فصل: تفسير الآية رقم (22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (22):

{أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22)}
شرح فتح ووسع. قال ابن عباس: وسع صدره للإسلام حتى ثبت فيه.
وقال السدي: بالإسلام للفرح به والطمأنينة إليه، فعلى هذا لا يجوز أن يكون هذا الشرح إلا بعد الإسلام، وعلى الوجه الأول يجوز أن يكون الشرح قبل الإسلام. {فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} أي على هدى من ربه كمن طبع على قلبه وأقساه. ودل على هذا المحذوف قوله: {فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ} قال المبرد: يقال قسا القلب إذا صلب، وكذلك عتا وعسا مقاربة لها. وقلب قاس أي صلب لا يرق ولا يلين. والمراد بمن شرح الله صدره هاهنا فيما ذكر المفسرون على وحمزة رضي الله عنهما.
وحكى انقاش أنه عمر بن الخطاب رضي الله عنه.
وقال مقاتل: عمار بن ياسر، وعنه أيضا والكلبي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والآية عامة فيمن شرح الله صدره بخلق الايمان فيه.
وروى مرة عن ابن مسعود قال: قلنا يا رسول الله قوله تعالى: {أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ} كيف انشرح صدره؟ قال: «إذا دخل النور القلب انشرح وانفتح» قلنا: يا رسول الله وما علامة ذلك؟. قال: «الإنابة الى دار الجلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزوله» وخرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث ابن عمر: أن رجلا قال يا رسول الله أي المؤمنين أكيس؟ قال: «أكثر هم للموت ذكرا وأحسنهم له استعدادا وإذا دخل النور في القلب انفسح واستوسع» قالوا: فما آية ذلك يا نبى الله؟ قال: «الإنابة الى دار الخلود والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل نزول الموت» فذكر صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خصالا ثلاثة، ولا شك أن من كانت فيه هذه الخصال فهو الكامل الايمان، فان الإنابة انما هي أعمال البر، لان دار الجلود انما وضعت جزاء لاعمال البر، ألا ترى كيف ذكره الله في مواضع في تنزيله ثم قال بعقب ذلك {جزاء بما كانوا يعملون} فالجنة جزاء الأعمال، فإذا انكمش العبد في أعمال البر فهو إنابته الى دار الجلود، وإذا خمد حرصه عن الدنيا، ولها عن طلبها، وأقبل على 0
ما يغنيه منها فاكتفى به وقنع، فقد تجافى عن دار الغرور. وإذا احكم أموره بالتقوى فكان ناظرا في كل أمر، واقفا متأدبا متثبتا حذرا ينتزع عما يريبه الى ما لا يريبه فقد ايتعد للموت. فهذه علامتهم في الظاهر. وإنما صار هكذا الرؤية بالنور الذي ولج القلب. وقوله: {فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} قيل: المراد أبو لهب وولده، ومعنى {مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ} أن قلوبهم نزداد قسوة من سماع ذكره.
وقيل: إن {فَمَنْ} بمعنى عن والمعنى قست عن قبول ذكر الله. وهذا اختيار الطبري. وعن آبى سعيد الجدري أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «قال الله تعالى اطلبوا الحوائج من السمحاء فانى جعلت فيهم رحمتي ولا تطلبوها من القاسية قلوبهم فانى جعلت فيهم سخطي».
وقال مالك بن دينار: ما ضرب عبد بعقوبة أعظم من قسوة قلب، وما غضب الله على قوم الأنزع الرحمة من قلوبهم.

