فصل: تفسير الآيات (5- 6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (5- 6):

{أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6)}
قوله تعالى: {أَمْراً مِنْ عِنْدِنا} قال النقاش: الامر هو القرآن أنزله الله من عنده.
وقال ابن عيسى: هو ما قضاه الله في الليلة المباركة من أحوال عباده. وهو مصدر في موضع الحال. وكذلك {رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} وهما عند الأخفش حالان، تقديرهما: أنزلناه آمرين به وراحمين. المبرد: {أَمْراً} في موضع المصدر، والتقدير: أنزلناه إنزالا. الفراء والزجاج: {أَمْراً} نصب ب {يُفْرَقُ}، مثل قولك: يفرق فرقا. فأمر بمعنى فرق فهو مصدر، مثل قولك: يضرب ضربا.
وقيل: {يُفْرَقُ} يدل على يؤمر، فهو مصدر عمل فيه ما قبله. {إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ} قال الفراء: {رَحْمَةً} مفعول ب {مُرْسِلِينَ}. والرحمة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال الزجاج: {رَحْمَةً} مفعول من أجله، أي أرسلناه للرحمة.
وقيل: هي بدل من قوله: {أَمْراً}.
وقيل: هي مصدر. الزمخشري: {أَمْراً} نصب على الاختصاص، جعل كل أمر جزلا فخما بأن وصفه بالحكيم، ثم زاده جزالة وكسبه فخامة بأن قال: أعنى بهذا الامر أمرا حاصلا من عندنا، كائنا من لدنا، وكما اقتضاه علمنا وتدبيرنا.
وفي قراءة زيد بن علي {أمر من عندنا} على هو أمر، وهي تنصر انتصابه على الاختصاص. وقرأ الحسن {رحمة} على تلك هي رحمة، وهي تنصر انتصابها بأنه مفعول له.

.تفسير الآيات (7- 9):

{رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)}
قوله تعالى: {رَبِّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} قرأ الكوفيون {رب} بالجر. الباقون بالرفع، ردا على قوله: {إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}. وإن شئت على الابتداء، والخبر لا إله إلا هو. أو يكون خبر ابتداء محذوف، تقديره: هو رب السموات والأرض. والجر على البدل من {رَبِّكَ} وكذلك {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} بالجر فيهما، رواه الشيزري عن الكسائي. الباقون بالرفع على الاستئناف. ثم يحتمل أن يكون هذا الخطاب مع المعترف بأن الله خلق السموات والأرض، أي إن كنتم موقنين به فاعلموا أن له أن يرسل الرسل، وينزل الكتب. ويجوز أن يكون الخطاب مع من لا يعترف أنه الخالق، أي ينبغي أن يعرفوا أنه الخالق، وأنه الذي يحيي ويميت.
وقيل: الموقن ها هنا هو الذي يريد اليقين ويطلبه، كما تقول: فلان ينجد، أي يريد نجدا. ويتهم، أي يريد تهامة. {لا إِلهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي هو خالق العالم، فلا يجوز أن يشرك به غيره ممن لا يقدر على خلق شي. و{هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ} أي يحيي الأموات ويميت الأحياء. {رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ} أي مالككم ومالك من تقدم منكم. واتقوا تكذيب محمد لئلا ينزل بكم العذاب. {بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ} أي ليسوا على يقين فيما يظهرونه من الايمان والإقرار في قولهم: إن الله خالقهم، وإنما يقولونه لتقليد آبائهم من غير علم فهم في شك. وإن توهموا أنهم مؤمنون فهم يلعبون في دينهم بما يعن لهم من غير حجة.
وقيل: {يَلْعَبُونَ} يضيفون إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الافتراء استهزاء. ويقال لمن أعرض عن المواعظ: لاعب، وهو كالصبي الذي يلعب فيفعل ما لا يدري عاقبته.

.تفسير الآيات (10- 11):

{فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11)}
قوله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ} ارتقب معناه انتظر يا محمد بهؤلاء الكفار يوم تأتي السماء بدخان مبين، قاله قتادة.
وقيل: معناه احفظ قولهم هذا لتشهد عليهم يوم تأتي السماء بدخان مبين، ولذلك سمي الحافظ رقيبا.
وفي الدخان أقوال ثلاثة:
الأول أنه من أشراط الساعة لم يجئ بعد، وأنه يمكث في الأرض أربعين يوما يملأ ما بين السماء والأرض، فأما المؤمن فيصيبه مثل الزكام، وأما الكافر والفاجر فيدخل في أنوفهم فيثقب مسامعهم، ويضيق أنفاسهم، وهو من آثار جهنم يوم القيامة. وممن قال إن الدخان لم يأت بعد: علي وابن عباس وابن عمرو وأبو هريرة وزيد بن علي والحسن وابن أبي مليكة وغيرهم.
وروى أبو سعيد الخدري مرفوعا أنه دخان يهيج بالناس يوم القيامة، يأخذ المؤمن منه كالزكمة. وينفخ الكافر حتى يخرج من كل مسمع منه، ذكره الماوردي.
وفي صحيح مسلم عن أبي الطفيل عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال: «اطلع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ علينا ونحن نتذاكر فقال: ما تذكرون؟ قالوا: نذكر الساعة، قال: إنها لن تقوم حتى تروا قبلها عشر آيات- فذكر- الدخان والدجال والدابة وطلوع الشمس من مغربها ونزول عيسى بن مريم وخروج يأجوج ومأجوج وثلاثة خسوف خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف بجزيرة العرب وآخر ذلك نار تخرج من اليمن تطرد الناس إلى محشرهم في رواية عن حذيفة إن الساعة لا تكون حتى تكون عشر آيات: خسف بالمشرق وخسف بالمغرب وخسف في جزيرة العرب والدخان والدجال ودابة الأرض ويأجوج ومأجوج وطلوع الشمس من مغربها ونار تخرج من قعر عدن ترحل الناس» وخرجه الثعلبي أيضا عن حذيفة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أول الآيات خروجا الدجال ونزول عيسى بن مريم ونار تخرج من قعر عدن أبين تسوق الناس إلى المحشر تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم إذا قالوا وتصبح معهم إذا أصبحوا وتمسي معهم إذا أمسوا قلت: يا نبي الله، وما الدخان؟ قال هذه الآية: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ} يملأ ما بين المشرق والمغرب يمكث أربعين يوما وليلة أما المؤمن فيصيبه منه شبه الزكام وأما والكافر فيكون بمنزلة السكران يخرج الدخان من فمه ومنخره وعينيه وأذنيه ودبره» فهذا قول.
القول الثاني- أن الدخان هو ما أصاب قريشا من الجوع بدعاء النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتى كان الرجل يرى بين السماء والأرض دخانا، قاله ابن مسعود. قال: وقد كشفه الله عنهم، ولو كان يوم القيامة لم يكشفه عنهم. والحديث عنه بهذا في صحيح البخاري ومسلم والترمذي. قال البخاري: حدثني يحيي قال حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن مسلم عن مسروق قال قال عبد الله: إنما كان هذا لان قريشا لما استعصت على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دعا عليهم بسنين كسني يوسف، فأصابهم قحط وجهد حتى أكلوا العظام، فجعل الرجل ينظر إلى السماء فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد، فأنزل الله تعالى: {فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ}. قال: فأتي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقيل: يا رسول الله، استسق الله لمضر فإنها قد هلكت. قال: لمضر! إنك لجرى فاستسقى فسقوا، فنزلت: {إِنَّكُمْ عائِدُونَ} [الدخان: 15]. فلما أصابتهم الرفاهية عادوا إلى حالهم حين أصابتهم الرفاهية، فأنزل الله عز وجل: {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ}
قال: يعني يوم بدر. قال أبو عبيدة: والدخان الجدب. القتبي: سمي دخانا ليبس الأرض منه حين يرتفع منها كالدخان. القول الثالث- إنه يوم فتح مكة لما حجبت السماء الغبرة، قاله عبد الرحمن الأعرج. {يَغْشَى النَّاسَ} في موضع الصفة للدخان، فإن كان قد مضى على ما قال ابن مسعود فهو خاص بالمشركين من أهل مكة، وإن كان من أشراط الساعة فهو عام على ما تقدم. {هذا عَذابٌ أَلِيمٌ} أي يقول الله لهم: {هذا عَذابٌ أَلِيمٌ}. فمن قال: إن الدخان قد مضى فقوله: {هذا عَذابٌ أَلِيمٌ} حكاية حال ماضية، ومن جعله مستقبلا فهو حكاية حال آتية.
وقيل: {هذا} بمعنى ذلك.
وقيل: أي يقول الناس لذلك الدخان: {هذا عَذابٌ أَلِيمٌ}.
وقيل: هو إخبار عن دنو الامر، كما تقول: هذا الشتاء فأعد له.

