فصل: تفسير الآيات (47- 49):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (47- 49):

{وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ (49)}
قوله تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} أي كفروا {عَذاباً دُونَ ذلِكَ} قيل: قبل موتهم. ابن زيد: مصائب الدنيا من الأوجاع والاسقام والبلايا وذهاب الأموال والأولاد. مجاهد: هو الجوع والجهد سبع سنين. ابن عباس: هو القتل. عنه: عذاب القبر. وقاله البراء بن عازب وعلي رضي الله عنهم. ف {دُونَ} بمعنى غير.
وقيل: عذابا أخف من عذاب الآخرة. {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أن العذاب نازل بهم وقيل: {وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} ما يصيرون إليه. قوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا}. فيه مسألتان: الأولى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} قيل: لقضاء ربك فيما حملك من رسالته.
وقيل: لبلائه فيما ابتلاك به من قومك، ثم نسخ بآية السيف.
الثانية: قوله تعالى: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا} أي بمرأى ومنظر منا نرى ونسمع ما تقول وتفعل.
وقيل: بحيث نراك ونحفظك ونحوطك ونحرسك ونرعاك. والمعنى واحد. ومنه قول تعالى لموسى عليه السلام: {وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي} أي بحفظي وحراستي وقد تقدم. قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ} فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} اختلف في تأويل قوله: {حِينَ تَقُومُ} فقال عون بن مالك وابن مسعود وعطاء وسعيد بن جبير وسفيان الثوري وأبو الأحوص: يسبح الله حين يقوم من مجلسه، فيقول: سبحان الله وبحمده، أو سبحانك اللهم وبحمدك، فإن كان المجلس خيرا ازددت ثناء حسنا، وإن كان غير ذلك كان كفارة له، ودليل هذا التأويل ما خرجه الترمذي عن أبي هريرة قال: قال وسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه: سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله إلا أنت أستغفرك وأتوب إليك إلا غفر له ما كان في مجلسه ذلك» قال: حديث حسن صحيح غريب. وفية عن ابن عمر قال: كنا نعد لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في المجلس الواحد مائة مرة من قبل أن يقوم: «رب اغفر لي وتب علي إنك أنت التواب الغفور» قال حديث حسن صحيح غريب.
وقال محمد بن كعب والضحاك والربيع: المعنى حين تقوم إلى الصلاة. قال الضحاك يقول: الله أكبر كبيرا، والحمد لله كثيرا، وسبحان الله بكرة وأصيلا. قال الكيا الطبري: وهذا فيه بعد، فإن قوله: {حِينَ تَقُومُ} لا يدل على التسبيح بعد التكبير، فإن التكبير هو الذي يكون بعد القيام، والتسبيح يكون وراء ذلك، فدل على أن المراد فيه حين تقوم من كل مكان كما قال ابن مسعود رضي الله عنه.
وقال أبو الجوزاء وحسان بن عطية: المعنى حين تقوم من منامك. قال حسان: ليكون مفتتحا لعمله بذكر الله.
وقال الكلبي: واذكر الله باللسان حين تقوم من فراشك إلى أن تدخل الصلاة وهي صلاة الفجر. وفى هذا روايات مختلفات صحاح، منها حديث عبادة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من تعارفي الليل فقال لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير والحمد لله وسبحان الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ثم قال اللهم أغفر لي أو دعا أستجيب له فإن توضأ وصلي قبلت صلاته» خرجه البخاري. تعار الرجل من الليل: إذا هب من نومه مع صوت، ومنه عار الظليم يعر عرارا وهو صوته، وبعضهم يقول: عر الظليم يعر عرارا، كما قالوا زمر النعام يزمر