فصل: تفسير الآية رقم (44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (44):

{وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44)}
قوله تعالى: {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ} أي يخذله {فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ} هذا فيمن أعرض عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيما دعاه إليه من الايمان بالله والمودة في القربى، ولم يصدقه في البعث وأن متاع الدنيا قليل. أي من أضله الله عن هذه الأشياء فلا يهديه هاد. قوله تعالى: {وَتَرَى الظَّالِمِينَ} أي الكافرين. {لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ} يعني جهنم. وقيل رأوا العذاب عند الموت. {يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ} يطلبون أن يردوا إلى الدنيا ليعملوا بطاعة الله فلا يجابون إلى ذلك.

.تفسير الآية رقم (45):

{وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45)}
قوله تعالى: {وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها} أي على النار لأنها عذابهم، فكنى عن العذاب المذكور بحرف التأنيث، لان ذلك العذاب هو النار، وإن شئت جهنم، ولو راعى اللفظ لقال عليه. ثم قيل: هم المشركون جميعا يعرضون على جهنم عند انطلاقهم إليها، قاله الأكثرون.
وقيل: آل فرعون خصوصا، تحبس أرواحهم في أجواف طير سود تغدو على جهنم وتروح، فهو عرضهم عليها، قاله ابن مسعود.
وقيل: إنهم عامة المشركين، تعرض عليهم ذنوبهم في قبورهم، ويعرضون على العذاب في قبورهم، وهذا معنى قول أبي الحجاج. {خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ} ذهب بعض القراء إلى الوقف على {خاشِعِينَ}. وقوله: {مِنَ الذُّلِّ} متعلق ب {يَنْظُرُونَ}.
وقيل: متعلق ب {خاشِعِينَ}. والخشوع الانكسار والتواضع. ومعنى {يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} أي لا يرفعون أبصارهم للنظر رفعا تاما، لأنهم ناكسو الرؤوس. والعرب تصف الذليل بغض الطرف، كما يستعملون في ضده حديد النظر إذا لم يتهم بريبة فيكون عليه منها غضاضة.
وقال مجاهد: {مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ} أي ذليل، قال: وإنما ينظرون بقلوبهم لأنهم يحشرون عميا، وعين القلب طرف خفي.
وقال قتادة والسدي والقرظي وسعيد بن جبير: يسارقون النظر من شدة الخوف.
وقيل: المعنى ينظرون من عين ضعيفة النظر.
وقال يونس: {من} بمعنى الباء، أي ينظرون بطرف خفي، أي ضعيف من الذل والخوف، ونحوه عن الأخفش.
وقال ابن عباس: بطرف ذابل ذليل.
وقيل: أي يفزعون أن ينظروا إليها بجميع أبصارهم لما يرون من أصناف العذاب. {وَقالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} أي يقول المؤمنون في الجنة لما عاينوا ما حل بالكفار إن الخسران في الحقيقة ما صار إليه هؤلاء، فإنهم خسروا أنفسهم لأنهم في العذاب المخلد، وخسروا أهليهم لان الأهل إن كانوا في النار فلا انتفاع بهم، وإن كانوا في الجنة فقد حيل بينه وبينهم.
وقيل: خسران الأهل أنهم لو آمنوا لكان لهم أهل في الجنة من الحور العين.
وفي سنن ابن ماجه عن أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما منكم من أحد إلا له منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار فإذا مات فدخل النار ورث أهل الجنة منزله فذلك قوله تعالى: {أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ} [المؤمنون: 10]». وقد تقدم.
وفي مسند الدارمي عن أبي أمامة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من أحد يدخله الله الجنة إلا زوجه اثنتين وسبعين زوجة من الحور العين وسبعين من ميراثه من أهل النار وما منهن واحدة إلا ولها قبل شهي وله ذكر لا ينثني». قال هشام ابن خالد: «من ميراثه من أهل النار» يعني رجالا أدخلوا النار فورث أهل الجنة نساءهم كما ورثت امرأة فرعون. {أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ} أي دائم لا ينقطع. ثم يجوز أن يكون هذا من قول المؤمنين، ويجوز أن يكون ابتداء من الله تعالى.

