فصل: تفسير الآية رقم (29):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (29):

{ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَرَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29)}
قوله تعالى: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ} قال الكسائي: نصب {رَجُلًا} لأنه ترجمة للمثل وتفسير له، وإن شئت نصبته بنزع الخافض، مجازه: ضرب الله مثلا برجل {فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ} قال الفراء: أي مختلفون.
وقال المبرد: أي متعاسرون من شكس يشكس شكسا بوزن قفل فهو شكس مثل عسر يعسر عسرا فهو عسر، يقال: رجل شكس وشرس وضرس وضبس. ويقال: رجل ضبس وضبيس أي شرس عسر شكس، قاله الجوهري. الزمخشري: والتشاكس والتشاخس الاختلاف. يقال: تشاكست أحواله وتشاخست أسنانه. ويقال: شاكسني فلان أي ماكسني وشاحني في حقي. قال الجوهري: رجل شكس بالتسكين أي صعب الخلق. قال الراجز:
شكس عبوس عنبس عذور وقوم شكس مثال رجل صدق وقوم صدق. وقد شكس بالكسر شكاسة.
وحكى الفراء: رجل شكس. وهو القياس، وهذا مثل من عبد آلهة كثيرة. {وَرَجُلًا سَلَماً لِرَجُلٍ} أي خالصا لسيد واحد، وهو مثل من يعبد الله وحده. {هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا} هذا الذي يخدم جماعة شركاء أخلاقهم مختلفة ونياتهم متباينة، لا يلقاه رجل إلا جره واستخدمه، فهو يلقى منهم العناء والنصب والتعب العظيم، وهو مع ذلك كله لا يرضي واحدا منهم بخدمته لكثرة الحقوق في رقبته، والذي يخدم واحدا لا ينازعه فيه أحد، إذا أطاعه وحده عرف ذلك له، وإن أخطأ صفح عن خطأه، فأيهما أقل تعبا أو على هدى مستقيم. وقرأ أهل الكوفة واهل المدينة: {ورجلا سالما} وقرأ ابن عباس ومجاهد والحسن وعاصم الجحدري وأبو عمرو وابن كثير ويعقوب: {ورجلا سالما} واختاره أبو عبيد لصحة التفسير فيه. قال: لأن السالم الخالص ضد المشترك، والسلم ضد الحرب ولا موضع للحرب هنا. النحاس: وهذا الاحتجاج لا يلزم، لأن الحرف إذا كان له معنيان لم يحمل إلا على أولاهما، فهذا وإن كان السلم ضد الحرب فله موضع آخر، كما يقال لك في هذا المنزل شركاء فصار سلما لك. ويلزمه أيضا في سالم ما ألزم غيره، لأنه يقال شيء سالم أي لا عاهة به. والقراءتان حسنتان قرأ بهما الأئمة. واختار أبو حاتم قراءة أهل المدينة {سلما} قال وهذا الذي لا تنازع فيه. وقرأ سعيد بن جبير وعكرمة وأبو العالية ونصر {سلما} بكسر السين وسكون اللام. وسلما وسلما مصدران، والتقدير: ورجلا ذا سلم فحذف المضاف و{مَثَلًا} صفة على التمييز، والمعنى هل تستوي صفاتهما وحالاهما. وإنما اقتصر في التمييز على الواحد لبيان الجنس. {الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ} الحق فيتبعونه.

.تفسير الآيات (30- 31):

{إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)}
قرأ ابن محيصن وابن أبي عبلة وعيسى بن عمر وابن أبي إسحاق {إنك مائت وإنهم مائتون} وهي قراءة حسنة وبها قرأ عبد الله بن الزبير. النحاس: ومثل هذه الألف تحذف في الشواذ و{مائت} في المستقبل كثير في كلام العرب، ومثله ما كان مريضا وإنه لمارض من هذا الطعام.
وقال الحسن والفراء والكسائي: الميت بالتشديد من لم يمت وسيموت، والميت بالتخفيف من فارقته الروح، فلذلك لم تخفف هنا. قال قتادة: نعيت إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نفسه، ونعيت إليكم أنفسكم.
وقال ثابت البناني: نعى رجل إلى صلة بن أشيم أخا له فوافقه يأكل، فقال: ادن فكل فقد نعي إلي أخي منذ حين، قال: وكيف وأنا أول من أتاك بالخبر. قال إن الله تعالى نعاه إلي فقال: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}. وهو خطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبره بموته وموتهم، فاحتمل خمسة أوجه أحدها أن يكون ذلك تحذيرا من الآخرة.
الثاني أن يذكره حثا على العمل.
الثالث أن يذكره توطئة للموت.
الرابع لئلا يختلفوا في موته كما اختلفت الأمم في غيره، حتى أن عمر رضي الله عنه لما أنكر موته احتج أبو بكر رضي الله عنه بهذه الآية فأمسك.
الخامس ليعلمه أن الله تعالى قد سوى فيه بين خلقه مع تفاضلهم في غيره، لتكثر فيه السلوة وتقل فيه الحسرة {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} يعني تخاصم الكافر والمؤمن والظالم والمظلوم، قال ابن عباس وغيره.
وفي خبر فيه طول: إن الخصومة تبلغ يوم القيامة إلى أن يحاج الروح الجسد.
وقال الزبير: لما نزلت هذه الآية قلنا: يا رسول الله أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال: {نعم ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه} فقال الزبير: والله إن الأمر لشديد.
وقال ابن عمر: لقد عشنا برهة من دهرنا ونحن نرى هذه الآية نزلت فينا وفي أهل الكتابين: {ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} فقلنا: وكيف نختصم ونبينا واحد وديننا واحد، حتى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف، فعرفت أنها فينا نزلت.
وقال أبو سعيد الخدري: كنا نقول ربنا واحد وديننا واحد ونبينا واحد فما هذه الخصومة فلما كان يوم صفين وشد بعضنا على بعض بالسيوف قلنا نعم هو هذا.
وقال إبراهيم النخعي: لما نزلت هذه الآية جعل أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولون: ما خصومتنا بيننا؟ فلما قتل عثمان رضي الله عنه قالوا: هذه خصومتنا بيننا. وقيل تخاصمهم هو تحاكمهم إلى الله تعالى، فيستوفي من حسنات الظالم بقدر مظلمته، ويردها في حسنات من وجبت له. وهذا عام في جميع المظالم كما في حديث أبي هريرة، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «أتدرون من المفلس قالوا: المفلس فينا من لا درهم له ولا متاع. قال: إن المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وصيام وزكاة ويأتي قد شتم هذا وقذف هذا واكل مال هذا وسفك دم هذا وضرب هذا فيعطى هذا من حسناته وهذا من حسناته فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أخذ من خطاياهم فطرحت عليه ثم طرفي النار» خرجه مسلم. وقد مضى المعنى مجودا في آل عمران وفي البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «من كانت له مظلمة لأحد من عرضه أو شيء فليتحلله منه اليوم قبل ألا يكون دينار ولا درهم إن كان له عمل صالح أخذ منه بقدر مظلمته وإن لم تكن له حسنات أخذ من سيئات صاحبه فحمل عليه» وفي الحديث المسند: «أول ما تقع الخصومات في الدنيا» وقد ذكرنا هذا الباب كله في التذكرة مستوفى.

.تفسير الآيات (32- 35):

{فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35)}
قوله تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ} أي لا أحد أظلم {مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ} فزعم أن له ولدا وشريكا {وكذب بالصدق} يعني القرآن {أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ} لاستفهام تقرير {مَثْوىً لِلْكافِرِينَ} أي مقام للجاحدين، وهو مشتق من ثوى بالمكان إذ أقام به يثوي ثواء وثويا مثل مضى مضاء ومضيا، ولو كان من أثوى لكان مثوى. وهذا يدل على أن ثوى هي اللغة الفصيحة.
وحكى أبو عبيد أثوى، وأنشد قول الأعشى:
أثوى وقصر ليلة ليزودا ** وومضى وأخلف من قتيلة موعدا