زمارا. وعن ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يقول إذا قام إلى الصلاة من جوف الليل: «اللهم لك الحمد أنت نور السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت قيوم السموات والأرض ومن فيهن ولك الحمد أنت رب السموات والأرض ومن فيهن أنت الحق ووعدك الحق وقولك الحق ولقاؤك الحق والجنة حق والنار حق والساعة حق والنبيون حق ومحمد حق اللهم لك أسلمت وعليك توكلت وبك آمنت وإليك أنبت وبك خاصمت وإليك حاكمت فاغفر لي ما قدمت وما أخرت وأسررت وأعلنت أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت ولا إله غيرك» متفق عليه. وعن ابن عباس أيضا أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا استيقظ من الليل مسح النوم عن وجهه، ثم قرأ العشر الآيات الأواخر من سورة آل عمران.
وقال زيد بن أسلم: المعنى حين تقوم من نوم القائلة لصلاة الظهر. قال ابن العربي: أما نوم القائلة فليس فيه أثر وهو ملحق بنوم الليل.
وقال الضحاك: إنه التسبيح في الصلاة إذا قام إليها. الماوردي: وفي هذا التسبيح قولان: أحدهما وهو قوله سبحان ربي العظيم في الركوع وسبحان ربي الأعلى في السجود.
الثاني أنه التوجه في الصلاة يقول: سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك. قال ابن العربي: من قال إنه التسبيح للصلاة فهذا أفضله، والآثار في ذلك كثيرة أعظمها ما ثبت عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان إذا قام إلى الصلاة قال: {وَجَّهْتُ وَجْهِيَ} الحديث. وقد ذكرناه وغيره في آخر سورة الأنعام.
وفي البخاري عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال: قلت يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي، فقال: «قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم».
الثانية: قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبارَ النُّجُومِ} تقدم في ق مستوفى عند قوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبارَ السُّجُودِ}. وأما {إِدْبارَ النُّجُومِ} فقال علي وابن عباس وجابر وأنس: يعني ركعتي الفجر. فحمل بعض العلماء الآية على هذا القول على الندب وجعلها منسوخة بالصلوات الخمس. وعن الضحاك وابن زيد: أن قوله: {وَإِدْبارَ النُّجُومِ} يريد به صلاة الصبح وهو اختيار الطبري. وعن ابن عباس: أنه التسبيح في آخر الصلوات. وبكسر الهمزة في {إِدْبارَ النُّجُومِ} قرأ السبعة على المصدر حسب ما بيناه في ق. وقرأ سالم بن أبي الجعد ومحمد بن السميقع {وإدبار} بالفتح، ومثله روي عن يعقوب وسلام وأيوب، وهو جمع دبر ودبر. ودبر الامر ودبره آخره.
وروى الترمذي من حديث محمد بن فضيل، عن رشدين بن كريب عن أبيه عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إِدْبارَ النُّجُومِ الركعتان قبل الفجر وإدبار السجود الركعتان بعد المغرب»
قال: حديث غريب لا نعرفه مرفوعا إلا من هذا الوجه من حديث محمد بن فضيل عن رشدين بن كريب. وسألت محمد بن إسماعيل عن محمد بن فضيل ورشدين بن كريب أيهما أوثق؟ فقال: ما أقربهما، ومحمد عندي أرجح. قال: وسألت عبد الله بن عبد الرحمن عن هذا فقال: ما أقربهما، ورشدين بن كريب أرجحهما عندي. قال الترمذي: والقول ما قال أبو محمد ورشدين بن كريب عندي أرجح من محمد وأقدم، وقد أدرك رشدين ابن عباس ورآه.
وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: لم يكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على شيء من النوافل أشد معاهدة منه على ركعتين قبل الصبح. وعنها عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها». تم تفسير سورة والطور والحمد لله.

