فصل: تفسير الآية رقم (10):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (10):

{إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)}
قوله تعالى: {إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} {إِذْ} في موضع نصب بمعنى واذكر. وكذا {وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ}. {مِنْ فَوْقِكُمْ} يعني من فوق الوادي، وهو أعلاه من قبل المشرق، جاء منه عوف بن مالك في بني نصر، وعيينة بن حصن في أهل نجد، وطليحة ابن خويلد الأسدي في بني أسد. {وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ} يعني من بطن الوادي من قبل المغرب، جاء منه أبو سفيان بن حرب على أهل مكة، ويزيد بن جحش على قريش، وجاء أبو الأعور السلمي ومعه حيي بن أخطب اليهودي في يهود بني قريظة مع عامر بن الطفيل من وجه الخندق. {وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ} أي شخصت.
وقيل: مالت، فلم تلتفت إلا إلى عدوها دهشا من فرط الهول. {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ} أي زالت عن أماكنها من الصدور حتى بلغت الحناجر وهي الحلاقيم، واحدها حنجرة، فلولا أن الحلوق ضاقت عنها لخرجت، قاله قتادة.
وقيل: هو على معنى المبالغة على مذهب العرب على إضمار كاد، قال: إذا ما غضبنا غضبة مضرية هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دما أي كادت تقطر. ويقال: إن الرئة تنفتح عند الخوف فيرتفع القلب حتى يكاد يبلغ الحنجرة مثلا، ولهذا يقال للجبان: انتفخ سحره.
وقيل: إنه مثل مضروب في شدة الخوف ببلوغ القلوب الحناجر وإن لم تزل عن أماكنها مع بقاء الحياة. قال معناه عكرمة. روى حماد ابن زيد عن أيوب عن عكرمة قال: بلغ فزعها. والأظهر أنه أراد اضطراب القلب وضربانه، أي كأنه لشدة اضطرابه بلغ الحنجرة. والحنجرة والحنجور بزيادة النون حرف الحلق. {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} قال الحسن: ظن المنافقون أن المسلمين يستأصلون، وظن المؤمنون أنهم ينصرون.
وقيل: هو خطاب للمنافقين، أي قلتم هلك محمد وأصحابه. واختلف القراء في قوله تعالى: {الظُّنُونَا}، و{الرَّسُولَا}، و{السَّبِيلَا} آخر السورة، فأثبت ألفاتها في الوقف والوصل نافع وابن عامر. وروي عن أبي عمرو والكسائي تمسكا بخط المصحف، مصحف عثمان، وجميع المصاحف في جميع البلدان. واختاره أبو عبيد، إلا أنه قال: لا ينبغي للقارئ أن يدرج القراءة بعدهن لكن يقف عليهن. قالوا: ولان العرب تفعل ذلك في قوافي أشعارهم ومصاريعها، قال:
نحن جلبنا القرح القوافلا ** تستنفر الأواخر الاوائلا

وقرأ أبو عمرو والجحدري ويعقوب وحمزة بحذفها في الوصل والوقف معا. قالوا: هي زائدة في الخط كما زيدت الالف في قوله تعالى: {وَلَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ} [التوبة: 47] فكتبوها كذلك، وغير هذا. وأما الشعر فموضع ضرورة، بخلاف القرآن فإنه أفصح اللغات ولا ضرورة فيه. قال ابن الأنباري: ولم يخالف المصحف من قرأ. {الظنون} و{السبيل} و{الرسول} بغير ألف في الحروف الثلاثة، وخطهن في المصحف بألف لان الالف التي في {أَطَعْنَا} والداخلة في أول {الرسول} و{الظنون} و{السبيل} كفى من الالف المتطرفة المتأخرة كما كفت ألف أبي جاد من ألف هواز. وفية حجة أخرى: أن الالف أنزلت منزلة الفتحة وما يلحق دعامة للحركة التي تسبق والنية فيه السقوط، فلما عمل على هذا كانت الالف مع الفتحة كالشيء الواحد يوجب الوقف سقوطهما ويعمل على أن صورة الالف في الخط لا توجب موضعا في اللفظ، وأنها كالألف في {سِحْرانِ} وفي {فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} وفي {واعَدْنا مُوسى} وما يشبههن مما يحذف من الخط وهو موجود في اللفظ، وهو مسقط من الخط. وفية حجة ثالثة هي أنه كتب على لغة من يقول لقيت الرجلا. وقرى على لغة من يقول: لقيت الرجل، بغير ألف. أخبرنا أحمد بن يحيى عن جماعة من أهل اللغة أنهم رووا عن العرب قام الرجلو، بواو، ومررت بالرجلي، بياء، في الوصل والوقف. ولقيت الرجلا، بألف في الحالتين كلتيهما. قال الشاعر:
أسائله عميرة عن أبيها ** خلال الجيش تعترف الركابا

