فصل: تفسير الآيات (18- 22):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (18- 22):

{وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْ ءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22)}
قوله تعالى: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ} أي يوم القيامة. سميت بذلك لأنها قريبة، إذ كل ما هو آت قريب. وأزف فلان أي قرب يأزف أزفا، قال النابغة:
أزف الترحل غير أن ركابنا ** لما تزبر حالنا وكان قد

أي قرب. ونظير هذه الآية: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ} [النجم: 57] أي قربت الساعة. وكان بعضهم يتمثل ويقول:
أزف الرحيل وليس لي من زاد غير ** الذنوب لشقوتي ونكادي

{إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ} على الحال وهو محمول على المعنى. قال الزجاج: المعنى إذ قلوب الناس {لَدَى الْحَناجِرِ} في حال كظمهم. وأجاز الفراء أن يكون التقدير {وَأَنْذِرْهُمْ} كاظمين. وأجاز رفع {كاظمين} على أنه خبر للقلوب. وقال: المعنى إذ هم كاظمون.
وقال الكسائي: يجوز رفع {كاظمين} على الابتداء. وقد قيل: إن المراد ب {يَوْمَ الْآزِفَةِ} يوم حضور المنية، قاله قطرب. وكذا {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ} عند حضور المنية. والأول أظهر.
وقال قتادة: وقعت في الحناجر المخافة فهي لا تخرج ولا تعود في أمكنتها، وهذا لا يكون إلا يوم القيامة كما قال: {وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ}.
وقيل: هذا إخبار عن نهاية الجزع، كما قال: {وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ} وأضيف اليوم إلى {الْآزِفَةِ} على تقدير يوم القيامة {الْآزِفَةِ} أو يوم المجادلة {الْآزِفَةِ}. وعند الكوفيين هو من باب إضافة الشيء إلى نفسه مثل مسجد الجامع وصلاة الأولى. {ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ} أي من قريب ينفع {وَلا شَفِيعٍ يُطاعُ} فيشفع فيهم. قوله تعالى: {يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ} قال المؤرج: فيه تقديم وتأخير أي يعلم الأعين الخائنة وقال ابن عباس: هو الرجل يكون جالسا مع القوم فتمر المرأة فيسارقهم النظر إليها. وعنه: هو الرجل ينظر إلى المرأة فإذا نظر إليه أصحابه غض بصره، فإذا رأى منهم غفلة تدسس بالنظر، فإذا نظر إليه أصحابه غض بصره، وقد علم الله عز وجل منه أنه يود لو نظر إلى عورتها.
وقال مجاهد هي مسارقة نظر الأعين إلى ما نهى الله عنه.
وقال قتادة: هي الهمزة بعينه وإغماضه فيما لا يحب الله تعالى.
وقال الضحاك: هي قول الإنسان ما رأيت وقد رأى أو رأيت وما رأى.
وقال السدي: إنها الرمز بالعين.
وقال سفيان: هي النظرة بعد النظرة.
وقال الفراء: {خائِنَةَ الْأَعْيُنِ} النظرة الثانية {وَما تُخْفِي الصُّدُورُ} النظرة الأولى.
وقال ابن عباس: {وَما تُخْفِي الصُّدُورُ} أي هل يزني بها لو خلا بها أو لا.
وقيل: {وَما تُخْفِي الصُّدُورُ} تكنه وتضمره. ولما جئ بعبد الله بن أبي سرح إلى رسول الله لي الله عليه وسلم، بعد ما اطمأن أهل مكة وطلب له الأمان عثمان رضي الله عنه، صمت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طويلا ثم قال: {نعم} فلما انصرف قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن حوله: «ما صمت إلا ليقوم إليه بعضكم فيضرب عنقه» فقال رجل من الأنصار فهلا أومأت إلي يا رسول الله، فقال: «إن النبي لا تكون له خائنة أعين». {والله يقضى بالحق} أي يجازي من غض بصره عن المحارم، ومن نظر إليها، ومن عزم على مواقعة الفواحش إذا قدر عليها. {وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ} يعني الأوثان {لا يَقْضُونَ بِشَيْ ءٍ} لأنها لا تعلم شيئا ولا تقدر عليه ولا تملك. وقراءة العامة بالياء على الخبر عن الظالمين وهي اختيار أبي عبيد وأبي حاتم. وقرأ نافع وشيبة وهشام: {تدعون} بالتاء. {إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} {هو} زائدة فاصلة. ويجوز أن تكون في موضع رفع بالابتداء وما بعدها خبر والجملة خبر إن.
قوله تعالى: {أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا} في موضع جزم عطف على {يَسِيرُوا} ويجوز أن يكون في موضع نصب على أنه جواب، والجزم والنصب في التثنية والجمع واحد. {كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ} اسم كان والخبر في {كَيْفَ}. و{واقٍ} في موضع خفض معطوف على اللفظ. ويجوز أن يكون في موضع رفع على الموضع فرفعه وخفضه واحد، لأن الياء تحذف وتبقى الكسرة دالة عليها وقد مضى الكلام في معنى هذه الآية في غير موضع فأغنى عن الإعادة.

