فصل: تفسير الآيات (15- 16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (15- 16):

{وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15) وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16)}
قوله تعالى: {وَما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً} {ينظر} بمعنى ينتظر، ومنه قوله تعالى: {انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13]. {هؤُلاءِ} يعني كفار مكة. {إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً}
أي نفخة القيامة. أي ما ينتظرون بعد ما أصيبوا ببدر إلا صيحة القيامة.
وقيل: ما ينتظر أحياؤهم الآن إلا الصيحة التي هي النفخة في الصور، كما قال تعالى: {ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً} [يس: 50- 49] وهذا إخبار عن قرب القيامة والموت.
وقيل: أي ما ينتظر كفار آخر هذه الأمة المتدينين بدين أولئك إلا صيحة واحدة وهي النفخة.
وقال عبد الله بن عمرو: لم تكن صيحة في السماء إلا بغضب من الله عز وجل على أهل الأرض. {ما لَها مِنْ فَواقٍ} أي من ترداد، عن ابن عباس. مجاهد: ما لها رجوع. قتادة: ما لها من مثنوية. السدي: مالها من إفاقة. وقرأ حمزة والكسائي {ما لها من فواق} بضم الفاء. الباقون بالفتح. الجوهري: والفواق والفواق ما بين الحلبتين من الوقت، لأنها تحلب ثم تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدر ثم تحلب. يقال: ما أقام عنده إلا فواقا، وفي الحديث: «العيادة قدر فواق الناقة». وقول تعالى: {ما لَها مِنْ فَواقٍ} يقرأ بالفتح والضم أي ما لها من نظرة وراحة وإفاقة. والفيقة بالكسر اسم اللبن الذي يجتمع بين الحلبتين: صارت الواو ياء لكسر ما قبلها، قال الأعشى يصف بقرة:
حتى إذا فيقة في ضرعها اجتمعت ** وجاءت لترضع شق النفس لو رضعا

والجمع فيق ثم أفواق مثل شبر وأشبار ثم أفاويق. قال ابن همام السلولي:
وذموا لنا الدنيا وهم يرضعونها ** وأفاويق حتى ما يدر لها ثعل

والأفاويق أيضا ما اجتمع في السحاب من ماء، فهو يمطر ساعة بعد ساعة. وأفاقت الناقة إفاقة أي اجتمعت الفيقة في ضرعها، فهي مفيق ومفيقة- عن أبي عمرووالجمع مفاويق.
وقال الفراء وأبو عبيدة وغيرهما: {مِنْ فَواقٍ} بفتح الفاء أي راحة لا يفيقون فيها، كما يفيق المريض والمغشي عليه. و{من فواق} بضم الفاء من انتظار. وقد تقدم أنهما بمعنى وهو ما بين الحلبتين.
قلت: والمعنى المراد أنها ممتدة لا تقطيع فيها.
وروى أبو هريرة قال: حدثنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ونحن في طائفة من أصحابه، الحديث. وفيه، «يأمر الله عز وجل إسرافيل بالنفخة الأولى فيقول أنفخ نفخة الفزع أهل السموات واهل الأرض إلا من شاء الله ويأمره فيمدها ويديمها ويطولها يقول الله عز وجل: {ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ} وذكر الحديث»، خرجه علي بن معبد وغيره كما ذكرناه في كتاب التذكرة. قوله تعالى: {وَقالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ} قال مجاهد: عذابنا. وكذا قال قتادة: نصيبنا من العذاب. الحسن: نصيبنا من الجنة لنتنعم به في الدنيا. وقاله سعيد بن جبير. ومعروف في اللغة أن يقال للنصيب قط وللكتاب المكتوب بالجائزة قط. قال الفراء: القط في كلام العرب الحظ والنصيب. ومنه قيل للصك قط.
وقال أبو عبيدة والكسائي: القط الكتاب بالجوائز والجمع القطوط، قال الأعشى:
ولا الملك النعمان يوم لقيته ** وبغبطته يعطي القطوط ويأفق

