فصل: تفسير الآيات (97- 98):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (97- 98):

{قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)}
قوله تعالى: {قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً} أي تشاوروا في أمره لما غلبهم بالحجة حسب ما تقدم في {الأنبياء} بيانه ف {قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً} تملئونه حطبا فتضرمونه، ثم ألقوه فيه وهو الجحيم. قال ابن عباس: بنوا حائطا من حجارة طوله في السماء ثلاثون ذراعا، وملأوه نارا وطرحوه فيها.
وقال ابن عمرو بن العاص: فلما صار في البنيان قال: حسبي الله ونعم الوكيل. والألف واللام في {الْجَحِيمِ} تدل على الكناية، أي في جحيمه، أي في جحيم ذلك البنيان. وذكر الطبري: أن قائل ذلك اسمه الهيزن رجل من أعراب فارس وهم الترك، وهو الذي جاء فيه الحديث: «بينما رجل يمشى في حلة له يتبختر فيها فخسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة» والله أعلم. {فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً} أي بإبراهيم. والكيد المكر، أي احتالوا لإهلاكه. {فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ} المقهورين المغلوبين إذ نفذت حجته من حيث لم يمكنهم دفعها، ولم ينفذ فيه مكرهم ولا كيدهم.

.تفسير الآيات (99- 101):

{وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101)}
فبشرناه بغلام حليم فيه مسألتان: الأولى: هذه الآية أصل في الهجرة والعزلة. وأول من فعل ذلك إبراهيم عليه السلام، وذلك حين خلصه الله من النار {قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي} أي مهاجر من بلد قومي ومولدي إلى حيث أتمكن من عبادة ربي فإنه {سَيَهْدِينِ} فيما نويت إلى الصواب. قال مقاتل: هو أول من هاجر من الخلق مع لوط وسارة، إلى الأرض المقدسة وهي أرض الشام.
وقيل: ذاهب بعملي وعبادتي، وقلبي ونيتي. فعلى هذا ذهابه بالعمل لا بالبدن. وقد مضى بيان هذا في الكهف مستوفى. وعلى الأول بالمهاجرة إلى الشام وبئت القدس.
وقيل: خرج إلى حران فأقام بها مدة. ثم قيل: قال ذلك لمن فارقه من قومه، فيكون ذلك توبيخا لهم.
وقيل: قاله لمن هاجر معه من أهله، فيكون ذلك منه ترغيبا.
وقيل: قال هذا قبل إلقائه في النار. وفية على هذا القول تأويلان: أحدهما: إني ذاهب إلى ما قضاه علي ربي.
الثاني: إني ميت، كما يقال لمن مات: قد ذهب إلى الله تعالى، لأنه عليه السلام تصور أنه يموت بإلقائه في النار، على المعهود من حالها في تلف ما يلقى فيها، إلى أن قيل لها: {كُونِي بَرْداً وَسَلاماً} فحينئذ سلم إبراهيم منها.
وفي قوله: {سَيَهْدِينِ} على هذا القول تأويلان: أحدهما {سيهدين} إلى الخلاص منها.
الثاني- إلى الجنة.
وقال سليمان ابن صرد وهو ممن أدرك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لما أرادوا إلقاء إبراهيم في النار جعلوا يجمعون له الحطب، فجعلت المرأة العجوز تحمل على ظهرها وتقول: اذهب به إلى هذا الذي يذكر آلهتنا، فلما ذهب به ليطرح في النار {قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي}. فلما طرح في النار قال: حسبي الله ونعم الوكيل فقال الله تعالى: {يا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً} [الأنبياء: 9 6] فقال أبو لوط وكان ابن عمه: إن النار لم تحرقه من أجل قرابته مني. فأرسل الله عنقا من النار فأحرقه.
الثانية: قوله تعالى: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} لما عرفه الله أنه مخلصة دعا الله ليعضده بولد يأنس به في غربته. وقد مضى في آل عمران القول في هذا. وفى الكلام حذف، أي هب لي ولدا صالحا من الصالحين، وحذف مثل هذا كثير. قال الله تعالى: {فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ} أي أنه يكون حليما في كبره فكأنه بشر ببقاء ذلك الولد، لأن الصغير لا يوصف بذلك، فكانت البشرى على ألسنة الملائكة كما تقدم في هود. ويأتي أيضا في الذاريات.

.تفسير الآيات (102- 113):

{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)}
سبع عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} أي فوهبنا له الغلام، فلما بلغ مع المبلغ الذي يسعى مع أبيه في أمور دنياه معينا له على أعمال {قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ}.
وقال مجاهد: {فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ} أي شب وأدرك سعيه سعي إبر أهيم.
وقال الفراء: كان يومئذ ابن ثلاث عشرة سنة.
