فصل: تفسير الآيات (36- 37):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (36- 37):

{وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)}
قوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ} لما ذكر أهل الجنة وأحوالهم ومقالتهم، ذكر أهل النار وأحوالهم ومقالتهم. {لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} مثل: {لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى} [الأعلى: 13]. {وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها} مثل: {كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ} [النساء: 56]. {كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ}
أي كافر بالله ورسوله. وقرأ الحسن {فيموتون} بالنون ولا يكون للنفي حينئذ جواب ويكون {فيموتون} عطفا على {يُقْضى} تقديره لا يقضى عليهم ولا يموتون كقوله تعالى: {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ}. قال الكسائي: {وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} بالنون في المصحف لأنه رأس آية و{لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا} لأنه ليس رأس آية. ويجوز في كل واحد منهما ما جاز في صاحبه. {وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها} أي يستغيثون في النار بالصوت العالي. والصراخ الصوت العالي، والصارخ المستغيث والمصرخ المغيث. قال:
كنا إذا ما أتانا صارخ فزع ** كان الصراخ له قرع الظنابيب

{رَبَّنا أَخْرِجْنا} أي يقولون ربنا أخرجنا من جهنم وردنا إلى الدنيا. {نَعْمَلْ صالِحاً} قال ابن عباس: نقل: لا إله إلا الله. وهو معنى قولهم: {غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ} أي من الشرك، أي نؤمن بدل الكفر، ونطيع بدل المعصية، ونمتثل أمر الرسل. {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ} هذا جواب دعائهم، أي فيقال لهم، فالقول مضمر. وترجم البخاري: (باب من بلغ ستين سنة فقد أعذر الله إليه في العمر لقوله عز وجل: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ} يعني الشيب) حدثنا عبد السلام بن مطهر قال حدثنا عمر بن علي قال حدثنا معن بن محمد الغفاري عن سعيد بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أعذر الله إلى امرئ أخر أجله حتى بلغه ستين سنة». قال الخطابي: {أعذر إليه} أي بلغ به أقصى العذر، ومنه قولهم: قد أعذر من أنذر، أي أقام عذر نفسه في تقديم نذارته. والمعنى: أن من عمره الله ستين سنة لم يبق له عذر، لان الستين قريب من معترك المنايا، وهو سن الإنابة والخشوع وترقب المنية ولقاء الله تعالى، ففيه إعذار بعد إعذار، الأول بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والموتان في الأربعين والستين. قال علي وابن عباس وأبو هريرة في تأويل قوله تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ}: إنه ستون سنة. وقد روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال في موعظته: «ولقد أبلغ في الاعذار من تقدم في الإنذار وإنه لينادي مناد من قبل الله تعالى أبناء الستين {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ}». وذكر الترمذي الحكيم من حديث عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا كان يوم القيامة نودي أبناء الستين وهو العمر الذي قال الله: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ}». وعن ابن عباس أيضا أنه أربعون سنة. وعن الحسن البصري ومسروق مثله. ولهذا القول أيضا وجه، وهو صحيح، والحجة له قوله تعالى: {حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [الأحقاف 15] الآية. ففي الأربعين تناهي العقل، وما قبل ذلك وما بعده منتقص عنه، والله أعلم.
وقال مالك: أدركت أهل العلم ببلدنا وهم يطلبون الدنيا والعلم ويخالطون الناس، حتى يأتي لأحدهم أربعون سنة، فإذا أتت عليهم اعتزلوا الناس واشتغلوا بالقيامة حتى يأتيهم الموت. وقد مضى هذا المعنى في سورة الأعراف. وخرج ابن ماجه عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من تجاوز ذلك». قوله تعالى: {وَجاءَكُمُ النَّذِيرُ} وقرئ: {وجاءتكم النذر} واختلف فيه، فقيل القرآن. وقيل الرسول، قاله زيد بن علي وابن زيد.
وقال ابن عباس وعكرمة وسفيان ووكيع والحسين ابن الفضل والفراء والطبري: هو الشيب.
وقيل: النذير الحمى.
وقيل: موت الأهل والأقارب.
وقيل: كمال العقل. والنذير بمعنى الإنذار.
قلت: فالشيب والحمى وموت الأهل كله إنذار بالموت، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الحمى رائد الموت». قال الأزهري: معناه أن الحمى رسول الموت، أي كأنها تشعر بقدومه وتنذر بمجيئه. والشيب نذير أيضا، لأنه يأتي في سن الاكتهال، وهو علامة لمفارقة سن الصبا الذي هو سن اللهو واللعب. قال:
رأيت الشيب من نذر المنايا ** لصاحبه وحسبك من نذير

