فصل: تفسير الآية رقم (27):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (27):

{وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَصَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27)}
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى} يريد حجر ثمود وقرى لوط ونحوهما مما كان يجاور بلاد الحجاز، وكانت أخبارهم متواترة عندهم. {وَصَرَّفْنَا الْآياتِ} يعني الحجج والدلالات وأنواع البينات والعظات، أي بيناها لأهل تلك القرى. {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} فلم يرجعوا.
وقيل: أي صرفنا آيات القرآن في الوعد والوعيد والقصص والاعجاز لعل هؤلاء المشركين يرجعون.

.تفسير الآية رقم (28):

{فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذلِكَ إِفْكُهُمْ وَما كانُوا يَفْتَرُونَ (28)}
قوله تعالى: {فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ} {فَلَوْ لا} بمعنى هلا، أي هلا نصرهم آلهتهم التي تقربوا بها بزعمهم إلى الله لتشفع لهم حيث قالوا: {هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ} [يونس: 18] ومنعتهم من الهلاك الواقع بهم. قال الكسائي: القربان كل ما يتقرب به إلى الله تعالى من طاعة ونسيكة، والجمع قرابين، كالرهبان والرهابين. واحد مفعولي اتخذ الراجع إلى الذين المحذوف، والثاني {آلِهَةً}. و{قُرْباناً} حال، ولا يصح أن يكون {قُرْباناً} مفعولا ثانيا. و{آلِهَةً} بدل منه لفساد المعنى، قاله الزمخشري. وقرئ: {قربانا} بضم الراء. {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} أي هلكوا عنهم.
وقيل: {بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ} أي ضلت عنهم آلهتهم لأنها لم يصبها ما أصابهم، إذ هي جماد.
وقيل: ضلوا عنهم، أي تركوا الأصنام وتبرءوا منها. {وَذلِكَ إِفْكُهُمْ} أي والآلهة التي ضلت عنهم هي إفكهم في قولهم: إنها تقربهم إلى الله زلفى. وقراءة العامة {إِفْكُهُمْ} بكسر الهمزة وسكون الفاء، أي كذبهم. والافك: الكذب، وكذلك الأفيكة، والجمع الافائك. ورجل أفاك أي كذاب. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن الزبير {وذلك أفكهم} بفتح الهمزة والفاء والكاف، على الفعل، أي ذلك القول صرفهم عن التوحيد. والافك {بالفتح} مصدر قولك: أفكه يأفكه إفكا، أي قلبه وصرفه عن الشيء. وقرأ عكرمة {أفكهم} بتشديد الفاء على التأكيد والتكثير. قال أبو حاتم: يعني قلبهم عما كانوا عليه من النعيم. وذكر المهدوي عن ابن عباس أيضا {آفكهم} بالمد وكسر الفاء، بمعنى صارفهم. وعن عبد الله بن الزبير باختلاف عنه {آفكهم} بالمد، فجاز أن يكون أفعلهم، أي أصارهم إلى الافك. وجاز أن يكون فاعلهم كخادعهم. ودليل قراءة العامة {إِفْكُهُمْ} قوله: {وَما كانُوا يَفْتَرُونَ} أي يكذبون. وقيل {إِفْكُهُمْ} مثل {أفكهم}. الافك والافك كالحذر والحذر، قاله المهدوي.

.تفسير الآية رقم (29):

{وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)}
قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ} هذا توبيخ لمشركي قريش، أي إن الجن سمعوا القرآن فآمنوا به وعلموا أنه من عند الله وأنتم معرضون مصرون على الكفر. ومعنى {صَرَفْنا} وجهنا إليك وبعثنا. وذلك أنهم صرفوا عن استراق السمع من السماء برجوم الشهب- على ما يأتي- ولم يكونوا بعد عيسى قد صرفوا عنه إلا عند مبعث النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال المفسرون ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد وغيرهم: لما مات أبو طالب خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحده إلى الطائف يلتمس من ثقيف النصرة فقصد عبد ياليل ومسعودا وحبيبا وهم إخوة- بنو عمرو بن عمير- وعندهم امرأة من قريش من بني جمح، فدعاهم إلى الايمان وسألهم أن ينصروه على قومه فقال أحدهم: هو يمرط ثياب الكعبة إن كان الله أرسلك! وقال الآخر: ما وجد الله أحدا يرسله غيرك! وقال الثالث: والله لا أكلمك كلمة أبدا، إن كان الله أرسلك كما تقول فأنت أعظم خطرا من أن أرد عليك الكلام، وإن كنت تكذب فما ينبغي لي أن أكلمك. ثم أغروا به سفهاءهم وعبيدهم يسبونه ويضحكون به، حتى اجتمع عليه الناس وألجئوه إلى حائط لعتبة وشيبة ابني ربيعة. فقال للجمحية: «ماذا لقينا من أحمائك؟ ثم قال: اللهم إني أشكو إليك ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، لمن تكلني! إلى عبد يتجهمني، أو إلى عدو ملكته أمري! إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي، أعوذ بنور وجهك من أن ينزل بي غضبك، أو يحل علي سخطك، لك العتبى حتى ترضى، ولا حول ولا قوة إلا بك». فرحمه ابنا ربيعة وقالا لغلام لهما نصراني يقال له عداس: خذ قطفا من العنب وضعه في هذا الطبق ثم ضعه بين يدي هذا الرجل، فلما وضعه بين يدي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «باسم الله ثم أكل، فنظر عداس إلى وجهه ثم قال: والله إن هذا الكلام ما يقوله أهل هذه البلدة! فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: من أي البلاد أنت يا عداس وما دينك؟ قال: أنا نصراني من أهل نينوى. فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أمن قرية الرجل الصالح يونس بن متى؟ فقال: وما يدريك ما يونس ابن متى؟ قال: ذاك أخي كان نبيا وأنا نبي فانكب عداس حتى قبل رأس النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويديه ورجليه». فقال له ابنا ربيعة: لم فعلت هكذا!؟ فقال: يا سيدي ما في الأرض خير من هذا، أخبرني بأمر ما يعلمه إلا نبي. ثم انصرف النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين يئس من خير ثقيف، حتى إذا كان ببطن نخلة قام من الليل يصلي فمر به نفر من جن أهل نصيبين. وكان سبب ذلك أن الجن كانوا يسترقون السمع، فلما حرست السماء ورموا بالشهب قال إبليس: إن هذا الذي حدث في السماء لشيء حدث في الأرض، فبعث سراياه ليعرف الخبر، أولهم ركب نصيبين وهم أشراف الجن إلى تهامة، فلما بلغوا بطن نخلة سمعوا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يصلي صلاة الغداة ببطن نخلة ويتلو القرآن، فاستمعوا له وقالوا: أنصتوا. وقالت طائفة: بل أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ينذر الجن ويدعوهم إلى الله تعالى ويقرأ عليهم القرآن، فصرف الله عز وجل إليه نفرا من الجن من نينوى وجمعهم له، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إني أريد أن أقرأ القرآن على الجن الليلة فأيكم يتبعني»؟ فأطرقوا، ثم قال الثانية فأطرقوا، ثم قال الثالثة فأطرقوا، فقال ابن مسعود: أنا يا رسول الله، قال ابن مسعود: ولم يحضر معه أحد غيري، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة دخل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شعبا يقال له شعب الحجون وخط لي خطا وأمرني أن أجلس فيه وقال: «لا تخرج منه حتى أعود إليك». ثم انطلق حتى قام فافتتح القرآن، فجعلت أرى أمثال النسور تهوى وتمشي في رفرفها، وسمعت لغطا وغمغة حتى خفت على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وغشيته أسودة كثيرة حالت بيني وبينه حتى ما أسمع صوته، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين، ففرغ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع الفجر فقال: «أنمت؟ قلت: لا والله، ولقد هممت مرارا أن أستغيث بالناس حتى سمعتك تقرعهم بعصاك تقول اجلسوا، فقال: لو خرجت لم آمن عليك أن يخطفك بعضهم ثم قال: هل رأيت شيئا؟ قلت: نعم يا رسول الله، رأيت رجالا سودا مستثفري ثيابا بيضا، فقال: أولئك جن نصيبين سألوني المتاع والزاد فمتعتهم بكل عظم حائل وروثة وبعرة. فقالوا: يا رسول الله يقذرها الناس علينا. فنهى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يستنجى بالعظم والروث. قلت: يا نبي الله، وما يغني ذلك عنهم! قال: إنهم لا يجدون عظما إلا وجدوا عليه لحمه يوم أكل، ولا روثة إلا وجدوا فيها حبها يوم أكل فقلت: يا رسول الله، لقد سمعت لغطا شديدا؟ فقال: إن الجن تدارأت في قتيل بينهم فتحاكموا إلي فقضيت بينهم بالحق. ثم تبرز النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم أتاني فقال: هل معك ماء، فقلت يا نبي الله، معي إداوة فيها شيء من نبيذ التمر فصببت على يديه فتوضأ فقال: تمرة طيبة وماء طهور». روى معناه معمر عن قتادة وشعبة أيضا عن ابن مسعود. وليس في حديث معمر ذكر نبيذ التمر. روي عن أبي عثمان النهدي أن ابن مسعود أبصر زطا فقال: ما هؤلاء؟ قال: هؤلاء الزط. قال: ما رأيت شبههم إلا الجن ليلة الجن فكانوا مستفزين يتبع بعضهم بعضا. وذكر الدارقطني عن عبد الله بن لهيعة حدثني قيس بن الحجاج عن حنش عن ابن عباس عن ابن مسعود أنه وضأ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الجن بنبيذ فتوضأ به وقال: «شراب وطهور». ابن لهيعة لا يحتج به. وبهذا السند عن ابن مسعود أنه خرج مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الجن، فقال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أمعك ماء يا بن مسعود؟» فقال: معي نبيذ في إداوة، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «صب علي منه» فتوضأ وقال: «هو شراب وطهور»تفرد به ابن لهيعة وهو ضعيف الحديث. قال الدارقطني: وقيل إن ابن مسعود لم يشهد مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الجن. كذلك رواه علقمة بن قيس وأبو عبيدة بن عبد الله وغيرهما عنه أنه قال: ما شهدت ليلة الجن. حدثنا أبو محمد بن صاعد حدثنا أبو الأشعث حدثنا بشر بن المفضل حدثنا داود بن أبي هند عن عامر عن علقمة بن قيس قال قلت لعبد الله بن مسعود: أشهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحد منكم ليلة أتاه داعي الجن؟ قال لا. قال الدارقطني: هذا إسناد صحيح لا يختلف في عدالة راويه. وعن عمرو بن مرة قال قلت لابي عبيدة: حضر عبد الله بن مسعود ليلة الجن؟ فقال لا. قال ابن عباس: كان الجن سبعة نفر من جن نصيبين فجعلهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسلا إلى قومهم.
وقال زر بن حبيش: كانوا تسعة أحدهم زوبعة.
وقال قتادة: إنهم من أهل نينوى.
وقال مجاهد: من أهل حران.
وقال عكرمة: من جزيرة الموصل.
وقيل: إنهم كانوا سبعة، ثلاثة من أهل نجران وأربعة من أهل نصيبين.
وروى ابن أبي الدنيا أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال في هذا الحديث وذكر فيه نصيبين فقال: «رفعت إلي حتى رأيتها فدعوت الله أن يكثر مطرها وينضر شجرها وأن يغزو نهرها».
وقال السهيلي: ويقال كانوا سبعة، وكانوا يهودا فأسلموا، ولذلك قالوا {أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى}. وقيل في أسمائهم: شاصر وماصر ومنشي وماشي والاحقب، ذكر هؤلاء الخمسة ابن دريد. ومنهم عمرو بن جابر، ذكره ابن سلام من طريق أبي إسحاق السبيعي عن أشياخه عن ابن مسعود أنه كان في نفر من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يمشون فرفع لهم إعصار ثم جاء إعصار أعظم منه فإذا حية قتيل، فعمد رجل منا إلى ردائه فشقه وكفن الحية ببعضه ودفنها، فلما جن الليل إذا امرأتان تسألان: أيكم دفن عمرو بن جابر؟ فقلنا: ما ندري من عمرو بن جابر! فقالتا: إن كنتم ابتغيتم الأجر فقد وجدتموه، إن فسقة الجن اقتتلوا مع المؤمنين فقتل عمرو، وهو الحية التي رأيتم، وهو من النفر الذين استمعوا القرآن من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم ولوا إلى قومهم منذرين.
وذكر ابن سلام رواية أخرى: أن الذي كفنه هو صفوان بن المعطل. قلت: وذكر هذا الخبر الثعلبي بنحوه فقال: وقال ثابت بن قطبة جاء أناس إلى ابن مسعود فقالوا: إنا كنا في سقر فرأينا حية متشحطة في دمائها، فأخذها رجل منا فواريناها، فجاء أناس فقالوا: أيكم دفن عمرا؟ قلنا: وما عمرو! قالوا الحية التي دفنتم في مكان كذا، أما إنه كان من النفر الذين سمعوا القرآن من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وكان بين حيين من الجن مسلمين وكافرين قتال فقتل. ففي هذا الخبر أن ابن مسعود لم يكن في سفر ولا حضر الدفن، والله أعلم.