.تفسير الآية رقم (46):

{وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)}
قوله تعالى: {وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ} أي أعوانا ونصراء {يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ} أي من عذابه {وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ} أي طريق يصل به إلى الحق في الدنيا والجنة في الآخرة، لأنه قد سدت عليه طريق النجاة.

.تفسير الآية رقم (47):

{اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47)}
قوله تعالى: {اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ} أي أجيبوه إلى ما دعاكم إليه من الايمان به والطاعة. استجاب وأجاب بمعنى، وقد تقدم. {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ} يريد يوم القيامة، أي لا يرده أحد بعد ما حكم الله به وجعله أجلا ووقتا. {ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ} أي من ملجأ ينجيكم من العذاب. {وَما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ} أي من ناصر ينصركم، قاله مجاهد.
وقيل: النكير بمعنى المنكر، كالأليم بمعنى المؤلم، أي لا تجدون يومئذ منكرا لما ينزل بكم من العذاب، حكاه ابن أبى حاتم، وقاله الكلبي. الزجاج: معناه أنهم لا يقدرون أن ينكروا الذنوب التي يوقفون عليها.
وقيل: {مِنْ نَكِيرٍ} أي إنكار ما ينزل بكم من العذاب، والنكير والإنكار تغيير المنكر.

.تفسير الآية رقم (48):

{فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48)}
قوله تعالى: {فَإِنْ أَعْرَضُوا} أي عن الايمان {فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً} أي حافظا لأعمالهم حتى تحاسبهم عليها.
وقيل: موكلا بهم لا تفارقهم دون أن يؤمنوا، أي ليس لك إكراههم على الايمان. {إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ} وقيل: نسخ هذا بآية القتال. {وَإِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ} الكافر. {مِنَّا رَحْمَةً} رخاء وصحة. {فَرِحَ بِها} بطر بها. {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ} بلاء وشدة. {بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ} أي لما تقدم من النعمة فيعدد المصائب وينسى النعم.

.تفسير الآيات (49- 50):

{لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)}
قوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ} فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} ابتداء وخبر. {يَخْلُقُ ما يَشاءُ} من الخلق. {يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ} قال أبو عبيدة وأبو مالك ومجاهد والحسن والضحاك: يهب لمن يشاء إناثا لا ذكور معهن، ويهب لمن يشاء ذكورا لا إناثا معهم، وأدخل الالف واللام على الذكور دون الإناث لأنهم أشرف فميزهم بسمة التعريف.
وقال واثلة بن الأسقع: إن من يمن المرأة تبكيرها بالأنثى قبل الذكر، وذلك أن الله تعالى قال: {يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ} فبدأ بالإناث. {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً} قال مجاهد: هو أن تلد المرأة غلاما ثم تلد جارية، ثم تلد غلاما ثم تلد جارية.
وقال محمد بن الحنفية: هو أن تلد توأما، غلاما وجارية، أو يزوجهم ذكرانا وإناثا. قال القتبي: التزويج ها هنا هو الجمع بين البنين والبنات، تقول العرب: زوجت إبلي إذا جمعت بين الكبار والصغار. {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً} أي لا يولد له، يقال: رجل عقيم، وامرأة عقيم. وعقمت المرأة تعقم عقما، مثل حمد يحمد. وعقمت تعقم، مثل عظم يعظم. وأصله القطع، ومنه الملك العقيم، أي تقطع فيه الأرحام بالقتل والعقوق خوفا على الملك. وريح عقيم، أي لا تلقح سحابا ولا شجرا. ويوم القيامة يوم عقيم، لأنه لا يوم بعده. ويقال: نساء عقم وعقم، قال الشاعر:
عقم النساء فما يلدن شبيهه ** إن النساء بمثله عقم