يعني كتب الجوائز. ويروى: بأمته بدل بغبطته، أي بنعمته وحال الجليلة، ويأفق يصلح. ويقال: في جمع قط أيضا قططة وفي القليل أقط وأقطاط. ذكره النحاس.
وقال السدي: سألوا أن يمثل لهم منازلهم من الجنة ليعلموا حقيقة ما يوعدون به.
وقال إسماعيل بن أبي خالد: المعنى عجل لنا أرزاقنا.
وقيل: معناه عجل لنا ما يكفينا، من قولهم: قطني، أي يكفيني.
وقيل: إنهم قالوا ذلك استعجالا لكتبهم التي يعطونها بأيمانهم ومائلهم حين تلى عليهم بذلك القرآن. وهو قول تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ} [الحاقة: 19]. {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ} [الانشقاق: 10]. واصل القط القط وهو القطع، ومنه قط القلم، فالقط اسم للقطعة من الشيء كالقسم والقس فأطلق على النصيب والكتاب والرزق لقطعه عن غيره، إلا أنه في الكتاب أكثر استعمالا وأقوى حقيقة. قال أمية بن أبي الصلت:
قوم لهم ساحة العراق وما ** ويجبى إلى يه والقط والقلم

{قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ} أي قبل يوم القيامة في الدنيا إن كان الأمر كما يقول محمد. وكل هذا استهزاء منهم.

.تفسير الآية رقم (17):

{اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17)}
قوله تعالى: {اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ} أمر نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالصبر لما استهزءوا به. وهذه منسوخة بآية السيف. قوله تعالى: {وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ} لما ذكر من أخبار الكفار وشقاقهم وتقريعهم بإهلاك القرون من قبلهم، أمر نبيه عليه الصلاة والسلام بالصبر على أذاهم، وسلاه بكل ما تقدم ذكره. ثم أخذ في ذكر داود وقصص الأنبياء، ليتسلى بصبر من صبر منهم، وليعلم أن له في الآخرة أضعاف ما أعطيه داود وغيره من الأنبياء.
وقيل: المعنى اصبر على قولهم، واذكر لهم أقاصيص الأنبياء، لتكون برهانا على صحة نبوتك. {ذَا الْأَيْدِ} ذا القوة في العبادة. وكان يصوم يوما ويفطر يوما، وذلك أشد الصوم وأفضله، وكان يصلى نصف الليل، وكان لا يفر إذا لاقى العدو، وكان قويا في الدعا الى الله تعالى. وقوله: {عَبْدَنا} إظهارا لشرفه بهذه الإضافة. ويقال: الأيد والاد كما تقول العيب والعاب. قال:
لم يك يناد فأمسى أنا أنادى

ومنه رجل أيد أي قوي. وتأيد الشيء تقوى، قال الشاعر:
إذا القوس وترها أيد ** ورمى فأصاب الكلى والذوا

يقول: إذا الله وتر القوس التي في السحاب رمى كلى الإبل وأسمنها بالشحم. يعني من النبات الذي يكون من المطر. {إِنَّهُ أَوَّابٌ} قال الضحاك: أي تواب. وعن غيره: أنه كلما ذكر ذنبه أو خطر على باله أستغفر منه، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة». ويقال آب يؤوب إذا رجع، كما قال:
وكل ذي غيبة يؤوب ** ووغائب الموت لا يؤوب

فكان داود رجاعا إلى طاعة الله ورضاه في كل أمر فهو أهل لأن يقتدى به.

.تفسير الآية رقم (18):

{إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ (18)}
فيه أربع مسائل الأولى: قوله تعالى: {إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ} {يُسَبِّحْنَ} في موضع نصب على الحال. ذكر تعالى ما آتاه من البرهان والمعجزة وهو تسبيح الجبال معه. قال مقاتل: كان داود إذا ذكر الله جل وعز ذكرت الجبال معه، وكان يفقه تسبيح الجبال.
وقال ابن عباس: {يُسَبِّحْنَ} يصلين. وإنما يكون هذا معجزة إذا رآه الناس وعرفوه.
وقال محمد بن إسحاق: أوتي داود من حسن الصوت ما يكون له في الجبال دوي حسن، وما تصغي لحسنه الطير وتصوت معه، فهذا تسبيح الجبال والطير.
وقيل: سخرها الله عز وجل لتسير معه فذلك تسبيحها، لأنها دالة على تنزيه الله عن شبه المخلوقين. وقد مضى القول في هذا في {سبإ} وفي {سبحان} عند قوله تعالى: {وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء: 44] وأن ذلك تسبيح مقال على الصحيح من الأقوال. والله أعلم. {بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ} الإشراق أيضا ابيضاض الشمس بعد طلوعها. يقال: شرقت الشمس إذا طلعت، وأشرقت إذا أضاءت. فكان داود يسبح إثر صلاته عند طلوع الشمس وعند غروبها.
الثانية: روي عن ابن عباس أنه قال: كنت أمر بهذه الآية: {بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ} ولا أدري ما هي، حتى حدثتني أم هانئ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دخل عليها، فدعا بوضوء فتوضأ، ثم صلى صلاة الضحى، وقال: «يا أم هانئ هذه صلاة الإشراق».
وقال عكرمة قال ابن عباس: كان في نفسي شيء من صلاة الضحى حتى وجدتها في القرآن {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ}. قال عكرمة: وكان ابن عباس لا يصلي صلاة الضحى ثم صلاها بعد. وروي أن كعب الأحبار قال لابن عباس: إني أجد في كتب الله صلاة بعد طلوع الشمس هي صلاة الأوابين. فقال ابن عباس: وأنا أوجدك في القرآن، ذلك في قصة داود: {يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْراقِ}.
الثالثة: صلاة الضحى نافلة مستحبة، وهي في الغداة بإزاء العصر في العشي، لا ينبغي أن تصلى حتى تبيض الشمس طالعة، ويرتفع كدرها، وتشرق بنورها، كما لا تصلى العصر إذا اصفرت الشمس.
وفي صحيح مسلم عن زيد بن أرقم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «صلاة الأوابين حين ترمض الفصال» الفصال والفصلان جمع فصيل، وهو الذي يفطم من الرضاعة من الإبل. والرمضاء شدة الحر في الأرض. وخص الفصال هنا بالذكر، لأنها هي التي ترمض قبل انتهاء شدة الحر التي ترمض بها أمهاتها لقلة جلدها، وذلك يكون في الضحى أو بعده بقليل وهو الوقت المتوسط بين طلوع الشمس وزوالها، قاله القاضي أبو بكر بن العربي. ومن الناس من يبادر بها قبل ذلك استعجالا، لأجل شغله فيخسر عمله، لأنه يصليها في الوقت المنهي عنه ويأتي بعمل هو عليه لا له.
الرابعة: روى الترمذي من حديث أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من صلى الضحى ثنتي عشرة ركعة بنى الله له قصرا من ذهب في الجنة» قال حديث غريب.
وفي صحيح مسلم عن أبي ذر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «يصبح على كل سلامى من أحدكم صدقة فكل تسبيحة صدقة وكل تهليلة صدقة وكل تكبيرة صدقة وأمر بالمعروف صدقة ونهي عن المنكر صدقة ويجزي من ذلك ركعتان يركعهما من الضحى».
وفي الترمذي عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من حافظ على شفعة الضحى غفرت له ذنوبه وإن كانت مئل زبد البحر».
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال: «أوصاني خليلي بثلاث لا أدعهن حتى أموت صوم ثلاثة أيام من كل شهر وصلاة الضحى ونوم على وتر» لفظ البخاري.
وقال مسلم: «وركعتي الضحى» وخرجه من حديث أبي الدرداء كما خرجه البخاري من حديث أبي هريرة. وهذا كله يدل على أن أقل الضحى ركعتان وأكثره ثنتا عشرة. والله أعلم. واصل السلامي بضم السين عظام الأصابع والأكف والأرجل، ثم استعمل في سائر عظام الجسد ومفاصله. وروي من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «إنه خلق كل إنسان من بني آدم على ستين وثلاثمائة مفصل فمن كبر الله وحمد الله وهلل الله وسبح الله واستغفر الله وعزل حجرا عن طريق الناس، أو شوكة أو عظما عن طريق الناس وأمر بمعروف أو نهى عن منكر عدد تلك الستين والثلاثمائة سلامى فإنه يمشي يومئذ وقد زحزح نفسه عن النار» قال أبو توبة: وربما قال: «يمسي» كذا خرجه مسلم. وقوله: «ويجزي من ذلك ركعتان» أي يكفي من هذه الصدقات عن هذه الأعضاء ركعتان. وذلك أن الصلاة عمل بجميع أعضاء الجسد، فإذا صلى فقد قام كل عضو بوظيفته التي عليه في الأصل. والله أعلم.

