فصل: تفسير الآيات (55- 59):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (55- 59):

{إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58) وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59)}
قوله تعالى: {إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ} قال ابن مسعود وابن عباس وقتادة ومجاهد: شغلهم افتضاض العذارى. وذكر الترمذي الحكيم في كتاب مشكل القرآن له: حدثنا محمد بن حميد الرازي، حدثنا يعقوب القمي، عن حفص بن حميد، عن شمر بن عطية، عن شقيق بن سلمة، عن عبد الله بن مسعود في قوله: {إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ} قال: شغلهم افتضاض العذارى. حدثنا محمد بن حميد، حدثنا هارون بن المغيرة، عن نهشل، عن الضحاك، عن ابن عباس بمثله.
وقال أبو قلابة: بينما الرجل من أهل الجنة مع أهله إذ قيل له تحول إلى أهلك فيقول أنا مع أهلي مشغول، فيقال تحول أيضا إلى أهلك.
وقيل: أصحاب الجنة في شغل بما هم فيه من اللذات والنعيم عن الاهتمام بأهل المعاصي ومصيرهم إلى النار، وما هم فيه من أليم العذاب، وإن كان فيهم أقرباؤهم وأهلوهم، قال سعيد بن المسيب وغير هـ.
وقال وكيع: يعني في السماع.
وقال ابن كيسان: {فِي شُغُلٍ} أي في زيارة بعضهم بعضا.
وقيل: في ضيافة الله تعالى. وروي أنه إذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين عبادي الذين أطاعوني وحفظوا عهدي بالغيب؟ فيقومون كأنما وجوههم البدر والكو كب الدري، ركبانا على نجب من نور أزمتها من الياقوت، تطير بهم على رءوس الخلائق، حتى يقوموا بين يدي العرش، فيقول الله جل وعز لهم: السلام على عبادي الذين أطاعوني وحفظوا عهدي بالغيب، أنا اصطفيتكم وأنا اجتبيتكم وأنا اخترتكم، اذهبوا فادخلوا الجنة بغير حساب ف {لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ} [الزخرف: 68] فيمرون على الصراط كالبرق الخاطف فتفتح لهم أبوابها. ثم إن الخلق في المحشر موقوفون فيقول بعضهم لبعض: يا قوم أين فلان وفلان، وذلك حين يسأل بعضهم بعضا فينادي مناد {إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ}. و{شغل} و{شغل} لغتان قرئ بهما، مثل الرعب والرعب، والسحت والسحت، وقد تقدم. {فاكِهُونَ} قال الحسن: مسرورون.
وقال ابن عباس: فرحون. مجاهد والضحاك: معجبون. السدي: ناعمون. والمعنى متقارب. والفكاهة المزاح والكلام الطيب. وقرأ أبو جعفر وشيبة والأعرج: {فكهون} بغير ألف وهما لغتان كالفأرة والفره، والحاذر والحذر، قاله الفراء.
وقال الكسائي وأبو عبيدة: الفاكه ذو الفاكهة، مثل شاحم ولاحم وتامر ولابن، والفكه المتفكه والمتنعم. و{فكهون} بغير ألف في قول قتادة معجبون.