وقال ابن عباس: هو احتلام. قتادة: مشى مع أبيه. الحسن ومقاتل: هو سعي العقل الذي تقوم به الحجة. ابن زيد: هو السعي في العبادة. ابن عباس: صام وصلي، ألم تسمع الله عز وجل يقول: {وَسَعى لَها سَعْيَها} [الإسراء: 19]. اختلف العلماء في المأمور بذبحه. فقال أكثرهم: الذبيح إسحاق. وممن قال بذلك العباس بن عبد المطلب وابنه عبد الله وهو الصحيح عنه. روى الثوري وابن جريج يرفعانه إلى ابن عباس قال: الذبيح إسحاق. وهو الصحيح عن عبد الله بن مسعود أن رجلا قال له: يا بن الأشياخ الكرام. فقال عبد الله: ذلك يوسف بن يعقوب بن إسحاق ذبيح الله بنإبراهيم خليل الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقد روى حماد بن زيد يرفعه إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «إن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم صلى الله عليهم وسلم».
وروى أبو الزبير عن جابر قال: الذبيح إسحاق. وذلك مر وي أيضا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وعن عبد الله بن عمر: أن الذبيح إسحاق. وهو قول عمر رضي الله عنه. فهؤلاء سبعة من الصحابة.
وقال به من التابعين وغيرهم علقمة والشعبي ومجاهد وسعيد بن جبير وكعب الأحبار وقتادة ومسروق وعكرمة والقاسم بن أبي بزة وعطاء ومقاتل وعبد الرحمن بن سابط والزهري والسدي وعبد الله بن أبي الهذيل ومالك بن أنس، كلهم قالوا: الذبيح إسحاق. وعليه أهل الكتابين اليهود والنصارى، واختاره غير واحد منهم النحاس والطبري وغيرهما. قال سعيد بن جبير: أري إبراهيم ذبح إسحاق في المنام، فسار به مسيرة شهر في غداة واحدة، حتى أتى به المنحر من منى، فلما صرف الله عنه الذبح وأمره أن يذبح الكبش فذبحه، وسار به مسيرة شهر في روحة واحدة طويت له الأودية والجبال. وهذا القول أقوى في النقل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن الصحابة والتابعين.
وقال آخرون: هو إسماعيل. وممن قال ذلك أبو هريرة وأبو الطفيل عامر بن واثلة. وروي ذلك عن ابن عمر وابن عباس أيضا، ومن التابعين سعيد بن المسيب والشعبي ويوسف بن مهران ومجاهد والربيع بن أنس ومحمد بن كعب القرظي والكلبي وعلقمة. وسيل أبو سعيد الضرير عن الذبيح فأنشد:
إن الذبيح هديت إسماعيل ** ونطق الكتابء بذاك والتنزيل

شرف به خص الإله نبينا ** ووأتى به التفسير والتأويل

إن كنت أمته فلا تنكر له ** وشرفا به قد خصه التفضيل

وعن الأصمعي قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح، فقال: يا أصمعي أين عزب عنك عقلك! ومتى كان إسحاق بمكة؟ وإنما كان إسماعيل بمكة، وهو الذي بنى البيت مع أبيه والمنحر بمكة. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أن الذبيح إسماعيل» 0 والأول أكثر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعن أصحابه وعن التابعين. واحتجوا بأن الله عز وجل قد أخبر عن إبراهيم حين فارق قومه، فهاجر إلى الشام مع امرأته سارة وابن أخيه لوط فقال: {إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ} أنه دعا فقال: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ} فقال تعالى: {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ} [مريم: 49]، ولأن الله قال: {وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} فذكر أن الفداء في الغلام الحليم الذي بشره به إبراهيم وإنما بشر بإسحاق، لأنه قال: {وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ}، وقال هنا: {بِغُلامٍ حَلِيمٍ} وذلك قبل أن يتزوج هاجر وقبل أن يولد له إسماعيل، وليس في القرآن أنه بشر بولد إلا إسحاق. احتج من قال إنه إسماعيل: بأن الله تعالى وصفه بالصبر دون إسحاق في قول تعالى: {وَإِسْماعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الأنبياء: 85] وهو صبره على الذبح، ووصفه بصدق الوعد في قوله: {إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ} [مريم: 54]، لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به، ولأن الله تعالى قال: {وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا} فكيف يأمره بذبحه وقد وعده أن يكون نبيا، وأيضا فإن الله تعالى قال: {فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَمِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ} [هود: 71] فكيف يؤمر بذبح إسحاق قبل إنجاز الوعد في يعقوب. وأيضا ورد في الأخبار تعليق قرن الكبش في الكعبة، فدل على أن الذبيح إسماعيل، ولو كان إسحاق لكان الذبح يقع ببيت المقدس. وهذا الاستدلال كله ليس بقاطع، أما قولهم: كيف يأمره بذبحه وقد وعده بأنه يكون نبيا، فإنه يحتمل أن يكون المعنى: وبشرناه بنبوته بعد أن كان من أمره ما كان، قال ابن عباس وسيأتي. ولعله أمر بذبح إسحاق بعد أن ولد لإسحاق يعقوب. قال: لم يرد في القرآن أن يعقوب يولد من إسحاق. وأما قولهم: ولو كان الذبيح إسحاق لكان الذبح يقع ببيت المقدس، فالجواب عنه ما قاله سعيد بن جبير على ما تقدم.
وقال الزجاج: الله أعلم أيهما الذبيح. وهذا مذهب ثالث.