وقال آخر:
فقلت لها المشيب نذير عمري ** ولست مسودا وجه النذير

وأما موت الأهل والأقارب والأصحاب والاخوان فإنذار بالرحيل في كل وقت وأوان، وحين وزمان. قال:
وأراك تحملهم ولست تردهم ** فكأنني بك قد حملت فلم ترد

وقال آخر:
الموت في كل حين ينشر الكفنا ** ونحن في غفلة عما يراد بنا

وأما كمال العقل فبه تعرف حقائق الأمور ويفصل بين الحسنات والسيئات، فالعاقل يعمل لآخرته ويرغب فيما عند ربه، فهو نذير. وأما محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فبعثه الله بشيرا ونذيرا إلى عباده قطعا لحججهم، قال الله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء: 165] وقال: {وما كنا معذبين حتى نبعث رسولا} [الاسراء: 15]. قوله تعالى: {فَذُوقُوا} يريد عذاب جهنم، لأنكم ما اعتبرتم ولا اتعظتم. {فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} أي مانع من عذاب الله.

.تفسير الآية رقم (38):

{إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38)}
تقدم معناه في غير موضع. والمعنى: علم أنه لو ردكم إلى الدنيا لم تعملوا صالحا، كما قال: {وَلَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ} [الأنعام: 28]. و{عالِمُ} إذا كان بغير تنوين صلح أن يكون للماضي والمستقبل، وإذا كان منونا لم يجز أن يكون للماضي.

.تفسير الآية رقم (39):

{هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39)}
قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ} قال قتادة: خلفا بعد خلف، قرنا بعد قرن. والخلف هو التالي للمتقدم، ولذلك قيل لابي بكر: يا خليفة الله، فقال: لست بخليفة الله، ولكني خليفة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنا راض بذلك. {فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ} أي جزاء كفره وهو العقاب والعذاب. {وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً} أي بغضا وغضبا. {وَلا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً} أي هلاكا وضلالا.

.تفسير الآية رقم (40):

{قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ماذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40)}
قوله تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ} {شُرَكاءَكُمُ} منصوب بالرؤية، ولا يجوز رفعه، وقد يجوز الرفع عند سيبويه في قولهم: قد علمت زيدا أبو من هو؟ لان زيدا في المعنى مستفهم عنه. ولو قلت: أرأيت زيدا أبو من هو؟ لم يجز الرفع. والفرق بينهما أن معنى هذا أخبرني عنه، وكذا معنى هذا أخبروني عن شركائكم الذي تدعون من دون الله، أعبدتموهم لان لهم شركة في خلق السماوات، أم خلقوا من الأرض شيئا! {أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً} أي أم عندهم كتاب أنزلناه إليهم بالشركة. وكان في هذا رد على من عبد غير الله عز وجل، لأنهم لا يجدون في كتاب من الكتب أن الله عز وجل أمر أن يعبد غيره. {فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ} قرأ ابن كثير وأبو عمرو وحمزة وحفص عن عاصم {عَلى بَيِّنَةٍ} بالتوحيد، وجمع الباقون. والمعنيان متقاربان إلا أن قراءة الجمع أولى، لأنه لا يخلو من قرأه {عَلى بَيِّنَةٍ} من أن يكون خالف السواد الأعظم، أو يكون جاء به على لغة من قال: جاءني طلحت، فوقف بالتاء، وهذه لغة شاذة قليلة، قاله النحاس.
وقال أبو حاتم وأبو عبيد: الجمع أولى لموافقته الخط، لأنها في مصحف عثمان {بينات} بالألف والتاء. {بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً} أي أباطيل تغر، وهو قول السادة للسفلة: إن هذه الآلهة تنفعكم وتقربكم.
وقيل: إن الشيطان يعد المشركين ذلك.
وقيل: وعدهم بأنهم ينصرون عليهم.

