فصل: تفسير الآية رقم (137):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (137):

{فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137)}
قوله تعالى: {فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا} الخطاب لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته. المعنى: فإن آمنوا مثل إيمانكم، وصدقوا مثل تصديقكم فقد اهتدوا، فالمماثلة وقعت بين الايمانين، وقيل: إن الباء زائدة مؤكدة. وكان ابن عباس يقرأ فيما حكى الطبري: {فإن آمنوا بالذي آمنتم به فقد اهتدوا} وهذا هو معنى القراءة وإن خالف المصحف، فـ {مثل} زائدة كما هي في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} أي ليس كهو شي.
وقال الشاعر:
فصيروا مثل كعصف مأكول

وروى بقية حدثنا شعبة عن أبي حمزة عن ابن عباس قال: لا تقولوا فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فإن الله ليس له مثل، ولكن قولوا: بالذي آمنتم به. تابعه علي بن نصر الجهضيمي عن شعبة، ذكره البيهقي. والمعنى: أي فإن آمنوا بنبيكم وبعامة الأنبياء ولم يفرقوا بينهم كما لم تفرقوا فقد اهتدوا، وإن أبوا إلا التفريق فهم الناكبون عن الدين إلى الشقاق {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ}.
وحكى عن جماعة من أهل النظر قالوا: ويحتمل أن تكون الكاف في قوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} زائدة. قال: والذي روي عن ابن عباس من نهيه عن القراءة العامة شيء ذهب إليه للمبالغة في نقي التشبيه عن الله عز وجل.
وقال ابن عطية: هذا من ابن عباس على جهة التفسير، أي هكذا فليتأول. وقد قيل: إن الباء بمعنى على، والمعنى: فإن آمنوا على مثل إيمانكم.
وقيل: {مثل} على بابها أي بمثل المنزل، دليله قوله: {وَقُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ} وقوله: {وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ}.
قوله تعالى: {وَإِنْ تَوَلَّوْا} أي عن الايمان {فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ} قال زيد بن أسلم: الشقاق المنازعة.
وقيل: الشقاق المجادلة والمخالفة والتعادي. وأصله من الشق وهو الجانب، فكأن كل واحد من الفريقين في شق غير شق صاحبه. قال الشاعر:
إلى كم تقتل العلماء قسرا ** وتفجر بالشقاق وبالنفاق

وقال آخر:
وإلا فاعلموا أنا وأنتم ** بغاة ما بقينا في شقاق

وقيل: إن الشقاق مأخوذ من فعل ما يشق ويصعب، فكأن كل واحد من الفريقين يحرص على ما يشق على صاحبه.
قوله تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} أي فسيكفي الله رسوله عدوه. فكان هذا وعدا من الله تعالى لنبيه عليه السلام أنه سيكفيه من عانده ومن خالفه من المتولين بمن يهديه من المؤمنين، فأنجز له الوعد، وكان ذلك في قتل بني قينقاع وبني قريظة وإجلاء بني النضير. والكاف والهاء والميم في موضع نصب مفعولان. ويجوز في غير القرآن: فسيكفيك إياهم. وهذا الحرف {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ} هو الذي وقع عليه دم عثمان حين قتل بإخبار النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إياه بذلك. و{السَّمِيعُ} لقول كل قائل: {الْعَلِيمُ} بما ينفذه في عباده ويجريه عليهم. وحكي أن أبا دلامة دخل على المنصور وعليه قلنسوة طويلة، ودراعة مكتوب بين كتفيها {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، وسيف معلق في وسطه، وكان المنصور قد أمر الجند بهذا الزي، فقال له: كيف حالك يا أبا دلامة؟ قال: بشر يا أمير المؤمنين قال: وكيف ذاك؟ قال: ما ظنك برجل وجهه في وسطه، وسيفه في استه، وقد نبذ كتاب الله وراء ظهره! فضحك المنصور منه، وأمر بتغيير ذلك الزي من وقته.

