فصل: تفسير الآية رقم (11):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (11):

{أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)}
قوله تعالى: {أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ} أي دروعا سابغات، أي كوامل تامات واسعات، يقال: سبغ الدرع والثوب وغيرهما إذا غطى كل ما هو عليه وفضل منه. {وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ} قال قتادة: كانت الدروع قبله صفائح فكانت ثقالا، فلذلك أمر هو بالتقدير فيما يجمع من الخفة والحصانة. أي قدر ما تأخذ من هذين المعنيين بقسطه. أي لا تقصد الحصانة فتثقل، ولا الخفة فتزيل المنعة.
وقال ابن زيد: التقدير الذي أمر به هو في قدر الحلقة، أي لا تعملها صغيرة فتضعف فلا تقوى الدروع على الدفاع، ولا تعملها كبيرة فينال لابسها.
وقال ابن عباس: التقدير الذي أمر به هو في المسمار، أي لا تجعل مسمار الدرع رقيقا فيقلق، ولا غليظا فيفصم الحلق. روي يقصم بالقاف، والفاء أيضا رواية. {فِي السَّرْدِ} السرد نسج حلق الدروع، ومنه قيل لصانع حلق الدروع: السراد والزراد، تبدل من السين الزاي، كما قيل: سراط وزراط. والسرد: الخرز، يقال: سرد يسرد إذا خرز. والمسرد: الأشفى، ويقال سراد، قال الشماخ:
فظلت تباعا خيلنا في بيوتكم ** كما تابعت سرد العنان الخوارز

والسراد: السير الذي يخرز به، قال لبيد:
يشك صفائحها بالروق شزرا ** كما خرج السراد من النقال

ويقال: قد سرد الحديث والصوم، فالسرد فيهما أن يجئ بهما ولاء في نسق واحد، ومنه سرد الكلام.
وفي حديث عائشة: لم يكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسرد الحديث كسردكم، وكان يحدث الحديث لو أراد العاد أن يعده لأحصاه. قال سيبويه: ومنه رجل سرندي أي جريء، قال: لأنه يمضي قوما. واصل ذلك في سرد الدرع، وهو أن يحكمها ويجعل نظام حلقها ولاء غير مختلف. قال لبيد:
صنع الحديد مضاعفا أسراده ** لينال طول العيش غير مروم

وقال أبو ذؤيب:
وعليهما مسرودتان قضاهما ** داود أو صنع السوابغ تبع

{وَاعْمَلُوا صالِحاً} أي عملا صالحا. وهذا خطاب لداود واهلة، كما قال: {اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً} [سبأ: 13]. {إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.

.تفسير الآية رقم (12):

{وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12)}
قوله تعالى: {وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ} قال الزجاج، التقدير وسخرنا لسليمان الريح. وقرأ عاصم في رواية أبي بكر عنه: {الريح} بالرفع على الابتداء، والمعنى له تسخير الريح، أو بالاستقرار، أي ولسليمان الريح ثابتة، وفية ذلك المعنى الأول. فإن قال قائل: إذا قلت أعطيت زيدا درهما ولعمرو دينار، فرفعته فلم يكن فيه معنى الأول، وجاز أن يكون لم تعطه الدينار.
وقيل: الامر كذا ولكن الآية على خلاف هذا من جهة المعنى، لأنه قد علم أنه لم يسخرها أحد إلا الله عز وجل. {غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ} أي مسيرة شهر. قال الحسن: كان يغدو من دمشق فيقيل بإصطخر، وبينهما مسيرة شهر للمسرع، ثم يروح من إصطخر ويبيت بكابل، وبينهما شهر للمسرع. قال السدي: كانت تسير به في اليوم مسيرة شهرين.
وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: كان سليمان إذا جلس نصبت حواليه أربعمائة ألف كرسي، ثم جلس رؤساء الانس مما يليه، وجلس سفلة الانس مما يليهم، وجلس رؤساء الجن مما يلي سفلة الانس، وجلس سفلة الجن مما يليهم، وموكل بكل كرسي طائر لعمل قد عرفه، ثم تقلهم الريح، والطير تظلهم من الشمس، فيغدو من بيت المقدس إلى إصطخر، فيبيت ببيت المقدس، ثم قرأ ابن عباس: {غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ}.
وقال وهب بن منبه: ذكر لي أن منزلا بناحية دجلة مكتوبا فيه- كتبه بعض صحابة سليمان، إما من الجن وإما من الانس-: نحن نزلنا وما بنيناه، ومبنيا وجدناه، غدونا من إصطخر فقلناه، ونحن رائحون منه إن شاء الله تعالى فبائتون في الشام.
وقال الحسن: شغلت سليمان الخيل حتى فاتته صلاة العصر، فعقر الخيل فأبدله الله خيرا منها وأسرع، أبدل الريح تجري بأمره حيث شاء، غدوها شهر ورواحها شهر.
وقال ابن زيد: كان مستقر سليمان بمدينة تدمر، وكان أمر الشياطين قبل شخوصه من الشام إلى العراق، فبنوها له بالصفاح والعمد والرخام الأبيض والأصفر. وفية يقول النابغة:
إلا سليمان إذ قال الاله له ** قم في البرية فاحددها عن الفند

