فصل: تفسير الآيات (30- 31):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (30- 31):

{يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31)}
قوله تعالى: {يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قال العلماء: لما أختار نساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شكرهن الله على ذلك فقال تكرمة لهن: {لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ} [الأحزاب: 52] الآية. وبين حكمهن عن غيرهن فقال: {وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً} [الأحزاب: 53]. وجعل ثواب طاعتهن وعقاب معصيتهن أكثر مما لغيرهن فقال: {يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ} فأخبر تعالى أن من جاء من نساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بفاحشة- والله عاصم رسوله عليه السلام من ذلك كما مر في حديث الافك- يضاعف لها العذاب ضعفين، لشرف منزلتهن وفضل درجتهن، وتقدمهن على سائر النساء أجمع. وكذلك بينت الشريعة في غير ما موضع حسبما تقدم بيانه غير مرة- أنه كلما تضاعفت الحرمات فهتكت تضاعفت العقوبات، ولذلك ضوعف حد الحر على العبد والثيب على البكر.
وقيل: لما كان أزوج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مهبط الوحي وفي منزل أوامر الله ونواهيه، قوي الامر عليهن ولزمهن بسبب مكانتهن أكثر مما يلزم غيرهن، فضوعف لهن الأجر والعذاب. وقيل، إنما ذلك لعظم الضرر في جرائمهن بإيذاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكانت العقوبة على قدر عظم الجريمة في إيذاء رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ} [الأحزاب: 57]. واختار هذا القول الكيا الطبري.
الثانية: قال قوم: لو قدر الزنى من واحدة منهن- وقد أعاذهن الله من ذلك- لكانت تحد حدين لعظم قدرها، كما يزاد حد الحرة على الامة. والعذاب بمعنى الحد، قال الله تعالى: {وَلْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [النور: 2]. وعلى هذا فمعنى الضعفين معنى المثلين أو المرتين،.
وقال أبو عبيدة: ضعف الشيء شيئان حتى يكون ثلاثة. وقاله أبو عمرو فيما حكى الطبري عنه، فيضاف إليه عذابان مثله فيكون ثلاثة أعذبه. وضعفه الطبري. وكذلك هو غير صحيح وإن كان، له باللفظ تعلق الاحتمال. وكون الأجر مرتين مما يفسد هذا القول، لان العذاب في الفاحشة بإزاء الأجر في الطاعة، قاله ابن عطية.
وقال النحاس: فرق أبو عمرو بين يضاعف ويضعف قال: يضاعف للمرار الكثيرة. ويضعف مرتين. وقرأ: {يضعف} لهذا.
وقال أبو عبيدة: {يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ} يجعل ثلاثة أعذبه. قال النحاس: التفريق الذي جاء به أبو عمرو وأبو عبيدة لا يعرفه أحد من أهل اللغة علمته، والمعنى في يضاعف ويضعف واحد، أي يجعل ضعفين، كما تقول: إن دفعت إلى درهما دفعت إليك ضعفيه، أي مثليه، يعني درهمين. ويدل على هذا {نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ} ولا يكون العذاب أكثر من الأجر.
وقال في موضع آخر {آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ} [الأحزاب: 68] أي مثلين.
وروى معمر عن قتادة {يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ} قال: عذاب الدنيا وعذاب الآخرة. قال القشيري أبو نصر: الظاهر أنه أراد بالضعفين المثلين، لأنه قال: {نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ}. فأما في الوصايا، لو أوصي لإنسان بضعفي نصيب ولده فهو وصية بأن يعطي مثل نصيبه ثلاث مرات، فإن الوصايا تجري على العرف فيما بين الناس، وكلام الله يرد تفسيره إلى كلام العرب، والضعف في كلام العرب المثل إلى ما زاد، وليس بمقصور على مثلين. يقال: هذا ضعف هذا، أي مثله. وهذا ضعفاه، أي مثلاه، فالضعف في الأصل زيادة غير محصورة، قال الله تعالى: {فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ} [سبأ: 37] ولم يرد مثلا ولا مثلين. كل هذا قول الأزهري. وقد تقدم في {النور} الاختلاف في حد من قذف واحدة منهن، والحمد لله.