.سورة النجم:

سورة والنجم مكية، وهي إحدى وستون آية مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء وجابر. وقال ابن عباس وقتادة: إلا آية منها وهي قوله تعالى: {الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَواحِشَ} الآية. وقيل: اثنتان وستون آية. وقيل: إن السورة كلها مدنية. والصحيح أنها مكية لما روى ابن مسعود أنه قال: هي أول سورة أعلنها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمكة. وفي البخاري عن ابن عباس: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سجد بالنجم، وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس. وعن عبد الله أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قرأ سورة النجم فسجد لها، فما بقي أحد من القوم إلا سجد، فأخذ رجل من القوم كفا من حصباء أو تراب فرفعه إلى وجهه وقال: يكفيني هذا. قال عبد الله: فلقد رأيته بعد قتل كافرا، متفق عليه. الرجل يقال له أمية بن خلف. وفي الصحيحين عن زيد بن ثابت رضي الله عنه أنه قرأ على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سورة {وَالنَّجْمِ إِذا هَوى} فلم يسجد. وقد مضى في آخر الأعراف القول في هذا والحمد لله.

.تفسير الآيات (1- 10):

{وَالنَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَما غَوى (2) وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4) عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9) فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10)}
قوله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذا هَوى} قال ابن عباس ومجاهد: معنى {وَالنَّجْمِ إِذا هَوى} والثريا إذا سقطت مع الفجر، والعرب تسمي الثريا نجما وإن كانت في العدد نجوما، يقال: إنها سبعة أنجم، ستة منها ظاهرة وواحد خفي يمتحن الناس به أبصارهم.
وفي الشفا للقاضي عياض: أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يرى في الثريا أحد عشر نجما. وعن مجاهد أيضا أن المعنى والقرآن إذا نزل، لأنه كان ينزل نجوما. وقاله الفراء. وعنه أيضا: يعني نجوم السماء كلها حين تغرب. وهو قول الحسن قال: أقسم الله بالنجوم إذا غابت. وليس يمتنع أن يعبر عنها بلفظ واحد ومعناه جمع، كقول الراعي:
فباتت تعد النجم في مستحيرة ** سريع بأيدي الآكلين جمودها

وقال عمر بن أبي ربيعة:
أحسن النجم في السماء الثريا ** والثريا في الأرض زين النساء

وقال الحسن أيضا: المراد بالنجم النجوم إذا سقطت يوم القيامة.
وقال السدي: إن النجم هاهنا الزهرة لان قوما من العرب كانوا يعبدونها.
وقيل: المراد به النجوم التي ترجم بها الشياطين، وسببه أن الله تعالى لما أراد بعث محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولا كثر انقضاض الكواكب قبل مولده، فذعر أكثر العرب منها وفزعوا إلى كاهن كان لهم ضريرا، كان يخبرهم بالحوادث فسألوه عنها فقال: انظروا البروج الاثني عشر فإن انقض منها شيء فهو ذهاب الدنيا، فإن لم ينقض منها شيء فسيحدث في الدنيا أمر عظيم، فاستشعروا ذلك، فلما بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان هو الامر العظيم الذي استشعروه، فأنزل الله تعالى: {وَالنَّجْمِ إِذا هَوى} أي ذلك النجم الذي هوى هو لهذه النبوة التي حدثت.
وقيل: النجم هنا هو النبت الذي ليس له ساق، وهوى أي سقط على الأرض.
وقال جعفر بن محمد بن علي بن الحسين رضي الله عنهم: {وَالنَّجْمِ} يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {إِذا هَوى} إذا نزل من السماء ليلة المعراج. وعن عروة ابن الزبير رضي الله عنهما أن عتبة ابن أبي لهب وكان تحته بنت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أراد الخروج إلى الشام فقال: لآتين محمدا فلأوذينه، فأتاه فقال: يا محمد هو كافر بالنجم إذا هوى، وبالذي دنا فتدلى. ثم تفل في وجه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورد عليه ابنته وطلقها، فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اللهم سلط عليه كلبا من كلابك» وكان أبو طالب حاضرا فوجم لها وقال: ما كان أغناك يا بن أخي عن هذه الدعوة، فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره، ثم خرجوا إلى الشام، فنزلوا منزلا، فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم: إن هذه أرض مسبعة. فقال أبو لهب لأصحابه: أغيثونا يا معشر قريش هذه الليلة! فإني أخاف على ابني من دعوة محمد، فجمعوا جمالهم وأناخوها حولهم، وأحدقوا بعتبة، فجاء الأسد يتشمم وجوههم حتى ضرب عتبة فقتله.
وقال حسان:
من يرجع العام إلى أهله ** فما أكيل السبع بالراجع