الثانية: قوله تعالى: {قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى} قال مقاتل: رأى ذلك إبراهيم عليه السلام ثلاث ليال متتابعات.
وقال محمد بن كعب:
كانت الرسل يأتيهم الوحي من الله تعالى أيقاظا ورقودا، فإن الأنبياء لا تنام قلوبهم. وهذا ثابت في الخبر المرفوع، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إنا معاشر الأنبياء تنام أعيننا ولا تنام قلوبنا».
وقال ابن عباس: رؤيا الأنبياء وحي، واستدل بهذه الآية.
وقال السدي: لما بشر إبراهيم بإسحاق قبل أن يولد له قال هو إذا لله ذبيح. فقيل له في منامه: قد نذرت نذرا فف بنذرك. ويقال: إن إبراهيم رأى في ليلة التروية كأن قائلا يقول: إن الله يأمرك بذبح ابنك، فلما أصبح روى في نفسه أي فكر أهذا الحلم من الله أم من الشيطان؟ فسمي يوم التروية. فلما كانت الليلة الثانية رأى ذلك أيضا وقيل له الوعد، فلما أصبح عرف أن ذلك من الله فسمي يوم عرفة. ثم رأى مثله في الليلة الثالثة فهم بنحره فسمي يوم النحر. وروي أنه لما ذبحه قال جبريل: الله أكبر الله أكبر. فقال الذبيح: لا إله إلا الله والله أكبر. فقال إبراهيم: الله أكبر والحمد لله، فبقي سنة. وقد اختلف الناس في وقوع هذا الأمر وهى: الثالثة: فقال أهل السنة: إن نفس الذبح لم يقع، وإنما وقع الأمر بالذبح قبل أن يقع الذبح، ولو وقع لم يتصور رفعه، فكان هذا من باب النسخ قبل الفعل، لأنه لو حصل الفراغ من امتثال الأمر بالذبح ما تحقق الفداء. وقوله تعالى: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا}: أي حققت ما نبهناك عليه، وفعلت ما أمكنك ثم امتنعت لما منعناك. هذا أصح ما قيل به في هذا الباب. وقالت طائفة: ليس هذا مما ينسخ بوجه، لأن معنى ذبحت الشيء قطعته. واستدل على هذا بقول مجاهد: قال إسحاق لإبراهيم لا تنظر آلي فترحمني، ولكن اجعل وجهي إلى الأرض، فأخذ إبراهيم السكين فأمرها على حلقة فانقلبت. فقال له ما لك؟ قال: انقلبت السكين. قال أطعني بها طعنا.
وقال بعضهم: كان كلما قطع جزءا التأم. وقالت طائفة: وجد حلقه نحاسا أو مغشي بنحاس، وكان كلما أراد قطعا وجد منعا. وهذا كله جائز في القدرة الإلهية. لكنه يفتقر إلى نقل صحيح، فإنه أمر لا يدرك بالنظر وإنما طريقه الخبر. ولو كان قد جرى ذلك لبينه الله تعالى تعظيما لرتبة إسماعيل وإبراهيم صلوات الله عليهما، وكان أولى بالبيان من الفداء.
وقال بعضهم: إن إبراهيم ما أمر بالذبح الحقيقي الذي هو فري الأوداج وانهار الدم، وإنما رأى أنه أضجعه للذبح فتوهم أنه أمر بالذبح الحقيقي، فلما أتى بما أمر به من الإضجاع قيل له: {قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} وهذا كله خارج عن المفهوم. ولا يظن بالخليل والذبيح أن يفهما من هذا الأمر ما ليس له حقيقة حتى يكون منهما التوهم. وأيضا لو صحت هذه الأشياء لما احتيج إلى الفداء.
الرابعة: قوله تعالى: {فَانْظُرْ ماذا تَرى} قرأ أهل الكوفة غير عاصم {ماذا ترى} بضم التاء وكسر الراء من أرى يرى. قال الفراء: أي فانظر ماذا ترى من صبرك وجزعك. قال الزجاج: لم يقل هذا أحد غيره، وإنما قال العلماء ماذا تشير، أي ما تريك نفسك من الرأي. وأنكر أبو عبيد {ترى} وقال: إنما يكون هذا من رؤية العين خاصة. وكذلك قال أبو حاتم. النحاس: وهذا غلط، وهذا يكون من رؤية العين وغيرها وهو مشهور، يقال: أريت فلانا الصواب، واريته رشده، وهذا ليس من رؤية العين. الباقون {ترى} مضارع رأيت. وقد روي عن الضحاك والأعمش {ترى} غير مسمى الفاعل. ولم يقل له ذلك على وجه المؤامرة في أمر الله، وإنما شاوره ليعلم صبره لأمر الله، أو لتقر عينه إذا رأى من ابنه طاعة في أمر الله. ف {قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ} أي ما تؤمر به فحذف الجار كما حذف من قوله:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فوصل الفعل إلى الضمير فصار تؤمره ثم حذفت الهاء، كقوله: {وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى} [النمل: 59] أي اصطفاهم على ما تقدم. و{ما} بمعنى الذي. {سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} قال بعض أهل الإشارة: لما استثنى وفقه الله للصبر. وقد مضى الكلام في {يا أَبَتِ} [يوسف: 4] وكذلك في {يا بُنَيَّ} [يوسف: 5] في {يوسف} وغيرها.