الثالثة: قال أبو رافع: كان عمر رضي الله عنه كثيرا ما يقرأ سورة يوسف وسورة الأحزاب في الصبح، وكان إذا بلغ {يا نِساءَ النَّبِيِّ} رفع بها صوته، فقيل له في ذلك فقال: أذكرهن العهد. قرأ الجمهور: {مَنْ يَأْتِ} بالياء. وكذلك {مَنْ يَقْنُتْ} حملا على لفظ {مَنْ}. والقنوت الطاعة، وقد تقدم. وقرأ يعقوب: {من تأت} و{تقنت} بالتاء من فوق، حملا على المعنى.
وقال قوم: الفاحشة إذا وردت معرفة فهي الزنى واللواط. وإذا وردت منكرة فهي سائر المعاصي. وإذا وردت منعوتة فهي عقوق الزوج وفساد عشرته. وقالت فرقة: بل قوله: {بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} تعم جميع المعاصي. وكذلك الفاحشة كيف وودت. وقرأ ابن كثير {مبينة} بفتح الياء. وقرأ نافع وأبو عمرو بكسرها. وقرأت فرقة: {يضاعف} بكسر العين على إسناد الفعل إلى الله تعالى. وقرأ أبو عمرو فيما روى خارجة {نضاعف} بالنون المضمومة ونصب {الْعَذابُ} وهذه قراءة ابن محيصن. وهذه مفاعلة من واحد، كطارقت النعل وعاقبت اللص. وقرأ نافع وحمزة والكسائي {يضاعف} بالياء وفتح العين، {الْعَذابُ} رفعا. وهي قراءة الحسن وابن كثير وعيسى. وقرأ ابن كثير وابن عامر {نضعف} بالنون وكسر العين المشددة، {العذاب} نصبا. قال مقاتل: هذا التضعيف في العذاب إنما هو في الآخرة، لان إيتاء الأجر مرتين أيضا في الآخرة. وهذا حسن، لان نساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يأتين بفاحشة توجب حدا. وقد قال ابن عباس: ما بغت امرأة نبي قط، وإنما خانت في الايمان والطاعة.
وقال بعض المفسرين: العذاب الذي توعدن به {ضِعْفَيْنِ} هو عذاب الدنيا وعذاب الآخرة، فكذلك الأجر. قال ابن عطية: وهذا ضعيف، اللهم إلا أن يكون أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا ترفع عنهن حدوة الدنيا عذاب الآخرة، على ما هي حال الناس عليه، بحكم حديث عبادة بن الصامت. وهذا أمر لم يرو في أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا حفظ تقرره. واهل التفسير على أن الرزق الكريم الجنة، ذكره النحاس.

.تفسير الآية رقم (32):

{يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32)}
قوله تعالى: {يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} يعني في الفضل والشرف. وقال: {كَأَحَدٍ} ولم يقل كواحدة، لان أحدا نفي من المذكر والمؤنث والواحد والجماعة. وقد يقال على ما ليس بآدمي، يقال: ليس فيها أحد، لا شاة ولا بعير. وإنما خصص النساء بالذكر لان فيمن تقدم آسية ومريم. وقد أشار إلى هذا قتادة، وقد تقدم في آل عمران الاختلاف في التفضيل بينهن، فتأمله هناك. ثم قال: {إِنِ اتَّقَيْتُنَّ} أي خفتن الله. فبين أن الفضيلة إنما تتم لهن بشرط التقوى، لما منحهن الله من صحبة الرسول وعظيم المحل منه، ونزول القرآن في حقهن. قوله تعالى: {فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ} في موضع جزم بالنهي إلا أنه مبني كما بني الماضي، هذا مذهب سيبويه، أي لا تلن القول. أمرهن الله أن يكون قولهن جزلا وكلامهن فصلا، ولا يكون على وجه يظهر في القلب علاقة بما يظهر عليه من اللين، كما كانت الحال عليه في نساء العرب من مكالمة الرجال بترخيم الصوت ولينه، مثل كلام المريبات والمومسات. فنهاهن عن مثل هذا. قوله تعالى: {فَيَطْمَعَ} بالنصب على جواب النهي. {الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ} أي شك ونفاق، عن قتادة والسدي.