واصل النجم الطلوع، يقال: نجم السن ونجم فلان ببلاد كذا أي خرج على السلطان. والهوي النزول والسقوط، يقال: هوى يهوي هويا مثل مضى يمضي مضيا، قال زهير:
فشج بها الاماعز وهي تهوي ** هوي الدلو أسلمها الرشاء

وقال آخر:
بينما نحن بالبلا كث فالقا ** ع سراعا والعيس تهوي هويا

خطرت خطرة على القلب من ذك ** راك وهنا فما استطعت مضيا

الأصمعي: هوى بالفتح يهوي هويا أي سقط إلى أسفل. قال: وكذلك انهوى في السير إذا مضى فيه، وهوى وانهوى فيه لغتان بمعنى، وقد جمعهما الشاعر في قوله:
وكم منزل لولاي طحت كما هوى ** بإجرامه من قلة النيق منهوي

ويقال في الحب: هوي بالكسر يهوى هوى، أي أحب. قوله تعالى: {ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ} هذا جواب القسم، أي ما ضل محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الحق وما حاد عنه. {وَما غَوى} الغي ضد الرشد أي ما صار غاويا.
وقيل: أي ما تكلم بالباطل.
وقيل: أي ما خاب مما طلب والغي الخيبة، قال الشاعر:
فمن يلق خيرا يحمد الناس أمره ** ومن يغو لا يعدم على الغي لائما

أي من خاب في طلبه لامه الناس. ثم يجوز أن يكون هذا إخبارا عما بعد الوحي. ويجوز أن يكون إخبارا عن أحواله على التعميم، أي كان أبدا موحدا لله. وهو الصحيح على ما بيناه في الشورى عند قوله: {ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ}. قوله تعالى: {وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى}. فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى} قال قتادة: وما ينطق بالقرآن عن هواه {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى} إليه.
وقيل: {عَنِ الْهَوى} أي بالهوى، قال أبو عبيدة، كقوله تعالى: {فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً} أي فاسأل عنه. النحاس: قول قتادة أولى، وتكون {عَنِ} على بابها، أي ما يخرج نطقه عن رأيه، إنما هو بوحي من الله عز وجل، لان بعده: {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى}.
الثانية: قد يحتج بهذه الآية من لا يجوز لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الاجتهاد في الحوادث. وفيها أيضا دلالة على أن السنة كالوحي المنزل في العمل. وقد تقدم في مقدمة الكتاب حديث المقدام بن معدى كرب في ذلك والحمد لله. قال السجستاني: إن شئت أبدلت {إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى} من {ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ} قال ابن الأنباري: وهذا غلط، لان {إِنْ} الخفيفة لا تكون مبدلة من {ما} الدليل على هذا أنك لا تقول: والله ما قمت إن أنا لقاعد. قوله تعالى: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى} يعني جبريل عليه السلام في قول سائر المفسرين، سوى الحسن فإنه قال: هو الله عز وجل، ويكون قوله تعالى: {ذُو مِرَّةٍ} على قول الحسن تمام الكلام، ومعناه ذو قوة والقوة من صفات الله تعالى، وأصله من شدة فتل الحبل، كأنه استمر به الفتل حتى بلغ إلى غاية يصعب معها الحل. ثم قال: {فَاسْتَوى} يعني الله عز وجل، أي استوى على العرش. روي معناه عن الحسن.
وقال الربيع بن أنس والفراء: {فَاسْتَوى وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى} أي استوى جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام. وهذا على العطف على المضمر المرفوع ب {هُوَ}. وأكثر العرب إذا أرادوا العطف في مثل هذا الموضع أظهروا كناية المعطوف عليه، فيقولون: استوى هو وفلان، وقلما يقولون استوى وفلان، وأنشد الفراء:
ألم تر أن النبع يصلب عوده ** ولا يستوي والخروع المتقصف

