فصل: تفسير الآيات (69- 74):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (69- 74):

{إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70) وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)}
قوله تعالى: {إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ} أي صادفوهم كذلك فاقتدوا بهم. {فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ} أي يسرعون، عن قتادة.
وقال مجاهد: كهيئة الهرولة. قال قال الفراء: الإهراع الإسراع برعدة.
وقال أبو عبيدة: {يُهْرَعُونَ} يستحثون من خلفهم. ونحوه قول المبرد. قال: المهرع المستحث، يقال: جاء فلان يهر ع إلى النار إذا استحثه البرد إليها.
وقيل: يزعجون من شدة الإسراع، قال الفضل. الزجاج: يقال هرع وأهرع إذا استحث وأزعج. قوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ} أي من الأمم الماضية. {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ} أي رسلا أنذروهم العذاب فكفروا. {فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ} أي آخر أمرهم. {إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} أي الذين استخلصهم الله من الكفر. وقد تقدم. ثم قيل: هو استثناء من {الْمُنْذَرِينَ}. وقيل هو من قوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ}.

.تفسير الآيات (75- 82):

{وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ نادانا نُوحٌ} من النداء الذي هو الاستغاثة، ودعا قيل بمسألة هلاك قومه فقال: {رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً} [نوح: 26]. {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ} قال الكسائي: أي {فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ له كنا} {وَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ} يعني أهل دينه، وهم من آمن معه وكانوا ثمانين على ما تقدم. {مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} وهو الغرق. {وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ} قال ابن عباس: لما خرج نوح من السفينة مات من معه من الرجال والنساء إلا ولده ونساءه، فذلك قوله: {وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ}.
وقال سعيد بن المسيب: كان ولد نوح ثلاثة والناس كلهم من ولد نوح: فسام أبو العرب وفارس والروم واليهود والنصارى. وحام أبو السودان من المشرق إلى المغرب: السند والهند والنوب والزنج والحبشة والقبط والبربر وغيرهم. ويافث أبو الصقالبة والترك والأبر والخزر ويأجوج ومأجوج وما هنالك.
وقال قوم: كان لغير ولد نوح أيضا نسل، بدليل قوله: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ} [الإسراء: 3]. وقوله: {قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَبَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَعَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ} [هود: 48] فعلى هذا معنى الآية: {وَجَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ} دون ذرية من كفر أنا أغرقنا أولئك.
قوله تعالى: {وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} أي تركنا عليه ثناء حسنا في كل أمة، فإنه محبب إلى الجميع، حتى إن في المجوس من يقول إنه أفريدون. روى معناه عن مجاهد وغيره. وزعم الكسائي أن فيه تقديرين: أحدهما {وتركنا عليه في الآخرين} يقال: {سَلامٌ عَلى نُوحٍ} أي تركنا عليه هذا الثناء الحسن. وهذا مذهب أبي العباس المبرد. أي تركنا عليه هذه الكلمة باقية، يعني يسلمون له تسليما ويدعون له، وهو من الكلام المحكي، كقوله تعالى: {سُورَةٌ أَنْزَلْناها} [النور: 1]. والقول الآخر أن يكون المعنى وأبقينا عليه، وتم الكلام ثم ابتدأ فقال: {سَلامٌ عَلى نُوحٍ} أي سلامة له من أن يذكر بسوء {فِي الْآخِرِينَ}. قال الكسائي: وفي قراءة ابن مسعود {سلاما} منصوب ب {تَرَكْنا} أي تركنا عليه ثناء حسنا سلاما.
وقيل: {في آخرين} أي في أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقيل: في الأنبياء إذ لم يبعث بعده نبي إلا أمر بالاقتداء به، قال الله تعالى: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً} [الشورى: 13].
وقال سعيد بن المسيب: وبلغني أنه من قال حين يسمي {سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ} لم تلدغه عقرب. ذكره أبو عمر في التمهيد.
وفي الموطأ عن خولة بنت حكيم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «من نزل منزلا فليقل أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق فإنه لن يضره شيء حتى يرتحل» وفيه عن أبي هريرة أن رجلا من أسلم قال: ما نمت هذه الليلة، فقال وسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من أي شيء؟» فقال: لدغتني عقرب، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أما إنك لو قلت حين أمسيت أعوذ بكلمات الله التامات من شر ما خلق لم تضرك». قوله تعالى: {إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي نبقي عليهم الثناء الحسن. والكاف في موضع نصب، أي جزاء كذلك. {إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} هذا بيان إحسانه. قوله تعالى: {ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ} أي من كفر. وجمعه أخر. والأصل فيه أن يكون معه {من} إلا أنها حذفت، لأن المعنى معروف، ولا يكون آخرا إلا وقبله شيء من جنسه. {ثم} ليس للتراخي ها هنا بل هو لتعديد النعم، كقول: {أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البلد: 17- 16] أي ثم أخبركم أني قد أغرقت الآخرين، وهم الذين تأخروا عن الإيمان.

