فصل: تفسير الآية رقم (28):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (28):

{ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28)}
قوله تعالى: {ذلِكَ} أي ذلك جزاؤهم. {بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ} قال ابن عباس: هو كتمانهم ما في التوراة من نعت محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وإن حملت على المنافقين فهو إشارة إلى ما أضمروا عليه من الكفر. {وَكَرِهُوا رِضْوانَهُ} يعني الايمان. {فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ} أي ما عملوه من صدقة وصلة رحم وغير ذلك، على ما تقدم.

.تفسير الآيات (29- 30):

{أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30)}
قوله تعالى: {أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} نفاق وشك، يعني المنافقين. {أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ} الأضغان ما يضمر من المكروه. واختلف في معناه، فقال السدي: غشهم.
وقال ابن عباس: حسدهم.
وقال قطرب: عداوتهم، وأنشد قول الشاعر:
قل لابن هند ما أردت بمنطق ** ساء الصديق وشيد الاضغانا

وقيل: أحقادهم. واحدها ضغن. قال:
وذي ضغن كففت النفس عنه

وقد تقدم.
وقال عمرو بن كلثوم:
وإن الضغن بعد الضغن يفشو ** عليك ويخرج الداء الدفينا

قال الجوهري: الضغن والضغينة: الحقد. وقد ضغن عليه بالكسر ضغنا. وتضاغن القوم واضطغنوا: أبطنوا على الأحقاد. واضطغنت الصبي إذا أخذته تحت حضنك. وأنشد الأحمر:
كأنه مضطغن صبيا

أي حامله في حجره.
وقال ابن مقبل:
إذا اضطغنت سلاحي عند مغرضها ** ومرفق كرئاس السيف إذ شسفا

وفرس ضاغن لا يعطي ما عنده من الجري إلا بالضرب. والمعنى: أم حسبوا أن لن يظهر الله عداوتهم وحقدهم لأهل الإسلام. {وَلَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ} أي لعرفناكهم. قال ابن عباس: وقد عرفه إياهم في سورة براءة. تقول العرب: سأريك ما اصنع، أي سأعلمك، ومنه قوله تعالى: {بِما أَراكَ اللَّهُ} [النساء: 105] أي بما أعلمك. {فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ} أي بعلاماتهم. قال أنس. ما خفي على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعد هذه الآية أحد من المنافقين، كان يعرفهم بسيماهم. وقد كنا في غزاة وفيها سبعة من المنافقين يشك فيهم الناس، فأصبحوا ذات ليلة وعلى جبهة كل واحد منهم مكتوب هذا منافق فذلك سيماهم.
وقال ابن زيد: قدر الله إظهارهم وأمر أن يخرجوا من المسجد فأبوا إلا أن يتمسكوا بلا إله إلا الله، فحقنت دماؤهم ونكحوا وأنكحوا بها. {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ} أي في فحواه ومعناه. ومنه قول الشاعر:
وخير الكلام ما كان لحنا

أي ما عرف بالمعنى ولم يصرح به. مأخوذ من اللحن في الاعراب، وهو الذهاب عن الصواب، ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض» أي أذهب بها في الجواب لقوته على تصريف الكلام. أبو زيد:
لحنت له بالفتح ألحن لحنا إذا قلت له قولا يفهمه عنك ويخفى على غيره. ولحنه هو عني بالكسر يلحنه لحنا أي فهمه. وألحنته أنا إياه، ولاحنت الناس فاطنتهم، قال الفزاري:
وحديث ألذه هو مما ** ينعت الناعتون يوزن وزنا

منطق رائع وتلحن أحيا ** نا وخير الحديث ما كان لحنا

يريد أنها تتكلم بشيء وهي تريد غيره، وتعرض في حديثها فتزيله عن جهته من فطنتها وذكائها. وقد قال تعالى: {وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ}.
وقال القتال الكلابي:
ولقد وحيت لكم لكيما تفهموا ** ولحنت لحنا ليس بالمرتاب

وقال مرار الأسدي:
ولحنت لحنا فيه غش ورابني ** صدودك ترضين الوشاة الأعاديا

قال الكلبي: فلم يتكلم بعد نزولها عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منافق إلا عرفه.
وقيل: كان المنافقون يخاطبون النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بكلام تواضعوه فيما بينهم، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسمع ذلك ويأخذ بالظاهر المعتاد، فنبهه الله تعالى عليه، فكان بعد هذا يعرف المنافقين إذا سمع كلامهم. قال أنس: فلم يخف منافق بعد هذه الآية على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عرفه الله ذلك بوحي أو علامة عرفها بتعريف الله إياه. {وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ} أي لا يخفى عليه شيء منها.