الخامسة: قوله تعالى: {فَلَمَّا أَسْلَما} أي انقادا لأمر الله. وقرأ ابن مسعود وابن عباس وعلي رضوان الله عليهم {فلما سلما} أي فوضا أمرهما إلى الله.
وقال ابن عباس: استسلما.
وقال قتادة: أسلم أحدهما نفسه لله عز وجل وأسلم الآخر ابنه. {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} قال قتادة: كبه وحول وجهه إلى القبلة. وجواب {لما} محذوف عند البصريين تقديره {فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} فديناه بكبش.
وقال الكوفيون: الجواب {ناديناه} والواو زائدة مقحمة، كقوله: {فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنا} [يوسف: 15] أي أوحينا. وقوله: {وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ} [الأنبياء: 96]. {وَاقْتَرَبَ} أي اقترب. وقوله: {حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها وقال} [الزمر: 73] أي قال لهم.
وقال امرؤ القيس:
فلما أجز نا ساحة الحي وانتحى

أي انتحى، والواو زائدة.
وقال أيضا:
حتى إذا حملت بطونكم ** وورأيتم أبناءكم شبوا

وقلبتم ظهر المجن لنا ** وإن اللئيم الفاجر الخب

أراد قلبتم. النحاس: والواو من حروف المعاني لا يجوز أن تزاد.
وفي الخبر: إن الذبيح قال لإبراهيم عليه السلام حين أراد ذبحه: يا أبت أشدد رباطي حتى لا أضطرب، واكفف ثيابك لئلا ينتضح عليها شيء من دمي فتراه أمي فتحزن، وأسرع مر السكين على حلقى ليكون الموت أهون علي وأقذفني للوجه، لئلا تنظر إلى وجهي فترحمني، ولئلا أنظر إلى الشفرة فأجزع، وإذا أتيت إلى أمي فأقرئها مني السلام. فلما جر إبراهيم عليه السلام السكين ضرب الله عليه صفيحة من نحاس، فلم تعمل السكين شيئا، ثم ضرب به على جبينه وحز في قفاه فلم تعمل السكين شيئا، فذلك قو له تعالى: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} كذلك قال ابن عباس: معناه كبه على وجهه فنودي {يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا} فالتفت فإذا بكبش، ذكره المهدوي. وقد تقدمت الإشارة إلى عدم صحته، وأن المعنى لما اعتقد الوجوب وتهيأ للعمل، هذا بهيئة لا لذبح، وهذا بصورة المذبوح، أعطيا محلا للذبح فداء ولم يكن هناك مر سكين. وعلى هذا يتصور النسخ قبل الفعل على ما تقدم. والله أعلم. قال الجوهري: {وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ} أي صرعه، كما تقول: كبه لوجهه. الهروي: والتل الدفع والصرع، ومنه حديث أبي الدرداء رضي الله عنه: {وتركوك لمتلك} أي لمصرعك.
وفي حديث آخر: {فجاء بناقة كوماء فتلها} أي أناخها.
وفي الحديث: «بينا أنا نائم أتيت بمفاتيح خزائن الأرض فتلت في يدي» قال ابن الأنباري: أي فألقيت في يدي، يقال: تللت الرجل إذا ألقيته. قال ابن الأعرابي: فصبت في يدي، والتل الصب، يقال: تل يتل إذا صب، وتل يتل بالكسر إذا سقط. قلت: وفي صحيح مسلم عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أتي بشراب فشرب منه، وعن يمينه غلام وعن يساره أشياخ، فقال للغلام: «أتأذن لي أن أعطي هؤلاء» فقال الغلام: لا والله، لا أوثر بنصيبي منك أحدا. قال، فتله رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في يده، يريد جعله في يده.
وقال بعض أهل الإشارة: إن إبراهيم ادعى محبة الله، ثم نظر إلى الولد بالمحبة، فلم يرض حبيبه محبة مشتركة، فقيل له: يا إبراهيم اذبح ولدك في مرضاتي، فشمر واخذ السكين وأضجع ولده، ثم قال: اللهم تقبله مني في مرضاتك. فأوحى الله إليه: يا إبراهيم لم يكن المراد ذبح الولد، وإنما المراد أن ترد قلبك إلينا، فلما رددت قلبك بكليته إلينا رددنا ولدك إليك.