.تفسير الآيات (23- 27):

{وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَسُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا} وهي التسع الآيات المذكورة في قوله تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ} [الإسراء: 101] وقد مضى تعيينها. {وَسُلْطانٍ مُبِينٍ} أي بحجة واضحة بينة، وهو يذكر ومؤنث.
وقيل: أراد بالسلطان التوراة. {إِلى فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَقارُونَ} خصهم بالذكر لأن مدار التدبير في عداوة موسى كان عليهم، ففرعون الملك وهامان الوزير وقارون صاحب الأموال والكنوز فجمعه الله معهما، لأن عمله في الكفر والتكذيب كأعمالهما. {فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ} لما عجزوا عن معارضته حملوا المعجزات على السحر.
قوله تعالى: {فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا} وهي المعجزة الظاهرة {قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} قال قتادة: هذا قتل غير القتل الأول، لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الولدان بعد ولادة موسى، فلما بعث الله موسى أعاد القتل على بني إسرائيل عقوبة لهم فيمتنع الإنسان من الإيمان، ولئلا يكثر جمعهم فيعتضدوا بالذكور من أولادهم. فشغلهم الله عن ذلك بما أنزل عليهم من أنواع العذاب. كالضفادع والقمل والدم والطوفان إلى أن خرجوا من مصر، فأغرقهم الله. وهذا معنى قوله تعالى: {وَما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ} أي في خسران وهلاك، وان الناس لا يمتنعون من الايمان وإن فعل بهم مثل هذا فكيده يذهب باطلا. قوله تعالى: {وَقالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} {أقتل} جزم، لأنه جواب الأمر {وَلْيَدْعُ} جزم، لأنه أمر و{ذَرُونِي} ليس بمجزوم وإن كان أمرا ولكن لفظه لفظ المجزوم وهو مبني.
وقيل: هذا يدل على أنه قيل لفرعون: إنا نخاف أن يدعو عليك فيجاب، فقال: {وَلْيَدْعُ رَبَّهُ} أي لا يهولنكم ما يذكر من ربه فإنه لا حقيقة له وأنا ربكم الأعلى. {إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ} أي عبادتكم لي إلى عبادة ربه {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ} إن لم يبدل دينكم فإنه يظهر في الأرض الفساد. أي يقع بين الناس بسببه الخلاف. وقراءة المدنيين وأبي عبد الرحمن السلمي وابن عامر وأبي عمرو: {أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ} وقراءة الكوفيين {أو أن يظهر} بفتح الياء {الفساد} بالرفع وكذلك هي في مصاحف الكوفيين: {أو} بألف وإليه يذهب أبو عبيد، قال: لأن فيه زيادة حرف وفيه فصل، ولأن {أو} تكون بمعنى الواو. النحاس: وهذا عند حذاق النحويين لا يجوز أن تكون بمعنى الواو، لأن في ذلك بطلان المعاني، ولو جاز أن تكون بمعنى الواو لما احتيج إلى هذا ها هنا، لأن معنى الواو {إِنِّي أَخافُ} الأمرين جميعا ومعنى {أو} لأحد الأمرين أي {إني أخاف أن يبدل دينكم} فإن أعوزه ذلك أظهر في الأرض الفساد. قوله تعالى: {وَقالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ} لما هدده فرعون بالقتل استعاذ موسى بالله {مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ} أي متعظم عن الإيمان بالله، وصفته أنه {لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ}.