.تفسير الآية رقم (138):

{صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {صِبْغَةَ اللَّهِ} قال الأخفش وغيره: دين الله، وهو بدل من {مِلَّةَ}.
وقال الكسائي: وهي منصوبة على تقدير اتبعوا. أو على الإغراء أي ألزموا. ولو قرئت بالرفع لجاز، أي هي صبغة الله.
وروى شيبان عن قتادة قال: إن اليهود تصبغ أبناءهم يهودا، وإن النصارى تصبغ أبناءهم نصارى، وإن صبغة الله الإسلام. قال الزجاج: ويدلك على هذا أن {صِبْغَةَ} بدل من {مِلَّةَ}.
وقال مجاهد: أي فطرة الله التي فطر الناس عليها. قال أبو إسحاق الزجاج: وقول مجاهد هذا يرجع إلى الإسلام، لأن الفطرة ابتداء الخلق، وابتداء ما خلقوا عليه الإسلام. وروي عن مجاهد والحسن وأبي العالية وقتادة: الصبغة الدين. واصل ذلك أن النصارى كانوا يصبغون أولادهم في الماء، وهو الذي يسمونه المعمودية، ويقولون: هذا تطهير لهم.
وقال ابن عباس: هو أن النصارى كانوا إذا ولد لهم ولد فأتى عليه سبعة أيام غمسوه في ماء لهم يقال له ماء المعمودية، فصبغوه بذلك ليطهروه به مكان الختان، لأن الختان تطهير، فإذا فعلوا ذلك قالوا: ألان صار نصرانيا حقا، فرد الله تعالى ذلك عليهم بأن قال: {صِبْغَةَ اللَّهِ} أي صبغة الله أحسن صبغة وهي الإسلام، فسمي الدين صبغة استعارة ومجازا من حيث تظهر أعماله وسمته على المتدين، كما يظهر أثر الصبغ في الثوب.
وقال بعض شعراء ملوك همدان:
وكل أناس لهم صبغة ** وصبغة همدان خير الصبغ

صبغنا على ذاك أبناءنا ** فأكرم بصبغتنا في الصبغ

وقيل: إن الصبغة الاغتسال لمن أراد الدخول في الإسلام، بدلا من معمودية النصارى، ذكره الماوردي.
قلت: وعلى هذا التأويل يكون غسل الكافر واجبا تعبدا، وهى المسألة:
الثانية لأن معنى: {صِبْغَةَ اللَّهِ} غسل الله، أي اغتسلوا عند إسلامكم الغسل الذي أوجبه الله عليكم وبهذا المعنى جاءت السنة الثابتة في قيس بن عاصم وثمامة بن أثال حين أسلما. روى أبو حاتم البستي في صحيح مسنده عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن ثمامة الحنفي أسر فمر به النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوما فأسلم، فبعث به إلى حائط أبي طلحة فأمره أن يغتسل فاغتسل وصلي ركعتين، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حسن إسلام صاحبكم». وخرج أيضا عن قيس بن عاصم أنه أسلم، فأمره النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يغتسل بماء وسدر. ذكره النسائي وصححه أبو محمد عبد الحق.
وقيل: إن القربة إلى الله تعالى يقال لها صبغة، حكاه ابن فارس في المجمل.
وقال الجوهري: {صِبْغَةَ اللَّهِ} دينه.
وقيل: إن الصبغة الختان، اختتن إبراهيم فجرت الصبغة على الختان لصبغهم الغلمان في الماء، قاله الفراء. {وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ} ابتداء وخبر.

.تفسير الآية رقم (139):