.تفسير الآيات (19- 20):

{وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنا مُلْكَهُ وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ (20)}
قوله تعالى: {وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً} معطوف على الجبال. قال الفراء: ولو قرئ {والطير محشورة} لجاز، لأنه لم يظهر الفعل. قال ابن عباس: كان داود عليه السلام إذا سبح جاوبته الجبال واجتمعت إليه الطير فسبحت معه. فاجتماعها إليه حشرها. فالمعنى وسخرنا الطير مجموعة إليه لتسبح الله معه.
وقيل: أي وسخرنا الريح لتحشر الطيور إليه لتسبح معه. أو أمرنا الملائكة تحشر الطيور. {كُلٌّ لَهُ} أي لداود {أَوَّابٌ} أي مطيع، أي تأتيه وتسبح معه.
وقيل: الهاء لله عز وجل. قوله تعالى: {وَشَدَدْنا مُلْكَهُ} أي قويناه حتى ثبت. قيل: بالهيبة وإلقاء الرعب منه في القلوب.
وقيل: بكثرة الجنود.
وقيل: بالتأييد والنصر. وهذا اختيار ابن العربي.
فلا ينفع الجيش الكثير التفافه على غير منصور وغير معان.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: كان داود أشد ملوك الأرض سلطانا. كان يحرس محرابه كل ليلة نيف وثلاثون ألف رجل، فإذا أصبح قيل: ارجعوا فقد رضي عنكم نبي الله. والملك عبارة عن كثرة الملك، فقد يكون للرجل ملك ولكن لا يكون ملكا حتى يكثر ذلك، فلو ملك الرجل دارا وامرأة لم يكن ملكا حتى يكون له خادم يكفيه مؤنة التصرف في المنافع التي يفتقر إليها لضرورته الآدمية. وقد مضى هذا المعنى في {براءة} وحقيقة الملك في {النمل} مستوفى. قوله تعالى: {وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطابِ} فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَآتَيْناهُ الْحِكْمَةَ} أي النبوة، قال السدي. مجاهد: العدل. أبو العالية: العلم بكتاب الله تعالى. قتادة: السنة. شريح: العلم والفقه. {وَفَصْلَ الْخِطابِ} قال أبو عبد الرحمن السلمي وقتادة: يعني الفصل في القضاء. وهو قول ابن مسعود والحسن والكلبي ومقاتل.
وقال ابن عباس: بيان الكلام. علي بن أبي طالب: هو البينة على المدعي واليمين على من أنكر. وقاله شريح والشعبي وقتادة أيضا.
وقال أبو موسى الأشعري والشعبي أيضا: هو قوله أما بعد، وهو أول من تكلم بها.
وقيل: {فَصْلَ الْخِطابِ} البيان الفاصل بين الحق والباطل.
وقيل: هو الإيجاز بجعل المعنى الكثير في اللفظ القليل. والمعنى في هذه الأقوال متقارب. وقول علي رضي الله عنه يجمعه، لأن مدار الحكم عليه في القضاء ما عدا قول أبي موسى.
الثانية: قال القاضي أبو بكر بن العربي: فأما علم القضاء فلعمر إلهك إنه لنوع من العلم مجرد، وفصل منه مؤكد، غير معرفة الأحكام والبصر بالحلال والحرام، ففي الحديث: «أقضاكم علي وأعلمكم بالحلال والحرام معاذ بن جبل» وقد يكون الرجل بصيرا بأحكام الأفعال، عارفا بالحلال والحرام، ولا يقوم بفصل القضاء. يروى أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: لما بعثني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى اليمن حفر قوم زبية للأسد، فوقع فيها الأسد، وازدحم الناس على الزبية فوقع فيها رجل وتعلق بآخر، وتعلق الآخر بآخر، حتى صاروا أربعة، فجرحهم الأسد فيها فهلكوا، وحمل القوم السلاح وكاد يكون بينهم قتال، قال فأتيتهم فقلت: أتقتلون مائتي رجل من أجل أربعة أناس! تعالوا أقض بينكم بقضاء، فإن رضيتموه فهو قضاء بينكم، وإن أبيتم رفعتم ذلك إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو أحق بالقضاء. فجعل للأول