.تفسير الآية رقم (28):

{وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَقالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ} ذكر بعض المفسرين: أن اسم هذا الرجل حبيب.
وقيل: شمعان بالشين المعجمة. قال السهيلي: وهو أصح ما قيل فيه.
وفي تاريخ الطبري رحمه الله: اسمه خبرك.
وقيل: حزقيل. ذكره الثعلبي عن ابن عباس وأكثر العلماء. الزمخشري: واسمه سمعان أو حبيب.
وقيل: خربيل أو حزبيل. واختلف هل كان إسرائيليا أو قبطيا فقال الحسن وغيره: كان قبطيا. ويقال: إنه كان ابن عم فرعون، قاله السدي. قال: وهو الذي نجا مع موسى عليه السلام، ولهذا قال: {مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ} وهذا الرجل هو المراد بقوله تعالى: {وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى} [القصص: 20] الآية. وهذا قول مقاتل.
وقال ابن عباس: لم يكن من آل فرعون مؤمن غيره وغير امرأة فرعون وغير المؤمن الذي أنذر موسى فقال: {إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ} [القصص: 20]. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «الصديقون حبيب النجار مؤمن آل يس ومؤمن آل فرعون الذي قال أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ والثالث أبو بكر الصديق وهو أفضلهم» وفي هذا تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي لا تعجب من مشركي قومك. وكان هذا الرجل له وجاهة عند فرعون، فلهذا لم يتعرض له بسوء.
وقيل: كان هذا الرجل من بني إسرائيل يكتم إيمانه من آل فرعون، عن السدي أيضا. ففي الكلام على هذا تقديم ف {من} عنده متعلقة بمحذوف صفة لرجل، تأخير، والتقدير: وقال رجل مؤمن منسوب من آل فرعون. أي من أهله وأقاربه. ومن جعله إسرائيليا ف {مُؤْمِنٌ} متعلقة ب {يَكْتُمُ} في موضع المفعول الثاني ل {يَكْتُمُ}. القشيري: ومن جعله إسرائيليا ففيه بعد، لأنه يقال كتمه أمر كذا ولا يقال كتم منه. قال الله تعالى: {وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً} [النساء: 42] وأيضا ما كان فرعون يحتمل من بني إسرائيل مثل هذا القول.
الثانية: قوله تعالى: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} أي لان يقول ومن أجل {أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} ومن أجل {أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} ف {أن} في موضع نصب بنزع الخافض. {وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ} يعني الآيات التسع {مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ} ولم يكن ذلك لشك منه في رسالته وصدقه، ولكم تلطفا في الاستكفاف واستنزلا عن الأذى. ولو كان و{إن يكن} بالنون جاز ولكم حذفت النون لكثرة الاستعمال على قول سيبويه، ولأنها نون الاعراب على قول أبى العباس. {وَإِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} أي إن لم يصبكم الا بعض الذي يعدكم به هلكتم. ومذهب أبى عبيدة أن معنى {بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ} كل الذي يعدكم، وأنشد قول لبيد:
تراك أمكنه إذا لم أرضها ** او يرتبط بعض النفوس حمامها

فبعض بمعنى كل لان البعض إذا أصابهم أصابهم الكل لا محالة لدخوله في الوعيد، وهذا ترقيق الكلام في الوعظ. وذكر الماوردي: أن البعض قد يستعمل في موضع الكل تلطفا في الخطاب وتوسعا في الكلام، كما قال الشاعر:
قد يدرك المتأني بعض حاجته ** وقد يكون مع المتعجل الزلل