.تفسير الآية رقم (23):

{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} يعني القرآن لما قال: {فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ} بين أن أحسن ما يسمع ما أنزله الله وهو القرآن. قال سعد بن أبي وقاص قال أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لو حدثتنا فانزل اله عز وجل: {الله نزل أحسن الحديث} فقالوا: لو قصصت علينا فنزل {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ} فقالوا: لو ذكرتنا فنزل {أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ} الآية. وعن ابن مسعود رضي الله عنه أن أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ملموا ملة فقالوا له: حدثنا فنزلت. والحديث ما يحدث به المحدث. وسمي القرآن حديثا، لان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يحدث به أصحابه وقومه، وهو كقوله: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} وقوله: {أَفَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ} وقوله: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ} [القلم: 4 4] قال القشيري: وتوهم قوم أن الحديث من الحدوث فيدل على أن كلامه محدث وهو وهم، لأنه لا يريد لفظ الحديث على ما في قوله: {ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ} وقد قالوا: إن الحدوث يرجع إلى التلاوة لا إلى المتلو، وهو كالذكر مع المذكور إذا ذكرنا أسماء الرب تعالى. {كِتاباً} نصب على البدل من {أَحْسَنَ الْحَدِيثِ} ويحتمل أن يكون حالا منه. {مُتَشابِهاً} يشبه بعضه بعضا في الحسن والحكمة ويصدق بعضه بعضا، ليس فيه تناقض ولا اختلاف.
وقال قتادة: يشبه بعضه بعضا في الآي والحروف.
وقيل: يشبه كتب الله المنزلة على أنبيائه، لما يتضمنه من أمر ونهي وترغيب وترهيب وإن كان أعم وأعجز. ثم وصفه فقال: {مَثانِيَ} تثنى فيه القصص والمواعظ والأحكام وثني للتلاوة فلا يمل. {تَقْشَعِرُّ} تضطرب وتتحرك بالخوف مما فيه من الوعيد. {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ} أي عند آية الرحمة.
وقيل: الى العمل بكتاب الله والتصديق به.
وقيل: {إِلى ذِكْرِ اللَّهِ} يعني الإسلام.
الثانية: عن أسماء بنت أبى بكر الصديق رضي الله عنهما قالت: كان أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إذا قرى عليهم القرآن كما نعتهم الله تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم. قيل لها: فان أناسا اليوم إذا قرى عليهم القرآن خر أحدهم مغشيا عليه. فقالت: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.
وقال سعيد بن عبد الرحمن الجمحي: مر ابن عمر برجل من أهل القرآن ساقطا فقال: ما بال هذا؟ قالوا: إنه إذا قرى عليه القرآن وسمع ذكر الله سقط. فقال ابن عمر: إنا لنخشى الله وما نسقط. ثم قال: إن الشيطان يدخل في جوف أحدهم، ما كان هذا صنيع أصحاب محمد صلى الله عليه سلم.
وقال عمر بن عبد العزيز: ذكر عند ابن سيرين الذين يصرعون إذا قرى عليهم القرآن فقال: بيننا وبينهم أن يقعد أحدهم على ظهر بيت باسطا رجليه، ثم يقرأ عليه القرآن من أوله الى آخره فان رمى بنفسه فهو صادق.
وقال أبو عمران الجوني: وعظ موسى عليه السلام بنى إسرائيل ذات يوم فشق رجل قميصه، فأوحى الله الى موسى، قل لصاحب القميص لا يشق قميصه فانى لا أحب المبذرين، يشرح لي عن قلبه. قال زيد بن أسلم: ذرأ أبي بن كعب عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومعه أصحابه فرقوا فقأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «اغتنموا الدعاء عند الرقة فإنها رحمة». وعن العباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «إذا اقشعر جلد المؤمن من مخافة الله تحاتت عنه خطاياه كما يتحات عن الشجرة البالية ورقها». وعن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «ما اقشعر جلد عبد من خشية الله إلا حرمه الله على النار». وعن شهر بن حوشب عن أم الدپرداء قالت: إنما الوجل في قلب الرجل كاحتراق السعفة، أما تجد إلا قشعريرة؟ قلت: بلى، قالت: فادع الله فإن الدعاء عند ذلك مستجاب. وعن ثابت البناني قال: قال فلان: إني لأعلم متى يستجاب لي. قالوا: ومن أين تعلم ذلك؟ قال: إذا اقشعر جلدي، ووجل قلبي، وفاضت عيناي، فذلك حين يستجاب لي. يقال: اقشعر جلد الرجل اقشعرارا فهو مقشعر والجمع قشاعر فتحذف الميم، لأنها زائدة، يقال أخذته قشعريرة. قال امرؤ القيس:
فبت أكابد ليل التمام ** ووالقلب من خشية مقشعر