وقال كعب وغيره: لما أرى إبراهيم ذبح ولده في منامه، قال الشيطان: والله لئن لم أفتن عند هذا آل إبراهيم لا أفتن منهم أحدا أبدا. فتمثل الشيطان لهم في صورة الرجل، ثم أتى أم الغلام وقال: أتدرين أين يذهب إبراهيم بابنك؟ قالت: لا. قال: إنه يذهب به ليذبحه. قالت: كلا هو أرأف به من ذلك. فقال: إنه يزعم أن ربه أمره بذلك. قالت: فإن كان ربه قد أمره بذلك فقد أحسن أن يطيع ر به. ثم أتى الغلام فقال: أتدري أين يذهب بك أبوك؟ قال: لا. قال: فإنه يذهب بك ليذبحك. قال: ولم؟ قال: زعم أن ربه أمره بذلك. قال: فليفعل ما أمره الله به، سمعا وطاعة لأمر الله. ثم جاء إبراهيم فقال: أين تريد؟ والله إني لأظن أن الشيطان قد جاءك في منامك فأمرك بذبح ابنك. فعرفه إبراهيم فقال: إليك عني يا عدو الله، فوالله لأمضين لأمر ربي. فلم يصب، الملعون منهم شيئا.
وقال ابن عباس: لما أمر إبراهيم بذبح ابنه عرض له الشيطان عند جمرة العقبة فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب، ثم عرض له عند الجمرة الأخرى فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ثم مضى إبراهيم لأمر الله تعالى. واختلف في الموضع الذي أراد ذبحه فيه فقيل: بمكة في المقام.
وقيل: في المنحر بمنى عند الجمار التي رمى بها إبليس لعنه الله، قاله ابن عباس وابن عمر ومحمد بن كعب وسعيد بن المسيب. وحكي عن سعيد بن جبير: أنه ذبحه على الصخرة التي بأصل ثبير بمنى.
وقال ابن جريج: ذبحه بالشام وهو من بيت المقدس على ميلين. والأول أكثر، فإنه ورد في الأخبار تعليق قرن الكبش في الكعبة، فدل على أنه ذبحه بمكة.
وقال ابن عباس: فوالذي نفسي بيده لقد كان أول الإسلام، وإن رأس الكبش لمعلق بقرنيه من ميزاب الكعبة وقد يبس. أجاب من قال بأن الذبح وقع بالشام: لعل الرأس حمل من الشام إلى مكة. والله أعلم.
السادسة: قوله تعالى: {إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} أي نجزيهم بالخلاص من الشدائد في الدنيا والآخرة. {إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} أي النعمة الظاهرة، يقال: أبلاه الله إبلاء وبلاء إذا أنعم عليه. وقد يقال بلاه. قال زهير:
فأبلاهما خير البلاء الذي يبلو

فزعم قوم أنه جاء باللغتين. وقا ل آخرون: بل الثاني من بلاه يبلوه إذا اختبره، ولا يقال من الاختبار إلا بلاه يبلوه، ولا يقال من الابتلاء يبلوه. واصل هذا كله من الاختبار أن يكون بالخير والشر، قال الله عز وجل: {وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} [الأنبياء: 35].
وقال أبو زيد: هذا من البلاء الذي نزل به في أن يذبح ابنه، قال: وهذا من البلاء المكروه.
السابعة: قوله تعالى: {وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} الذبح اسم المذبوح وجمعه ذبوح، كالطحن اسم المطحون. والذبح بالفتح المصدر. {عَظِيمٍ} أي عظيم القدر ولم يرد عظيم الجثة. وإنما عظم قدره لأنه فدى به الذبيح، أو لأنه متقبل. قال النحاس: عظيم في اللغة يكون للكبير وللشريف. واهل التفسير على أنه هاهنا للشريف، أو المتقبل.
وقال ابن عباس: هو الكبش الذي تقرب به هابيل، وكان في الجنة يرعى حتى فدى الله به إسماعيل. وعنه أيضا: أنه كبش أرسله الله من الجنة كان قد رعى في الجنة أربعين خريفا.
وقال الحسن: ما فدي إسماعيل إلا بتيس من الأروى هبط عليه من ثبير، فذبحه إبراهيم فداء عن ابنه، وهذا قول علي رضي الله عنه. فلما رآه إبراهيم أخذه فذبحه وأعتق ابنه. وقال: يا بني اليوم وهبت لي.
وقال أبو إسحاق الزجاج: قد قيل أنه فدي بوعل، والوعل: التيس الجبلي. واهل التفسير على أنه فدي بكبش.
الثامنة: في هذه الآية دليل على أن الأضحية بالغنم أفضل من الإبل والبقر. وهذا مذهب مالك وأصحابه. قالوا: أفضل الضحايا الفحول من الضأن، وإناث الضأن أفضل من فحل المعز، وفحول المعز خير من إناثها، وإناث المعز خير من الإبل والبقر. وحجتهم قوله سبحانه وتعالى: {وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} أي ضخم الجثة سمين، وذلك كبش لا جمل ولا بقرة.
وروى مجاهد وغيره عن ابن عباس أنه سأل رجل: إني نذرت أن أنحر ابني؟ فقال: يجزيك كبش سمين، ثم قرأ: {وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}.
وقال بعضهم: لو علم الله حيوانا أفضل من الكبش لفدى به إسحاق. وضحى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكبشين أملحين. وأكثر ما ضحي به الكباش.
وذكر ابن أبي شيبة عن ابن علية عن الليث عن مجاهد قال: الذبح العظيم الشاة.
التاسعة: واختلفوا أيما أفضل: الأضحية أو الصدقة بثمنها. فقال مالك وأصحابه: الضحية أفضل إلا بمنى، لأنه ليس موضع الأضحية، حكاه أبو عمر.