وقيل: تشوف الفجور، وهو الفسق والغزل، قاله عكرمة. وهذا أصوب، وليس للنفاق مدخل في هذه الآية.
وحكى أبو حاتم أن الأعرج قرأ {فيطمع} بفتح الياء وكسر الميم. النحاس: أحسب هذا غلطا، وأن يكون قرأ {فيطمع} بفتح الميم وكسر العين بعطفه على {تَخْضَعْنَ} فهذا وجه جيد حسن. ويجوز {فَيَطْمَعَ} بمعنى فيطمع الخضوع أو القول.
قوله تعالى: {وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً} قال ابن عباس: أمرهن بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. والمرأة تندب إذا خاطبت الأجانب وكذا المحرمات عليها بالمصاهرة إلى الغلظة في القول، من غير رفع صوت فإن المرأة مأمورة بخفض الكلام. وعلى الجملة فالقول المعروف: هو الصواب الذي لا تنكره الشريعة ولا النفوس.

.تفسير الآية رقم (33):

{وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33)}
قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى} فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَقَرْنَ} قرأ الجمهور {وقرن} بكسر القاف. وقرأ عاصم ونافع بفتحها. فأما القراءة الأولى فتحتمل وجهين: أحدهما: أن يكون من الوقار، تقول: وقر يقر وقارا أي سكن، والامر قر، وللنساء قرن، مثل عدن وزن. والوجه الثاني: وهو قول المبرد، أن يكون من القرار، تقول: قررت بالمكان بفتح الراء أقر، والأصل أقررن، بكسر الراء، فحذفت الراء الأولى تخفيفا، كما قالوا في ظللت: ظللت، ومسست: مست، ونقلوا حركتها إلى القاف، واستغنى عن ألف الوصل لتحرك القاف. قال أبو علي: بل على أن أبدلت الراء ياء كراهة التضعيف، كما أبدلت في قيراط ودينار، ويصير للياء حركة الحرف المبدل منه، فالتقدير: إقيرن، ثم تلقى حركة الياء على القاف كراهة تحرك الياء بالكسر، فتسقط الياء لاجتماع الساكنين، وتسقط همزة الوصل لتحرك ما بعدها فيصير {قَرْنَ}. وأما قراءة أهل المدينة وعاصم، فعلى لغة العرب: قررت في المكان إذا أقمت فيه بكسر الراء أقر بفتح القاف، من باب حمد يحمد، وهي لغة أهل الحجاز ذكرها أبو عبيد في الغريب المصنف عن الكسائي، وهو من أجل مشايخه، وذكرها الزجاج وغيره، والأصل: أقررن حذفت الراء الأولى لثقل التضعيف، وألقيت حركتها على القاف فتقول: قرن. قال الفراء: هو كنا تقول: أحست صاحبك، أي هل أحسست.
وقال أبو عثمان المازني: قررت به عينا بالكسر لا غير، من قرة العين. ولا يجوز قررت في المكان بالكسر وإنما هو قررت بفتح الراء، وما أنكره من هذا لا يقدح في القراءة إذا ثبتت عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيستدل بما ثبت عنه من القراءة على صحة اللغة. وذهب أبو حاتم أيضا أن {قَرْنَ} لا مذهب له في كلام العرب. قال النحاس: وأما قول أبي حاتم: لا مذهب له فقد خولف فيه، وفيه مذهبان: أحدهما ما حكاه الكسائي، والآخر ما سمعت علي بن سليمان يقول، قال: وهو من قررت به عينا أقر، والمعنى: وأقررن به عينا في بيوتكن. وهو وجه حسن، إلا أن الحديث يدل على أنه من الأول. كما روي أن عمارا قال لعائشة رضي الله عنها: إن الله قد أمرك أن تقري في منزلك، فقالت: يا أبا اليقظان، ما زلت قوالا بالحق! فقال: الحمد لله الذي جعلني كذلك على لسانك. وقرأ ابن أبي عبلة {وأقررن} بألف وصل وراءين، الأولى مكسورة.
