فصل: تفسير الآية رقم (26):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (26):

{يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ} أي ملكناك لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، فتخلف من كان قبلك من الأنبياء والأئمة الصالحين وقد مضى في البقرة القول في الخليفة وأحكامه. مستوفى والحمد لله.
الثانية: قوله تعالى: {فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} أي بالعدل وهو أمر على الوجوب وقد ارتبط هذا بما قبله، وذلك أن الذي عوتب عليه داود طلبه المرأة من زوجها وليس ذلك بعدل. فقيل له بعد هذا، فاحكم بين الناس بالعدل {وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى} أي لا تقتد بهواك المخالف لأمر الله {فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي عن طريق الجنة. {إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} {أي يحيدون عنها ويتركونها} لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ {في النار} {بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ} أي بما تركوا من سلوك طريق الله، فقوله: {نَسُوا} أي تركوا الإيمان به، أو تركوا العمل به فصار وا كالناسين. ثم قيل: هذا لداود لما أكرمه الله بالنبوة.
وقيل: بعد أن تاب عليه وغفر خطيئته.
الثالثة: الأصل في الأقضية قوله تعالى: {يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ} وقوله: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ} [المائدة: 49] وقوله تعالى: {لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ} [النساء: 105] وقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ} [المائدة: 8] الآية. وقد تقدم الكلام فيه.
الرابعة: قال ابن عباس في قوله تعالى: {يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} قال: إن ارتفع لك الخصمان فكان لك في أحدهما هوى، فلا تشته في نفسك الحق له ليفلج على صاحبه، فإن فعلت محوت اسمك من نبوتي، ثم لا تكون خليفتي ولا أهل كرامتي. فدل هذا على بيان وجوب الحكم بالحق، وألا يميل إلى أحد الخصمين لقرابة أو رجاء نفع، أو سبب يقتضي الميل من صحبة أو صداقة، أو غيرهما.
وقال ابن عباس: إنما ابتلي سليمان بن داود عليه السلام، لأنه تقدم إليه خصمان فهوي أن يكون الحق لأحدهما.
وقال عبد العزيز بن أبي رواد: بلغني أن قاضيا كان في زمن بني إسرائيل، بلغ من اجتهاده أن طلب إلى ربه أن يجعل بينه وبينه علما، إذا هو قضى بالحق عرف ذلك، وإذا هو قصر عرف ذلك، فقيل له: ادخل منزلك، ثم مد يدك في جدارك، ثم انظر حيث تبلغ أصابعك من الجدار فاخطط عندها خطا، فإذا أنت قمت من مجلس القضاء، فارجع إلى ذلك الخط فامدد يدك إليه، فإنك متى ما كنت على الحق فإنك ستبلغه، وإن قصرت عن الحق قصر بك، فكان يغدو إلى القضاء وهو مجتهد فكان لا يقضي إلا بحق، وإذا قام من مجلسه وفرغ لم يذق طعاما ولا شرابا، ولم يفض إلى أهله بشيء من الأمور حتى يأتي ذلك الخط، فإذا بلغه حمد الله وأفضى إلى كل ما أحل الله له من أهل أو مطعم أو مشرب. فلما كان ذات يوم وهو في مجلس القضاء، أقبل إليه رجلان يريدانه فوقع في نفسه أنهما يريدان أن يختصما إليه، وكان أحدهما له صديقا وخدن، فتحرك قلبه عليه محبة أن يكون الحق له فيقضي له، فلما أن تكلما دار الحق على صاحبه فقضى عليه، فلما قام من مجلسه ذهب إلى خطه كما كان يذهب كل يوم، فمد يده إلى الخط فإذا الخط قد ذهب وتشمر إلى السقف، وإذا هو لا يبلغه فخر ساجدا وهو يقول: يا رب شيئا لم أتعمده ولم أرده فبينه لي. فقيل له: أتحسبن أن الله تعالى لم يطلع على خيانة قلبك، حيث أحببت أن يكون الحق لصديقك لتقضي له به، قد أردته وأحببته ولكن الله قد رد الحق إلى أهله وأنت كاره. وعن ليث قال: تقدم إلى عمر بن الخطاب خصمان فأقامهما، ثم عادا فأقامهما، ثم عادا ففصل بينهما، فقيل له في ذلك، فقال: تقدما إلي فوجدت لأحدهما ما لم أجد لصاحبه، فكرهت أن أفصل بينهما على ذلك، ثم، عادا فوجدت بعض ذلك له، ثم عادا وقد ذهب ذلك ففصلت بينهما.
وقال الشعبي: كان بين عمر وأبي خصومة، فتقاضيا إلى زيد بن ثابت، فلما دخلا عليه أشار لعمر إلى وسادته، فقال عمر: هذا أول جورك، أجلسني وإياه مجلسا واحدا، فجلسا بين يديه.
الخامسة: هذه الآية تمنع من حكم الحاكم بعلمه، لأن الحكام لو مكنوا أن يحكموا بعلمهم لم يشأ أحدهم إذا أراد أن يحفظ وليه ويهلك عدوه إلا ادعى علمه فيما حكم به. ونحو ذلك روي عن جماعة من الصحابة منهم أبو بكر، قال: لو رأيت رجلا على حد من حدود الله، ما أخذته حتى يشهد على ذلك غيري. وروي أن امرأة جاءت إلى عمر فقالت له: احكم لي على فلان بكذا فإنك تعلم ما لي عنده. فقال لها: إن أردت أن أشهد لك فنعم وأما الحكم فلا.
وفي صحيح مسلم عن ابن عباس: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى بيمين وشاهد، وروى عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه اشترى فرسا فجحده البائع، فلم يحكم عليه بعلمه وقال: «من يشهد لي» فقام خزيمة فشهد فحكم. خرج الحديث أبو داود وغيره وقد مضى في البقرة.