{قُلْ أَتُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنا وَرَبُّكُمْ وَلَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139)}
قال الحسن: كانت المحاجة أن قالوا: نحن أولى بالله منكم، لأنا أبناء الله وأحباؤه.
وقيل: لتقدم آبائنا وكتبنا، ولانا لم نعبد الأوثان. فمعنى الآية: قل لهم يا محمد، أي قل لهؤلاء اليهود والنصارى الذين زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه وادعوا أنهم أولى بالله منكم لقدم آبائهم وكتبهم: {أَتُحَاجُّونَنا} أي أتجاذبوننا الحجة على دعواكم والرب واحد، وكل مجازى بعمله، فأي تأثير لقدم الدين. ومعنى: {فِي اللَّهِ} أي في دينه والقرب منه والحظوة له. وقراءة الجماعة: {أَتُحَاجُّونَنا}. وجاز اجتماع حرفين مثلين من جنس واحد متحركين، لأن الثاني كالمنفصل. وقرأ ابن محصين {أتحاجونا} بالإدغام لاجتماع المثلين. قال النحاس: وهذا جائز إلا أنه مخالف للسواد. ويجوز {أتحاجون} بحذف النون الثانية، كما قرأ نافع {فبم تبشرون} قوله تعالى: {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} أي مخلصون العبادة، وفيه معنى التوبيخ، أي ولم تخلصوا أنتم فكيف تدعون ما نحن أولى به منكم!. والإخلاص حقيقته تصفية الفعل عن ملاحظة المخلوقين، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن الله تعالى يقول أنا خير شريك فمن أشرك معي شريكا فهو لشريكي يا أيها الناس أخلصوا أعمالكم لله تعالى فإن الله تعالى لا يقبل إلا ما خلص له ولا تقولوا هذا لله وللرحم فإنها للرحم وليس لله منها شيء ولا تقولوا هذا لله ولوجوهكم فإنها لوجوهكم وليس لله تعالى منها شي». رواه الضحاك بن قيس الفهري قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.... فذكره، خرجه الدارقطني.
وقال رويم: الإخلاص من العمل هو ألا يريد صاحبه عليه عوضا في الدارين ولا حظا من الملكين.
وقال الجنيد: الإخلاص سر بين العبد وبين الله، لا يعلمه ملك فيكتبه، ولا شيطان فيفسده، ولا هوى فيميله.
وذكر أبو القاسم القشيري وغيره عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «سألت جبريل عن الإخلاص ما هو فقال سألت رب العزة عن الإخلاص ما هو قال سر من سري استودعته قلب من أحببته من عبادي».

.تفسير الآية رقم (140):

{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140)}
قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ} بمعنى قالوا. وقرأ حمزة والكسائي وعاصم في رواية حفص {تَقُولُونَ} بالتاء وهي قراءة حسنة، لأن الكلام متسق، كأن المعنى: أتحاجوننا في الله أم تقولون إن الأنبياء كانوا على دينكم، فهي أم المتصلة، وهي على قراءة من قرأ بالياء منقطعة، فيكون كلامين وتكون {أم} بمعنى بل. {هُوداً} خبر كان، وخبر {إن} في الجملة. ويجوز في غير القرآن رفع {هُوداً} على خبر {إن} وتكون كان ملغاة، ذكره النحاس.
قوله تعالى: {قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ} تقرير وتوبيخ في ادعائهم بأنهم كانوا هودا أو نصارى. فرد الله عليهم بأنه أعلم بهم منكم، أي لم يكونوا هودا ولا نصارى.
قوله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ} لفظه الاستفهام، والمعنى: لا أحد أظلم. {مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً} يريد علمهم بأن الأنبياء كانوا على الإسلام.
وقيل: ما كتموه من صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله قتادة، والأول أشبه بسياق الآية. {وَمَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} وعيد وإعلام بأنه لم يترك أمرهم سدى وأنه يجازيهم على أعمالهم. والغافل: الذي لا يفطن للأمور إهمالا منه، مأخوذ من الأرض الغفل وهي التي لا علم بها ولا أثر عمارة. وناقة غفل: لا سمة بها. ورجل غفل: لم يجرب الأمور.
وقال الكسائي: أرض غفل لم تمطر. غفلت عن الشيء غفلة وغفولا، وأغفلت الشيء: تركته على ذكر منك.

.تفسير الآية رقم (141):

{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَلَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَلا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141)}
كررها لأنها تضمنت معنى التهديد والتخويف، أي إذا كان أولئك الأنبياء على إمامتهم وفضلهم يجازون بكسبهم فأنتم أحرى، فوجب التأكيد، فلذلك كررها.