الثانية: معنى هذه الآية الامر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى. هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة، على ما تقدم في غير موضع. فأمر الله تعالى نساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بملازمة بيوتهن، وخاطبهن بذلك تشريفا لهن، ونهاهن عن التبرج، وأعلم أنه فعل الجاهلية الأولى فقال: {وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى}. وقد تقدم معنى التبرج في النور. وحقيقته إظهار ما ستره أحسن، وهو مأخوذ من السعة، يقال: في أسنانه برج إذا كانت متفرقة، قاله المبرد. واختلف الناس في {الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى}، فقيل: هي الزمن الذي ولد فيه إبراهيم عليه السلام، كانت المرأة تلبس الدرع من اللؤلؤ، فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال.
وقال الحكم بن عيينة: ما بين آدم ونوح، وهي ثمانمائة سنة، وحكيت لهم سير ذميمة.
وقال ابن عباس: ما بين نوح وإدريس. الكلبي: ما بين نوح وإبراهيم. قيل: إن المرأة كانت تلبس الدرع من اللؤلؤ غير مخيط الجانبين، وتلبس الثياب الرقاق ولا تواري بدنها. وقالت فرقة: ما بين موسى وعيسى. الشعبي: ما بين عيسى ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. أبو العالية: هي زمان داود وسليمان، كان فيه للمرأة قميص من الدر غير مخيط الجانبين.
وقال أبو العباس المبرد: والجاهلية الأولى كما تقول الجاهلية الجهلاء، قال: وكان النساء في الجاهلية الجهلاء يظهرن ما يقبح إظهاره، حتى كانت المرأة تجلس مع زوجها وخلها، فينفرد خلها بما فوق الإزار إلى الأعلى، وينفرد زوجها بما دون الإزار إلى الأسفل، وبما سأل أحدهما صاحبه البدل.
وقال مجاهد: كان النساء يتمشين بين الرجال، فذلك التبرج. قال ابن عطية: والذي يظهر عندي أنه أشار للجاهلية التي لحقنها، فأمرن بالنقلة عن سيرتهن فيها، وهي ما كان قبل الشرع من سيرة الكفرة، لأنهم كانوا لا غيرة عندهم وكان أمر النساء دون حجاب، وجعلها أولى بالنسبة إلى ما كن عليه، وليس المعنى أن ثم جاهلية أخرى. وقد أوقع اسم الجاهلية على تلك المدة التي قبل الإسلام، فقالوا: جاهلي في الشعراء.
وقال ابن عباس في البخاري: سمعت أبي في الجاهلية يقول، إلى غير هذا. قلت: وهذا قول حسن. ويعترض بأن العرب كانت أهل قشف وضنك في الغالب، وأن التنعم وإظهار الزينة إنما جرى في الأزمان السابقة، وهي المراد بالجاهلية الأولى، وأن المقصود من الآية مخالفة من قبلهن من المشية على تغنيج وتكسير وإظهار المحاسن للرجال، إلى غير ذلك مما لا يجوز شرعا. وذلك يشمل الأقوال كلها ويعمها فيلزمن البيوت، فإن مست الحاجة إلى الخروج فليكن على تبذل وتستر تام. والله الموفق.