وقال ابن المنذر: روينا عن بلال أنه قال: ما أبالي ألا أضحي إلا بدئك ولأن أضعه في يتيم قد ترب فيه- هكذا قال المحدث- أحب إلي من أن أضحي به. وهذا قول الشعبي إن الصدقة أفضل. وبه قال مالك وأبو ثور. وفية قول ثان: إن الضحية أفضل، هذا قول ربيعة وأبي الزناد. وبه قال أصحاب الرأي. زاد أبو عمر وأحمد بن حنبل قالوا: الضحية أفضل من الصدقة، لأن الضحية سنة مؤكدة كصلاة العيد. ومعلوم أن صلاة العيد أفضل من سائر النوافل. وكذلك صلوات السنن أفضل من التطوع كله. فال أبو عمر: وقد روي في فضل الضحايا آثار حسان، فمنها ما رواه سعيد بن داود بن أبي زنبر عن مالك عن ثور بن زيد عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ما من نفقة بعد صلة الرحم أفضل عند الله من إهراق الدم» قال أبو عمر: وهو حديث غريب من حديث مالك. وعن عائشة قالت: يا أيها الناس ضحوا وطيبوا أنفسا، فإني سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «ما من عبد توجه بأضحيته إلى القبلة إلا كان دمها وقرنها وصوفها حسنات محضرات في ميزانه يوم القيامة فإن الدم إن وقع في التراب فإنما يقع في حرز الله حتى يوفيه صاحبه يوم القيامة» ذكره أبو عمر في كتاب التمهيد. وخرج الترمذي أيضا عنها أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «ما عمل آدمي من عمل يوم النحر أحب إلى الله من إهراق الدم إنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأشعارها وأظلافها، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع إلى الأرض فطيبوا بها نفسا» قال: وفى الباب عن عمران بن حصين وزيد بن أرقم. وهذا حديث حسن.
العاشرة: إن الضحية ليست بواجبة ولكنها سنة ومعروف.
وقال عكرمة: كان ابن عباس يبعثني يوم الأضحى بدرهمين اشتري له لحما، ويقول: من لقيت فقل هذه أضحية ابن عباس. قال أبو عمر: ومحمل هذا وما روي عن أبي بكر وعمر أنهما لا يضحيان عند أهل العلم، لئلا يعتقد في المواظبة عليها أنها واجبة فرض، وكانوا أئمة يقتدي بهم من بعدهم ممن ينظر في دينه إليهم، لأنهم الواسطة بين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين أمته، فساغ لهم من الاجتهاد في ذلك ما لا يسوغ اليوم لغيرهم. وقد حكى الطحاوي في مختصره: وقال أبو حنيفة: الأضحية واجبة على المقيمين الواجدين من أهل الأمصار، ولا تجب على المسافر. قال: ويجب على الرجل من الأضحية على ولده الصغير مثل الذي يجب عليه من نفسه. وخالفه أبو يوسف ومحمد فقالا: ليست بواجبة ولكنها سنة غير مرخص لمن وجد السبيل إليها في تركها. قال: وبه نأخذ. قال أبو عمر: وهذا قول مالك، قال: لا ينبغي لأحد تركها مسافرا كان أو مقيما، فإن تركها فبئس ما صنع إلا أن يكون له عذر إلا الحاج بمنى.
وقال الإمام الشافعي: هي سنة على جميع الناس وعلى الحاج بمنى وليست بواجبة. وقد احتج من أوجبها بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمر أبا بردة بن نيار أن يعيد ضحية أخرى، لأن ما لم يكن فرضا لا يؤمر فيه بالإعادة. احتج آخرون بحديث أم سلمة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحى قالوا: فلو كان ذلك واجبا لم يجعل ذلك إلى إرادة المضحي» وهو قول أبي بكر وعمر وأبي مسعود البدري وبلال.
الحادية- والذي يضحى به بإجماع المسلمين الأزواج الثمانية: وهي الضأن والمعز والإبل والبقر. قال ابن المنذر: وقد حكي عن الحسن بن صالح أنه قال: يضحى ببقرة الوحش عن سبعة، وبالظبي عن رجل.
وقال الإمام الشافعي: لو نزا ثور وحشي على بقرة إنسية، أو ثور إنسي على بقرة وحشية لا يجوز شيء من هذا أضحية.
وقال أصحاب الرأي: جائز، لأن ولدها بمنزلة أمه.
وقال أبو ثور: يجوز إذا كا ن منسوبا إلى الأنعام.
الثانية عشرة: وقد مضى في سورة الحج الكلام في وقت الذبح والأكل من الأضحية مستوفى.
وفي صحيح مسلم عن أنس قال: «ضحى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكبشين أملحين أقرنين ذبحهما بيده وسمي وكبر ووضع رجله على صفاحهما» في رواية قال: «ويقول بسم الله والله أكبر» وقد مضى في آخر الأنعام حديث عمران بن حصين، ومضى في المائدة القول في التذكية وبيانها وما يذكى به، وأن ذكاة الجنين ذكاة أمه مستوفى.