وخيس الجن إنى قد أذنت لهم ** يبنون تدمر بالصفاح والعمد

فمن أطاعك فانفعه بطاعته ** كما أطاعك وأدلله على الرشد

ومن عصاك فعاقبه معاقبة ** تنهى الظلوم ولا تقعد على ضمد

ووجدت هذه الأبيات منقورة في صخرة بأرض يشكر، أنشأهن بعض أصحاب سليمان عليه الصلاة والسلام:
ونحن ولا حول سوى حول ربنا ** نروح إلى الأوطان من أرض تدمر

إذا نحن رحنا كان ريث رواحنا ** مسيرة شهر والغدو لآخر

أناس شروا لله طوعا نفوسهم ** بنصر ابن داود النبي المطهر

لهم في معالي الدين فضل ورفعة ** وإن نسبوا يوما فمن خير معشر

متى يركبوا الريح المطيعة أسرعت ** مبادرة عن شهرها لم تقصر

تظلهم طير صفوف عليهم ** متى رفرفت من فوقهم لم تنفر

قوله تعالى: {وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ} القطر: النحاس، عن ابن عباس وغيره. أسيلت له مسيرة ثلاثة أيام كما يسيل الماء، وكانت بأرض اليمن، ولم يذب النحاس فيما روي لاحد قبله، وكان لا يذوب، ومن وقته ذاب، وإنما ينتفع الناس اليوم بما أخرج الله تعالى لسليمان. قال قتادة: أسأل الله عينا يستعملها فيما يريد. وقيل لعكرمة: إلى أين سألت؟ فقال: لا أدري! وقال ابن عباس ومجاهد والسدي: أجريت له عين الصفر ثلاثة أيام بلياليهن. قال القشيري: وتخصيص الاسالة بثلاثة أيام لا يدرى ما حده، ولعله وهم من الناقل، إذ في رواية عن مجاهد: أنها سألت من صنعاء ثلاث ليال مما يليها، وهذا يشير إلى بيان الموضع لا إلى بيان المدة. والظاهر أنه جعل النحاس لسليمان في معدنه عينا تسيل كعيون المياه، دلالة على نبوته.
وقال الخليل: القطر: النحاس المذاب. قلت: دليله قراءة من قرأ: {من قطران}. {وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ} أي بأمره {وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا} الذي أمرناه به من طاعة سليمان.
{نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ} أي في الآخرة، قاله أكثر المفسرين. وقيل ذلك في الدنيا، وذلك أن الله تعالى وكل بهم- فيما روى السدي- ملكا بيده سوط من نار، فمن زاغ عن أمر سليمان ضربه بذلك السوط ضربة من حيث لا يراه فأحرقته. و{مِنَ} في موضع نصب بمعنى وسخرنا له من الجن من يعمل. ويجوز أن يكون في موضع رفع، كما تقدم في الريح.

.تفسير الآية رقم (13):

{يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13)}
فيه ثماني مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ} المحراب في اللغة: كل موضع مرتفع. وقيل للذي يصلي فيه: محراب، لأنه يجب أن يرفع ومعظم.
وقال الضحاك: {مِنْ مَحارِيبَ} أي من مساجد. وكذا قال قتادة.
وقال مجاهد: المحاريب دون القصور.
وقال أبو عبيدة: المحراب أشرف بيوت الدار. قال:
وماذا عليه أن ذكرت أو أنسا ** كغزلان رمل في محاريب أقيال