.تفسير الآية رقم (41):

{إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)}
قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} لما بين أن آلهتهم لا تقدر على خلق شيء من السماوات والأرض بين أن خالقهما وممسكهما هو الله، فلا يوجد حادث إلا بإيجاده، ولا يبقى إلا ببقائه. و{إِنَّ} في موضع نصب بمعنى كراهة أن تزولا، أو لئلا تزولا، أو يحمل على المعنى، لان المعنى أن الله يمنع السماوات والأرض أن تزولا، فلا حاجة على هذا إلى إضمار، وهذا قول الزجاج. {وَلَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} قال الفراء: أي ولو زالتا ما أمسكهما من أحد. و{إِنَّ} بمعنى ما. قال: وهو مثل قوله: {وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ} [الروم: 51].
وقيل: المراد زوالهما يوم القيامة. وعن إبراهيم قال: دخل رجل من أصحاب ابن مسعود إلى كعب الأحبار يتعلم منه العلم، فلما رجع قال له ابن مسعود: ما الذي أصبت من كعب؟ قال سمعت كعبا يقول: إن السماء تدور على قطب مثل قطب الرحى، في عمود على منكب ملك، فقال له عبد الله: وددت أنك انقلبت براحلتك ورحلها، كذب كعب، ما ترك يهوديته! إن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} إن السماوات لا تدور، ولو كانت تدور لكانت قد زالت. وعن ابن عباس نحوه، وأنه قال لرجل مقبل من الشام: من لقيت به؟ قال كعبا. قال: وما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول: إن السماوات على منكب ملك. فال: كذب كعب، أما ترك يهوديته بعد! إن الله تعالى يقول: {إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولا} والسماوات سبع والأرضون سبع، ولكن لما ذكرهما أجراهما مجرى شيئين، فعادت الكناية إليهما، وهو كقوله تعالى: {أَنَّ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما} [الأنبياء: 30] ثم ختم الآية بقوله: {إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً} لان المعنى فيما ذكره بعض أهل التأويل: أن الله يمسك السماوات والأرض أن تزولا من كفر الكافرين، وقولهم اتخذ الله ولدا. قال الكلبي: لما قالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله، كادت السماوات والأرض أن تزولا عن أمكنتهما، فمنعهما الله، وأنزل هذه الآية فيه، وهو كقوله تعالى: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ} [مريم: 90- 89] الآية.

.تفسير الآيات (42- 43):

{وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43)}
قوله تعالى: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ} هم قريش أقسموا قبل أن يبعث الله رسوله محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حين بلغهم أن أهل الكتاب كذبوا رسلهم، فلعنوا من كذب نبيه منهم، وأقسموا بالله جل أسمه {لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ} أي نبي {لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ} يعني ممن كذب الرسل من أهل الكتاب. وكانت العرب تتمنى أن يكون منهم رسول كما كانت الرسل من بني إسرائيل، فلما جاءهم ما تمنوه وهو النذير من أنفسهم، نفروا عنه ولم يؤمنوا به. {اسْتِكْباراً} أي عتوا عن الايمان {وَمَكْرَ السَّيِّئِ} أي مكر العمل السيئ وهو الكفر وخدع الضعفاء، وصدهم عن الايمان ليكثر أتباعهم. وأنث {من إحدى الأمم} لتأنيث أمة، قاله الأخفش. وقرأ حمزة والأخفش {ومكر السيئ ولا يحيق المكر السيئ} فحذف الاعراب من الأول واثبته في الثاني. قال الزجاج: وهو لحن، وإنما صار لحنا لأنه حذف الاعراب منه. وزعم المبرد أنه لا يجوز في كلام ولا في شعر، لان حركات الاعراب لا يجوز حذفها، لأنها دخلت للفرق بين المعاني. وقد أعظم بعض النحويين أن يكون الأعمش على جلالته ومحله يقرأ بهذا، قال: إنما كان يقف عليه، فغلط من أدى عنه، قال: والدليل على هذا أنه تمام الكلام، وأن الثاني لما لم يكن تمام الكلام أعرب باتفاق، والحركة في الثاني أثقل منها في الأول لأنها ضمة بين كسرتين. وقد احتج بعض النحويين لحمزة في هذا بقول سيبويه، وأنه أنشد هو وغيره:
إذا اعوججن قلت صاحب قوم