ربع الدية، وجعل للثاني ثلث الدية، وجعل للثالث نصف الدية، وجعل للرابع الدية، وجعل الديات على من حفر الزبية على قبائل الأربع، فسخط بعضهم ورضي بعضهم، ثم قدموا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقصوا عليه القصة، فقال: «أنا أقضي بينكم» فقال قائل: إن عليا قد قضى بيننا. فأخبروه بما قضى علي، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «القضاء كما قضى علي» في رواية: فأمضى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضاء علي. وكذلك يروى في المعرفة بالقضاء أن أبا حنيفة جاء إليه رجل فقال: إن ابن أبي ليلى- وكان قاضيا بالكوفة- جلد امرأة مجنونة قالت لرجل يا ابن الزانيين حدين في المسجد وهي قائمة. فقال: أخطأ من ستة أوجه. قال ابن العربي: وهذا الذي قال أبو حنيفة بالبديهة لا يدركه أحد بالرؤية إلا العلماء. فأما قضية علي فلا يدركها الشادي، ولا يلحقها بعد التمرن في الأحكام إلا العاكف المتمادي. وتحقيقها أن هؤلاء الأربعة المقتولين خطأ بالتدافع على الحفرة من الحاضرين عليها، فلهم الديات على من حضر على وجه الخطأ، بيد أن الأول مقتول بالمدافعة قاتل ثلاثة بالمجاذبة، فله الدية بما قتل، وعليه ثلاثة أرباع الدية بالثلاثة الذين قتلهم. وأما الثاني فله ثلث الدية وعليه الثلثان بالإثنين اللذين قتلهما بالمجاذبة. وأما الثالث فله نصف الدية وعليه النصف، لأنه قتل واحدا بالمجاذبة فوقعت المحاصة وغرمت العواقل هذا التقدير بعد القصاص الجاري فيه. وهذا من بديع الاستنباط. وأما أبو حنيفة فإنه نظر إلى المعاني المتعلقة فرآها ستة:
الأول أن المجنون لا حد عليه، لأن الجنون يسقط التكليف. وهذا إذا كان القذف في حالة الجنون، وأما إذا كان يجن مرة ويفيق أخرى فإنه يحد بالقذف في حالة إفاقته.
والثاني قولها يا ابن الزانيين فجلدها حدين لكل أب حد، فإنما خطأه أبو حنيفة على مذهبه في أن حد القذف يتداخل، لأنه عنده حق لله تعالى كحد الخمر والزنى، وأما الشافعي ومالك فإنهما يريان أن الحد بالقذف حق للآدمي، فيتعدد بتعدد المقذوف.
الثالث أنه جلد بغير مطالبة المقذوف، ولا تجوز إقامة حد القذف بإجماع من الأمة إلا بعد المطالبة بإقامته ممن يقول إنه حق لله تعالى، ومن يقول إنه حق الآدمي. وبهذا المعنى وقع الاحتجاج لمن يرى أنه حق للآدمي، إذ لو كان حقا لله لما توقف على المطالبة كحد الزنى.
الرابع. أنه والى بين الحدين، ومن وجب عليه حدان لم يوال بينهما، بل يحد لأحدهما ثم يترك حتى يندمل الضرب، أو يستبل المضروب ثم يقام عليه الحد الآخر.
الخامس أنه حدها قائمة، ولا تحد المرأة إلا جالسة مستورة، قال بعض الناس: في زنبيل.
السادس أنه أقام الحد في المسجد ولا تقام الحدود فيه إجماعا.
وفي القضاء في المسجد والتعزير فيه خلاف. قال القاضي: فهذا هو فصل الخطاب وعلم القضاء، الذي وقعت الإشارة إليه على التأويلات في الحديث المروي: «أقضاكم علي» وأما من قال: إنه الإيجاز فذلك للعرب دون العجم، ولمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دون العرب، وقد بين هذا بقوله: «وأوتيت جوامع الكلم». وأما من قال: إنه قوله أما بعد، فكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول في خطبته: «أما بعد». ويروى أن أول من قالها في الجاهلية سحبان بن وائل، وهو أول من آمن بالبعث، وأول من توكأ على عصا، وعمر مائة وثمانين سنة. ولو صح أن داود عليه السلام قالها، لم يكن ذلك منه بالعربية على هذا النظم، وإنما كان بلسانه. والله أعلم.