وفي صحيح مسلم عن عائشة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أمر بكبش أقرن يطأ في سواد ويبرك في سواد وينظر في سواد فأتي به ليضحي به» فقال لها: «يا عائشة هلمي المدية» ثم قال: «اشحذيها بحجر» ففعلت، ثم أخذها واخذ الكبش فأضجعه ثم ذبحه، ثم قال: «بسم الله اللهم تقبل من محمد وآل محمد ومن أمة محمد» ثم ضحى به. وقد اختلف العلماء في هذا فكان الحسن البصري يقول في الأضحية: بسم الله والله أكبر هذا منك ولك تقبل من فلان.
وقال مالك: إن فعل ذلك فحسن، وإن لم يفعل وسمي الله أجزأه.
وقال الشافعي: والتسمية على الذبيحة بسم الله، فإن زاد بعد ذلك شيئا من ذكر الله، أو صلى على محمد عليه السلام لم أكرهه، أو قال اللهم تقبل مني، أو قال تقبل من فلان فلا بأ س.
وقال النعمان: يكره أن يذكر مع اسم الله غيره، يكره أن يقول: اللهم تقبل من فلان عند الذبح. وقال: لا بأس إذا كان قبل التسمية وقبل أن يضجع للذبح. وحديث عائشة يرد هذا القول. وقد تقدم أن إبراهيم عليه السلام قال لما أراد ذبح ابنه: الله أكبر والحمد لله. فبقي سنة.
الثالثة عشرة: روى البراء بن عازب أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل: ماذا يتقى من الضحايا؟ فأشار بيده وقال: «أربعا- وكان البراء يشير بيده ويقول يدي أقصر من يد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- العرجاء البين ظلعها والعوراء البين عورها والمريضة البين مرضها والعجفاء التي لا تنقي» لفظ مالك ولا خلاف فيه. واختلف في اليسير من ذلك.
وفي الترمذي عن علي رضي الله عنه قال: أمرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن نستشرف العين الإذن وألا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ولا شرقاء ولا خرقاء. قال: والمقابلة ما قطع طرف أذنها، والمدابرة ما قطع من جانب الأذن، والشرقاء المشقوقة، والخرقاء المثقوبة، قال هذا حديث حسن صحيح.
وفي الموطأ عن نافع: أن عبد الله بن عمر كان يتقي من الضحايا والبدن التي لم تسنن والتي نقص من خلقها. قال مالك: وهذا أحب ما سمعت إلي. قال القتبي: لم تسنن أي لم تنبت أسنانها كأنها لم تعط أسنانا. وهذا كما يقال: فلان لم يلبن أي لم يعط لبنا، ولم يسمن أي لم يعط سمنا، ولم يعسل أي لم يعط عسلا. وهذا مثل النهي في الأضاحي عن الهتماء. قال أبو عمر: ولا بأس أن يضحى عند مالك بالشاة الهتماء إذا كان سقوط أسنانها من الكبر والهرم وكانت سمينة، فإن كانت ساقطة الأسنان وهي فتية لم يجز أن يضحى بها، لأنه عيب غير خفيف. والنقصان كله مكروه، وشرحه وتفصيله في كتب الفقه.
وفي الخبر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «استشرقوا ضحاياكم فإنها على الصراط مطاياكم» ذكره الزمخشري.
الرابعة عشر- ودلت الآية على أن من نذر نحر ابنه أو ذ بحة أنه يفديه بكبش كما فدى به إبراهيم ابنه، قال ابن عباس. وعنه رواية أخرى: ينحر مائة من الإبل كما فدى بها عبد المطلب ابنه، روى الروايتين عنه الشعبي.
وروى عنه القاسم بن محمد: يجزيه كفارة يمين.
وقال مسروق: لا شيء عليه.
وقال الشا فعي: هو معصية يستغفر الله منها.
وقال أبو حنيفة: هي كلمة يلزمه بها في ولده ذبح شاة ولا يلزمه في غير ولده شي. قال محمد: عليه في الحلف بنحر عبده مثل الذي عليه في الحلف بنحر ولده إذا حنث.