.تفسير الآية رقم (31):

{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31)}
قوله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ} أي نتعبدكم بالشرائع وإن علمنا عواقب الأمور.
وقيل: لنعاملنكم معاملة المختبرين. {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} عليه. قال ابن عباس: {حَتَّى نَعْلَمَ} حتى نميز.
وقال على رضي الله عنه. {حَتَّى نَعْلَمَ} حتى نرى. وقد مضى في البقرة. وقراءة العامة بالنون في {لَنَبْلُوَنَّكُمْ} و{نَعْلَمَ} {ونبلوا}. وقرأ أبو بكر عن عاصم بالياء فيهن.
وروى رويس عن يعقوب إسكان الواو من {نبلو} على القطع مما قبل. ونصب الباقون ردا على قوله: {حَتَّى نَعْلَمَ}. وهذا العلم هو العلم الذي يقع به الجزاء، لأنه إنما يجازيهم بأعمالهم لا بعلمه القديم عليهم. فتأويله: حتى نعلم المجاهدين علم شهادة، لأنهم إذا أمروا بالعمل يشهد منهم ما عملوا، فالجزاء بالثواب والعقاب يقع على علم الشهادة. {وَنَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ} نختبرها ونظهرها. قال إبراهيم بن الأشعث: كان الفضيل بن عياض إذا قرأ هذه الآية بكى وقال: اللهم لا تبتلينا فإنك إذا بلوتنا فضحتنا وهتكت أستارنا.

.تفسير الآية رقم (32):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32)}
يرجع إلى المنافقين أو إلى اليهود.
وقال ابن عباس: هم المطعمون يوم بدر. نظيرها {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} [الأنفال: 36] الآية. {وَشَاقُّوا الرَّسُولَ} أي عادوه وخالفوه. {مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى} أي علموا أنه نبي بالحجج والآيات. {لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً} بكفرهم. {وَسَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ} أي ثواب ما عملوه.

.تفسير الآية رقم (33):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33)}
فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} لما بين حال الكفار أمر المؤمنين بلزوم الطاعة في أوامره والرسول في سننه. {وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ} أي حسناتكم بالمعاصي، قاله الحسن.
وقال الزهري: بالكبائر. ابن جريج: بالرياء والسمعة.
وقال مقاتل والثمالي: بالمن، وهو خطاب لمن كان يمن على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإسلامه. وكله متقارب، وقول الحسن يجمعه. وفية إشارة إلى أن الكبائر تحبط الطاعات، والمعاصي تخرج عن الايمان.
الثانية: احتج علماؤنا وغيرهم بهذه الآية على أن التحلل من التطوع- صلاة كان أو صوما- بعد التلبس به لا يجوز، لان فيه إبطال العمل وقد نهى الله عنه.
وقال من أجاز ذلك- وهو الامام الشافعي وغيره-: المراد بذلك إبطال ثواب العمل المفروض، فنهى الرجل عن إحباط ثوابه. فأما ما كان نفلا فلا، لأنه ليس واجبا عليه. فإن زعموا أن اللفظ عام فالعام يجوز تخصيصه. ووجه تخصيصه أن النفل تطوع، والتطوع يقتضي تخييرا. وعن أبي العالية كانوا يرون أنه لا يضر مع الإسلام ذنب، حتى نزلت هذه الآية فخافوا الكبائر أن تحبط الأعمال.
وقال مقاتل: يقول الله تعالى إذا عصيتم الرسول فقد أبطلتم أعمالكم.