وقال أبو زيد: يقال رجل فكه إذا كان طيب النفس ضحوكا. وقرأ طلحة بن مصرف: {فاكِهِينَ} نصبه على الحال. {هُمْ وَأَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ} مبتدأ وخبره. ويجوز أن يكون {هُمْ} توكيدا {وَأَزْواجُهُمْ} عطف على المضمر، و{مُتَّكِؤُنَ} نعت لقوله: {فاكِهُونَ}. وقراءة العامة: {فِي ظِلالٍ} بكسر الظاء والألف. وقرأ ابن مسعود وعبيد بن عمير والأعمش ويحيى وحمزة والكسائي وخلف: {فِي ظُلَلٍ} بضم الظاء من غير ألف، فالظلال جمع ظل، وظلل جمع ظلة. {عَلَى الْأَرائِكِ} يعني السرر في الحجال واحدها أريكة، مثل سفينة وسفائن، قال الشاعر:
كأن احمرار الورد فوق غصونه ** بوقت الضحى في روضة المتضاحك

خدود عذارى قد خجلن من الحيا ** تهادين بالريحان فوق الأرائك

وفي الخبر عن أبي سعيد الخدري قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن أهل الجنة كلما جامعوا نساءهم عدن أبكارا.» وقال ابن عباس: إن الرجل من أهل الجنة ليعانق الحوراء سبعين سنة، لا يملها ولا تمله، كلما أتاها وجدها بكرا، وكلما رجع إليها عادت إليه شهوته، فيجامعها بقوة سبعين رجلا، لا يكون بينهما مني، يأتي من غير مني منه ولا منها. {لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ} ابتداء وخبر. {وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ} الدال الثانية مبدلة من تاء، لأنه يفتعلون من دعا أي من دعا بشيء أعطيه. قاله أبو عبيدة، فمعنى {يَدَّعُونَ} يتمنون من الدعاء.
وقيل: المعنى أن من أدعى منهم شيئا فهو له، لأن الله تعالى قد طبعهم على ألا يدعي منهم أحد إلا ما يجمل ويحسن أن يدعيه.
وقال يحيى بن سلام: {يَدَّعُونَ} يشتهون. ابن عباس. يسألون. والمعنى متقارب. قال ابن الأنباري: {وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ} وقف حسن، ثم تبتدئ: {سَلامٌ} على معنى ذلك لهم سلام. ويجوز أن يرفع السلام على معنى ولهم ما يدعون مسلم خالص. فعلى هذا المذهب لا يحسن الوقف على {ما يَدَّعُونَ}.
وقال الزجاج: {سَلامٌ} مرفوع على البدل من {ما} أي ولهم أن يسلم الله عليهم، وهذا منى أهل الجنة. وروي من حديث جرير بن عبد الله البجلي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع لهم نور فرفعوا رؤوسهم فإذا الرب تعالى قد اطلع عليهم من فوقهم فقال السلام عليكم يا أهل الجنة فذلك قوله: {سَلامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ}. فينظر إليهم وينظرون إليه فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه حتى يحتجب عنهم فيبقى نوره وبركاته عليهم في ديارهم» ذكره الثعلبي والقشيري. ومعناه ثابت في صحيح مسلم، وقد بيناه في يونس عند قوله تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَزِيادَةٌ} [يونس: 26]. ويجوز أن تكون {ما} نكرة، و{سلام} نعتا لها، أي ولهم ما يدعون مسلم. ويجوز أن تكون {ما} رفع بالابتداء، و{سَلامٌ} خبر عنها. وعلى هذه الوجوه لا يوقف على {وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ}.
وفي قراءة ابن مسعود {سلاما} يكون مصدرا، وإن شئت في موضع الحال، أي ولهم ما يدعون ذا سلام أو سلامة أو مسلما، فعي هذا المذهب لا يحسن الوقف على {يدعون} وقرأ محمد بن كعب القرظي {سلم} على الاستئناف كأنه قال: ذلك سلم لهم لا يتنازعون فيه. ويكون {وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ} تاما. ويجوز أن يكون {سَلامٌ} بدلا من قوله: {وَلَهُمْ ما يَدَّعُونَ}، وخبر {ما يَدَّعُونَ} {لهم}. ويجوز أن يكون {سَلامٌ} خبرا آخر، ويكون معنى الكلام أنه لهم خالص من غير منازع فيه. {قولا} مصدر على معنى قال الله ذلك قولا. أو يقوله قولا، ودل على الفعل المحذوف لفظ مصدره. ويجوز أن يكون المعنى ولهم ما يدعون قولا، أي عدة من الله. فعلى هذا المذهب الثاني لا يحسن الوقف على {يَدَّعُونَ}.