.تفسير الآيات (83- 90):

{وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ (85) أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87) فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90)}
قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ} قال ابن عباس: أي من أهل دينه.
وقال مجاهد: أي على منهاجه وسنته. قال الأصمعي: الشيعة الأعوان، وهو مأخوذ من الشياع، وهو الحطب الصغار الذي يوقد مع الكبا ر حتى يستوقد.
وقال الكلبي والفراء: المعنى وإن من شيعة محمد لإبراهيم. فالهاء في {شِيعَتِهِ} على هذا لمحمد عليه السلام. وعلى الأول لنوح وهو أظهر، لأنه هو المذكور أولا، وما كان بين نوح وإبراهيم إلا نبيان هود وصالح، وكان بين نوح وإبراهيم ألفان وستمائة وأربعون سنة، حكاه الزمخشري. قوله تعالى: {إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أي مخلص من الشرك والشك.
وقال عوف الأعرابي: سألت محمد بن سيرين ما القلب السليم؟ فقال: الناصح لله عز وجل في خلقه. وذكر الطبري عن غالب القطان وعوف وغيرهما عن محمد بن سيرين أنه كان يقول للحجاج: مسكين أبو محمد! إن عذبه الله فبذنبه، وإن غفر له فهنيئا له، وإن كان قلبه سليما فقد أصاب الذنوب من هو خير منه. قال عوف: فقلت لمحمد ما القلب السليم؟ قال: أن يعلم أن الله حق، وأن الساعة قائمة، وأن الله يبعث من في القبور.
وقال هشام بن عروة: كان أبي يقول لنا: يا بني لا تكونوا لعانين، ألم تروا إلى إبراهيم لم يلعن شيئا قط، فقال تعالى: {إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}. ويحتمل مجيئه إلى ربه وجهين: أحدهما عند دعائه إلى توحيده وطاعته، الثاني عند إلقائه في النار. {إِذْ قالَ لِأَبِيهِ} وهو آزر، وقد مضى الكلام فيه. {وَقَوْمِهِ ماذا تَعْبُدُونَ} تكون {ما} في موضع رفع بالابتداء و{ذا} خبره ويجوز أن تكون {ما} و{ذا} في موضع نصب ب {تعبدون} {أَإِفْكاً} نصب على المفعولية بمعنى أتريدون إفكا. قال المبرد: والإفك أسوأ الكذب، وهو الذي لا يثبت ويضطرب، ومنه ائتفكت بهم الأرض. {آلِهَةً} بدل من إفك {دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ} أي تعبدون. ويجوز أن يكون حالا بمعنى أتريدون آلهة من دون الله آفكين. {فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ} أي ما ظنكم به إذا لقيتموه وقد عبدتم غيره؟ فهو تحذير، مثل قوله: {ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ} [الانفطار: 6].
وقيل: أي شيء أوهمتموه حتى أشركتم به غيره. قوله تعالى: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ} قال ابن زيد عن أبيه: أرسل إليه ملكهم إن غدا عيدنا فاخرج معنا، فنظر إلى نجم طالع فقال: إن هذا يطلع مع سقمي. وكان علم النجوم مستعملا عندهم منظورا فيه، فأوهمهم هو من تلك الجهة، وأراهم من معتقدهم عذرا لنفسه، وذلك أنهم كانوا أهل رعاية وفلاحه، وهاتان المعيشتان يحتاج فيهما إلى نظر في النجوم.
وقال ابن عباس: كان علم النجوم من النبوة ة، فلما حبس الله تعالى الشمس على يوشع بن نون أبطل ذلك، فكان نظر إبراهيم فيها علما نبويا.
وحكى جويبر عن الضحاك. كان علم النجوم باقيا إلى زمن عيسى عليه السلام، حتى دخلوا عليه في موضع لا يطلع عليه منه، فقالت لهم مريم: من أين علمتم بموضعه؟ قالوا: من النجوم. فدعا ربه عند ذلك فقال: اللهم لا تفهمهم في علمها، فلا يعلم علم النجوم أحد، فصار حكمها في الشرع محظورا، وعلمها في الناس مجهولا. قال الكلبي: وكانوا في قرية بين البصرة والكوفة يقال لهم هرمزجرد، وكانوا ينظرون في النجوم. فهذا قول.
وقال الحسن: المعنى أنهم لما كلفوه الخروج معهم تفكر فيما يعمل. فالمعنى على هذا أنه نظر فيما نجم له من الرأي، أي فيما طلع له منه، فعلم أن كل حي يسقم فقال. {إِنِّي سَقِيمٌ}. الخليل والمبرد: يقال للرجل إذا فكر في الشيء يدبره: نظر في النجوم.
وقيل: كانت الساعة التي دعوه إلى الخروج معهم فيها ساعة تغشاه فيها الحمى.
وقيل: المعنى فنظر فيما نجم من الأشياء فعلم أن لها خالقا.
ومدبرا، وأنه يتغير كتغيرها. فقال: {إِنِّي سَقِيمٌ}. قال الضحاك: معنى {سقيم} سأسقم سقم الموت، لأن من كتب عليه الموت يسقم في الغالب ثم يموت، وهذا تورية وتعريض، كما قال للملك لما سأل عن سارة هي أختي، يعني أخوة الدين.
وقال ابن عباس وابن جبير والضحاك أيضا أشار لهم إلى مرض وسقم يعدي كالطاعون، وكانوا يهربون من الطاعون، فلذلك {فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ} أي فارين منه خوفا من العدوى.
وروى الترمذي الحكيم قال: حدثنا أبي قال حدثنا عمرو بن حماد عن أسباط عن السدي عن أبي مالك وأبي صالح عن ابن عباس، وعن سمرة عن الهمداني عن ابن مسعود قال: قالوا لإبراهيم: إن لنا عيدا لو خرجت معنا لأعجبك ديننا. فلما كان يوم العيد خرجوا إليه وخرج معهم، فلما كان ببعض الطريق ألقى بنفسه، وقال إني سقيم أشتكي رجلي، فوطئوا رجله وهو صريع، فلما مضوا نادى في آخرهم {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ} [الأنبياء: 57]. قال أبو عبد الله وهذا ليس بمعارض لما قال ابن عباس وابن جبير، لأنه يحتمل أن يكون قد اجتمع له أمران. قلت: وفى الصحيح عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لم يكذب إبراهيم النبي عليه السلام إلا ثلاث كذبات» الحديث. وقد مضى في سورة الأنبياء وهو يدل على أنه لم يكن سقيما وإنما عرض لهم. وقد قال جل وعز: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ} [الزمر: 30]. فالمعنى إني سقيم فيما أستقبل فتوهموا هم أنه سقيم الساعة. وهذا من معاريض الكلام على ما ذكرنا، ومنه المثل السائر: كفى بالسلامة داء وقول لبيد:
فدعوت ربي بالسلامة جاهدا ** وليصحني فإذا السلامة داء