وقال عدي بن زيد:
كدمي العاج في المحاريب أو كالـ ** ـبيض في الروض زهره مستنير

وقيل: هو ما يرقى إليه بالدرج كالغرفة الحسنة، كما قال: {إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ} [ص: 21] وقوله: {فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ} [مريم: 11] أي أشرف عليهم.
وفي الخبر: أنه أمر أن يعمل حول كرسيه ألف محراب فيها ألف رجل عليهم المسوح يصرخون إلى الله دائبا، وهو على الكرسي في موكبه والمحاريب حوله، ويقول لجنوده إذا ركب: سبحوا الله إلى ذلك العلم، فإذا بلغوه قال: هللوه إلى ذلك العلم فإذا بلغوه قال: كبروه إلى ذلك العلم الآخر، فتلج الجنود بالتسبيح والتهليل لجة واحدة.
الثانية: قوله تعالى: {وَتَماثِيلَ} جمع تمثال. وهو كل ما صور على مثل صورة من حيوان أو غير حيوان.
وقيل: كانت من زجاج ونحاس ورخام تماثيل أشياء ليست بحيوان. وذكر أنها صور الأنبياء والعلماء، وكانت تصور في المساجد ليراها الناس فيزدادوا عبادة واجتهادا، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن أولئك كان إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا وصوروا فيه تلك الصور». أي ليتذكروا عبادتهم فيجتهدوا في العبادة. وهذا يدل على أن التصوير كان مباحا في ذلك الزمان، ونسخ ذلك بشرع محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وسيأتي لهذا مزيد بيان في سورة نوح عليه السلام.
وقيل: التماثيل طلسمات كان يعملها، ويحرم على كل مصور أن يتجاوزها فلا يتجاوزها، فيعمل تمثالا للذباب أو للبعوض أو للتماسيح في مكان، ويأمرهم ألا يتجاوزوه فلا يتجاوزه واحد أبدا ما دام ذلك التماثل قائما. وواحد التماثيل تمثال بكسر التاء. قال:
ويا رب يوم قد لهوت وليلة ** بآنسة كأنها خط تمثال

