فصل: سورة الذاريات:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.سورة الذاريات:

سورة والذاريات مكية في قول الجميع، وهي ستون آية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

.تفسير الآيات (1- 6):

{وَالذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4) إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6)}
قوله تعالى: {وَالذَّارِياتِ ذَرْواً} قال أبو بكر الأنباري: حدثنا عبد الله بن ناجية، حدثنا يعقوب بن إبراهيم، حدثنا مكي بن إبراهيم، حدثنا الجعيد بن عبد الرحمن، عن يزيد ابن خصيفة، عن السائب بن يزيد أن رجلا قال لعمر رضي الله عنه: إني مررت برجل يسأل عن تفسير مشكل القرآن، فقال عمر: اللهم أمكني منه، فداخل الرجل على عمر يوما وهو لا بس ثيابا وعمامة وعمر يقرأ القرآن، فلما فرغ قام إليه الرجل فقال: يا أمير المؤمنين ما {الذَّارِياتِ ذَرْواً} فقام عمر فحسر عن ذراعيه وجعل يجلده، ثم قال: ألبسوه ثيابه واحملوه على قتب وأبلغوا به حيه، ثم ليقم خطيبا فليقل: إن صبيغا طلب العلم فأخطأه، فلم يزل وضيعا في قومه بعد أن كان سيدا فيهم. وعن عامر بن واثلة أن ابن الكواء سأل عليا رضي الله عنه، فقال: يا أمير المؤمنين ما {الذَّارِياتِ ذَرْواً} قال: ويلك سل تفقها ولا تسأل تعنتا {وَالذَّارِياتِ ذَرْواً} الرياح {فَالْحامِلاتِ وِقْراً} السحاب {فَالْجارِياتِ يُسْراً} السفن {فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً} الملائكة.
وروى الحرث عن علي رضي الله عنه {وَالذَّارِياتِ ذَرْواً}
قال: الرياح {فَالْحامِلاتِ وِقْراً} قال: السحاب تحمل الماء كما تحمل ذوات الأربع الوقر {فَالْجارِياتِ يُسْراً} قال: السفن موقرة {فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً} قال: الملائكة تأتي بأمر مختلف، جبريل بالغلظة، وميكائيل صاحب الرحمة، وملك الموت يأتي بالموت.
وقال الفراء: وقيل تأتي بأمر مختلف من الخصب والجدب والمطر والموت والحوادث. ويقال: ذرت الريح التراب تذروه ذروا وتذرية ذريا. ثم قيل: {وَالذَّارِياتِ} وما بعده أقسام، وإذا أقسم الرب بشيء أثبت له شرفا.
وقيل: المعنى ورب الذاريات، والجواب {إِنَّما تُوعَدُونَ} أي الذي توعدونه من الخير والشر والثواب والعقاب {لَصادِقٌ} لأكذب فيه، ومعنى {لَصادِقٌ} لصدق، وقع الاسم موقع المصدر. {وَإِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ} يعني الجزاء نازل بكم. ثم ابتدا أقسما آخر فقال: {وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ. إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} وقيل: إن الذاريات النساء الولدات لان في ذرايتهن ذرو الخلق، لأنهن يذرين الأولاد فصرن ذاريات، وأقسم بهن لما في ترائبهن من خيرة عباده الصالحين. وخص النساء بذلك دون الرجال وإن كان كل واحد منهما ذاريا لأمرين: أحدهما لأنهن أوعية دون الرجال، فلاجتماع الذروين فيهن خصصن بالذكر.
الثاني- أن الذرو فيهن أطول زمانا، وهن بالمباشرة أقرب عهدا. {فَالْحامِلاتِ وِقْراً} السحاب.
وقيل: الحاملات من النساء إذا ثقلن بالحمل. والوقر بكسر الواو ثقل الحمل على ظهر أو في بطن، يقال: جاء يحمل وقره وقد أوقر بعيره. واكثر ما يستعمل الوقر في حمل البغل والحمار، والوسق في حمل البعير. وهذه امرأة موقرة بفتح القاف إذا حملت حملا ثقيلا. وأوقرت النخلة كثر حملها، يقال: نخلة موقرة وموقر وموقرة، وحكي موقر وهو على غير القياس، لان الفعل للنخلة. وإنما قيل: موقر بكسر القاف على قياس قولك امرأة حامل، لان حمل الشجر مشبه بحمل النساء، فأما موقر بالفتح فشاذ، وقد روي في قول لبيد يصف نخيلا:
عصب كوارع في خليج محلم ** حملت فمنها موقر مكموم