أي لا يستوي هو والخروع، ونظير هذا: {أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا} والمعنى أئذا كنا ترابا نحن وآباؤنا. ومعنى الآية: استوى جبريل هو ومحمد عليهما السلام ليلة الاسراء بالأفق الأعلى.
وأجاز العطف على الضمير لئلا يتكرر. وأنكر ذلك الزجاج إلا في ضرورة الشعر.
وقيل: المعنى فاستوى جبريل بالأفق الأعلى، وهو أجود. وإذا كان المستوي جبريل فمعنى {ذُو مِرَّةٍ} في وصفه ذو منطق حسن، قاله ابن عباس.
وقال قتادة: ذو خلق طويل حسن.
وقيل: معناه ذو صحة جسم وسلامة من الآفات، ومنه قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي».
وقال امرؤ القيس:
كنت فيهم أبدا ذا حيلة ** محكم المرة مأمون العقد

وقد قيل: {ذُو مِرَّةٍ} ذو قوة. قال الكلبي: وكان من شدة جبريل عليه السلام: أنه اقتلع مدائن قوم لوط من الأرض السفلى، فحملها على جناحه حتى رفعها إلى السماء، حتى سمع أهل السماء نبح كلابهم وصياح ديكتهم ثم قلبها. وكان من شدته أيضا: أنه أبصر إبليس يكلم عيسى عليه السلام على بعض عقاب من الأرض المقدسة فنفحه بجناحه نفحة ألقاه بأقصى جبل في الهند. وكان من شدته: صيحته بثمود في عددهم وكثرتهم، فأصبحوا جاثمين خامدين. وكان من شدته: هبوطه من السماء على الأنبياء وصعوده إليها في أسرع من الطرف.
وقال قطرب: تقول العرب لكل جزل الرأي حصيف العقل: ذو مرة. قال الشاعر:
قد كنت قبل لقاكم ذا مرة ** عندي لكل مخاصم ميزانه

وكان من جزالة رأيه وحصافة عقله: أن الله ائتمنه على وحيه إلى جميع رسله. قال الجوهري: والمرة إحدى الطبائع الأربع، والمرة القوة وشدة العقل أيضا. ورجل مرير أي قوي ذو مرة. قال:
ترى الرجل النحيف فتزدريه ** وحشو ثيابه أسد مرير

وقال لقيط:
حتى استمرت على شزر مريرته ** مر العزيمة لا رتا ولا ضرعا

وقال مجاهد وقتادة: {ذُو مِرَّةٍ} ذو قوة، ومنه قول خفاف بن ندبة:
إني امرؤ ذو مرة فاستبقني ** فيما ينوب من الخطوب صليب

فالقوة تكون من صفة الله عز وجل، ومن صفة المخلوق. {فَاسْتَوى} يعني جبريل على ما بينا، أي ارتفع وعلا إلى مكان في السماء بعد أن علم محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قاله سعيد ابن المسيب وابن جبير.
وقيل: {فَاسْتَوى} أي قام في صورته التي خلقه الله تعالى عليها، لأنه كان يأتي إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صورة الآدميين كما كان يأتي إلى الأنبياء، فسأله النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يريه نفسه التي جبله الله عليها فأراه نفسه مرتين: مرة في الأرض ومرة في السماء، فأما في الأرض ففي الأفق الأعلى، وكان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحراء، فطلع له جبريل من المشرق فسد الأرض إلى المغرب، فخر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مغشيا عليه. فنزل إليه في صورة الآدميين وضمة إلى صدره، وجعل يمسح الغبار عن وجهه، فلما أفاق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «يا جبريل ما ظننت أن الله خلق أحدا على مثل هذه الصورة». فقال: يا محمد إنما نشرت جناحين من أجنحتي وإن لي ستمائة جناح سعة كل جناح ما بين المشرق والمغرب. فقال: «إن هذا لعظيم» فقال: وما أنا في جنب ما خلقه الله إلا يسيرا، ولقد خلق الله إسرافيل له ستمائة جناح، كل جناح منها قدر جميع أجنحتي، وانه ليتضاءل أحيانا من مخافة الله تعالى حتى يكون بقدر الوصع. يعني العصفور الصغير، دليله قوله تعالى: {وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ} وأما في السماء فعند سدرة المنتهى، ولم يره أحد من الأنبياء على تلك الصورة إلا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقول ثالث أن معنى {فَاسْتَوى} أي استوى القرآن في صدره. وفية على هذا وجهان: أحدهما في صدر جبريل حين نزل به عليه.
الثاني في صدر محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حين نزل عليه. وقول رابع أن معنى {فَاسْتَوى} فاعتدل يعني محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وفية على هذا وجهان: أحدهما فاعتدل في قوته.
الثاني في رسالته. ذكرهما الماوردي. قلت: وعلى الأول يكون تمام الكلام {ذُو مِرَّةٍ} وعلى الثاني {شَدِيدُ الْقُوى}. وقول خامس أن معناه فارتفع. وفية على هذا وجهان: أحدهما أنه جبريل عليه السلام ارتفع إلى مكانه على ما ذكرنا آنفا.
الثاني أنه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ارتفع بالمعراج. وقول سادس {فَاسْتَوى} يعني الله عز وجل، أي استوى على العرش على قول الحسن. وقد مضى القول فيه في الأعراف. قوله تعالى: {وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى} جملة في موضع الحال، والمعنى فاستوى عاليا، أي استوى جبريل عاليا على صورته ولم يكن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قبل ذلك يراه عليها حتى سأله إياها على ما ذكرنا. والأفق ناحية السماء وجمعه آفاق.
وقال قتادة: هو الموضع الذي تأتى منه الشمس. وكذا قال سفيان: هو الموضع الذي تطلع منه الشمس. ونحوه عن مجاهد. ويقال: أفق وافق مثل عسر وعسر. وقد مضى في حم السجدة. وفرس أفق بالضم أي رائع وكذلك الأنثى، قال الشاعر:
أرجل لمتي واجر ذيلي ** وتحمل شكتي أفق كميت