.تفسير الآية رقم (142):

{سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)}
فيه إحدى عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ} أعلم الله تعالى أنهم سيقولون في تحويل المؤمنين من الشام إلى الكعبة، ما وَلَّاهُمْ. و{سَيَقُولُ} بمعنى قال، جعل المستقبل موضع الماضي، دلالة على استدامة ذلك وأنهم يستمرون على ذلك القول. وخص بقوله: {مِنَ النَّاسِ} لان السفه يكون في جمادات وحيوانات. والمراد من {السُّفَهاءُ} جميع من قال: {ما وَلَّاهُمْ}. والسفهاء جمع، واحده سفيه، وهو الخفيف العقل، من قولهم: ثوب سفيه إذا كان خفيف النسج، وقد تقدم. والنساء سقائه.
وقال المؤرج: السفيه البهات الكذاب المتعمد خلاف ما يعلم. قطرب: الظلوم الجهول، والمراد بالسفهاء هنا اليهود الذين بالمدينة، قاله مجاهد. السدي: المنافقون. الزجاج: كفار قريش لما أنكروا تحويل القبلة قالوا: قد اشتاق محمد إلى مولده وعن قريب يرجع إلى دينكم، وقالت اليهود: قد التبس عليه أمره وتحير.
وقال المنافقون: ما ولاهم عن قبلتهم! واستهزءوا بالمسلمين. و{وَلَّاهُمْ} يعني عدلهم وصرفهم.
الثانية: روى الأئمة واللفظ لمالك عن ابن عمر قال: بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد أنزل عليه الليلة قرآن، وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. وخرج البخاري عن البراء أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت، وإنه صلى أول صلاة صلاها العصر وصلي معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمر على أهل المسجد وهم راكعون فقال: أشهد بالله، لقد صليت مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل مكة، فداروا كما هم قبل البيت. وكان الذي مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجال قتلوا لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله عز وجل: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ}، ففي هذه الرواية صلاة العصر، وفي رواية مالك صلاة الصبح.
وقيل: نزل ذلك على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسجد بني سلمة وهو في صلاة الظهر بعد ركعتين منها فتحول في الصلاة، فسمي ذلك المسجد مسجد القبلتين.
وذكر أبو الفرج أن عباد بن نهيك كان مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الصلاة.
وذكر أبو عمر في التمهيد عن نويلة بنت أسلم وكانت من المبايعات، قالت: كنا في صلاة الظهر فأقبل عباد بن بشر بن قيظي فقال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد استقبل القبلة- أو قال: البيت الحرام- فتحول الرجال مكان النساء، وتحول النساء مكان الرجال.
وقيل: إن الآية نزلت في غير صلاة، وهو الأكثر. وكان أول صلاة إلى الكعبة العصر، والله أعلم.
وروى أن أول من صلى إلى الكعبة حين صرفت القبلة عن بيت المقدس أبو سعيد بن المعلى، وذلك أنه كان مجتازا على المسجد فسمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب الناس بتحويل القبلة على المنبر وهو يقرأ هذه الآية: {قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ} حتى فرغ من الآية، فقلت لصاحبي: تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنكون أول من صلى فتوارينا نعما فصليناهما، ثم نزل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فصلى بالناس الظهر يومئذ. قال أبو عمر: ليس لابي سعيد بن المعلى غير هذا الحديث، وحديث: «كنت أصلى» في فضل الفاتحة، خرجه البخاري، وقد تقدم.
