فصل: تفسير الآيات (15- 16):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (15- 16):

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16)}
قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ} لما ذكر مآل الكفار ذكر مآل المؤمنين أي هم في بساتين فيها عيون جارية على نهاية ما يتنزه به. {آخِذِينَ} نصب على الحال. {ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ} أي ما أعطاهم من الثواب وأنواع الكرامات، قاله الضحاك.
وقال ابن عباس وسعيد بن جبير: {آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ} أي عاملين بالفرائض. {إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ} أي قبل دخولهم الجنة في الدنيا {مُحْسِنِينَ} بالفرائض.
وقال ابن عباس: المعنى كانوا قبل أن يفرض عليهم الفرائض محسنين في أعمالهم.

.تفسير الآيات (17- 19):

{كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ} معنى {يَهْجَعُونَ} ينامون، والهجوع النوم ليلا، والتهجاع النومة الخفيفة، قال أبو قيس بن الأسلت:
قد حصت البيضة رأسي فما ** أطعم نوما غير تهجاع

وقال عمرو بن معدى كرب يتشوق أخته وكان أسرها الصمة أبو دريد بن الصمة:
أمن ريحانة الداعي السميع ** يؤرقني وأصحابي هجوع

يقال: هجع يهجع هجوعا، وهبغ يهبغ هبوغا بالغين المعجمة إذا نام، قاله الجوهري. وأختلف في {ما} فقيل: صلة زائدة- قاله إبراهيم النخعي- والتقدير كانوا قليلا من الليل يهجعون، أي ينامون قليلا من الليل ويصلون أكثره. قال عطاء: وهذا لما أمروا بقيام الليل. وكان أبو ذر يحتجز ويأخذ العصا فيعتمد عليها حتى نزلت الرخصة {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا}. الآية.
وقيل: ليس {ما} صلة بل الوقف عند قوله: {قَلِيلًا} ثم يبتدئ {مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ} ف {ما} للنفي وهو نفى النوم عنهم البتة. قال الحسن: كانوا لا ينامون من الليل إلا أقله وربما نشطوا فجدوا إلى السحر. روي عن يعقوب الحضرمي أنه قال: اختلفوا في تفسير هذه الآية فقال بعضهم: {كانُوا قَلِيلًا} معناه كان عددهم يسيرا ثم ابتدأ فقال: {مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ} على معنى من الليل يهجعون، قال ابن الأنباري: وهذا فاسد، لان الآية إنما تدل على قلة نومهم لا على قلة عددهم، وبعد فلو ابتدأنا {مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ} على معنى من الليل يهجعون لم يكن في هذا مدح لهم، لان الناس كلهم يهجعون من الليل إلا أن تكون {ما} جحدا. قلت: وعلى ما تأوله بعض الناس- وهو قول الضحاك- من أن عددهم كان يسيرا يكون الكلام متصلا بما قبل من قوله: {إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ} أي كان المحسنون قليلا، ثم استأنف فقال: {مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ} وعلى التأويل الأول والثاني يكون {كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ} خطابا مستأنفا بعد تمام ما تقدمه ويكون الوقف على {ما يَهْجَعُونَ}
، وكذلك إن جعلت {قَلِيلًا} خبر كان وترفع {ما} بقليل، كأنه قال: كانوا قليلا من الليل هجوعهم. ف {ما} يجوز أن تكون نافية، ويجوز أن تكون مع الفعل مصدرا، ويجوز أن تكون رفعا على البدل من اسم كان، التقدير كان هجوعهم قليلا من الليل، وانتصاب قوله: {قَلِيلًا} إن قدرت {ما} زائدة مؤكدة ب {يَهْجَعُونَ} على تقدير كانوا وقتا قليلا أو هجوعا قليلا يهجعون، وإن لم تقدر {ما} زائدة كان قوله: {قَلِيلًا} خبر كان ولم يجز نصبه ب {يَهْجَعُونَ}، لأنه إذا قدر نصبه ب {يَهْجَعُونَ} مع تقدير {ما} مصدرا قدمت الصلة على الموصول.
وقال أنس وقتادة في تأويل الآية: أي كانوا يصلون بين العشاءين: المغرب والعشاء. أبو العالية: كانوا لا ينامون بين العشاءين. وقاله ابن وهب.
وقال مجاهد:
نزلت في الأنصار كانوا يصلون العشاءين في مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثم يمضون إلى قباء.
وقال محمد بن علي بن الحسين: كانوا لا ينامون حتى يصلوا العتمة. قال الحسن: كأنه عد هجوعهم قليلا في جنب يقظتهم للصلاة.
وقال ابن عباس ومطرف: قل ليلة لا تأتي عليهم إلا يصلون لله فيها إما من أولها وإما من وسطها.
الثانية: روي عن بعض المتهجدين أنه أتاه آت في منامه فأنشده:
وكيف تنام الليل عين قريرة ** ولم تدر في أي المجالس تنزل