وقال السجستاني: الوقف على قوله: {سَلامٌ} تام، وهذا خطأ لأن القول خارج مما قبله. قوله تعالى: {وَامْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ} ويقال تميزوا وأمازوا وامتازوا بمعنى، ومزته فانماز وامتاز، وميزته فتميز. أي يقال لهم هذا عند الوقوف للسؤال حين يؤمر بأهل الجنة إلى الجنة، أي اخرجوا من جملتهم. قال قتادة: عزلوا عن كل خير.
وقال الضحاك: يمتاز المجرمون بعضهم من بعض، فيمتاز اليهود فرقة، والنصارى فرقة، والمجوس فرقة، والصابئون فرقة، وعبدة الأوثان فرقة. وعنه أيضا: إن لكل فرقة في النار بيتا تدخل فيه ويرد بابه، فتكون فيه أبدالا ترى وقال داود بن الجراح: فيمتاز المسلمون من المجرمين، إلا أصحاب الأهواء فيكونون مع المجرمين.

.تفسير الآيات (60- 64):

{أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)}
قوله تعالى: {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ} العهد هنا بمعنى الوصية، أي ألم أوصكم وأبلغكم على ألسنة الرسل. {أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ} أي لا تطيعوه في معصيتي. قال الكسائي: لا للنهي. {وَأَنِ اعْبُدُونِي} {وأن اعبدوني} بكسر النون على الأصل، ومن ضم كره كسرة بعدها ضمة. {هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ} أي عبادتي دين قويم. قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ} أي أغوى {جِبِلًّا كَثِيراً} أي خلقا كثيرا، قاله مجاهد. قتادة: جموعا كثيرة. الكلبي: أمما كثيرة، والمعنى واحد. وقرأ أهل المدينة وعاصم {جِبِلًّا} بكسر الجيم والباء. وأبو عمرو وابن عامر {جبلا} بضم الجيم وإسكان الباء. الباقون {جبلا} ضم الجيم والباء وتخفيف اللام، وشددها الحسن وابن أبي إسحاق وعيسى بن عمر وعبد الله بن عبيد والنضر بن أنس. وقرأ أبو يحيى والأشهب العقيلي {جبلا} بكسر الجيم وإسكان الباء وتخفيف اللام. فهذه خمس قراءات. قال المهدوي والثعلبي: وكلها لغات بمعنى الخلق. النحاس: أبينها القراءة الأولى، والدليل على ذلك أنهم قد أجمعوا على أن قرءوا {وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 184] فيكون {جِبِلًّا} جمع جبلة والاشتقاق فيه كله واحد. وإنما هو من جبل الله عز وجل الخلق أي خلقهم. وقد ذكرت قراءة سادسة وهي: {ولقد أضل منكم جيلا كثيرا} بالياء. وحكي عن الضحاك أن الجيل الواحد عشرة آلاف، والكثير ما لا يحصيه إلا الله عز وجل، ذكره الماوردي. {أفلم تكونوا تعقلون} عداوته وتعلموا أن الواجب طاعة الله. {هذه جهنم} أي تقول لهم خزنة جهنم هذه جهنم التي وعدتم فكذبتم بها. وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إذا كان يوم القيامة جمع الله الإنس والجن والأولين والآخرين في صعيد واحد ثم أشرف عنق من النار على الخلائق فأحاط بهم ثم ينادي مناد {هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ} فحينئذ تجثو الأمم على ركبها {تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى وَلكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ}».