فأثبت الالف في الركاب بناء على هذه اللغة.
وقال الآخر:
إذا الجوزاء أردفت الثريا ** ظننت بآل فاطمة الظنونا

وعلى هذه اللغة بنى نافع وغيره. وقرأ ابن كثير وابن محيصن والكسائي بإثباتها في الوقف وحذفها في الوصل. قال ابن الأنباري: ومن وصل بغير ألف ووقف بألف فجائز أن يحتج بأن الالف احتاج إليها عند السكت حرصا على بقاء الفتحة، وأن الالف تدعمها وتقويها.

.تفسير الآية رقم (11):

{هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11)}
{هنا} للقريب من المكان. و{هنالك} للبعيد. و{هناك} للوسط. ويشار به إلى الوقت، أي عند ذلك اختبر المؤمنون ليتبين المخلص من المنافق. وكان هذا الابتلاء بالخوف والقتال والجوع والحصر والنزال. {وَزُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً} أي حركوا تحريكا.
قال الزجاج: كل مصدر من المضاعف على فعلال يجوز فيه الكسر والفتح، نحو قلقلته قلقالا وقلقالا، وزلزلوا زلزالا وزلزالا. والكسر أجود، لان غير المضاعف على الكسر نحو دحرجته دحراجا. وقراءة العامة بكسر الزاي. وقرأ عاصم والجحدري {زلزالا} بفتح الزاي. قال ابن سلام: أي حركوا بالخوف تحريكا شديدا.
وقال الضحاك: هو إزاحتهم عن أماكنهم حتى لم يكن لهم إلا موضع الخندق.
وقيل: إنه اضطرابهم عما كانوا عليه، فمنهم من اضطرب في نفسه ومنهم من اضطرب في دينه. و{هُنالِكَ} يجوز أن يكون العامل فيه {ابْتُلِيَ} فلا يوقف على {هُنالِكَ}. ويجوز أن يكون {وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا} فيوقف على {هُنالِكَ}.

.تفسير الآية رقم (12):

{وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12)}
قوله تعالى: {وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} أي شك ونفاق. {ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً} أي باطلا من القول. وذلك أن طعمة بن أبيرق ومعتب ابن قشير وجماعة نحو من سبعين رجلا قالوا يوم الخندق: كيف يعدنا كنوز كسرى وقيصر ولا يستطيع أحدنا أن يتبرز؟ وإنما قالوا ذلك لما فشا في أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من قوله عند ضرب الصخرة، على ما تقدم في حديث النسائي، فأنزل الله تعالى هذه الآية.

.تفسير الآية رقم (13):

{وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13)}
قوله تعالى: {وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} الطائفة تقع على الواحد فما فوقه. وعني به هنا أوس بن قيظي والد عرابة بن أوس، الذي يقول فيه الشماخ:
إذا ما راية رفعت لمجد ** تلقاها عرابة باليمين

و{يثرب} هي المدينة، وسماها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طيبة وطابة.
وقال أبو عبيدة: يثرب اسم أرض، والمدينة ناحية منها. السهيلي: وسميت يثرب لان الذي نزلها من العماليق اسمه يثرب بن عميل بن مهلائيل بن عوض بن عملاق بن لاوذ بن إرم.
وفي بعض هذه الأسماء اختلاف. وبنو عميل هم الذين سكنوا الجحفة فأجحفت بهم السيول فيها. وبها سميت الجحفة. {لا مقام لكم} بفتح الميم قراءة العامة. وقرأ حفص والسلمى والجحدري وأبو حيوة: بضم الميم، يكون مصدرا من أقام يقيم، أي لا إقامة، أو موضعا يقيمون فيه. ومن فتح فهو اسم مكان، أي لا موضع لكم تقيمون فيه. {فَارْجِعُوا} أي إلى منازلكم. أمروهم بالهروب من عسكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن عباس: قالت اليهود لعبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه من المنافقين: ما الذي يحملكم على قتل أنفسكم بيد أبي سفيان وأصحابه! فارجعوا إلى المدينة فإنا مع القوم فأنتم آمنون. قوله تعالى: {وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ} في الرجوع إلى منازلهم بالمدينة، وهم بنو حارثة ابن الحارث، في قول ابن عباس.
وقال يزيد بن رومان: قال ذلك أوس بن قيظي عن ملا من قومه. {يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ} أي سائبة ضائعة ليست بحصينة، وهي مما يلي العدو.
وقيل: ممكنة للسراق لخلوها من الرجال. يقال: دار معورة وذات عورة إذا كان يسهل دخولها. يقال: عور المكان عورا فهو عور. وبيوت عورة. وأعور فهو معور.
وقيل: عورة ذات عورة. وكل مكان ليس بممنوع ولا مستور فهو عورة، قاله الهروي. وقرأ ابن عباس وعكرمة ومجاهد وأبو رجاء العطاردي: {عورة} بكسر الواو، يعني قصيرة الجدران فيها خلل. تقول العرب: دار فلان عورة إذا لم تكن حصينة. وقد أعور الفارس إذا بدا فيه خلل للضرب والطعن، قال الشاعر:
متى تلقهم لم تلق في البيت معورا ** ولا الضيف مفجوعا ولا الجار مرملا