وروي عن رجل من الأزد أنه قال: كنت لا أنام الليل فنمت في أخر الليل، فإذا أنا بشابين أحسن ما رأيت ومعهما حلل، فوقفا على كل مصل وكسواه حلة، ثم انتهيا إلى النيام فلم يكسواهم، فقلت لهما: اكسواني من حللكما هذا، فقالا لي: إنها ليست حلة لباس إنما هي رضوان الله يحل على كل مصل. ويروى عن أبي خلاد أنه قال: حدثني صاحب لي قال: فبينا أنا نائم ذات ليلة إذ مثلت لي القيامة، فنظرت إلى أقوام من إخواني قد أضاءت وجوههم، وأشرقت ألوانهم، وعليهم الحلل من دون الخلائق، فقلت: ما بال هؤلاء مكتسون والناس عراة، ووجوههم مشرقة ووجوه الناس مغبرة! فقال لي قائل: الذين رأيتهم مكتسون فهم المصلون بين الأذان والإقامة، والذين وجوههم مشرقة فأصحاب السهر والتهجد، قال: ورأيت أقواما على نجائب فقلت: ما بال هؤلاء ركبانا والناس مشاة حفاة؟ فقال لي: هؤلاء الذين قاموا على أقدامهم تقربا لله تعالى فأعطاهم الله بذلك خير الثواب، قال: فصحت في منامي: واها للعابدين، ما أشرف مقامهم! ثم استيقظت من منامي وأنا خائف.
الثالثة: قوله تعالى: {بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} مدح ثان، أي يستغفرون من ذنوبهم، قاله الحسن. والسحر وقت يرجى فيه إجابة الدعاء. وقد مضى في آل عمران القول فيه.
وقال ابن عمرو مجاهد: أي يصلون وقت السحر فسموا الصلاة استغفارا.
وقال الحسن في قوله تعالى: {كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ} مدوا الصلاة من أول الليل إلى السحر ثم استغفروا في السحر. ابن وهب: هي في الأنصار، يعني أنهم كانوا يغدون من قباء فيصلون في مسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ابن وهب عن ابن لهيعة عن يزيد ابن أبي حبيب قالوا: كانوا ينضحون لناس من الأنصار بالدلاء على الثمار ثم يهجعون قليلا، ثم يصلون آخر الليل. الضحاك: صلاة الفجر. قال الأحنف بن قيس: عرضت عملي على أعمال أهل الجنة فإذا قوم قد باينونا بونا بعيدا لا نبلغ أعمالهم {كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ} وعرضت عملي على أعمال أهل النار فإذا قوم لا خير فيهم، يكذبون بكتاب الله وبرسوله وبالبعث بعد الموت، فوجدنا خيرنا منزلة قوما خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا.
الرابعة: قوله تعالى: {وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} مدح ثالث. قال محمد بن سيرين وقتادة: الحق هنا الزكاة المفروضة.
وقيل: إنه حق سوى الزكاة يصل به رحما، أو يقري به ضيفا، أو يحمل به كلا، أو يغني محروما. وقاله ابن عباس، لان السورة مكية وفرضت الزكاة بالمدينة. ابن العربي: والأقوى في هذه الآية أنها الزكاة، لقوله تعالى في سورة {سأل سائل} {وَالَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ. لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} والحق المعلوم هو الزكاة التي بين الشرع قدرها وجنسها ووقتها، فأما غيرها لمن يقول به فليس بمعلوم، لأنه غير مقدر ولا مجنس ولا موقت.
الخامسة: قولة تعالى: {لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} السائل الذي يسأل الناس لفاقته، قاله ابن عباس وسعيد بن المسيب وغيرهما. {وَالْمَحْرُومِ} الذي حرم المال. واختلف في تعيينه، فقال ابن عباس وسعيد بن المسيب وغيرهما: المحروم المحارف الذي ليس له في الإسلام سهم. وقالت عائشة رضي الله عنها: المحروم المحارف الذي لا يتيسر له مكسبه، يقال: رجل محارف بفتح الراء أي محدود محروم، وهو خلاف قولك مبارك. وقد حورف كسب فلان إذا شدد عليه في معاشه كأنه ميل برزقه عنه.
وقال قتادة والزهري: المحروم المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئا ولا يعلم بحاجته.
وقال الحسن ومحمد ابن الحنفية: المحروم الذي يجئ بعد الغنيمة وليس له فيها سهم. روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعث سرية فأصابوا وغنموا فجاء قوم بعد ما فرغوا فنزلت هذه الآية {وَفِي أَمْوالِهِمْ}. وقال عكرمة: المحروم الذي لا يبقى له مال.
وقال زيد بن أسلم: هو الذي أصيب ثمره أو زرعه أو نسل ماشيته.
وقال القرظي: المحروم الذي أصابته الجائحة ثم قرأ {إن لمغرمون بل نحن محرومون} نظيره في قصة أصحاب الجنة حيث قالوا: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} وقال أبو قلابة: كان رجل من أهل اليمامة له مال فجاء سيل فذهب بماله، فقال رجل من أصحابه: هذا المحروم فأقسموا له.
وقيل: إنه الذي يطلب الدنيا وتدبر عنه. وهو يروى عن ابن عباس أيضا.
وقال عبد الرحمن بن حميد: المحروم المملوك.
وقيل: إنه الكلب، روي أن عمر بن عبد العزيز كان في طريق مكة، فجاء كلب فانتزع عمر رحمه الله كتف شاة فرمى بها إليه وقال: يقولون إنه المحروم.
وقيل: إنه من وجبت نفقته بالفقر من ذوي الأنساب، لأنه قد حرم كسب نفسه حتى وجبت نفقته في مال غيره.
وروى ابن وهب عن مالك: أنه الذي يحرم الرزق، وهذا قول حسن، لأنه يعم جميع الأقوال.
وقال الشعبي: لي اليوم سبعون سنة منذ احتلمت أسأل عن المحروم فما أنا اليوم بأعلم مني فيه يومئذ. رواه شعبة عن عاصم الأحول عن الشعبي. وأصله في اللغة الممنوع، من الحرمان وهو المنع. قال علقمة:
ومطعم الغنم يوم الغنم مطعمه ** أنى توجه والمحروم محروم