.تفسير الآيات (65- 68):

{الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ (67) وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلا يَعْقِلُونَ (68)}
قوله تعالى: {الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ} في صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: كنا عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فضحك فقال: «هل تدرون مم أضحك؟- قلنا الله ورسوله أعلم قال- من مخاطبة العبد ربه، يقول يا رب ألم تجرني من الظلم قال: يقول بلى فيقول فإني لا أجيز على نفسي إلا شاهدا مني قال فيقول كفى بنفسك اليوم عليك شهيدا وبالكرام الكاتبين شهودا قال فيختم على فيه فيقال لأركانه انطقي قال فتنطق بأعماله قال: ثم يخلى بينه وبين الكلام فيقول بعدا لكن وسحقا فعنكن كنت أناضل» خرجه أيضا من حديث أبي هريرة. وفيه: «ثم يقال له الآن نبعث شاهدنا عليك ويتفكر في نفسه من ذا الذي يشهد علي فيختم على فيه ويقال لفخذه ولحمه وعظامه انطقي فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله وذلك ليعذر من نفسه وذلك المنافق وذلك الذي يسخط الله عليه». وخرج الترمذي عن معاوية بن حيدة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث ذكره قال: وأشاره بيده إلى الشام فقال: «من هاهنا إلى ها هنا تحشرون ركبانا ومشاة وتجرون على وجوهكم يوم القيامة على أفواهكم الفدام توفون سبعين أمة أنتم خيرهم وأكرمهم على الله وإن أول ما يعرب عن أحدكم فخذه» في رواية أخرى: «فخذه وكفه» الفدام مصفاة الكوز والإبريق، قال الليث. قال أبو عبيد: يعني أنهم منعوا الكلام حتى تكلم أفخاذهم فشبه ذلك بالفدام الذي يجعل على الإبريق. ثم قيل في سبب الختم أربعة أوجه: أحدها: لأنهم قالوا: {وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام: 23] فختم الله على أفواههم حتى نطقت جوارحهم، قاله أبو موسى الأشعري.
الثاني: ليعرفهم أهل الموقف فيتميزون منهم، قاله ابن زياد.
الثالث: لأن إقرار غير الناطق أبلغ في الحجة من إقرار الناطق لخروجه مخرج الإعجاز، إن كان يوما لا يحتاج إلى إعجاز.
الرابع: ليعلم أن أعضاءه التي كانت أعوانا في حق نفسه صارت عليه شهودا في حق ربه. فإن قيل: لم قال: {وَتُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ} فجعل ما كان من اليد كلاما، وما كان من الرجل شهادة؟ قيل: إن اليد مباشرة لعمله والرجل حاضرة، وقول الحاضر على غيره شهادة، وقول الفاعل على نفسه إقرار بما قال أو فعل، فلذلك عبر عما صدر من الأيدي بالقول وعما صدر من الأرجل بالشهادة. وقد روي عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «أول عظم من الإنسان يتكلم يوم يختم على الأفواه فخذه من الرجل اليسرى» ذكره الماوردي والمهدوي.
وقال أبو موسى الأشعري: إنى لأحسب أن أول ما ينطق منه فخذه اليمنى، ذكره المهدوي أيضا. قال الماوردي: فاحتمل أن يكون تقدم الفخذ بالكلام على سائر الأعضاء، لأن لذة معاصيه يدركها بحواسه التي هي في الشطر الأسفل منها الفخذ، فجاز لقربه منها أن يتقدم في الشهادة عليها. قال: وتقدمت اليسرى، لأن الشهوة في ميامن الأعضاء أقوى منها في مياسرها، فلذلك تقدمت اليسرى على اليمنى لقلة شهوتها. قلت: أو بالعكس لغلبة الشهوة، أو كلاهما معا والكف، فإن بمجموع ذلك يكون تمام الشهوة واللذة. والله أعلم. قوله تعالى: {ولو نشاء لطمسنا على أعينهم فاستبقوا الصراط فأنى يبصرون} حكى الكسائي: طمس يطمس ويطمس. والمطموس والطميس عند أهل اللغة الأعمى الذي ليس في عينيه شق. قال ابن عباس: المعنى لأعميناهم عن الهدى، فلا يهتدون أبدا إلى طريق الحق. وقا ل الحسن والسدي: المعنى لتركناهم عميا يترددون. فالمعنى لأعميناهم فلا يبصرون طريقا إلى تصرفهم في منازلهم ولا غيرها. وهذا اختيار الطبري. وقوله: {فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ} أي استبقوا الطريق ليجوزوا {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} أي فمن أين يبصرون.