وقيل: إن هذه التماثيل رجال اتخذهم من نحاس وسأل ربه أن ينفخ فيها الروح ليقاتلوا في سبيل الله ولا يحيك فيهم السلاح. ويقال: إن إسفنديار كان منهم، والله أعلم. وروي أنهم عملوا له أسدين في أسفل كرسيه ونسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما، وإذا قعد أطلق النسران أجنحتهما.
الثالثة: حكى مكي في الهداية له: أن فرقة تجوز التصوير، وتحتج بهذه الآية. قال ابن عطية: وذلك خطأ، وما أحفظ عن أحد من أئمة العلم من يجوزه. قلت: ما حكاه مكي ذكره النحاس قبله، قال النحاس: قال قوم عمل الصور جائز لهذه الآية، ولما أخبر الله عز وجل عن المسيح.
وقال قوم: قد صح النهي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنها والتوعد لمن عملها أو أتخذها، فنسخ الله عز وجل بهذا ما كان مباحا قبله، وكانت الحكمة في ذلك لأنه بعث عليه السلام والصور تعبد، فكان الأصلح إزالتها.
الرابعة: التمثال على قسمين: حيوان وموات. والموات على قسمين: جماد ونام، وقد كانت الجن تصنع لسليمان جميعه، لعموم قوله: {وَتَماثِيلَ}.
وفي الإسرائيليات: أن التماثيل من الطير كانت على كرسي سليمان. فإن قيل: لا عموم لقوله: {وَتَماثِيلَ} فإنه إثبات في نكره، والإثبات في النكرة لا عموم له، إنما العموم في النفي في النكرة. قلنا: كذلك هو، بيد أنه قد اقترن بهذا الإثبات في النكرة ما يقتضي حمله على العموم، وهو قوله: {ما يَشاءُ} فاقتران المشيئة به يقتضي العموم له. فإن قيل: كيف استجاز الصور المنهي عنها؟ قلنا: كان ذلك جائزا في شرعه ونسخ ذلك بشرعنا كما بينا، والله أعلم. وعن أبي العالية: لم يكن اتخاذ الصور إذ ذاك محرما.
الخامسة: ومقتضى الأحاديث يدل على أن الصور ممنوعة، ثم جاء: «إلا ما كان رقما في ثوب» فخص من جملة الصور، ثم ثبتت الكراهية فيه بقوله عليه السلام لعائشة في الثوب: «أخريه عني فإني كلما رأيته ذكرت الدنيا». ثم بهتكه الثوب المصور على عائشة منع منه، ثم بقطعها له وسادتين تغيرت الصورة وخرجت عن هيئتها، فإن جواز ذلك إذا لم تكن الصورة فيه متصلة الهيئة، ولو كانت متصلة الهيئة لم يجز، لقولها في النمرقة المصورة: اشتريتها لك لتقعد عليها وتوسدها، فمنع منه وتوعد عليه. وتبين بحديث الصلاة إلى الصور أن ذلك جائز في الرقم في الثوب ثم نسخه المنع منه. فهكذا استقر الامر فيه والله أعلم، قاله ابن العربي.
السادسة: روى مسلم عن عائشة قالت: كان لنا ستر فيه تمثال طائر وكان الداخل إذا دخل استقبله، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «حولي هذا فإني كلما دخلت فرأيته ذكرت الدنيا». قالت: وكانت لنا قطيفة كنا نقول علمها حرير، فكنا نلبسها. وعنها قالت: دخل علي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا مستترة بقرام فيه صورة، فتلون وجهه، ثم تناول الستر فهتكه، ثم قال: «إن من أشد الناس عذابا يوم القيامة الذين يشبهون بخلق الله عز وجل». وعنها: أنه كان لها ثوب فيه تصاوير ممدود إلى سهوة، فكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي إليه فقال: «أخريه عني» قالت: فأخرته فجعلته وسادتين. قال بعض العلماء: ويمكن أن يكون تهتيكه عليه السلام الثوب وأمره بتأخيره ورعا، لان محل النبوة والرسالة الكمال. فتأمله.
السابعة: قال المزني عن الشافعي: إن دعي رجل إلى عرس فرأى صورة ذات روح أو صورا ذات أرواح، لم يدخل إن كانت منصوبة. وإن كانت توطأ فلا بأس، وإن كانت صور الشجر. ولم يختلفوا أن التصاوير في الستور المعلقة مكروهة غير محرمة. وكذلك عندهم ما كان خرطا أو نقشا في البناء. واستثنى بعضهم: «ما كان رقما في ثوب»، لحديث سهل بن حنيف. قلت: لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المصورين ولم يستثن. وقوله: «إن أصحاب هذه الصور يعذبون يوم القيامة ويقال لهم أحيوا ما خلقتم» ولم يستثن.
وفي الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الله عليه وسلم: «يخرج عنق من النار يوم القيامة له عينان تبصران وأذنان تسمعان ولسان ينطق يقول: إني وكلت بثلاث: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر وبالمصورين» قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب صحيح.
وفي البخاري ومسلم عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أشد الناس عذابا يوم القيامة المصورون». يدل على المنع من تصوير شي، أي شيء كان. وقد قال عز وجل: {ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها} [النمل: 60] على ما تقدم بيانه فأعلمه.
الثامنة: وقد أستثني من هذا الباب لعب البنات، لما ثبت، عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوجها وهي بنت سبع سنين، وزفت إليه وهي بنت تسع ولعبها معها، ومات عنها وهي بنت ثمان عشرة سنة. وعنها أيضا قالت: كنت ألعب بالبنات عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان لي صواحب يلعبن معي، فكان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا دخل ينقمعن منه فيسربهن إلي فيلعبن معي. خرجهما مسلم. قال العلماء: وذلك للضرورة إلى ذلك وحاجة البنات حتى يتدربن على تربية أولادهن. ثم إنه لا بقاء لذلك، وكذلك ما يصنع من الحلاوة أو من العجين لا بقاء له، فرخص في ذلك، والله أعلم. قوله تعالى: {وَجِفانٍ كَالْجَوابِ} قال ابن عرفة: الجوابي جمع الجابية، وهي حفيرة كالحوض. وقال: كحياض الإبل.
وقال ابن القاسم عن مالك: كالجوبة من الأرض، والمعنى متقارب. وكان يقعد على الجفنة الواحدة ألف رجل. النحاس: {وَجِفانٍ كَالْجَوابِ} الأولى أن تكون بالياء، ومن حذف الياء قال سبيل الالف واللام أن تدخل على النكرة فلا يغيرها عن حالها، فلما كان يقال جواب ودخلت الالف واللام أقر على حاله فحذف الياء. وواحد الجوابي جابية، وهي القدر العظيمة، والحوض العظيم الكبير الذي يجبى فيه الشيء أي يجمع، ومنه جبيت الخراج، وجبيت الجراد، أي جعلت الكساء فجمعته فيه. إلا أن ليثا روى عن مجاهد قال: الجوابي جمع جوبة، والجوبة الحفرة الكبيرة تكون في الجبل فيها ماء المطر.
وقال الكسائي: جبوت الماء في الحوض وجبيته أي جمعته، والجابية: الحوض الذي يجبى فيه الماء للإبل، قال:
تروح على آل المحلق جفنة ** كجابية الشيخ العراقي تفهق