.تفسير الآية رقم (12):

{رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12)}
أي يقولون ذلك، اكشف عنا العذاب ف {إِنَّا مُؤْمِنُونَ}، أي نؤمن بك إن كشفته عنا. قيل: إن قريشا أتوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالوا: إن كشف الله عنا هذا العذاب أسلمنا، ثم نقضوا هذا القول. قال قتادة: {الْعَذابَ} هنا الدخان.
وقيل: الجوع، حكاه النقاش. قلت: ولا تناقض، فإن الدخان لم يكن إلا من الجوع الذي أصابهم، على ما تقدم. وقد يقال للجوع والقحط: الدخان، ليبس الأرض في سنة الجدب وارتفاع الغبار بسبب قلة الأمطار، ولهذا يقال لسنة الجدب: الغبراء.
وقيل: إن العذاب هنا الثلج. قال الماوردي وهذا لا وجه له، لان هذا إنما يكون في الآخرة أو في أهل مكة، ولم تكن مكة من بلاد الثلج، غير أنه مقول فحكيناه.

.تفسير الآيات (13- 14):

{أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)}
قوله تعالى: {أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى} أي من أين يكون لهم التذكر والاتعاظ عند حلول العذاب. {وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ} يبين لهم الحق، والذكرى والذكر واحد، قاله البخاري. {ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ} أي أعرضوا. قال ابن عباس: أي متى يتعظون والله أبعدهم من الاتعاظ والتذكر بعد توليهم عن محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وتكذيبهم إياه.
وقيل: أي أنى ينفعهم قولهم: {إِنَّا مُؤْمِنُونَ} بعد ظهور العذاب غدا أو بعد ظهور أعلام الساعة، فقد صارت المعارف ضرورية. وهذا إذا جعلت الدخان آية مرتقبة. {وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ} أي علمه بشر أو علمه الكهنة والشياطين، ثم هو مجنون وليس برسول.

.تفسير الآية رقم (15):

{إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15)}
قوله تعالى: {إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا} أي وقتا قليلا، وعد أن يكشف عنهم ذلك العذاب قليلا، أي في زمان قليل ليعلم أنهم لا يفون بقولهم، بل يعودون إلى الكفر بعد كشفه، قاله ابن مسعود. فلما كشف ذلك عنهم باستسقاء النبي صلى لهم الله عليه وسلم عادوا إلى تكذيبه. ومن قال: إن الدخان منتظر قال: أشار بهذا إلى ما يكون من الفرجة بين آية وآية من آيات قيام الساعة. ثم من قضي عليه بالكفر يستمر على كفره. ومن قال هذا في القيامة قال: أي لو كشفنا عنكم العذاب لعدتم إلى الكفر.
وقيل: معنى {إِنَّكُمْ عائِدُونَ} إلينا، أي مبعوثون بعد الموت.
وقيل: المعنى {إِنَّكُمْ عائِدُونَ} إلى نار جهنم إن لم تؤمنوا.

.تفسير الآية رقم (16):

{يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)}
{يَوْمَ} محمول على ما دل عليه {مُنْتَقِمُونَ}، أي ننتقم منهم يوم نبطش. وأبعده بعض النحويين بسبب أن ما بعد {إن} لا يفسر ما قبلها.
وقيل: إن العامل فيه {مُنْتَقِمُونَ}. وهو بعيد أيضا، لان ما بعد {إن} لا يعمل فيما قبلها. ولا يحسن تعلقه بقوله: {عائِدُونَ} ولا بقوله: {إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ}، إذ ليس المعنى عليه. ويجوز نصبه بإضمار فعل، كأنه قال: ذكرهم أو اذكر. ويجوز أن يكون المعنى إنكم عائدون، فإذا عدتم أنتقم منكم يوم نبطش البطشة الكبرى. ولهذا وصل هذا بقصة فرعون، فإنهم وعدوا موسى الايمان إن كشف عنهم العذاب، ثم لم يؤمنوا حتى غرقوا.
وقيل: {إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ} كلام تام. ثم ابتدأ {يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ} أي ننتقم من جميع الكفار.
وقيل: المعنى وارتقب الدخان وارتقب يوم نبطش، فحذف واو العطف، كما تقول: اتق النار اتق العذاب. و{الْبَطْشَةَ الْكُبْرى} في قول ابن مسعود: يوم بدر. وهو قول ابن عباس وأبي بن كعب ومجاهد والضحاك.
وقيل: عذاب جهنم يوم القيامة، قاله الحسن وعكرمة وابن عباس أيضا، واختاره الزجاج.
وقيل: دخان يقع في الدنيا، أو جوع أو قحط يقع قبل يوم القيامة. الماوردي: ويحتمل أنها قيام الساعة، لأنها خاتمة بطشاته في الدنيا. ويقال: انتقم الله منه، أي عاقبه. والاسم منه النقمة والجمع النقمات. وقيل بالفرق بين النقمة والعقوبة، فالعقوبة بعد المعصية لأنها من العاقبة. والنقمة قد تكون قبلها، قاله ابن عباس.
وقيل: العقوبة ما تقدرت والانتقام غير مقدر.