الثالثة: واختلف في وقت تحويل القبلة بعد قدومه المدينة، فقيل: حولت بعد ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، كما في البخاري. وخرجه الدارقطني عن البراء أيضا، قال: صلينا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد قدومه المدينة ستة عشر شهرا نحو بيت المقدس، ثم علم الله هوى نبيه فنزلت: {قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ} الآية. ففي هذه الرواية ستة عشر شهرا من غير شك.
وروى مالك عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أن تحويلها كان قبل غزوة بدر بشهرين. قال إبراهيم بن إسحاق: وذلك في رجب من سنة اثنتين.
وقال أبو حاتم البستي: صلى المسلمون إلى بيت المقدس سبعة عشر شهرا وثلاثة أيام سواء، وذلك أن قدومه المدينة كان يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة خلت من شهر ربيع الأول، وأمره الله عز وجل باستقبال الكعبة الثلاثاء للنصف من شعبان.
الرابعة: واختلف العلماء أيضا في كيفية استقباله بيت المقدس على ثلاثة أقوال، فقال الحسن: كان ذلك منه عن رأي واجتهاد، وقاله عكرمة وأبو العالية.
الثاني- أنه كان مخيرا بينه وبين الكعبة، فاختار القدس طمعا في إيمان اليهود واستمالتهم، قاله الطبري.
وقال الزجاج: امتحانا للمشركين لأنهم ألفوا الكعبة.
الثالث- وهو الذي عليه الجمهور: ابن عباس وغيره، وجب عليه استقباله بأمر الله تعالى ووحيه لا محالة، ثم نسخ الله ذلك وأمره الله أن يستقبل بصلاته الكعبة، واستدلوا بقوله تعالى: {وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ} الآية.
الخامسة: واختلفوا أيضا حين فرضت عليه الصلاة أولا بمكة، هل كانت إلى بيت المقدس أو إلى مكة، على قولين، فقالت طائفة: إلى بيت المقدس وبالمدينة سبعة عشر شهرا، ثم صرفه الله تعالى إلى الكعبة، قاله ابن عباس.
وقال آخرون: أول ما افترضت الصلاة عليه إلى الكعبة، ولم يزل يصلي إليها طول مقامه بمكة على ما كانت عليه صلاة إبراهيم وإسماعيل، فلما قدم المدينة صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهرا أو سبعة عشر شهرا، على الخلاف، ثم صرفه الله إلى الكعبة. قال أبو عمر: وهذا أصح القولين عندي. قال غيره: وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما قدم المدينة أراد أن يستألف اليهود فتوجه إلى قبلتهم ليكون ذلك أدعى لهم، فلما تبين عنادهم وأيس منهم أحب أن يحول إلى الكعبة فكان ينظر إلى السماء، وكانت محبته إلى الكعبة لأنها قبلة إبراهيم، عن ابن عباس.
وقيل: لأنها كانت أدعى للعرب إلى الإسلام، وقيل: مخالفة لليهود، عن مجاهد. وروي عن أبي العالية الرياحي أنه قال: كانت مسجد صالح عليه السلام وقبلته إلى الكعبة، قال: وكان موسى عليه السلام يصلي إلى الصخرة نحو الكعبة، وهي قبلة الأنبياء كلهم، صلوات الله عليهم أجمعين.
السادسة: في هذه الآية دليل واضح على أن في أحكام الله تعالى وكتابه ناسخا ومنسوخا، وأجمعت عليه الامة إلا من شذ، كما تقدم. وأجمع العلماء على أن القبلة أول ما نسخ من القرآن، وأنها نسخت مرتين، على أحد القولين المذكورين في المسألة قبل.
السابعة: ودلت أيضا على جواز نسخ السنة بالقرآن، وذلك أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صلى نحو بيت المقدس، وليس في ذلك قرآن، فلم يكن الحكم إلا من جهة السنة ثم نسخ ذلك بالقرآن، وعلى هذا يكون: {كُنْتَ عَلَيْها} بمعنى أنت عليها.