ويروى أيضا:
نفي الذم عن آل المحلق جفنة ** كجابية السيح

ذكره النحاس.
قوله تعالى: {وَقُدُورٍ راسِياتٍ} قال سعيد بن جبير: هي قدور النحاس تكون بفارس.
وقال الضحاك: هي قدور تعمل من الجبال. غيره: قد نحتت من الجبال الصم مما عملت له الشياطين، أثافيها منها منحوتة هكذا من الجبال. ومعنى {راسِياتٍ} ثوابت، لا تحمل ولا تحرك لعظمها. قال ابن العربي: وكذلك كانت قدور عبد الله بن جدعان، يصعد إليها في الجاهلية بسلم. وعنها عبر طرفة بن العبد بقوله:
كالجوابي لا تني مترعة ** لقرى الأضياف أو للمحتضر

قال ابن العربي: ورأيت برباط أبي سعيد قدور الصوفية على نحو ذلك، فإنهم يطبخون جميعا ويأكلون جميعا من غير استئثار واحد منهم على أحد. قوله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ} قد مضى معنى الشكر في البقرة وغيرها.
وروى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صعد المنبر فتلا هذه الآية ثم قال: «ثلاث من أوتيهن فقد أوتي مثل ما أوتي آل داود» قال فقلنا: ما هن. فقال: «العدل في الرضا والغضب. والقصد في الفقر والغنى. وخشية الله في السر والعلانية». خرجه الترمذي الحكيم أبو عبد الله عن عطاء بن يسار عن أبي هريرة. وروي أن داود عليه السلام قال: يا رب كيف أطيق شكرك على نعمك. وإلهامي وقدرتي على شكرك نعمة لك فقال: يا داود الآن عرفتني. وقد مضى هذا المعنى في سورة إبراهيم. وأن الشكر حقيقته الاعتراف بالنعمة للمنعم واستعمالها في طاعته، والكفران استعمالها في المعصية. وقليل من يفعل ذلك، لان الخير أقل من الشر، والطاعة أقل من المعصية، بحسب سابق التقدير.
وقال مجاهد: لما قال الله تعالى: {اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً} قال داود لسليمان: أن الله عز وجل قد ذكر الشكر فاكفني صلاة النهار أكفك صلاة الليل، قال: لا أقدر، قال: فاكفني- قال الفاريابي، أراه قال إلى صلاة الظهر- قال نعم، فكفاه.
وقال الزهري:
{اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً} أي قولوا الحمد لله. و{شُكْراً} نصب على جهة المفعول، أي اعملوا عملا هو الشكر. وكان الصلاة والصيام والعبادات كلها هي في نفسها الشكر إذ سدت مسدة، ويبين هذا قوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَقَلِيلٌ ما هُمْ} [ص: 24] وهو المراد بقوله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ}. وقد قال سفيان بن عيينة في تأويل قوله تعالى: {أَنِ اشْكُرْ لِي} [لقمان: 14] أن المراد بالشكر الصلوات الخمس.
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقوم من الليل حتى تفطر قدماه، فقالت له عائشة رضي الله عنها: أتصنع هذا وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: «أفلا أكون عبدا شكورا». انفرد بإخراجه مسلم. فظاهر القرآن والسنة أن الشكر بعمل الأبدان دون الاقتصار على عمل اللسان، فالشكر بالأفعال عمل الأركان، والشكر بالأقوال عمل اللسان. والله أعلم. قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ} يحتمل أن يكون مخاطبة لآل داود، ويحتمل أن يكون مخاطبة لمحمد صلى الله الله عليه وسلم. قال ابن عطية: وعلى كل وجه ففيه تنبيه وتحريض. وسمع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه رجلا يقول: اللهم اجعلني من القليل، فقال عمر: ما هذا الدعاء؟ فقال الرجل: أردت قوله تعالى: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ}. فقال عمر رضي الله عنه: كل الناس أعلم منك يا عمر! وروي أن سليمان عليه السلام كان يأكل الشعير ويطعم أهله الخشكار ويطعم المساكين الدرمك. وقد قيل: إنه كان يأكل الرماد ويتوسده، والأول أصح، إذ الرماد ليس بقوت. وروي أنه ما شبع قط، فقيل له في ذلك فقال: أخاف إن شبعت أن أنسى الجياع. وهذا من الشكر ومن القليل، فتأمله، والله أعلم.