فصل: تفسير الآية رقم (51):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (51):

{وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً} سبب ذلك أن اليهود قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ألا تكلم الله وتنظر إليه إن كنت نبيا كما كلمه موسى ونظر إليه، فإنا لن نؤمن لك حتى تفعل ذلك. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن موسى لن ينظر إليه» فنزل قوله: {وَما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً}، ذكره النقاش والواحدي والثعلبي. {وَحْياً} قال مجاهد: نفث ينفث في قلبه فيكون إلهاما، ومنه قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن روح القدس نفث في روعي إن نفسا لن تموت حتى تستكمل، رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب. خذوا ما حل ودعوا ما حرم». {أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ} كما كلم موسى. {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} كارساله جبريل عليه السلام.
وقيل: {إِلَّا وَحْياً} رؤيا يراها في منامه، قاله محمد بن زهير. {أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ} كما كلم موسى. {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} قال زهير هو جبريل عليه السلام. {فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ} وهذا الوحي من الرسل خطاب منهم للأنبياء يسمعونه نطقا ويرونه عيانا. وهكذا كانت حال جبريل عليه السلام إذا نزل بالوحي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال ابن عباس: نزل جبريل عليه السلام على كل نبي فلم يره منهم إلا محمد وعيسى وموسى وزكريا عليهم السلام. فأما غيرهم فكان وحيا إلهاما في المنام. وقيل {إِلَّا وَحْياً} بإرسال جبريل {أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ} كما كلم موسى. {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا} إلى الناس كافة. وقرأ الزهري وشيبة ونافع {أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ} برفع الفعلين. الباقون بنصبهما. فالرفع على الاستئناف، أي وهو يرسل.
وقيل: {يرسل} بالرفع في موضع الحال، والتقدير إلا موحيا أو مرسلا. ومن نصب عطفوه على محل الوحي، لان معناه وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا أن يوحي أو يرسل. ويجوز أن يكون النصب على تقدير حذف الجار من أن المضمرة. ويكون في موضع الحال، التقدير أو بأن يرسل رسولا. ولا يجوز أن يعطف {أَوْ يُرْسِلَ} بالنصب على {أَنْ يُكَلِّمَهُ} لفساد المعنى، لأنه يصير: ما كان لبشر أن يرسله أو أن يرسل إليه رسولا، وهو قد أرسل الرسل من البشر وأرسل إليهم.
الثانية: احتج بهذه الآية من رأى فيمن حلف ألا يكلم رجلا فأرسل إليه رسولا أنه حانث، لان المرسل قد سمي فيها مكلما للمرسل إليه، إلا أن ينوي الحالف المواجهة بالخطاب. قال ابن المنذر: واختلفوا في الرجل يحلف ألا يكلم فلانا فكتب إليه كتابا أو أرسل إليه رسولا، فقال الثوري: الرسول ليس بكلام.
وقال الشافعي: لا يبين أن يحنث.
وقال النخعي: والحكم في الكتاب يحنث.
وقال مالك: يحنث في الكتاب والرسول.
وقال مرة: الرسول أسهل من الكتاب.
وقال أبو عبيد: الكلام سوى الخط والإشارة.
وقال أبو ثور: لا يحنث في الكتاب. قال ابن المنذر: لا يحنث في الكتاب والرسول. قلت: وهو قول مالك. قال أبو عمر: ومن حلف ألا يكلم رجلا فسلم عليه عامدا أو ساهيا، أو سلم على جماعة هو فيهم فقد حنث في ذلك كله عند مالك. وإن أرسل إليه رسولا أو سلم عليه في الصلاة لم يحنث. قلت: يحنث في الرسول إلا أن ينوي المشافهة، للآية، وهو قول مالك وابن الماجشون. وقد مضى في أول {سورة مريم} هذا المعنى عن علمائنا مستوفى، والحمد لله.

.تفسير الآيات (52- 53):

{وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ} أي وكالذي أوحينا إلى الأنبياء من قبلك أوحينا إليك {رُوحاً} أي نبوة، قاله ابن عباس. الحسن وقتادة: رحمة من عندنا. السدي: وحيا. الكلبي: كتابا. الربيع: هو جبريل. الضحاك: هو القرآن. وهو قول مالك بن دينار. وسماه روحا لان فيه حياة من موت الجهل. وجعله من أمره بمعنى أنزله كما شاء على من يشاء من النظم المعجز والتأليف المعجب. ويمكن أن يحمل قوله: {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الاسراء: 85] على القرآن أيضا {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الاسراء: 85] أي يسئلونك من أين لك هذا القرآن، قل إنه من أمر الله أنزله علي معجزا، ذكره القشيري. وكان مالك بن دينار يقول: يا أهل القرآن، ماذا زرع القرآن في قلوبكم؟ فإن القرآن ربيع القلوب كما أن الغيث ربيع الأرض.