الثالثة: ذكر الثعلبي وغيره: أن عائشة رضي الله عنها كانت إذا قرأت هذه الآية تبكي حتى تبل خمارها. وذكر أن سودة قيل لها: لم لا تحجين ولا تعتمرين كما يفعل أخواتك؟ فقالت: قد حججت واعتمرت، وأمرني الله أن أقر في بيتي. قال الراوي: فوالله ما خرجت من باب حجرتها حتى أخرجت جنازتها. رضوان الله عليها! قال ابن العربي: لقد دخلت نيفا على ألف قرية فما رأيت نساء أصون عيالا ولا أعف نساء من نساء نابلس، التي رمي بها الخليل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النار، فإني أقمت فيها فما رأيت امرأة في طريق نهارا إلا يوم الجمعة فإنهن يخرجن إليها حتى يمتلئ المسجد منهن، فإذا قضيت الصلاة وانقلبن إلى منازلهن لم تقع عيني على واحدة منهن إلى الجمعة الأخرى. وقد رأيت بالمسجد الأقصى عفائف ما خرجن من معتكفهن حتى استشهدن فيه.
الرابعة: قال ابن عطية: بكاء عائشة رضي الله عنها إنما كان بسبب سفرها أيام الجمل، وحينئذ قال لها عمار: إن الله قد أمرك أن تقري في بيتك. قال ابن العربي: تعلق الرافضة لعنهم الله- بهذه الآية على أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها إذ قالوا: إنها خالفت أمر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين خرجت تقود الجيوش، وتباشر الحروب، وتقتحم مأزق الطعن والضرب فيما لم يفرض عليها ولا يجوز لها. قالوا: ولقد حصر عثمان، فلما رأت ذلك أمرت برواحلها فقربت لتخرج إلى مكة، فقال لها مروان: أقيمي هنا يا أم المؤمنين، وردي هؤلاء الرعاع، فإن الإصلاح بين الناس خير من حجك. قال ابن العربي قال علماؤنا رحمة الله عليهم: إن عائشة رضي الله عنها نذرت عنها، نذرت الحج قبل الفتنة، فلم تر التخلف عن نذرها، ولو خرجت في تلك الثائرة لكان ذلك صوابا لها. وأما خروجها إلى حرب الجمل فما خرجت لحرب، ولكن تعلق الناس بها، وشكوا إليها ما صاروا إليه من عظيم الفتنة وتهارج الناس، ورجوا بركتها، وطمعوا في الاستحياء منها إذا وقفت إلى الخلق، وظنت هي ذلك فخرجت مقتدية بالله في قوله: {لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} [النساء: 114]، وقوله: {وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما} [الحجرات: 9] والامر بالإصلاح مخاطب به جميع الناس من ذكر وأنثى، حر أو عبد فلم يرد الله تعالى بسابق قضائه ونافذ حكمه أن يقع إصلاح، ولكن جرت مطاعنات وجراحات حتى كاد يفني الفريقان، فعمد بعضهم إلى الجمل فعرقبه، فلما سقط الجمل لجنبه أدرك محمد بن أبي بكر عائشة رضى الله تعالى عنها، فاحتملها إلى البصرة، وخرجت في ثلاثين امرأة، قرنهن علي بها حتى أوصلوها إلى المدينة برة تقية مجتهدة، مصيبة مثابة فيما تأولت، مأجورة فيما فعلت، إذ كل مجتهد في الأحكام مصيب. وقد تقدم في النحل اسم هذا الجمل، وبه يعرف ذلك اليوم. قوله تعالى: {وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ} أي فيما أمر ونهى {إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ} قال الزجاج: قيل يراد به نساء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقيل: يراد به نساؤه واهلة الذين هم أهل بيته، على ما يأتي بيانه بعد. و{أَهْلَ الْبَيْتِ} نصب على المدح. قال: وإن شئت على البدل. قال: ويجوز الرفع والخفض. قال النحاس: إن خفض على أنه بدل من الكاف والميم لم يجز عند أبي العباس محمد بن يزيد، قال لا يبدل من المخاطبة ولا من المخاطب، لأنهما لا يحتاجان إلى تبيين. {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} مصدر فيه معنى التوكيد.