وذكر ابن أبي الدنيا عن رجل من التابعين سماه: أن حية دخلت عليه في خبائه تلهث عطشا فسقاها ثم أنها ماتت فدفنها، فأتي من الليل فسلم عليه وشكر، وأخبر أن تلك الحية كانت رجلا عن جن نصيبين اسمه زوبعة. قال السهيلي: وبلغنا في فضائل عمر ابن عبد العزيز رضي الله عنه مما حدثنا به أبو بكر بن طاهر الإشبيلي أن عمر بن عبد العزيز كان يمشي بأرض فلاة، فإذا حية ميتة فكفنها بفضلة من ردائه ودفنها، فإذا قائل يقول: يا سرق، أشهد لسمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «ستموت بأرض فلاة فيكفنك رجل صالح». فقال: ومن أنت يرحمك الله! فقال: رجل من الجن الذين استمعوا القرآن من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يبق منهم إلا أنا وسرق، وهذا سرق قد مات. وقد قتلت عائشة رضي الله عنها حية رأتها في حجرتها تستمع وعائشة تقرأ، فأتيت في المنام فقيل لها: إنك قتلت رجلا مؤمنا من الجن الذين قدموا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالت: لو كان مؤمنا ما دخل على حرم رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقيل لها: ما دخل عليك إلا وأنت متقنعة، وما جاء إلا ليستمع الذكر. فأصبحت عائشة فزعة، واشترت رقابا فأعتقتهم. قال السهيلي: وقد ذكرنا من أسماء هؤلاء الجن ما حضرنا، فإن كانوا سبعة فالاحقب منهم وصف لأحدهم، وليس باسم علم، فإن الأسماء التي ذكرناها آنفا ثمانية بالاحقب. والله أعلم. قلت: وقد ذكر الحافظ ابن عساكر في تاريخه: هامة بن الهيم بن الأقيس بن إبليس، قيل: إنه من مؤمني الجن وممن لقي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلمه سورة {إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ} [الواقعة: 1] و{الْمُرْسَلاتِ} [المرسلات: 1] و{عَمَّ يَتَساءَلُونَ} [النبأ: 1] و{إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ} [التكوير: 1] و{الْحَمْدُ} [الفاتحة: 1] و{المعوذتين} [الفلق: 1- والناس: 1]. وذكر أنه حضر قتل هابيل وشرك في دمه وهو غلام ابن أعوام، وأنه لقي نوحا وتاب على يديه، وهودا وصالحا ويعقوب ويوسف وإلياس وموسى بن عمران وعيسى ابن مريم عليهم السلام. وقد ذكر الماوردي أسماءهم عن مجاهد فقال: حسى ومسي ومنشى وشاصر وماصر والأرد وإنيان والاحقم. وذكرها أبو عمرو عثمان بن أحمد المعروف بابن السماك قال: حدثنا محمد ابن البراء قال حدثنا الزبير بن بكار قال: كان حمزة بن عتبة بن أبي لهب يسمى جن نصيبين الذين قدموا على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيقول: حسى ومسي وشاصر وماصر والأفخر والأرد وإنيان. قوله تعالى: {فَلَمَّا حَضَرُوهُ} أي حضروا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهو من باب تلوين الخطاب.
وقيل: لما حضروا القرآن واستماعه. {قالُوا أَنْصِتُوا} أي قال بعضهم لبعض اسكتوا لاستماع القرآن. قال ابن مسعود: هبطوا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة، فلما سمعوه {قالُوا أَنْصِتُوا} قالوا صه. وكانوا سبعة: أحدهم زوبعة، فأنزل الله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا} الآية إلى قوله: {فِي ضَلالٍ مُبِينٍ} [الأحقاف: 32].
وقيل: {أَنْصِتُوا} لسماع قول رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمعنى متقارب. {فَلَمَّا قُضِيَ} وقرأ لاحق بن حميد وخبيب بن عبد الله بن الزبير {فَلَمَّا قُضِيَ} بفتح القاف والضاد، يعني النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل الصلاة. وذلك أنهم خرجوا حين حرست السماء من استراق السمع ليستخبروا ما أوجب ذلك؟ فجاءوا وادي نخلة والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقرأ في صلاة الفجر، وكانوا سبعة، فسمعوه وانصرفوا إلى قومهم منذرين، ولم يعلم بهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقيل: بل أمر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ينذر الجن ويقرأ عليهم القرآن، فصرف الله إليه نفرا من الجن ليستمعوا منه وينذروا قومهم، فلما تلا عليهم القرآن وفرغ انصرفوا بأمره قاصدين من وراءهم من قومهم من الجن، منذرين لهم مخالفة القرآن ومحذرين إياهم بأس الله إن لم يؤمنوا. وهذا يدل على أنهم آمنوا بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنه أرسلهم. ويدل على هذا قولهم: {يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ} [الأحقاف: 31] ولولا ذلك لما أنذروا قومهم. وقد تقدم عن ابن عباس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جعلهم رسلا إلى قومهم، فعلى هذا ليلة الجن ليلتان، وقد تقدم هذا المعنى مستوفى.
وفي صحيح مسلم ما يدل على ذلك على ما يأتي بيانه في {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} [الجن: 1].
وفي صحيح مسلم عن معن قال: سمعت أبي قال سألت مسروقا من آذن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالجن ليلة استمعوا القرآن؟ فقال: حدثني أبوك- يعني ابن مسعود- أنه آذنته بهم شجرة.