وقيل أيضا: قال ذلك لأنه حذرهم أنواعا من العذاب كل نوع منها مهلك فكأنه حذرهم أن يصيبهم بعض تلك الأنواع. وقيل وعدهم موسى بعذاب الدنيا أو بعذاب الآخرة إن كفروا فالمعنى يصبكم أحد العذابين.
وقيل: أي يصبكم هذا العذاب الذي يقوله في الدنيا وهو بعض الوعيد، ثم يترادف العذاب في الآخرة أيضا.
وقيل: وعدهم العذاب إن كفروا والثواب ان آمنوا، فإذا كفروا يصيبهم بعض ما وعدوا. {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ} على نفسه {كَذَّابٌ} على ربه إشارة الى موسى ويكون هذا من قول المؤمن.
وقيل: {مُسْرِفٌ} في عناده {كَذَّابٌ} في ادعائه اشارة الى فرعون ويكون هذا من قول الله تعالى.
الثالثة: قوله تعالى: {يَكْتُمُ إِيمانَهُ} قال القاضي أبو بكر بن العربي: ظن بعضهم أن المكلف إذا كتم إيمانه ولم يتلفظ به بلسانه لا يكون مؤمنا باعتقاده، وقد قال مالك: إن الرجل إذا نوى الكفر بقلبه كان كافرا وإن لم يتلفظ بلسانه، وأما إذا نوى الايمان بقلبه فلا يكون مؤمنا بحال حتى يتلفظ بلسانه، ولا تمنعه التقية والخوف من أن يتلفظ بلسانه فيما بينه وبين الله تعالى، انما تمنعه من أن يسمعه غيره، وليس من شرط الايمان أن يسمعه الغير في صحته من التكليف، وإنما يشترط سماع الغير له ليكف عن نفسه وماله. الر أبعه- روى البخاري ومسلم عن عروة بن الزبير قال قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص: أخبرني باشد ما صنعه المشركون برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: بينا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بفناء الكعبة، وإذ أقبل عقبة بن أبي معيط، فأخذ بمنكب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولوى ثوبه في عنقه فخنقه به خنقا شديدا، فأقبل أبو بكر بمنكبه ودفع عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ} لفظ البخاري. خرجه الترمذي الحكيم في نوادر الأصول من حديث جعفر بن محمد عن أبيه عن علي رضي الله عنه قال: اجتمعت قريش بعد وفاة أبي طالب بثلاث فأرادوا قتل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأقبل هذا يجوؤه وهذا يتلتله، فاستغاث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يومئذ فلم يغثه أحد إلا أبو بكر وله ضفيرتان، فأقبل يجأ ذا ويتلتل ذا ويقول بأعلى صوته: ويلكم: {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ} والله إنه لرسول الله، فقطعت إحدى ضفيرتي أبي بكر يومئذ. فقال علي: والله ليوم أبي بكر خير من مؤمن آل فرعون، إن ذلك رجل كتم إيمانه، فأثنى الله عليه في كتابه، وهذا أبو بكر أظهر إيمانه وبذل مال ودمه لله عز وجل. قلت: قول علي رضي الله عنه إن ذلك رجل كتم إيمانه يريد في أول أمره بخلاف الصديق فإنه أظهر إيمانه ولم يكتمه، وإلا فالقرآن مصرح بأن مؤمن آل فرعون أظهر إيمانه لما أرادوا قتل موسى عليه السلام على ما يأتي بيانه. في نوادر الأصول أيضا عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالوا لها: ما أشد شيء رأيت المشركين بلغوا من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فقالت: كان المشركون قعودا في المسجد، ويتذاكرون رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يقول في آلهتهم، فبينا هم كذلك إذ دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقاموا إليه بأجمعهم وكانوا إذا سألوه عن شيء صدقهم، فقالوا: الست تقول كذا في آلهتنا قال: {بلى} فتشبثوا فيه بأجمعهم فأتى الصريخ إلى أبي بكر فقال له: أدرك صاحبك. فخرج من عندنا وإن له غدائر، فدخل المسجد وهو يقول: ويلكم {أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ} فلهوا عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأقبلوا على أبي بكر، فرجع إلينا أبو بكر فجعل لا يمس شيئا من غدائره إلا جاء معه، وهو يقول: تباركت يا ذا الجلال والإكرام، إكرام إكرام.