وقد مات رجل فجأة فالتف عليه الناس فقالوا: مات وهو صحيح! فقال أعرابي: أصحيح من الموت في عنقه! فإبراهيم صادق، لكن لما كان الأنبياء لقرب محلهم واصطفائهم عد هذا ذنبا، ولهذا قال: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ} [الشعراء: 82] وقد مضى هذا كله مبينا والحمد لله.
وقيل: أراد سقيم النفس لكفرهم. والنجوم يكون جمع نجم ويكون واحدا مصدرا.

.تفسير الآيات (91- 96):

{فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَلا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92) فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ (96)}
قوله تعالى: {فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ} قال السدى: ذهب إليهم وقال أبو مالك: ذهب إليهم.
وقال أبو مالك: جاء إليهم عليهم.
وقيل: عدل. والمعنى متقارب. فراغ يروغ روغا وروغانا إذا مال. وطريق رائغ أي مائل.
وقال الشاعر:
ويريك من طرف اللسان حلاوة ** وويروغ عنك كما يروغ الثعلب

فقال: {أَلا تَأْكُلُونَ} فخاطبها كما يخاطب من يعقل، لأنهم أنزلوها بتلك المنزلة. وكذا {ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ} قيل: كان بين يدي الأصنام طعام تركوه ليأكلوه إذا رجعوا من العيد، وإنما تركوه لتصيبه بركة أصنامهم بزعمهم.
وقيل: تركوه للسدنة.
وقيل: قرب هو إليها طعاما على جهة الاستهزاء، فقال: {أَلا تَأْكُلُونَ ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ}. {فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} خص الضرب باليمين لأنها أقوى والضرب بها أشد، قال الضحاك والربيع بن أنس.
وقيل: المراد باليمين اليمين التي حلفها حين قال: {وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ} [الأنبياء: 57].
وقال الفراء وثعلب: ضربا بالقوة واليمين القوة.
وقيل: بالعدل واليمين ها هنا العدل. ومنه قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} [الحاقة: 45- 44] أي بالعدل، فالعدل لليمين والجور للشمال. ألا ترى أن العدو عن الشمال والمعاصي عن الشمال والطاعة عن اليمين، ولذلك قال: {إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ} [الصافات: 28] أي من قبل الطاعة. فاليمين هو موضع العدل من المسلم، والشمال موضع الجور. ألا ترى أنه بايع الله بيمينه يوم الميثاق، فالبيعة باليمين، فلذلك يعطى كتابه غدا بيمينه، لأنه وفى بالبيعة، ويعطى الناكث للبيعة الهارب برقبته من الله بشماله، لأن الجور هناك. فقوله: {فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ} أي بذلك العدل الذي كان بايع الله عليه يوم الميثاق ثم وفى له هاهنا. فجعل تلك الأوثان جذاذا، أي فتاتا كالجذيذة وهي السويق وليس من قبيل القوة، قاله الترمذي الحكيم {فاقبلوا إليه يزفون} قرأ حمزة {يزفون} بضم الياء. الباقون بفتحها. أي يسرعون، قاله ابن زيد. قتادة والسدي: يمشون.
وقيل: المعنى يمشون بجمعهم على مهل آمنين أن يصيب أحد آلهتهم بسوء.
وقيل: المعنى يتسللون تسللا بين المشي والعدو، ومنه زفيف النعامة.
وقال الضحاك: يسعون وحكى يحيى بن سلام: يرعدون غضبا.
وقيل: يختالون وهو مشي الخيلاء، قاله مجاهد. ومنه أ، خذ زفاف العروس إلى زوجها.
وقال الفرزدق:
وجاء قريع الشول قبل إفالها ** ويزف وجاءت خلفه وهي زفف