.تفسير الآيات (27- 29):

{وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)}
قوله تعالى: {وَما خَلَقْنَا السَّماءَ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما باطِلًا} أي هزلا ولعبا. أي ما خلقنا هما إلا لأمر صحيح وهو الدلالة على قدرتنا. {ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي حسبان الذين كفروا أن الله خلقهما باطلا. {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} ثم ونجهم فقال: {أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} والميم صلة تقديره، أنجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات {كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ} فكان في هذا رد على المرجئة، لأنهم يقولون: يجوز أن يكون المفسد ما لصالح أو أرفع درجة منه. وبعده أيضا: {أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ} أي أنجعل أصحاب محمد عليه السلام كالكفار، قاله ابن عباس. وقيل هو عام في المسلمين المتقين والفجار الكافرين وهو أحسن، وهو رد على منكري البعث الذين جعلوا مصير المطيع والعاصي إلى شيء واحد.
قوله تعالى: {كِتابٌ} أي هذا كتاب {أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ} يا محمد {لِيَدَّبَّرُوا} أي ليتدبروا فأدغمت التاء في الدال.
وفي هذا دليل على، وجوب معرفة معاني القرآن، ودليل على أن الترتيل أفضل من الهذ، إذ لا يصح التدبر مع الهذ على ما بيناه في كتاب التذكار.
وقال الحسن: تدبر آيات الله اتباعها. وقراءة العامة {لِيَدَّبَّرُوا}. وقرأ أبو حنيفة وشيبة {لتدبروا} بتاء وتخفيف الدال، وهي قراءة علي رضي الله عنه، والأصل لتتدبروا فحذف إحدى التاءين تخفيفا {وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ} أي أصحاب العقول واحدها لب، وقد جمع على ألب، كما جمع بؤس على أبؤس، ونعم على أنعم، قال أبو طالب:
قلبي إليه مشرف الألب

وربما أظهروا التضعيف في ضرورة الشعر، قال الكميت:
إليكم ذوي آل النبي تطلعت ** ونوازع من قلبي ظماء وألبب

.تفسير الآيات (30- 33):

{وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَالْأَعْناقِ (33)}
قوله تعالى: {وَوَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ} لما ذكر داود ذكر سليمان و{أَوَّابٌ} معناه مطيع. {إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ} يعني الخيل جمع جواد للفرس إذا كان شديد الحضر، كما يقال للإنسان جواد إذا كان كثير العطية غزيرها، يقال: قوم أجواد وخيل جياد، جاد الرجل بماله يجود جودا فهو جواد، وقوم جود مثال قذال وقذل، وإنما سكنت الواو لأنها حرف علة، وأجواد وأجاود وجوداء، وكذلك امرأة جواد ونسوة جود مثل نوار ونور، قال الشاعر:
صناع بإشفاها حصان بشكرها ** وجواد بقوت البطن والعرق زاخر