وقيل: {وَهُوَ} أي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {بِالْأُفُقِ الْأَعْلى} يعني ليلة الاسراء وهذا ضعيف، لأنه يقال: استوى هو وفلان، ولا يقال استوى وفلان إلا في ضرورة الشعر. والصحيح استوى جبريل عليه السلام وجبريل بالأفق الأعلى على صورته الأصلية، لأنه كان يتمثل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا نزل بالوحي في صورة رجل، فأحب النبي صلى الله وسلم أن يراه على صورته الحقيقية، فاستوى في أفق المشرق فملأ الأفق. قوله تعالى: {ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى} أي دنا جبريل بعد استوائه بالأفق الأعلى من الأرض {فَتَدَلَّى} فنزل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوحي. المعنى أنه لما رأى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من عظمته ما رأى، وهاله ذلك رده الله إلى صورة آدمي حين قرب من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالوحي، وذلك قوله تعالى: {فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ}
يعني أوحى الله إلى جبريل وكان جبريل {قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى} قاله ابن عباس والحسن وقتادة والربيع وغيرهم. وعن ابن عباس أيضا في قوله تعالى: {ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى} أن معناه أن الله تبارك وتعالى: {دَنا} من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {فَتَدَلَّى}.
وروى نحوه أنس بن مالك عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. والمعنى دنا منه أمره وحكمه. واصل التدلي النزول إلى الشيء حتى يقرب منه فوضع موضع القرب، قال لبيد:
فتدليت عليه قافلا ** وعلى الأرض غيابات الطفل

وذهب الفراء إلى أن الفاء في {فَتَدَلَّى} بمعنى الواو، والتقدير ثم تدلى جبريل عليه السلام ودنا. ولكنه جائز إذا كان معنى الفعلين واحدا أو كالواحد قدمت أيهما شئت، فقلت فدنا فقرب وقرب فدنا، وشتمني فأساء وأساء فشتمني، لان الشتم والإساءة شيء واحد. وكذلك قوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ} المعنى والله أعلم: انشق القمر واقتربت الساعة.
وقال الجرجاني: في الكلام تقديم وتأخير أي تدلى فدنا، لان التدلي سبب الدنو.
وقال ابن الأنباري: ثم تدلى جبريل أي نزل من السماء فدنا من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال ابن عباس: تدلى الرفرف لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة المعراج فجلس عليه ثم رفع فدنا من ربه. وسيأتي. ومن قال: المعنى فاستوى جبريل ومحمد بالأفق الأعلى قد يقول: ثم دنا محمد من ربه دنو كرامة فتدلى أي هوى للسجود. وهذا قول الضحاك. قال القشيري: وقيل على هذا تدلى أي تدلل، كقولك تظني بمعنى تظنن، وهذا بعيد، لان الدلال غير مرضي في صفة العبودية. قوله تعالى: {فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى} أي {فَكانَ} محمد من ربه أو من جبريل {قابَ قَوْسَيْنِ} أي قدر قوسين عربيتين. قاله ابن عباس وعطاء والفراء. الزمخشري: فإن قلت كيف تقدير قوله: {فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ} قلت: تقديره فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين، فحذفت هذه المضافات كما قال أبو علي في قوله:
وقد جعلتني من حزيمة إصبعا