الثامنة: وفيها دليل على جواز القطع بخبر الواحد، وذلك أن استقبال بيت المقدس كان مقطوعا به من الشريعة عندهم، ثم أن أهل قباء لما أتاهم الأتي وأخبرهم أن القبلة قد حولت إلى المسجد الحرام قبلوا قوله واستداروا نحو الكعبة، فتركوا المتواتر بخبر الواحد وهو مظنون. وقد اختلف العلماء في جوازه عقلا ووقوعه، فقال أبو حاتم: والمختار جواز ذلك عقلا لو تعبد الشرع به، ووقوعا في زمن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بدليل قصة قباء، وبدليل أنه كان عليه السلام ينفذ آحاد الولاة إلى الاطراف وكانوا يبلغون الناسخ والمنسوخ جميعا. ولكن ذلك ممنوع بعد وفاته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بدليل الإجماع من الصحابة على أن القرآن والمتواتر المعلوم لا يرفع بخبر الواحد، فلا ذاهب إلى تجويزه من السلف والخلف. احتج من منع ذلك بأنه يفضي إلى المحال وهو رفع المقطوع بالمظنون. وأما قصة أهل قباء وولاة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فمحمول على قرائن إفادة العلم إما نقلا وتحقيقا، وإما احتمالا وتقديرا. وتتميم هذا سؤالا وجوابا في أصول الفقه.
التاسعة: وفيها دليل على أن من لم يبلغه الناسخ إنه متعبد بالحكم الأول، خلافا لمن قال: إن الحكم الأول يرتفع بوجود الناسخ لا بالعلم به، والأول أصح، لأن أهل قباء لم يزالوا يصلون إلى بيت المقدس إلى أن أتاهم الأتي فأخبرهم بالناسخ فمالوا نحو الكعبة. فالناسخ إذا حصل في الوجود فهو رافع لا محالة لكن بشرط العلم به، لأن الناسخ خطاب، ولا يكون خطابا في حق من لم يبلغه. وفائدة هذا الخلاف في عبادات فعلت بعد النسخ وقبل البلاغ هل تعاد أم لا، وعليه تنبي مسألة الوكيل في تصرفه بعد عزل موكله أو موته وقبل علمه بذلك على قولين. وكذلك المقارض، والحاكم إذا مات من ولاه أو عزل. والصحيح أن ما فعله كل واحد من هؤلاء ينفذ فعله ولا يرد حكمه. قال القاضي عياض: ولم يختلف المذهب في أحكام من أعتق ولم يعلم بعتقه أنها أحكام حر فيما بينه وبين الناس، وأما بينه وبين الله تعالى فجائزة. ولم يختلفوا في المعتقة أنها لا تعيد ما صلت بعد عتقها وقبل علمها بغير ستر، وإنما اختلفوا فيمن يطرأ عليه موجب بغير حكم عبادته وهو فيها، قياسا على مسألة قباء، فمن صلى على حال ثم تغيرت به حاله تلك قبل أن يتم صلاته إنه يتمها ولا يقطعها ويجزيه ما مضى. وكذلك كمن صلى عريانا ثم وجد ثوبا في الصلاة، أو ابتدأ صلاته صحيحا فمرض، أو مريضا فصح، أو قاعدا ثم قدر على القيام، أو أمة عتقت وهي في الصلاة إنها تأخذ قناعها وتبني.
قلت: وكمن دخل في الصلاة بالتيمم فطرأ عليه الماء إنه لا يقطع، كما يقوله مالك والشافعي- رحمهما الله- وغيرهما.
وقيل: يقطع، وهو قول أبي حنيفة رحمه الله تعالى، وسيأتي.
العاشرة: وفيها دليل على قبول خبر الواحد، وهو مجمع عليه من السلف معلوم بالتواتر من عادة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في توجيهه ولأنه ورسله آحادا للافاق، ليعلموا الناس دينهم فيبلغوهم سنة رسولهم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من الأوامر والنواهي.
الحادية عشرة: وفيها دليل على أن القرآن كان ينزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شيئا بعد شيء وفي حال بعد حال، على حسب الحاجة إليه، حتى أكمل الله دينه، كما قال: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}.
قوله تعالى: {قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} أقامه حجة، أي له ملك المشارق والمغارب وما بينهما، فله أن يأمر بالتوجه إلى أي جهة شاء، وقد تقدم.
قوله تعالى: {يَهْدِي مَنْ يَشاءُ} إشارة إلى هداية الله تعالى هذه الامة إلى قبلة إبراهيم، والله تعالى أعلم. والصراط. الطريق. والمستقيم: الذي لا اعوجاج فيه، وقد تقدم.