وقال الآخر:
فاليوم أشرب غير مستحقب ** إثما من الله ولا واغل

وهذا لا حجة فيه، لان سيبويه لم يجزه، وإنما حكاه عن بعض النحويين، والحديث إذا قيل فيه عن بعض العلماء لم يكن فيه حجة، فكيف وإنما جاء به على وجه الشذوذ ولضرورة الشعر وقد خولف فيه. وزعم الزجاج أن أبا العباس أنشده:
إذا اعوججن قلت صاح قوم

وأنه أنشد:
فاليوم أشرب غير مستحقب

بوصل الالف على الامر، ذكر جميعه النحاس. الزمخشري: وقرأ حمزة {ومكر السيئ} بسكون الهمزة، وذلك لاستثقاله الحركات، ولعله اختلس فظن سكونا، أو وقف وقفة خفيفة ثم ابتدأ {وَلا يَحِيقُ}. وقرأ ابن مسعود {ومكرا سيئا} وقال المهدوي: ومن سكن الهمزة من قوله: {وَمَكْرَ السَّيِّئِ} فهو على تقدير الوقف عليه، ثم أجرى الوصل مجرى الوقف، أو على أنه أسكن الهمزة لتوالي الكسرات والياءات، كما قال:
فاليوم أشرب غير مستحقب

قال القشيري: وقرأ حمزة {ومكر السيئ} بسكون الهمزة، وخطأه أقوام.
وقال قوم: لعله وقف عليه لأنه تمام الكلام، فغلط الراوي وروى ذلك عنه في الإدراج، وقد سبق الكلام في أمثال هذا، وقلنا: ما ثبت بالاستفاضة أو التواتر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأه فلا بد من جوازه، ولا يجوز أن يقال: إنه لحن، ولعل مراد من صار إلى التخطئة أن غيره أفصح منه، وإن كان هو فصيحا. {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} أي لا ينزل عاقبة الشرك إلا بمن أشرك.
وقيل: هذا إشارة إلى قتلهم ببدر.
وقال الشاعر:
وقد دفعوا المنية فاستقلت ** ذراعا بعد ما كانت تحيق

أي تنزل، وهذا قول قطرب.
وقال الكلبي: {يَحِيقُ} بمعنى يحيط. والحوق الإحاطة، يقال: حاق به كذا أي أحاط به. وعن ابن عباس أن كعبا قال له: إني أجد في التوراة: من حفر لأخيه حفرة وقع فيها؟ فقال ابن عباس: فإني أوجدك في القرآن ذلك. قال: وأين؟ قال: فاقرأ {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} ومن أمثال العرب: من حفر لأخيه جبا وقع فيه منكبا، وروى الزهري أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا تمكر ولا تعن ماكرا فإن الله تعالى يقول: {وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ}، ولا تبغ ولا تعن باغيا فإن الله تعالى يقول: {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ} [الفتح: 10] وقال تعالى: {إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ} [يونس: 23]» وقال بعض الحكماء:
يا أيها الظالم في فعله ** والظلم مردود على من ظلم

إلى متى أنت وحتى متى ** تحصى المصائب وتنسى النعم

وفي الحديث: «المكر والخديعة في النار». فقوله: «في النار» يعني في الآخرة تدخل أصحابها في النار، لأنها من أخلاق الكفار لا من أخلاق المؤمنين الأخيار، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام في سياق هذا الحديث وليس من أخلاق المؤمن المكر والخديعة والخيانة.
وفي هذا أبلغ تحذير عن التخلق بهذه الأخلاق الذميمة، والخروج عن أخلاق الايمان الكريمة. قوله تعالى: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ} أي إنما ينتظرون العذاب الذي نزل بالكفار الأولين. {فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} أي أجرى الله العذاب على الكفار، ويجعل ذلك سنة فيهم، فهو يعذب بمثله من استحقه، لا يقدر أحد أن يبدل ذلك، ولا أن يحول العذاب عن نفسه إلى غيره. والسنة الطريقة، والجمع سنن. وقد مضى في آل عمران وأضافها إلى الله عز وجل.
وقال في موضع آخر: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا} فأضاف إلى القوم لتعلق الامر بالجانبين، وهو كالاجل، تارة يضاف إلى الله، وتارة إلى القوم، قال الله تعالى: {فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} [العنكبوت: 5] وقال: {فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ} [النحل: 61].