وقال عطاء ومقاتل وقتادة وروي عن ابن عباس: ولو نشاء لفقأنا أعين ضلالتهم، وأعميناهم عن غيهم، وحولنا أبصارهم من الضلالة إلى الهدى، فاهتدوا وأبصروا رشدهم، وتبادروا إلى طريق الآخرة. ثم قال: {فَأَنَّى يُبْصِرُونَ} ولم نفعل ذلك بهم، أي فكيف يهتدون وعين الهدى مطموسة، على الضلال باقية. وقد روي عن عبد الله بن سلام في تأويل هذه الآية غير ما تقدم، وتأولها على أنها في يوم القيامة. وقال: إذا كان يوم القيامة ومد الصراط.، نادى مناد ليقم محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأمته، فيقومون برهم وفاجرهم يتبعونه ليجوزوا الصراط، فإذا صاروا عليه طمس الله أعين فجارهم، فاستبقوا الصراط فمن أين يبصرونه حتى يجاوزوه. ثم ينادي مناد ليقم عيسى وأمته، فيقوم فيتبعونه برهم وفاجرهم فيكون سبيلهم تلك السبيل، وكذا سائر الأنبياء عليهم السلام. ذكره النحاس وقد كتبناه في التذكرة بمعناه حسب ما ذكره ابن المبارك في رقائقه. وذكره القشيري.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: أخذ الأسود بن الأسود حجرا ومعه جماعة من بني مخزوم ليطرحه على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فطمس الله على بصره، وألصق الحجر بيده، فما أبصره ولا اهتدى، ونزلت الآية فيه. والمطموس هو الذي لا يكون بين جفنيه شق، مأخوذ من طمس الريح الأثر، قاله الأخفش والقتبي. قوله تعالى: {وَلَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَلا يَرْجِعُونَ} المسخ: تبديل الخلقة وقلبها حجرا أو جمادا أو بهيمة. قال الحسن: أي لأقعدناهم فلا يستطيعون أن يمضوا أمامهم ولا يرجعوا وراءهم. وكذلك الجماد لا يتقدم ولا يتأخر. وقد يكون المسخ تبديل صورة الإنسان بهيمة، ثم تلك البهيمة لا تعقل موضعا تقصده فتتحير، فلا تقبل ولا تدبر. ابن عباس رضي الله عنه: المعنى لو نشاء لأهلكناهم في مساكنهم.
وقيل: المعنى لو نشاء لمسخناهم في المكان الذي اجترءوا فيه على المعصية. ابن سلام: هذا كله يوم القيامة يطمس الله تعالى أعينهم على الصراط. وقرأ الحسن والسلمى وزر بن حبيش وعاصم في رواية أبي بكر {مكاناتهم} على الجمع، الباقون بالتوحيد: وقرأ أبو حيوة: {فما استطاعوا مضيا} بفتح الميم. والمضي بضم الميم مصدر يمضي مضيا إذا ذهب.
قوله تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} قرأ عاصم وحمزة {نُنَكِّسْهُ} بضم النون الأولى وتشديد الكاف من التنكيس. الباقون {ننكسه} بفتح النون الأولى وضم الكاف من نكست الشيء أنكسه نكسا قلبته على رأسه فانتكس. قال قتادة: المعنى أنه يصير إلى حال الهرم الذي يشبه حال الصبا.
وقال سفيان في قول تعالى: {وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ} إذا بلغ ثمانين سنة تغير جسمه وضعفت قوته. قال الشاعر:
من عاش أخلقت الأيام جدته ** وخانه ثقتاه السمع والبصر

فطول العمر يصير الشباب هرما، والقوة ضعفا، والزيادة نقصا، وهذا هو الغالب. وقد تعوذ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أن يرد إلى أرذل العمر. وقد في النحل بيانه. {أَفَلا يَعْقِلُونَ} أن من فعل هذا بكم قادر على بعثكم. وقرأ نافع وابن ذكوان أن من فعل هذا بكم قادر على بعثكم. وقرأ نافع وابن ذكوان: {تعقلون} بالتاء. الباقون بالياء.