الثانية: قوله تعالى: {ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ} أي لم تكن تعرف الطريق إلى الايمان. وظاهر هذا يدل على أنه ما كان قبل الإيحاء متصفا بالايمان. قال القشيري: وهو من مجوزات العقول، والذي صار إليه المعظم ان الله ما بعث نبيا إلا كان مؤمنا به قبل البعثة. وفية تحكم، إلا أن يثبت ذلك بتوقيف مقطوع به. قال القاضي أبو الفضل عياض: وأما عصمتهم من هذا الفن قبل النبوة فللناس فيه خلاف، والصواب أنهم معصومون قبل النبوة من الجهل بالله وصفاته والتشكك في شيء من ذلك. وقد تعاضدت الاخبار والآثار عن الأنبياء بتنزيههم عن هذه النقيصة منذ ولدوا، ونشأتهم على التوحيد والايمان، بل على إشراق أنوار المعارف ونفحات ألطاف السعادة، ومن طالع سيرهم منذ صباهم إلى مبعثهم حقق ذلك، كما عرف من حال موسى وعيسى ويحيى وسليمان وغيرهم عليهم السلام. قال الله تعالى: {وَآتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} [مريم: 12] قال المفسرون: أعطي يحيى العلم بكتاب الله في حال صباه. قال معمر: كان ابن سنتين أو ثلاث، فقال له الصبيان: لم لا تلعب! فقال: اللعب خلقت! وقيل في قوله: {مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ} [آل عمران: 39] صدق يحيى بعيسى وهو ابن ثلاث سنين، فشهد له أنه كلمة الله وروحه وقيل: صدقه وهو في بطن أمه، فكانت أم يحيى تقول لمريم إني أجد ما في بطني يسجد لما في بطنك تحية له. وقد نص الله على كلام عيسى لامه عند ولادتها إياه بقوله: {أَلَّا تَحْزَنِي} [مريم: 24] على قراءة من قرأ {
مِنْ تَحْتِها}، وعلى قول من قال إن المنادى عيسى ونص على كلامه في مهده فقال: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا} [مريم: 30]. وقال: {فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَكُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَعِلْماً} [الأنبياء: 79] وقد ذكر من حكم سليمان وهو صبي يلعب في قصة المرجومة وفي قصة الصبي ما اقتدى به أبوه داود.
وحكى الطبري أن عمره كان حين أوتي الملك اثني عشر عاما. وكذلك قصة موسى مع فرعون واخذه بلحيته وهو طفل.
وقال المفسرون في قوله تعالى:
{وَلَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ} [الأنبياء: 51]: أي هديناه صغيرا، قاله مجاهد وغيره.
وقال ابن عطاء: اصطفاه قبل إبداء خلقه.
وقال بعضهم: لما ولد إبراهيم بعث الله إليه ملكا يأمره عن الله تعالى أن يعرفه بقلبه ويذكره بلسانه فقال: قد فعلت، ولم يقل أفعل، فذلك رشده.
وقيل: إن إلقاء إبراهيم في النار ومحنته كانت وهو ابن ست عشرة سنة. وإن ابتلاء إسحاق بالذبح وهو ابن سبع سنين. وإن استدلال إبراهيم بالكوكب والقمر والشمس كان وهو ابن خمس عشرة سنة. وقيل أوحي إلى يوسف وهو صبي عند ما هم إخوته بإلقائه في الجب بقوله تعالى: {وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا} [يوسف: 15] الآية، إلى غير ذلك من أخبارهم. وقد حكى أهل السير أن آمنة بنت وهب أخبرت أن نبينا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولد حين ولد باسطا يديه إلى الأرض رافعا رأسه إلى السماء، وقال في حديثه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لما نشأت بغضت إلي الأوثان وبغض إلي الشعر ولم أهم بشيء مما كانت الجاهلية تفعله إلا مرتين فعصمني الله منهما ثم لم أعد». ثم يتمكن الامر لهم، وتترادف نفحات الله تعالى عليهم، وتشرق أنوار المعارف في قلوبهم حتى يصلوا الغاية ويبلغوا باصطفاء الله تعالى لهم بالنبوة في تحصيل الخصال الشريفة النهاية دون ممارسة ولا رياضة. قال الله تعالى: {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً} [يوسف: 22]. قال القاضي: ولم ينقل أحد من أهل الاخبار أن أحدا نبئ واصطفي ممن عرف بكفر وإشراك قبل ذلك. ومستند هذا الباب النقل. وقد استدل بعضهم بأن القلوب تنفر عمن كانت هذه سبيله.