وتقول: سرنا عقبة جوادا، وعقبتين جوادين، وعقبا جيادا. وجاد الفرس أي صار رائعا يجود جودة بالضم فهو جواد للذكر والأنثى، من خيل جياد وأجياد وأجاويد.
وقيل: إنها الطوال الأعناق مأخوذ من الجيد وهو العنق، لأن طول الأعناق في الخيل من صفات فراهتها.
وفي الصَّافِناتُ أيضا وجهان: أحدهما أن صفونها قيامها. قال القتبي والفراء: الصافن في كلام العرب الواقف من الخيل أو غيرها. ومنه ما روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «من سره أن يقوم له الرجال صفونا فليتبوأ مقعده من النار» أي يديمون له القيام، حكاه قطرب أيضا وأنشد قول النابغة:
لنا قبة مضروبة بفنائها ** وعتاق المهاري والجياد الصوافن

وهذا قول قتادة.
الثاني أن صفونها رفع إحدى اليدين على طرف الحافر حتى يقوم على ثلاث كما قال الشاعر:
ألف الصفون فما يزال كأنه ** ومما يقوم على الثلاث كسيرا

وقال عمرو بن كلثوم:
تركنا الخيل عاكفة عليه ** مقلدة أعنتها صفونا

وهذا قول مجاهد. قال الكلبي: غزا سليمان أهل دمشق ونصيبين فأصاب منهم ألف فرس.
وقال مقاتل: ورث سليمان من أبيه داود ألف فرس، وكان أبوه أصابها من العمالقة.
وقال الحسن: بلغني أنها كانت خيلا خرجت من البحر لها أجنحة. وقاله الضحاك. وأنها كانت خيلا أخرجت لسليمان من البحر منقوشة ذات أجنحة. ابن زيد: أخرج لا لشيطان لسليمان الخيل من البحر من مروج البحر، وكانت لها أجنحة. وكذلك قال علي رضي الله عنه: كانت عشرين فرسا ذوات أجنحة.
وقيل: كانت مائة فرس.
وفي الخبر عن إبراهيم التيمي: أنها كانت عشرين ألفا، فالله أعلم. فقال: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} يعني بالخير الخيل، والعرب تسميها كذلك، وتعاقب بين الراء واللام، فتقول: انهملت العين وانهمرت، وختلت وخترت إذا خدعت. قال الفراء: الخير في كلام العرب والخيل واحد. النحاس: في الحديث: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة» فكأنها سميت خيرا لهذا.
وفي الحديث: لما وفد زيد الخيل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال له: أنت زيد الخير وهو زيد بن مهلهل الشاعر.
وقيل: إنما سميت خيرا لما فيها من المنافع.
وفي الخبر: إن الله تعالى عرض على آدم جميع الدواب، وقيل له: اختر منها واحدا فاختار الفرس، فقيل له: اخترت عزك، فصار اسمه الخير من هذا الوجه. وسمي خيلا، لأنها موسومة بالعز. وسمي فرسا لأنه يفترس مسافات الجو افتراس الأسد وثبانا، ويقطعها كالالتهام بيديه على كل شيء خبطا وتناولا. وسمي عربيا لأنه جئ به من بعد آدم لإسمعيل جزاء عن رفع قواعد البيت، وإسماعيل عربي فصارت له نحلة من الله، فسمى عربيا. و{حب} مفعول في قول الفراء. والمعنى إني آثرت حب الخير. وغيره يقدره مصدرا أضيف إلى المفعول، أي أحببت الخير حبا فألهاني عن ذكر ربي.
وقيل: إن معنى {أَحْبَبْتُ} قعدت وتأخرت من قولهم: أحب البعير إذا برك وتأخر. وأحب فلان أي طأطأ رأسه. قال أبو زيد: يقال بعير محب، وقد أحب أحبابا وهو أن يصيبه مرض أو كسر فلا يبرح مكانه حتى يبرأ أو يموت.
وقال ثعلب: يقال أيضا للبعير الحسير محب، فالمعنى قعدت عن ذكر ربي. و{حُبَّ} على هذا مفعول له.
وذكر أبو الفتح الهمداني في كتاب التبيان: أحببت بمعنى لزمت، من قوله:
مثل بعير السوء إذ أحبا

{حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ} يعني الشمس كناية عن غير مذكور، مثل قوله تعالى: {ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ} [فاطر: 45] أي على ظهر الأرض، وتقول العرب: هاجت باردة أي هاجت الريح باردة.
وقال الله تعالى: {حتى إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ} أي بلغت النفس الحلقوم [الواقعة: 83] وقال تعالى: {إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} [المرسلات: 32] ولم يتقدم للنار ذكر.
وقال الزجاج: إنما يجوز الإضمار إذا جرى ذكر الشيء أو دليل الذكر، وقد جرى هاهنا الدليل وهو قوله: {بِالْعَشِيِّ}. والعشي ما بعد الزوال، والتواري الاستتار عن الأبصار، والحجاب جبل أخضر محيط بالخلائق، قاله قتادة وكعب.
وقيل: هو جبل قاف.
وقيل: جبل دون قاف. والحجاب الليل سمي حجابا، لأنه يستر ما فيه.
وقيل: {حَتَّى تَوارَتْ} أي الخيل في المسابقة. وذلك أن سليمان كان له ميدان مستدير يسابق فيه بين الخيل، حتى توارت عنه وتغيب عن عينه في المسابقة، لأن الشمس لم يجر لها ذكر. وذكر النحاس أن سليمان عليه السلام كان في صلاة فجئ إليه بخيل لتعرض عليه قد غنمت فأشار بيده لأنه كان يصلي حتى توارت الخيل وسترتها جدر الإصطبلات فلما فرغ من صلاته قال: {رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً} أي فأقبل يمسحها مسحا.
وفي معناه قولان: أحدهما أنه أقبل يمسح سوقها وأعناقها بيده إكراما منه لها، وليرى أن الجليل لا يقبح أن يفعل مثل هذا بخيله.
وقال قائل هذا القول: كيف يقتلها؟ وفي ذلك إفساد المال ومعاقبة من لا ذنب له.
وقيل: المسح ها هنا هو القطع أذن له في قتلها. قال الحسن والكلبي ومقاتل: صلى سليمان الصلاة الأولى وقعد على كرسيه وهي تعرض عليه، وكانت ألف فرس، فعرض عليه منها تسعمائة فتنبه لصلاة العصر، فإذا الشمس قد غربت وفاتت الصلاة، ولم يعلم بذلك هيبة له فاغتم، فقال: {رُدُّوها عَلَيَّ} فردت فعقرها بالسيف، قربة لله وبقي منها مائة، فما في أيدي الناس من الخيل العتاق اليوم فهي من نسل تلك الخيل. قال القشيري: وقيل: ما كان في ذلك الوقت صلاة الظهر ولا صلاة العصر، بل كانت تلك الصلاة نافلة فشغل عنها. وكان سليمان عليه السلام رجلا مهيبا، فلم يذكره أحد ما نسي من الفرض أو النفل وظنوا التأخر مباحا، فتذكر سليمان تلك الصلاة الفائتة، وقال على سبيل التلهف: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} أي عن الصلاة، وأمر برد الأفراس إليه، وأمر بضرب عراقيبها وأعناقها، ولم يكن ذلك معاقبة للأفراس، إذ ذبح البهائم جائز إذا كانت مأكولة، بل عاقب نفسه حتى لا تشغله الخيل بعد ذلك عن الصلاة. ولعله عرقبها ليذبحها فحبسها بالعرقبة عن النفار، ثم ذبحها في الحال، ليتصدق بلحمها، أو لأن ذلك كان مباحا في شرعه فأتلفها لما شغلته عن ذكر الله، حتى يقطع عن نفسه ما يشغله عن الله، فأثنى الله عليه بهذا، وبين أنه أثابه بأن سخر له الريح، فكان يقطع عليها من المسافة في يوم ما يقطع مثله على الخيل في شهرين غدوا ورواحا. وقد قيل: إن الهاء في قوله: {رُدُّوها عَلَيَّ} للشمس لا للخيل. قال ابن عباس: سألت عليا عن هذه الآية فقال: ما بلغك فيها؟ فقلت سمعت كعبا يقول: إن سليمان لما اشتغل بعرض الأفراس حتى توارت الشمس بالحجاب وفاتته الصلاة، قال: {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} أي آثرت {حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي} الآية {رُدُّوها عَلَيَّ} يعني الأفراس وكانت أربع عشرة، فضرب سوقها وأعناقها بالسيف، وأن الله سلبه ملكه أربعة عشر يوما، لأنه ظلم الخيل. فقال علي بن أبي طالب: كذب كعب لكن سليمان اشتغل بعرض الأفراس للجهاد حتى توارت أي غربت الشمس بالحجاب فقال بأمر الله للملائكة الموكلين بالشمس: {رُدُّوها} يعني الشمس فردوها حتى صلى العصر في وقتها، وأن أنبياء الله لا يظلمون لأنهم معصومون. قلت: الأكثر في التفسير أن التي توارت بالحجاب هي الشمس، وتركها لدلالة السامع عليها بما ذكر مما يرتبط بها ومتعلق بذكرها، حسب ما تقدم بيانه. وكثيرا ما يضمرون الشمس، قال لبيد:
حتى إذا ألقت يدا في كافر ** ووأجن عورات الثغور ظلامها