وحكى النقاش أن هذه الآية نزلت في الأنبياء خصوصا وإن عم حكمها. وهب للوط الإناث ليس معهن ذكر، ووهب لإبراهيم الذكور ليس معهم أنثى، ووهب لإسماعيل وإسحاق الذكور والإناث، وجعل عيسى ويحيى عقيمين، ونحوه عن ابن عباس وإسحاق بن بشر. قال إسحاق: نزلت في الأنبياء، ثم عمت. {يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً} يعني لوطا عليه السلام، لم يولد له ذكر وإنما ولد له ابنتان. {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ} يعني إبراهيم عليه السلام لم يولد له أنثى بل ولد له ثمانية ذكور. {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً} يعني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ولد له أربعة بنين وأربع بنات. {وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً} يعني يحيى بن زكريا عليهما السلام، لم يذكر عيسى. ابن العربي: قال علماؤنا {يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً} يعني لوطا كان له بنات ولم يكن له ابن. {وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ} يعني إبراهيم، كان له بنون ولم يكن له بنت. وقوله: {أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً} يعني آدم، كانت حواء تلد له في كل بطن توأمين ذكرا وأنثى، ويزوج الذكر من هذا البطن من الأنثى من البطن الآخر، حتى أحكم الله التحريم في شرع نوح صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وكذلك محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان له ذكور وإناث من الأولاد: القاسم والطيب والطاهر وعبد الله وزينب وام كلثوم ورقية وفاطمة، وكلهم من خديجة رضي الله عنها، وإبراهيم وهو من مارية القبطية. وكذلك قسم الله الخلق من لدن آدم إلى زماننا هذا، إلى أن تقوم الساعة، على هذا التقدير المحدود بحكمته البالغة ومشيئته النافذة، ليبقى النسل، ويتمادى الخلق، وينفذ الوعد، ويحق الامر، وتعمر الدنيا، وتأخذ الجنة وجهنم كل واحدة ما يملؤها ويبقى. ففي الحديث: «إن النار لن تمتلئ حتى يضع الجبار فيها قدمه، فتقول قط قط. وأما الجنة فيبقى منها فينشئ الله لها خلقا آخر»
الثانية: قال ابن العربي: إن الله تعالى لعموم قدرته وشديد قوته يخلق الخلق ابتداء من غير شي، وبعظيم لطفه وبالغ حكمته يخلق شيئا من شيء لا عن حاجة، فانه قدوس عن الحاجات سلام عن الآفات، كما قال القدوس السلام، فخلق آدم من الأرض وخلق حواء من آدم وخلق النشأة من بينهما منهما مرتبا على الوطي كائنا عن الحمل موجودا في الجنين بالوضع، كما قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة اذكرا وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل أنثى». وكذلك في الصحيح أيضا: «إذا علا ماء الرجل ماء المرأة أشبه الولد أعمامه وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أشبه الولد أخواله». قلت: وهذا معنى حديث عائشة لا لفظه خرجه مسلم من حديث عروة بن الزبير عنها أن امرأة قالت لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هل تغتسل المرأة إذا احتلمت وأبصرت الماء؟ فقال: نعم فقالت لها عائشة: تربت يداك وألت، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: دعيها وهل يكون الشبه إلا من قبل ذلك. إذا علا ماؤها ماء الرجل أشبه الولد أخواله وإذا علا ماء الرجل ماءها أشبه أعمامه». قال علماؤنا: فعلى مقتضى هذا الحديث أن العلو يقتضي الشبه، وقد جاء في حديث ثوبان خرجه مسلم أيضا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال لليهودي: «ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا فعلا مني الرجل مني المرأة اذكرا بإذن الله وإذا علا مني المرأة مني الرجل أنثى بإذن الله...» الحديث. فجعل في هذا الحديث أيضا العلو يقتضي الذكورة والأنوثة، فعلى مقتضى الحديثين يلزم اقتران الشبه للأعمام والذكورة إن علا مني الرجل، وكذلك يلزم إن علا مني المرأة اقتران الشبه للأخوال والأنوثة، لأنهما معلولا علة واحدة، وليس