الجوهري: والعورة كل خلل يتخوف منه في ثغر أو حرب. النحاس: يقال أعور المكان إذا تبينت فيه عورة، وأعور الفارس إذا تبين فيه موضع الخلل. المهدوي: ومن كسر الواو في {عورة} فهو شاذ، ومثله قولهم: رجل عور، أي لا شيء له، وكان القياس أن يعل فيقال: عار، كيوم راح، ورجل مال، أصلهما روح ومول. ثم قال تعالى: {وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ} تكذيبا لهم وردا عليهم فيما ذكروه. {إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً} أي ما يريدون إلا الهرب. قيل: من القتل.
وقيل: من الدين.
وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في قبيلتين من الأنصار: بني حارثة وبني سلمة، وهموا أن يتركوا مراكزهم يوم الخندق، وفيهم أنزل الله تعالى: {إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا} [آل عمران: 122] الآية. فلما نزلت هذه الآية قالوا: والله ما ساءنا ما كنا هممنا به، إذ الله ولينا.
وقال السدي: الذي استأذنه منهم رجلان من الأنصار من بني حارثة أحدهما- أبو عرابة بن أوس، والآخر أوس بن قيظي. قال الضحاك: ورجع ثمانون رجلا بغير إذنه.

.تفسير الآية رقم (14):

{وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14)}
قوله تعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها} وهي البيوت أو المدينة، أي من نواحيها وجوانبها، الواحد قطر، وهو الجانب والناحية. وكذلك القتر لغة في القطر. {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها} أي لجاءوها، هذا على قراءة نافع وابن كثير بالقصر. وقرأ الباقون بالمد، أي لاعطوها من أنفسهم، وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقد جاء في الحديث: أن أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانوا يعذبون في الله ويسألون الشرك، فكل أعطى ما سألوه إلا بلالا. وفية دليل على قراءة المد، من الإعطاء. ويدل على قراءة القصر قوله: {وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ}
، فهذا يدل على {لأتوها} مقصورا. وفي {الْفِتْنَةَ} هنا وجهان: أحدهما- سئلوا القتال في العصبية لأسرعوا إليه، قاله الضحاك.
الثاني: ثم سئلوا الشرك لأجابوا إليه مسرعين، قاله الحسن. {ما تَلَبَّثُوا بِها} أي بالمدينة بعد إعطاء الكفر إلا قليلا حتى يهلكوا، قاله السدي والقتيبي والحسن والفراء.
وقال أكثر المفسرين: أي وما احتبسوا عن فتنة الشرك إلا قليلا ولأجابوا بالشرك مسرعين، وذلك لضعف نياتهم ولفرط نفاقهم، فلو اختلطت بهم الأحزاب لأظهروا الكفر.

.تفسير الآية رقم (15):

{وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ} أي من قبل غزوة الخندق وبعد بدر. قال قتادة: وذلك أنهم غابوا عن بدر ورأوا ما أعطى الله أهل بدر من الكرامة والنصر، فقالوا لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلن.
وقال يزيد بن رومان: هم بنو حارثة، هموا يوم أحد أن يفشلوا مع بني سلمة، فلما نزل فيهم ما نزل عاهدوا الله ألا يعودوا لمثلها فذكر الله لهم الذي أعطوه من أنفسهم. {وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا} أي مسئولا عنه. قال مقاتل والكلبي: هم سبعون رجلا بايعوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة العقبة وقالوا: اشترط لنفسك ولربك ما شئت. فقال: «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأموالكم وأولادكم» فقالوا: فما لنا إذا فعلنا ذلك يا نبي الله؟ قال: «لكم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة». فذلك قوله تعالى: {وَكانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا} أي أن الله ليسألهم عنه يوم القيامة.