والجمع مواقر. فأما الوقر بالفتح فهو ثقل الاذن، وقد وقرت أذنه توقر وقرا أي صمت، وقياس مصدره التحريك إلا أنه جاء بالتسكين وقد تقدم في الأنعام القول فيه. {فَالْجارِياتِ يُسْراً} السفن تجري بالرياح يسرا إلى حيث سيرت.
وقيل: السحاب، وفي جريها يسرا على هذا القول وجهان: أحدهما- إلى حيث يسيرها الله تعالى من البلاد والبقاع.
الثاني- هو سهولة تسييرها، وذلك معروف عند العرب، كما قال الأعشى:
كأن مشيتها من بيت جارتها ** مشي السحابة لا ريث ولا عجل

.تفسير الآيات (7- 14):

{وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)}
قوله تعالى: {وَالسَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ} قيل: المراد بالسماء ها هنا السحب التي تظل الأرض.
وقيل: السماء المرفوعة. ابن عمر: هي السماء السابعة، ذكره المهدوي والثعلبي والماوردي وغيرهم.
وفي {الْحُبُكِ} أقوال سبعة: الأول- قال ابن عباس وقتادة ومجاهد والربيع: ذات الخلق الحسن المستوي. وقاله عكرمة، قال: ألم تر إلى النساج إذا نسج الثوب فأجاد نسجه، يقال منه حبك الثوب يحبكه بالكسر حبكا أي أجاد نسجه. قال ابن الاعرابي: كل شيء أحكمته وأحسنت عمله فقد احتبكته. والثاني- ذات الزينة، قاله الحسن وسعيد بن جبير، وعن الحسن أيضا: ذات النجوم وهو الثالث.
الرابع- قال الضحاك: ذات الطرائق، يقال لما تراه في الماء والرمل إذا أصابته الريح حبك. ونحوه قول الفراء، قال: الحبك تكسر كل شيء كالرمل إذا مرت به الريح الساكنة، والماء القائم إذا مرت به الريح، ودرع الحديد لها حبك، والشعرة الجعدة تكسرها حبك.
وفي حديث الدجال: أن شعره حبك. قال زهير:
مكلل بأصول النجم تنسجه ** ريح خريق لضاحي مائه حبك

ولكنها تبعد من العباد فلا يرونها.
الخامس- ذات الشدة، قاله ابن زيد، وقرأ: {وَبَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً}. والمحبوك الشديد الخلق من الفرس وغيره، قال امرؤ القيس:
قد غدا يحملني في أنفه ** لا حق الاطلين محبوك ممر

وقال آخر:
مرج الدين فأعددت له ** مشرف الحارك محبوك الكتد

وفي الحديث: أن عائشة رضي الله عنها كانت تحتبك تحت الدرع في الصلاة، أي تشد الإزار وتحكمه.
السادس: ذات الصفاقة، قاله خصيف، ومنه ثوب صفيق ووجه صفيق بين الصفاقة.
السابع: أن المراد بالطرق المجرة التي في السماء، سميت بذلك لأنها كاثر المجر. و{الْحُبُكِ} جمع حباك، قال الراجز:
كأنما جللها الحواك ** طنفسة في وشيها حباك