قال القاضي: وأنا أقول إن قريشا قد رمت نبينا عليه السلام بكل ما افترته، وعير كفار الأمم أنبياءها بكل ما أمكنها واختلقته، مما نص الله عليه أو نقلته إلينا الرواة، ولم نجد في شيء من ذلك تعييرا لواحد منهم برفضه آلهتهم وتقريعه بذمه بترك ما كان قد جامعهم عليه. ولو كان هذا لكانوا بذلك مبادرين، ويتلونه في معبوده محتجين، ولكان توبيخهم له بنهيهم عما كان يعبد قبل أفظع وأقطع في الحجة من توبيخه بنهيهم عن تركه آلهتهم وما كان يعبد آباؤهم من قبل، ففي إطباقهم على الاعراض عنه دليل على أنهم لم يجدوا سبيلا إليه، إذ لو كان لنقل وما سكتوا عنه كما لم يسكتوا عن تحويل القبلة وقالوا {ما وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها} [البقرة: 142] كما حكاه الله عنهم.
الثالثة: وتكلم العلماء في نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هل كان متعبدا بدين قبل الوحي أم لا، فمنهم من منع ذلك مطلقا وأحاله عقلا. قالوا: لأنه يبعد أن يكون متبوعا من عرف تابعا، وبنوا هذا على التحسين والتقبيح. وقالت فرقة أخرى بالوقف في أمره عليه السلام وترك قطع الحكم عليه بشيء في ذلك، إذ لم يحل الوجهين منهما العقل ولا استبان عندها في أحدهما طريق النقل، وهذا مذهب أبي المعالي. وقالت فرقة ثالثة: إنه كان متعبدا بشرع من قبله وعاملا به، ثم اختلف هؤلاء في التعيين، فذهبت طائفة إلى أنه كان على دين عيسى فإنه ناسخ لجميع الأديان والملل قبلها، فلا يجوز أن يكون النبي على دين منسوخ. وذهبت طائفة إلى أنه كان على دين إبراهيم، لأنه من ولده وهو أبو الأنبياء. وذهبت طائفة إلى أنه كان على دين موسى، لأنه أقدم الأديان. وذهبت المعتزلة إلى أنه لا بد أن يكون على دين ولكن عين الدين غير معلومة عندنا. وقد أبطل هذه الأقوال كلها أئمتنا، إذ هي أقوال متعارضة وليس فيها دلالة قاطعة، وإن كان العقل يجوز ذلك كله. والذي يقطع به أنه عليه السلام لم يكن منسوبا إلى واحد من الأنبياء نسبة تقتضي أن يكون واحدا من أمته ومخاطبا بكل شريعته، بل شريعته مستقلة بنفسها مفتتحة من عند الله الحاكم عز وجل وأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان مؤمنا بالله عز وجل، ولا سجد لصنم، ولا أشرك بالله، ولا زنى ولا شرب الخمر، ولا شهد السامر ولا حضر حلف المطر ولا حلف المطيبين، بل نزهه الله وصانه عن ذلك. فإن قيل: فقد روى عثمان بن أبي شيبة حديثا بسنده عن جابر أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قد كان يشهد مع المشركين مشاهدهم، فسمع ملكين خلفه أحدهما يقول لصاحبه: اذهب حتى تقوم خلفه، فقال الآخر: كيف أقوم خلفه وعهده باستلام الأصنام فلم يشهدهم بعد؟ فالجواب أن هذا حديث أنكره الامام أحمد بن حنبل جدا وقال: هذا موضوع أو شبيه بالموضوع.
وقال الدارقطني: إن عثمان وهم في إسناده، والحديث بالجملة منكر غير متفق على إسناده فلا يلتفت إليه، والمعروف عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خلافه عند أهل العلم من قوله: «بغضت إلي الأصنام» وقوله في قصة بحيرا حين استحلف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باللات والعزى إذ لقيه بالشام في سفرته مع عمه أبي طالب وهو صبي، وراي فيه علامات النبوة فاختبره بذلك، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تسألني بهما فوالله ما أبغضت شيئا قط بغضهما» فقال له بحيرا: فبالله إلا ما أخبرتني عما أسألك عنه، فقال: «سل عما بدا لك». وكذلك المعروف من سيرته عليه السلام وتوفيق الله إياه له أنه كان قبل نبوته يخالف المشركين في وقوفهم بمزدلفة في الحج، وكان يقف هو بعرفة، لأنه كان موقف إبراهيم عليه السلام. فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ} [البقرة: 135] وقال: {أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ} [النحل: 12] وقال: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} [الشورى: 13] الآية. وهذا يقتضي أن يكون متعبدا بشرع. فالجواب أن ذلك فيما لا تختلف فيه الشرائع من التوحيد وإقامة الدين، على ما تقدم بيانه في غير موضع وفي هذه السورة عند قوله: {شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ} [الشورى: 13] والحمد لله.