.تفسير الآية رقم (34):

{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)}
بين أن الاعتبار بالوفاة على الكفر يوجب الخلود في النار. وقد مضى في البقرة الكلام فيه.
وقيل: إن المراد بالآية أصحاب القليب. وحكمها عام.

.تفسير الآية رقم (35):

{فَلا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35)}
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَلا تَهِنُوا} أي تضعفوا عن القتال. والوهن: الضعف وقد وهن الإنسان ووهنه غيره، يتعدى ولا يتعدى. قال:
إنني لست بموهون فقر

ووهن أيضا بالكسر وهنا أي ضعف، وقرئ: {فَما وَهَنُوا} بضم الهاء وكسرها. وقد مضى في آل عمران.
الثانية: قوله تعالى: {وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ} أي الصلح. {وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ} أي وأنتم أعلم بالله منهم.
وقيل: وأنتم الأعلون في الحجة.
وقيل: المعنى وأنتم الغالبون لأنكم مؤمنون وإن غلبوكم في الظاهر في بعض الأحوال.
وقال قتادة: لا تكونوا أول الطائفتين ضرعت إلى صاحبتها.
الثالثة: واختلف العلماء في حكمها، فقيل: إنها ناسخة لقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها} [الأنفال: 61]، لان الله تعالى منع من الميل إلى الصلح إذا لم يكن بالمسلمين حاجة إلى الصلح.
وقيل: منسوخة بقوله تعالى: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها}.
وقيل: هي محكمة. والآيتان نزلتا في وقتين مختلفي الحال.
وقيل: إن قوله: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها} مخصوص في قوم بأعيانهم، والأخرى عامة. فلا يجوز مهادنة الكفار إلا عند الضرورة، وذلك إذا عجزنا عن مقاومتهم لضعف المسلمين. وقد مضى هذا المعنى مستوفى. {وَاللَّهُ مَعَكُمْ} أي بالنصر والمعونة، مثل {وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: 69] {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ} أي لن ينقصكم، عن ابن عباس وغيره. ومنه الموتور الذي قتل له قتيل فلم يدرك بدمه، تقول منه: وتره يتره وترا وترة. ومنه قوله عليه السلام: «من فاتته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله» أي ذهب بهما. وكذلك وتره حقه أي نقصه. وقوله تعالى: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ} أي لن ينتقصكم في أعمالكم، كما تقول: دخلت البيت، وأنت تريد في البيت، قاله الجوهري. الفراء: {وَلَنْ يَتِرَكُمْ} هو مشتق من الوتر وهو الفرد، فكان المعنى ولن يفردكم بغير ثواب.

.تفسير الآيات (36- 37):

{إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37)}
قوله تعالى: {إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ} تقدم في {الأنعام}. {وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ} شرط وجوابه. {وَلا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ} أي لا يأمركم بإخراج جميعها في الزكاة، بل أمر بإخراج البعض، قاله ابن عيينة وغيره.
وقيل: {لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ} لنفسه أو لحاجة منه إليها، إنما يأمركم بالإنفاق في سبيله ليرجع ثوابه إليكم.
وقيل: {لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ} إنما يسألكم أمواله، لأنه المالك لها وهو المنعم بإعطائها.
وقيل: ولا يسألكم محمد أموالكم أجرا على تبليغ الرسالة. نظيره {قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ} [الفرقان: 57] الآية. {إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ} يلح عليكم، يقال: أحفى بالمسألة وألحف وألح بمعنى واحد. والحفي المستقصي في السؤال، وكذلك الإحفاء الاستقصاء في الكلام والمنازعة. ومنه أحفى شاربه أي استقصى في أخذه. {تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ} أي يخرج البخل أضغانكم. قال قتادة: قد علم الله أن في سؤال المال خروج الأضغان. وقرأ ابن عباس ومجاهد وابن محيصن وحميد {وتخرج} بتاء مفتوحة وراء مضمومة. {أَضْغانَكُمْ} بالرفع لكونه الفاعل.
وروى الوليد عن يعقوب الحضرمي {ونخرج} بالنون. وأبو معمر عن عبد الوارث عن أبي عمرو {ويخرج} بالرفع في الجيم على القطع والاستئناف. والمشهور عنه {ويخرج} كسائر القراء، عطف على ما تقدم.