ومن قرأ {يزفون} فمعناه يزفون غيرهم أي يحملونهم على التزفيف. وعلى هذا فالمفعول محذوف. قال الأصمعي: أزففت الإبل أي حملتها على أن تزف.
وقيل: هما لغتان يقال: زف القوم وأزفوا، وزففت العروس وأزففتها وازدففتها بمعنى، والمزفة: المحفة التي تزف فيها العروس، حكي ذلك عن الخليل. النحاس: {ويزفون} بضم الياء. زعم أبو حاتم أنه لا يعرف هذه اللغة، وقد عرفها جماعة من العلماء منهم الفراء وشبهها بقولهم: أطردت الرجل أي صيرته إلى ذلك. وطردته نحيته، وأنشد هو وغيره:
تمنى حصين أن يسود جذاعة ** وفأمسى حصين قد أذل واقهرا

أي صير إلى ذلك، فكذلك {يَزِفُّونَ} يصيرون إلى الزفيف. قال محمد بن زيد: الزفيف الإسراع.
وقال أبو إسحاق: الزفيف أول عدو النعام.
وقال أبو حاتم: وزعم الكسائي أن قوما قرءوا {فأقبلوا إليه يزفون} خفيفة، من وزف يزف، مثل وزن يزن. قال النحاس: فهذه حكاية أبي حاتم وأبو حاتم لم يسمع من الكسائي شيئا.
وروى الفراء وهو صاحب الكسائي عن الكسائي أنه لا يعرف {يزفون} مخففة. قال الفراء: وأنا لا أعرفها. قال أبو إسحاق: وقد عرفها غيرهما أنه يقال وزف يزف إذا أسرع. قال النحاس: ولا نعلم أحدا قرأ {يزفون}. قلت: هي قراءة عبد الله بن يزيد فيما ذكر المهدوي. الزمخشري: و{يزفون} على البناء للمفعول. و{يزفون} من زفاه إذا حدأة، كأن بعضهم يزف بعضا لتسارعهم إليه. وذكر الثعلبي عن الحسن ومجاهد وابن السميقع {يرفون} بالراء من رفيف النعام، وهو ركض بين المشي والطيران. قوله تعالى: {قالَ أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ} فيه حذف، أي قالوا من فعل هذا بآلهتنا، فقال محتجا: {أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ} أي أتعبدون أصناما أنتم تنحتونها بأيديكم تنجرونها. والنحت النجر والبري نحته ينحته بالكسر نحتا أي براه. والنحاتة البراية والمنحت ما ينحت به. {وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ} {ما} في موضع نصب أي وخلق ما تعملونه من الأصنام، يعني الخشب والحجارة وغيرهما، كقوله: {بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ} [الأنبياء: 56] وقيل: إن {ما} استفهام ومعناه التحقير لعملهم.
وقيل: هي نفي، والمعنى وما تعملون ذلك لكن الله خالقه. والأحسن أن تكون {ما} مع الفعل مصدرا، والتقدير والله خلقكم وعملكم وهذا مذهب أهل السنة: أن الأفعال خلق لله عز وجل واكتساب للعباد.
وفي هذا إبطال مذاهب القدرية والجبرية.
وروى أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «إن الله خالق كل صانع وصنعته» ذكره الثعلبي. وخرجه البيهقي من حديث حذيفة قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن الله عز وجل صنع كل صانع وصنعته فهو الخالق وهو الصانع سبحانه» وقد بيناهما في الكتاب الأسنى في شرح أسماء الله الحسنى.