الرابعة: إذا تقرر هذا فاعلم أن العلماء اختلفوا في تأويل قوله تعالى: {ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ}. فقال جماعة: معنى الايمان في هذه الآية شرائع الايمان ومعالمه، ذكره الثعلبي.
وقيل: تفاصيل هذا الشرع، أي كنت غافلا عن هذه التفاصيل. ويجوز إطلاق لفظ الايمان على تفاصيل الشرع، ذكره القشيري: وقيل: ما كنت تدري قبل الوحي أن تقرأ القرآن، ولا كيف تدعو الخلق إلى الايمان، ونحوه عن أبي العالية.
وقال بكر القاضي: ولا الايمان الذي هو الفرائض والأحكام. قال: وكان قبل مؤمنا بتوحيده ثم نزلت الفرائض التي لم يكن يدريها قبل، فزاد بالتكليف إيمانا. وهذه الأقوال الاربعة متقاربة.
وقال ابن خزيمة: عني بالايمان الصلاة، لقوله تعالى: {وَما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ} [البقرة: 143] أي صلاتكم إلى بيت المقدس، فيكون اللفظ عاما والمراد الخصوص.
وقال الحسين بن الفضل: أي ما كنت تدري ما الكتاب ولا أهل الايمان. وهو من باب حذف المضاف، أي من الذي يؤمن؟ أبو طالب أو العباس أو غيرهما.
وقيل: ما كنت تدري شيئا إذ كنت في المهد وقبل البلوغ.
وحكى الماوردي نحوه عن علي بن عيسى قال: ما كنت تدري ما الكتاب لولا الرسالة، ولا الايمان لولا البلوغ.
وقيل: ما كنت تدري ما الكتاب لولا أنعامنا عليك، ولا الايمان لولا هدايتنا لك، وهو محتمل.
وفي هذا الايمان وجهان: أحدهما أنه الايمان بالله، وهذا يعرفه بعد بلوغه وقبل نبوته. والثاني- أنه دين الإسلام، وهذا لا يعرفه إلا بعد النبوة.
قلت: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان مؤمنا بالله عز وجل من حين نشأ إلى حين بلوغه، على ما تقدم.
وقيل: {ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ} أي كنت من قوم أميين لا يعرفون الكتاب ولا الايمان، حتى تكون قد أخذت ما جئتهم به عمن كان يعلم ذلك منهم، وهو كقوله تعالى: {وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48] روي معناه عن ابن عباس رضي الله عنهما. {وَلكِنْ جَعَلْناهُ} قال ابن عباس والضحاك: يعني الايمان. السدي: القرآن. وقيل الوحي، أي جعلنا هذا الوحي {نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ} أي من نختاره للنبوة، كقوله تعالى: {يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ} [آل عمران: 74]. ووحد الكناية لان الفعل في كثرة أسمائه بمنزلة الفعل في الاسم الواحد، ألا ترى أنك تقول: إقبالك وإدبارك يعجبني، فتوحد، وهما اثنان. {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي} أي تدعو وترشد {إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} دين قويم لا اعوجاج فيه.
وقال علي: إلى كتاب مستقيم. وقرأ عاصم الجحدري وحوشب {وإنك لتهدي} غير مسمى الفاعل، أي لتدعى. الباقون {لتهدي} مسمى الفاعل.
وفي قراءة أبي {وإنك لتدعو}. قال النحاس: وهذا لا يقرأ به، لأنه مخالف للسواد، وإنما يحمل ما كان مثله على أنه من قائله على جهة التفسير، كما قال: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي} أي لتدعو.
وروى معمر عن قتادة في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} قال: {وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ} [الرعد: 7]. {صِراطِ اللَّهِ} بدل من الأول بدل المعرفة من النكرة. قال على: هو القرآن. وقيل الإسلام. ورواه النواس بن سمعان عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} ملكا وعبد اوخلقا. {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ} وعيد بالبعث والجزاء. قال سهل بن أبي الجعد: احترق مصحف فلم يبق إلا قوله: {ألا إلى الله تصير الأمور} وغرق مصحف فامحى كله إلا قوله: {أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ}. والحمد لله وحده.