والحباك والحبيكة الطريقة في الرمل ونحوه. وجمع الحباك حبك وجمع الحبيكة حبائك، والحبكة مثل العبكة وهي الحبة من السويق، عن الجوهري. وروي عن الحسن في قوله: {ذاتِ الْحُبُكِ} {الحبك} و{الحبك} و{الحبك} والحبك والحبك، وقرأ أيضا: {الحبك} كالجماعة. وروي عن عكرمة وأبي مجلز {الحبك}. و{الْحُبُكِ} واحدتها حبيكة، {والحبك} مخفف منه. و{الحبك} واحدتها حبكه. ومن قرأ {الحبك} فالواحدة حبكه كبرقة وبرق أو حبكه كظلمة وظلم. ومن قرأ {الحبك} فهو كإبل وإطل و{الحبك} مخففة منه.
ومن قرأ {الحبك} فهو شاذ إذ ليس في كلام العرب فعل، وهو محمول على تداخل اللغات، كأنه كسر الحاء ليكسر الباء ثم تصور {الْحُبُكِ} فضم الباء.
وقال جميعه المهدوي. قوله تعالى: {إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} هذا جواب القسم الذي هو {وَالسَّماءِ} أي إنكم يا أهل مكة {لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ} في محمد والقرآن فمن مصدق ومكذب.
وقيل: نزلت في المقتسمين.
وقيل: اختلافهم قولهم ساحر بل شاعر بل افتراه بل هو مجنون بل هو كاهن بل هو أساطير الأولين.
وقيل: اختلافهم أن منهم من نفى الحشر ومنهم من شك فيه.
وقيل: المراد عبدة الأوثان والأصنام يقرون بأن الله خالقهم ويعبدون غيره. قوله تعالى: {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} أي يصرف عن الايمان بمحمد والقرآن من صرف، عن الحسن وغيره.
وقيل: المعنى يصرف عن الايمان من أراده بقولهم هو سحر وكهانة وأساطير الأولين.
وقيل: المعنى يصرف عن ذلك الاختلاف من عصمه الله. أفكه يأفكه إفكا أي قلبه وصرفه عن الشيء، ومنه قوله تعالى: {أَجِئْتَنا لِتَأْفِكَنا} وقال مجاهد: معنى {يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ} يؤفن عنه من أفن، والأفن فساد العقل. الزمخشري: وقرئ: {يؤفن عنه من أفن} أي يحرمه من حرم، من أفن الضرع إذا أنهكه حلبا.
وقال قطرب: يخدع عنه من خدع.
وقال اليزيدي: يدفع عنه من دفع. والمعنى واحد وكله راجع إلى معنى الصرف. قوله تعالى: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} في التفسير: لعن الكذابون.
وقال ابن عباس: أي قتل المرتابون، يعني الكهنة.
وقال الحسن: هم الذين يقولون لسنا نبعث. ومعنى {قُتِلَ} أي هؤلاء ممن يجب أن يدعى عليهم بالقتل على أيدي المؤمنين.
وقال الفراء: معنى {قُتِلَ} لعن، قال: و{الْخَرَّاصُونَ} الكذابون الذين يتخرصون بما لا يعلمون، فيقولون: إن محمدا مجنون كذاب ساحر شاعر، وهذا دعاء عليهم، لان من لعنه الله فهو بمنزلة المقتول الهالك. قال ابن الأنباري: علمنا الدعاء عليهم، أي قولوا: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ} وهو جمع خارص والخرص الكذب والخراص الكذاب، وقد خرص يخرص بالضم خرصا أي كذب، يقال: خرص واخترص، وخلق واختلق، وبشك وابتشك، وسرج واسترج، ومان، بمعنى كذب، حكاه النحاس. والخرص أيضا حزر ما على النخل من الرطب تمرا. وقد خرصت النخل والاسم الخرص بالكسر، يقال: كم خرص نخلك والخراص الذي يخرصها فهو مشترك. واصل الخرص القطع على ما تقدم بيانه في الأنعام ومنه الخريص للخليج، لأنه ينقطع إليه الماء، والخرص حبة القرط إذا كانت منفردة، لانقطاعها عن أخواتها، والخرص العود، لانقطاعه عن نظائره بطيب رائحته. والخرص الذي به جوع وبرد لأنه ينقطع به، يقال: خرص الرجل بالكسر فهو خرص، أي جائع مقرور، ولا يقال للجوع بلا برد خرص. ويقال للبرد بلا جوع خرص. والخرص بالضم والكسر الحلقة من الذهب أو الفضة والجمع الخرصان. ويدخل في الخرص قول المنجمين وكل من يدعي الحدس والتخمين.
وقال ابن عباس: هم المقتسمون الذين اقتسموا أعقاب مكة، واقتسموا القول في نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ليصرفوا الناس عن الايمان به. قوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ} الغمرة ما ستر الشيء وغطاه. ومنه نهر غمر أي يغمر من دخله، ومنه غمرات الموت. {ساهُونَ} أي لاهون غافلون عن أمر الآخرة. قوله تعالى: {يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ} أي متى يوم الحساب، يقولون ذلك استهزاء وشكا في القيامة. {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} نصب {يَوْمَ} على تقدير الجزاء أي هذا الجزاء {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ} أي يحرقون، وهو من قولهم: فتنت الذهب أي أحرقته لتختبره، واصل الفتنة الاختبار.
وقيل: إنه مبني بني لاضافته إلى غير متمكن، وموضعه نصب على التقدير المتقدم، أو رفع على البدل من {يَوْمُ الدِّينِ}.
وقال الزجاج: يقول يعجبني يوم أنت قائم ويوم أنت تقوم، وإن شئت فتحت وهو في موضع رفع، فإنما أنتصب هذا وهو في المعنى رفع.
وقال ابن عباس: {يُفْتَنُونَ} يعذبون. ومنه قول الشاعر:
كل امرئ من عباد الله مضطهد ** ببطن مكة مقهور ومفتون

قوله تعالى: {ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} أي يقال لهم ذوقوا عذابكم، قاله ابن زيد. مجاهد: حريقكم. ابن عباس: أي تكذيبكم يعني جزاءكم. الفراء: أي عذابكم {الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} في الدنيا. وقال: {هذَا} ولم يقل هذه، لان الفتنة هنا بمعنى العذاب.