وقيل: إن القرآن لما كان في غاية الجزالة والبلاغة، فكانوا إذا رأوا عجز هم عن معارضته، اقشعرت الجلود منه إعظاما له، وتعجبا من حسن ترصيعه وتهيبا لما فيه، وهو كقوله تعالى: {لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ} [الحشر: 21] فالتصدع قريب من الاقشعرار، والخشوع قريب من قوله: {ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ} ومعنى لين القلب رقته وطمأنينته وسكونه. {ذلِكَ هُدَى اللَّهِ} أي القرآن هدى الله.
وقيل: أي الذي وهبه الله لهؤلاء منخشية عقابه ورجاء ثوابه هدى الله. {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ} أي من خذله فلا مرشد له. وهو يرد على القدرية وغيرهم. وقد مضى معنى هذا كله مستوفى في غير موضع والحمد لله. ووقف ابن كثير وابن محيصن على قوله: {هادٍ} في الموضعين بالياء، الباقون بغير ياء.

.تفسير الآيات (24- 26):

{أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26)}
قوله تعالى: {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ} قال عطاء وابن زيد: يرمى به مكتوفا في النار فأول شيء تمس منه النار وجهه.
وقال مجاهد: يجر على وجهه في النار.
وقال مقاتل: هو أن الكافر يرمى به في النار مغلولة يداه إلى عنقه، وفي عنقه صخرة عظيمة كالجبل العظيم من الكبريت، فتشتعل النار في الحجر وهو معلق في عنقه، فحرها ووهجها على وجهه، لا يطيق دفعها عن وجهه من أجل الأغلال. والخبر محذوف. قال الأخفش: أي {أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ} أفضل أم من سعد، مثل: {أَفَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ} [فصلت: 40]. {وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ} أي وتقول الخزنة للكافرين {ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} أي جزاء كسبكم من المعاصي. ومثله {هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة: 35]. قوله تعالى: {كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا} تقدم معناه.
وقال المبرد: يقال لكل ما نال الجارحة من شيء قد ذاقته، أي وصل إليها كما تصل الحلاوة والمرارة إلى الذائق لهما. قال: والخزي من المكروه والخزاية من الاستحياء {وَلَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ} أي مما أصابهم في الدنيا {لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ}.

.تفسير الآيات (27- 28):

{وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ} أي من كل مثل يحتاجون إليه، مثل قوله تعالى: {ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38] وقيل: أي ما ذكرنا من إهلاك الأمم السالفة مثل لهؤلاء. {لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} يتعظون. {قُرْآناً عَرَبِيًّا} نصب على الحال. قال الأخفش: لأن قوله جل وعز: {فِي هذَا الْقُرْآنِ} معرفة.
وقال علي بن سليمان: {عَرَبِيًّا} نصب على الحال و{قُرْآناً} توطئة للحال كما تقول مررت بزيد رجلا صالحا فقولك صالحا هو المنصوب على الحال.
وقال الزجاج: {عَرَبِيًّا} منصوب على الحال و{قُرْآناً} توكيد. {غَيْرَ ذِي عِوَجٍ} النحاس: أحسن ما قيل فيه قول الضحاك، قال: غير مختلف. وهو قول ابن عباس، ذكره الثعلبي. وعن ابن عباس أيضا غير مخلوق، ذكره المهدوي وقاله السدي فيما ذكره الثعلبي.
وقال عثمان بن عفان: غير متضاد.
وقال مجاهد: غير ذي لبس. قال:
وقد أتاك يقين غير ذي عوج ** ومن الإله وقول غير مكذوب

{لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ} الكفر والكذب.