الهاء في {رُدُّوها} للخيل، ومسحها قال الزهري وابن كيسان: كان يمسح سوقها وأعناقها، ويكشف الغبار عنها حبا لها.
وقال الحسن وقتادة وابن عباس.
وفي الحديث أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رئي وهو يمسح فرسه بردائه. وقال: «إني عوتبت الليلة في الخيل» خرجه الموطأ عن يحيى بن سعيد مرسلا. وهو في غير الموطأ مسند متصل عن مالك عن يحيى بن سعيد عن أنس. وقد مضى في الأنفال قوله عليه السلام: «وامسحوا بنواصيها وأكفالها» وروى ابن وهب عن مالك أنه مسح أعناقها وسوقها بالسيوف. قلت: وقد استدل الشبلي وغيره من الصوفية في تقطيع ثيابهم وتخريقها بفعل سليمان، هذا. وهو استدلال فاسد، لأنه لا يجوز أن ينسب إلى نبي معصوم أنه فعل الفساد. والمفسرون اختلفوا في معنى الآية، فمنهم من قال: مسح على أعناقها وسوقها إكراما لها وقال: أنت في سبيل الله، فهذا إصلاح. ومنهم من قال: عرقبها ثم ذبحها، وذبح الخيل واكل لحمها جائز. وقد مضى في النحل بيانه. وعلى هذا فما فعل شيئا عليه فيه جناح. فأما إفساد ثوب صحيح لا لغرض صحيح فإنه لا يجوز. ومن الجائز أن يكون في شريعة سليمان جواز ما فعل، ولا يكون في شرعنا. وقد قيل: إنما فعل بالخيل ما فعل بإباحة الله جل وعز له ذلك. وقد قيل: إن مسحه إياها وسمها بالكي وجعلها في سبيل الله، فالله أعلم. وقد ضعف هذا القول من حيث أن السوق ليست بمحل للوسم بحال. وقد يقال: الكي على الساق علاط، وعلى العنق وثاق. والذي في الصحاح للجوهري: علط البعير علطا كواه في عنقه بسمة العلاط. والعلاطان جانبا العنق. قلت: ومن قال إن الهاء في {ردوها} ترجع للشمس فذلك من معجزاته. وقد اتفق مثل ذلك لنبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. خرج الطحاوي في مشكل الحديث عن أسماء بنت عميس من طريقين أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يوحى إليه ورأسه في حجر علي، فلم يصل العصر حتى غربت الشمس، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أصليت يا علي» قال: لا. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «اللهم إنه كان في طاعتك وطاعة رسولك فاردد عليه الشمس» قالت أسماء: فرأيتها غربت ثم رأيتها بعد ما غربت طلعت على الجبال والأرض، وذلك بالصهباء في خيبر. قال الطحاوي: وهذان الحديثان ثابتان، ورواتهما ثقات.
قلت: وضعف أبو الفرج ابن الجوزي هذا الحديث فقال: وغلو الرافضة في حب علي عليه السلام حملهم على أن وضعوا أحاديث كثيرة في فضائله، منها أن الشمس غابت ففاتت عليا عليه السلام العصر فردت له الشمس، وهذا من حيث النقل محال، ومن حيث المعنى فإن الوقت قد فات وعودها طلوع متجدد لا يرد الوقت. ومن قال: أن الهاء ترجع إلى الخيل، وأنها كانت تبعد عن عين سليمان في السباق، ففيه دليل على المسابقة بالخيل وهو أمر مشروع. وقد مضى القول فيه في يوسف.