويب

وليس يريد يومين مخصوصين، وإنما أراد أن زمانهم ينقسم شطرين، فعبر عن كل واحد من الشطرين بيوم. وقرأ ابن أبي عبلة: {يعرج} على البناء للمفعول. وقرئ: {يعدون} بالياء. فأما قوله تعالى: {فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} فمشكل مع هذه الآية. وقد سأل عبد الله بن فيروز الديلمي عبد الله بن عباس عن هذه الآية وعن قوله: {فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} فقال: أيام سماها سبحانه، وما أدري ما هي؟ فأكره أن أقول فيها ما لا أعلم. ثم سئل عنها سعيد بن المسيب فقال: لا أدري. فأخبرته بقول ابن عباس فقال ابن المسيب للسائل: هذا ابن عباس اتقى أن يقول فيها وهو أعلم مني. ثم تكلم العلماء في ذلك فقيل: إن آية {سَأَلَ سائِلٌ} [المعارج: 1] هو إشارة إلى يوم القيامة، بخلاف هذه الآية. والمعنى: أن الله تعالى جعله في صعوبته على الكفار كخمسين ألف سنة، قاله ابن عباس. والعرب تصف أيام المكروه بالطول وأيام السرور بالقصر. قال:
ويوم كظل الرمح قصر طوله ** دم الزق عنا واصطفاق المزاهر

وقيل: إن يوم القيامة فيه أيام، فمنه ما مقداره ألف سنة ومنه ما مقداره خمسون ألف سنة.
وقيل: أوقات القيامة مختلفة، فيعذب الكافر بجنس من العذاب ألف سنة، ثم ينتقل إلى جنس آخر مدته خمسون ألف سنة.
وقيل: مواقف القيامة خمسون موقفا، كل موقف ألف سنة. فمعنى: {يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} أي مقدار وقت، أو موقف من يوم القيامة.
وقال النحاس: اليوم في اللغة بمعنى الوقت، فالمعنى: تعرج الملائكة والروح إليه في وقت كان مقداره ألف سنة، وفي وقت آخر كان مقداره خمسين ألف سنة. وعن وهب بن منبه: {فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} قال: ما بين أسفل الأرض إلى العرش. وذكر الثعلبي عن مجاهد وقتادة والضحاك في قوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] أراد من الأرض إلى سدرة المنتهى التي فيها جبريل. يقول تعالى: يسير جبريل والملائكة الذين معه من أهل مقامه مسيرة خمسين ألف سنة في يوم واحد من أيام الدنيا. وقوله: {إِلَيْهِ} يعني إلى المكان الذي أمرهم الله تعالى أن يعرجوا إليه. وهذا كقول إبراهيم عليه الصلاة والسلام: {إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الصافات: 99] أراد أرض الشام.
وقال تعالى: {وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ} [النساء: 100] أي إلى المدينة.
وقال أبو هريرة قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أتاني ملك من ربي عز وجل برسالة ثم رفع رجله فوضعها فوق السماء والأخرى على الأرض لم يرفعها بعد».