وذكر ابن عبد الحكم عن مالك فيمن قال: أنا أنحر ولدي عند مقام إبراهيم في يمين ثم حنث فعليه هدي. قال: ومن نذر أن ينحر ابنه ولم يقل عند مقام إبراهيم ولا أراد فلا شيء عليه. قال: ومن جعل ابنه هديا أهدى عنه، قال القاضي ابن العربي: يلزمه شاة كما قال أبو حنيفة، لأن الله تعالى جعل ذبح الولد عبارة عن ذبح الشاة شرعا، فألزم الله إبراهيم ذبح الولد، وأخرجه عنه بذبح شاة. وكذلك إذا نذر العبد ذبح ولده يلزمه أن يذبح شاة، لأن الله تعالى قال:
{مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ} [الحج: 78] والإيمان التزام أصلي، والنذر التزام فرعي، فيجب أن يكون محمولا عليه. فإن قيل: كيف يؤمر إبراهيم بذبح الولد وهو معصية والأمر بالمعصية لا يجوز. قلنا: هذا اعتراض على كتاب الله، ولا يكون ذلك ممن يعتقد الإسلام، فكيف بمن يفتي في الحلال والحرام، وقد قال الله تعالى: {افْعَلْ ما تُؤْمَرُ}
والذي يجلو الإلباس عن قلوب الناس في ذلك: أن المعاصي والطاعات ليست بأوصاف ذاتية للأعيان، وإنما الطاعات عبارة عما تعلق به الأمر من الأفعال، والمعصية عبارة عما تعلق به النهي من الأفعال، فلما تعلق الأمر بذبح الولد إسماعيل من إبراهيم صار طاعة وابتلاء، ولهذا قال الله تعالى: {إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ} في الصبر على ذبح الولد والنفس، ولما تعلق النهي بنا في ذبح أبنائنا صار معصية. فإن قيل: كيف يصير نذرا وهو معصية. قلنا إنما يكون معصية لو كان يقصد ذبح الولد بنذره ولا ينوي الفداء؟ فإن قيل: فلو وقع ذلك وقصد المعصية ولم ينو الفداء؟ قلنا: لو قصد ذلك لم يضره في قصده ولا أثر في نذره، لأن نذر الولد صار عبارة عن ذبح الشاة شرعا.
الخامسة عشرة: قوله تعالى: {وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ} أي على إبراهيم ثناء جميلا في الأمم بعده، فما من أمة إلا تصلي عليه وتحبه.
وقيل: هو دعاء إبراهيم عليه السلام {وَاجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ} [الشعراء. 84].
وقال عكرمة: هو السلام على إبراهيم أي سلاما منا.
وقيل: سلامة له من الآفات مثل: {سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ} [الصافات: 79] حسب ما تقدم. {كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ} أي من الذين أعطوا العبودية حقها حتى استحقوا الإضافة الى الله تعالى.
السادسة عشرة: قوله تعالى: {وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ} قال ابن عباس: بشر بنبوته وذهب إلى أن البشارة كانت مرتين، فعلى هذا الذبيح هو إسحاق بشر بنبوته جزاء على صبره ورضاه بأمر ربه واستسلامه له. {وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ} أي ثنينا عليهما النعمة. وقيل كثرنا ولدهما، أي باركنا على إبراهيم وعلى أولاده، وعلى إسحاق حين أخرج أنبياء بني إسرائيل من صلبه. وقد قيل: إن الكناية في {عَلَيْهِ} تعود على إسماعيل وأنه هو الذبيح. قال المفضل: الصحيح الذي يدل عليه القرآن أنه إسماعيل وذلك أنه قص قصة الذبيح، فلما قال في آخر القصة: {وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ} ثم قال: {سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} قال: {وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ وَبارَكْنا عَلَيْهِ} أي على إسماعيل {وعلى إسحاق} كنى عنه، لأنه قد تقدم ذكره. ثم قال: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما} فدل على أنها ذرية إسماعيل وإسحاق، وليس تختلف الرواة في أن إسماعيل كان أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة. قلت: قد ذكرنا أولا ما يدل على أن إسحاق أكبر من إسماعيل، وأن المبشر به هو إسحاق بنص التنزيل، فإذا كانت البشارة بإسحاق نصا فالذبيح لا شك هو إسحاق، وبشر به إبراهيم مرتين، الأولى بولادته والثانية بنبوته، كما قال ابن عباس. ولا تكون النبوة إلا في حال الكبر و{نَبِيًّا} نصب على الحال والهاء في {عَلَيْهِ} عائدة إلى إبراهيم وليس لإسماعيل في الآية ذكر حتى ترجع الكناية إليه. وأما ما روي من طريق معاوية قال: سمعت رجلا يقول للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يا بن الذبيحين، فضحك النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثم قال معاوية: إن عبد المطلب لما حفر بئر زمزم، نذر لله إن سهل عليه أمرها ليذبحن أحد ولده لله، فسهل الله عليه أمرها، فوقع السهم على عبد الله، فمنعه أخواله بنو مخزوم، وقالوا: أفد ابنك، ففداه بمائة من الإبل وهو الذبيح، وإسماعيل هو الذبيح الثاني فلا حجة فيه، لأن سنده لا يثبت على ما ذكرناه في كتاب الأعلام في معرفة مولد المصطفى عليه الصلاة والسلام، ولأن العرب تجعل العم أبا، قال الله تعالى: {قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ} [البقرة: 133] وقال تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ} [يوسف: 100] وهما أبوه وخالته. وكذلك ما روي عن الشاعر الفرزدق عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لو صح إسناده فكيف وفي الفرزدق نفسه مقال.
السابعة عشرة: قوله تعالى: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ} لما ذكر البركة في الذرية والكثرة قال: منهم محسن ومنهم مسي، وإن المسيء لا تنفعه بنوة النبوة، فاليهود والنصارى وإن كانوا من ولد إسحاق، والعرب وإن كانوا من ولد إسماعيل، فلا بد من الفرق بين المحسن والمسيء والمؤمن والكافر، وفي التنزيل: {وَقالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18] الآية، أي أبناء رسل الله فرأوا لأنفسهم فضلا. وقد تقدم.