وعن أنس أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ويل للأغنياء من الفقراء يوم القيامة يقولون ربنا ظلمونا حقوقنا التي فرضت لنا عليهم فيقول الله تعالى وعزتي وجلالي لاقربنكم ولابعدنهم» ثم تلا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {وَفِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} ذكره الثعلبي.

.تفسير الآيات (20- 23):

{وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)}
قوله تعالى: {وَفِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ} لما ذكر أمر الفريقين بين أن في الأرض علامات تدل على قدرته على البعث والنشور، فمنها عود النبات بعد أن صار هشيما، ومنها أنه قدرا لأقوات فيها قواما للحيوانات، ومنها سيرهم في البلدان التي يشاهدون فيها آثار الهلاك النازل بالأمم المكذبة. والموقنون هم العارفون المحققون وحدانية ربهم، وصدق نبوة نبيهم، خصهم بالذكر لأنهم المنتفعون بتلك الآيات وتدبرها. قوله تعالى: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ} قيل: التقدير وفي الأرض وفي أنفسكم آيات للموقنين.
وقال قتادة: المعنى من سار في الأرض رأى آيات وعبرا، ومن تفكر في نفسه علم أنه خلق ليعبد الله. ابن الزبير ومجاهد: المراد سبيل الخلاء والبول.
وقال السائب ابن شريك: يأكل ويشرب من مكان واحد ويخرج من مكانين، ولو شرب لبنا محضا لخرج منه الماء ومنه الغائط، فتلك الآية في النفس.
وقال ابن زيد: المعنى أنه خلقكم من تراب، وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة {ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ} {تَنْتَشِرُونَ}. السدي: {وَفِي أَنْفُسِكُمْ} أي في حياتكم وموتكم، وفيما يدخل ويخرج من طعامكم. الحسن: وفي الهرم بعد الشباب، والضعف بعد القوة، والشيب بعد السواد.
وقيل: المعنى وفي خلق أنفسكم من نطفة وعلقة ومضغة ولحم وعظم إلى نفخ الروح، وفي اختلاف الألسنة والألوان والصور، إلى غير ذلك من الآيات الباطنة والظاهرة، وحسبك بالقلوب وما ركز فيها من العقول، وما خصت به من أنواع المعاني والفنون، وبالألسن والنطق ومخارج الحروف والأبصار والاطراف وسائر الجوارح، وتأتيها لما خلقت له، وما سوى في الأعضاء من المفاصل للانعطاف والتثني، وأنه إذا جسا شيء منها جاء العجز، وإذا استرخى أناخ ألذل {فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ}. {أَفَلا تُبْصِرُونَ} يعني بصر القلب ليعرفوا كمال قدرته.
وقيل: إنه نجح العاجز، وحرمان الحازم. قلت: كل ما ذكر مراد في الاعتبار. وقد قدمنا في آية التوحيد من سورة البقرة أن ما في بدن الإنسان الذي هو العالم الصغير شيء إلا وله نظير في العالم الكبير، وذكرنا هناك من الاعتبار ما يكفي ويغني لمن تدبر.
قوله تعالى: {وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ} قال سعيد بن جبير والضحاك: الرزق هنا ما ينزل من السماء من مطر وثلج ينبت به الزرع ويحيا به الخلق. قال سعيد بن جبير: كل عين قائمة فإنها من الثلج. وعن الحسن أنه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه: فيه والله رزقكم ولكنكم تحرمونه بخطاياكم.
وقال أهل المعاني: {وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ} معناه وفي المطر رزقكم، سمي المطر سماء لأنه من السماء ينزل. قال الشاعر:
إذا سقط السماء بأرض قوم ** رعيناه وإن كانوا غضابا