والأصمعي لا يعرف إلا ثوى، ويروى البيت أثوى على الاستفهام. وأثويت غيري يتعدى ولا يتعدى. قوله تعالى: {وَالَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ} في موضع رفع بالابتداء وخبره {أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} واختلف في الذي جاء بالصدق وصدق به، فقال علي رضي الله عنه: {الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ} النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَصَدَّقَ بِهِ} أبو بكر رضي الله عنه.
وقال مجاهد: النبي عليه السلام وعلي رضي الله عنه. السدي: الذي جاء بالصدق جبريل والذي صدق به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال ابن زيد ومقاتل وقتادة: {الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ} النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم {وَصَدَّقَ بِهِ} المؤمنون. واستدلوا على ذلك بقوله: {أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} كما قال: {هُدىً لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2].
وقال النخعي ومجاهد: {الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ} المؤمنون الذين يجيئون بالقرآن يوم القيامة فيقولون: هذا الذي أعطيتمونا قد اتبعنا ما فيه، فيكون {الَّذِي} على هذا بمعنى جمع كما تكون من بمعنى جمع.
وقيل: بل حذفت منه النون لطول الاسم، وتأول الشعبي على أنه واحد. وقال: {الذي جاء بالصدق} محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيكون على هذا خبره جماعة، كما يقال لمن يعظم هو فعلوا، وزيد فعلوا كذا وكذا.
وقيل: إن ذلك عام في كل من دعا إلى توحيد الله عز وجل، قاله ابن عباس وغيره، واختاره الطبري.
وفي قراءة ابن مسعود {والذي جاءوا بالصدق وصدقوا به} وهي قراءة على التفسير.
وفي قراءة أبي صالح الكوفي {والذي جاء بالصدق وصدق به} مخففا على معنى وصدق بمجيئه به، أي صدق في طاعة الله عز وجل، وقد مضى في البقرة الكلام في {الذي} وأنه يكون واحدا ويكون جمعا. {لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ} أي من النعيم في الجنة، كما يقال: لك إكرام عندي، أي ينالك مني ذلك. {ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ} الثناء في الدنيا والثواب في الآخرة. قوله تعالى: {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ} أي صدقوا {لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ}. {أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا} أي يكرمهم ولا يؤاخذهم بما عملوا قبل الإسلام. {وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ} أي يثيبهم على الطاعات الدنيا {بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ} وهي الجنة.

.تفسير الآيات (36- 37):

{أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37)}
قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ} حذفت الياء من كاف لسكونها وسكون التنوين بعدها، وكان الأصل ألا تحذف في الوقف لزوال التنوين، إلا أنها حذفت ليعلم أنها كذلك في الوصل. ومن العرب من يثبتها في الوقف على الأصل فيقول: كافي. وقراءة العامة {عبده} بالتوحيد يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يكفيه الله وعيد المشركين وكيدهم. وقرأ حمزة والكسائي {عباده} وهم الأنبياء أو الأنبياء والمؤمنون بهم. واختار أبو عبيد قراءة الجماعة لقوله عقيبه: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ}. ويحتمل أن يكون العبد لفظ الجنس، كقوله عز من قائل: {إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر: 2] وعلى هذا تكون القراءة الأولى راجعة إلى الثانية. والكفاية شر الأصنام، فإنهم كانوا يخوفون المؤمنين بالأصنام، حتى قال إبراهيم عليه السلام. {وَكَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَلا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ} [الأنعام: 81].
وقال الجرجاني: إن الله كاف عبده المؤمن وعبده الكافر، هذا بالثواب وهذا بالعقاب.
قوله تعالى: {وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ} وذلك أنهم خوفوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مضرة الأوثان، فقالوا: أتسب آلهتنا؟ لئن لم تكف عن ذكرها لتخبلنك أو تصيبنك بسوء.
وقال قتادة: مشى خالد بن الوليد إلى العزى ليكسرها بالفأس. فقال له سادنها: أحذركها يا خالد فإن لها شدة لا يقوم لها شي، فعمد خالد إلى العزى فهشم أنفها حتى كسرها بالفأس. وتخويفهم لخالد تخويف للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لأنه الذي وجه خالدا. ويدخل في الآية تخويفهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكثرة جمعهم وقوتهم، كما قال: {أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ} [القمر: 44] {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ} تقدم. {وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ} أي ممن عاداه أو عادى رسله.