الامر كذلك بل الوجود بخلاف ذلك، لأنا نجد الشبه للأخوال والذكورة والشبه للأعمام والأنوثة فتعين تأويل أحد الحديثين. والذي يتعين تأويله الذي في حديث ثوبان فيقال: إن ذلك العلو معناه سبق الماء إلى الرحم، ووجهه أن العلو لما كان معناه الغلبة من قولهم سابقني فلان فسبقته أي غلبته، ومنه قوله تعالى: {وَما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [الواقعة: 60] أي بمغلوبين قيل عليه: علا. ويؤيد هذا التأويل قوله في الحديث: «إذا سبق ماء الرجل ماء المرأة اذكرا وإذا سبق ماء المرأة ماء الرجل أنثى». وقد بنى القاضي أبو بكر بن العربي على هذه الأحاديث بناء فقال: إن للماءين أربعة أحوال: الأول أن يخرج ماء الرجل أولا، الثاني أن يخرج ماء المرأة أولا، الثالث أن يخرج ماء الرجل أولا ويكون أكثر، الرابع أن يخرج ماء المرأة أولا ويكون أكثر. ويتم التقسيم بأن يخرج ماء الرجل أولا ثم يخرج ماء المرأة بعده ويكون أكثر أو بالعكس، فإذا خرج ماء الرجل أولا وكان أكثر جاء الولد ذكرا بحكم السبق وأشبه الولد أعمامه بحكم الكثرة. وإن خرج ماء المرأة أولا وكان أكثر جاء الولد أنثى بحكم السبق وأشبه أخواله بحكم الغلبة. وإن خرج ماء الرجل أولا لكن لما خرج ماء المرأة بعده كان أكثر كان الولد ذكرا بحكم السبق وأشبه أخواله بحكم غلبة ماء المرأة. وإن سبق ماء المرأة لكن لما خرج ماء الرجل كان أعلى من ماء المرأة كان الولد أنثى بحكم سبق ماء المرأة وأشبه أعمامه بحكم غلبة ماء الرجل. قال: وبانتظام هذه الأقسام يستتب الكلام ويرتفع التعارض عن الأحاديث، فسبحان الخالق العليم.
الثالثة: قال علماؤنا: كانت الخلقة مستمرة ذكرا وأنثى إلى أن وقع في الجاهلية الأولى الخنثى فأتي به فريض العرب ومعمرها عامر بن الظرب فلم يدر ما يقول فيه وأرجأهم عنه، فلما جن عليه الليل تنكر موضعه، وأقض عليه مضجعه، وجعل يتقلى ويتقلب، وتجيء به الأفكار وتذهب، إلى أن أنكرت خادمه حاله فقالت: ما بك؟ قال لها: سهرت لأمر قصدت به فلم أدر ما أقول فيه؟ فقالت ما هو؟ قال لها: رجل له ذكر وفرج كيف يكون حاله في الميراث؟ قالت له الامة: ورثه من حيث يبول، فعقلها وأصبح فعرضها عليهم وانقلبوا بها راضين. وجاء الإسلام على ذلك فلم تنزل إلا في عهد علي رضي الله عنه فقضى فيها. وقد روى الفرضيون عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه سئل عن مولود له قبل وذكر من أين يورث؟ قال: من حيث يبول. وروي أنه أتى بخنثى من الأنصار فقال: «ورثوه من أول ما يبول». وكذا روى محمد بن الحنفية عن علي، ونحوه عن ابن عباس، وبه قال ابن المسيب وأبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد، وحكاه المزني عن الشافعي.
وقال قوم: لا دلالة في البول، فان خرج البول منهما جميعا قال أبو يوسف: يحكم بالأكثر. وأنكره أبو حنيفة وقال: أتكيله! ولم يجعل أصحاب الشافعي للكثرة حكما. وحكي عن علي والحسن أنهما قالا: تعد أضلاعه، فان المرأة تزيد على الرجل بضلع واحد. وقد مضى ما للعلماء في هذا في آية المواريث في {النساء} مجودا والحمد لله.
الرابعة: قال القاضي أبو بكر بن العربي: وقد أنكر قوم من رءوس العوام وجود الخنثى، لان الله تعالى قسم الخلق إلى ذكر وأنثى. قلنا: هذا جهل باللغة، وغباوة عن مقطع الفصاحة، وقصور عن معرفة سعة القدرة. أما قدرة الله سبحانه فانه واسع عليم، وأما ظاهر القرآن فلا ينفي وجود الخنثى، لان الله تعالى قال: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ}. فهذا عموم مدح فلا يجوز تخصيصه، لان القدرة تقتضيه. وأما قوله: {يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً} فهذا إخبار عن الغالب في الموجودات، وسكت عن ذكر النادر لدخوله تحت عموم الكلام الأول، والوجود يشهد له والعيان يكذب منكره، وقد كان يقرأ معنا برباط أبي سعيد على الامام الشهيد من بلاد المغرب خنثى ليس له لحية وله ثديان وعنده جارية، فربك أعلم به، ومع طول الصحبة عقلني الحياء عن سؤاله، وبودي اليوم لو كاشفته عن حاله.