وقال ابن كيسان: يعني وعلى رب السماء رزقكم، نظيره: {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ} إلا على الله رزقها.
وقال سفيان الثوري: {وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ} أي عند الله في السماء رزقكم.
وقيل: المعنى وفي السماء تقدير رزقكم، وما فيه لكم مكتوب في أم الكتاب. وعن سفيان قال: قرأ واصل الأحدب {وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ} فقال: ألا أرى رزقي في السماء وأنا أطلبه في الأرض! فدخل خربة فمكث ثلاثا لا يصيب شيئا فإذا هو في الثالثة بدوخلة رطب، وكان له أخ أحسن نية منه فدخل معه فصارتا دوخلتين، فلم يزل ذلك دأبهما حتى فرق الله بالموت بينهما. وقرأ ابن محيصن ومجاهد {وفي السماء رازقك} بالألف وكذلك في أخرها {إن الله هو الرازق} {وَما تُوعَدُونَ} قال مجاهد: يعني من خير وشر.
وقال غيره: من خير خاصة.
وقيل: الشر خاصة.
وقيل: الجنة، عن سفيان بن عيينة. الضحاك: {وَما تُوعَدُونَ} من الجنة والنار.
وقال ابن سيرين: {وَما تُوعَدُونَ} من أمر الساعة. وقاله الربيع. قوله تعالى: {فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ} أكد ما أخبرهم به من البعث وما خلق في السماء من الرزق، وأقسم عليه بأنه لحق ثم أكده بقوله: {مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} وخص النطق من بين سائر الحواس، لان ما سواه من الحواس يدخله التشبيه، كالذي يرى في المرآة، واستحالة الذوق عند غلبة الصفراء ونحوها، والدوى والطنين في الاذن، والنطق سالم من ذلك، ولا يعترض بالصدى لأنه لا يكون إلا بعد حصول الكلام من الناطق غير مشوب بما يشكل به.
وقال بعض الحكماء: كما أن كل إنسان ينطق بنفسه ولا يمكنه أن ينطق بلسان غيره، فكذلك كل إنسان يأكل رزقه ولا يمكنه أن يأكل رزق غيره.
وقال الحسن: بلغني أن نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «قاتل الله أقواما أقسم لهم ربهم بنفسه ثم لم يصدقوه قال الله تعالى: {فَوَرَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ}».
وقال الأصمعي: أقبلت ذات مرة من مسجد البصرة إذ طلع أعرابي جلف جاف على قعود له متقلدا سيفه وبيده قوسه، فدنا وسلم وقال: ممن الرجل؟ قلت من بني أصمع، قال: أنت الأصمعي؟ قلت: نعم. قال: ومن أين أقبلت؟ قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن، قال: وللرحمن كلام يتلوه الآدميون؟ قلت: نعم، قال: فاتل علي منه شيئا، فقرأت {وَالذَّارِياتِ ذَرْواً} إلى قوله: {وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ} فقال: يا أصمعي حسبك!! ثم قام إلى ناقته فنحرها وقطعها بجلدها، وقال: أعني على توزيعها، ففرقناها على من أقبل وأدبر، ثم عمد إلى سيفه وقوسه فكسرهما ووضعهما تحت الرحل وولى نحو البادية وهو يقول: {وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ} فمقت نفسي ولمتها، ثم حججت مع الرشيد، فبينما أنا أطوف إذا أنا بصوت رقيق، فالتفت فإذا أنا بالأعرابي وهو ناحل مصفر، فسلم علي واخذ بيدي وقال: أتل علي كلام الرحمن، وأجلسني من وراء المقام فقرأت: {وَالذَّارِياتِ} حتى وصلت إلى قوله تعالى: {وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَما تُوعَدُونَ} فقال الاعرابي: لقد وجدنا ما وعدنا الرحمن حقا، وقال: وهل غير هذا؟ قلت: نعم، يقول الله تبارك وتعالى: {فَوَرَبِّ السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} قال فصاح الاعرابي وقال: يا سبحان الله! من الذي أغضب الجليل حتى حلف! ألم يصدقوه في قوله حتى ألجئوه إلى اليمين؟ فقالها ثلاثا وخرجت بها نفسه.
وقال يزيد بن مرثد: إن رجلا جاع بمكان ليس فيه شيء فقال: اللهم رزقك الذي وعدتني فأتني به، فشبع وروي من غير طعام ولا شراب. وعن أبي سعيد الخدري قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لو أن أحدكم فر من رزقه لتبعه كما يتبعه الموت» أسنده الثعلبي.
وفي سنن ابن ماجه عن حبة وسواء ابني خالد قالا: دخلنا على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو يعالج شيئا فأعناه عليه، فقال: «لا تيأسا من الرزق ما تهززت رؤوسكما فإن الإنسان تلده أمه أحمر ليس عليه قشر» «ثم يرزقه الله». وروي أن قوما من الاعراب زرعوا زرعا فأصابته جائحة فحزنوا لأجله، فخرجت عليهم أعرابية فقالت: ما لي أراكم قد نكستم رءوسكم، وضاقت صدوركم، هو ربنا والعالم بنا، رزقنا عليه يأتينا به حيث شاء! ثم أنشأت تقول:
لو كان في صخرة في البحر راسية ** صما ململمة ملسا نواحيها

رزق لنفس براها الله لانفلقت ** حتى تؤدي إليها كل ما فيها

أو كان بين طباق السبع مسلكها ** لسهل الله في المرقى مراقيها

حتى تنال الذي في اللوح خط لها ** إن لم تنله وإلا سوف يأتيها

قلت: وفي هذا المعنى قصة الأشعريين حين أرسلوا رسولهم إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسمع قوله تعالى: {وَما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها} فرجع ولم يكلم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقال: ليس الأشعريون بأهون على الله من الدواب، وقد ذكرناه في سورة هود.
وقال لقمان: {يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ} الآية. وقد مضى في لقمان وقد استوفينا هذا الباب في كتاب قمع الحرص بالزهد والقناعة والحمد لله. وهذا هو التوكل الحقيقي الذي لا يشوبه شي، وهو فراغ القلب مع الرب، رزقنا الله إياه ولا أحالنا على أحد سواه بمنه وكرمه. قوله تعالى: {مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ} قراءة العامة {مِثْلَ} بالنصب أي كمثل {ما أَنَّكُمْ} فهو منصوب على تقدير حذف الكاف أي كمثل نطقكم و{ما} زائدة، قاله بعض الكوفيين.
وقال الزجاج والفراء: يجوز أن ينتصب على التوكيد، أي لحق حقا مثل نطقك، فكأنه نعت لمصدر محذوف. وقول سيبويه: انه مبني بني حين أضيف إلى غير متمكن و{ما} زائدة للتوكيد. المازني: {مِثْلَ} مع {ما} بمنزلة شيء واحد فبني على الفتح لذلك. وأختاره أبو عبيد وأبو حاتم، قال: ولان من العرب من يجعل مثلا منصوبا أبدا، فتقول: قال لي رجل مثلك، ومررت برجل مثلك بنصب مثل على معنى كمثل. وقرأ أبو بكر وحمزة والكسائي والأعمش {مثل} بالرفع على أنه صفة لحق، لأنه نكرة وإن أضيف إلى معرفة، إذ لا يختص بالإضافة لكثرة الأشياء التي يقع بعدها التماثل بين المتماثلين. و{مِثْلَ} مضاف إلى {أَنَّكُمْ} و{ما} زائدة ولا تكون مع ما بعدها بمنزلة المصدر إذ لا فعل معها تكون معه مصدرا. ويجوز أن تكون بدلا من {لَحَقٌّ}.