أي ذا مقدار مسافة إصبع {أَوْ أَدْنى} أي على تقديركم، كقوله تعالى: {أَوْ يَزِيدُونَ}.
وفي الصحاح: وتقول بينهما قاب قوس، وقيب قوس وقاد قوس، وقيد قوس، أي قدر قوس. وقرأ زيد بن علي {قاد} وقرئ: {قيد} و{قدر}. ذكره الزمخشري. والقاب ما بين المقبض والسية. ولكل قوس قابان.
وقال بعضهم في قوله تعالى: {قابَ قَوْسَيْنِ} أراد قابي قوس فقلبه.
وفي الحديث: «ولقاب قوس أحدكم من الجنة وموضع قده خير من الدنيا وما فيها» والقد السوط.
وفي الصحيح عن أبي هريرة قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ولقاب قوس أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما فيها». وإنما ضرب المثل بالقوس، لأنها لا تختلف في القاب. والله أعلم. قال القاضي عياض: اعلم أن ما وقع من إضافة الدنو والقرب من الله أو إلى الله فليس بدنو مكان ولا قرب مدى، وإنما دنو النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ربه وقربه منه: إبانة عظيم منزلته، وتشريف رتبته، وإشراق أنوار معرفته، ومشاهدة أسرار غيبه وقدرته. ومن الله تعالى له: مبرة وتأنيس وبسط وإكرام. ويتأول في قوله عليه السلام: «ينزل ربنا إلى سماء الدنيا» على أحد الوجوه: نزول إجمال وقبول وإحسان. قال القاضي: وقوله: {فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى} فمن جعل الضمير عائدا إلى الله تعالى لا إلى جبريل كان عبارة عن نهاية القرب، ولطف المحل، وإيضاح المعرفة، والاشراف على الحقيقة من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعبارة عن إجابة الرغبة، وقضاء المطالب، وإظهار التحفي، وإنافة المنزلة والقرب من الله، ويتأول فيه ما يتأول في قوله عليه السلام: «من تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن أتاني يمشي أتيته هرولة» قرب بالإجابة والقبول، وإتيان بالإحسان وتعجيل المأمول. وقد قيل: {ثُمَّ دَنا} جبريل من ربه {فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى} قاله مجاهد. ويدل عليه ما روي في الحديث: «إن أقرب الملائكة من الله جبريل عليه السلام».
وقيل: {أَوْ} بمعنى الواو أي قاب قوسين وأدنى.
وقيل: بمعنى بل أي بل أدنى.
وقال سعيد بن المسيب: القاب صدر القوس العربية حيث يشد عليه السير الذي يتنكبه صاحبه، ولكل قوس قاب واحد. فأخبر أن جبريل قرب من محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كقرب قاب قوسين.
وقال سعيد بن جبير وعطاء وأبو إسحاق الهمداني وأبو وائل شقيق بن سلمة: {فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ} أي قدر ذراعين، والقوس الذراع يقاس بها كل شي، وهى لغة بعض الحجازيين.
وقيل: هي لغة أزد شنوءة أيضا.
وقال الكسائي: قوله: {فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى} أراد قوسا واحدا، كقول الشاعر:
ومهمهين قذفين مرتين ** قطعته بالسمت لا بالسمتين

أراد مهمها واحدا. والقوس تذكر وتؤنث فمن أنث قال في تصغيرها قويسة ومن ذكر قال قويس، وفي المثل هو من خير قويس سهما. والجمع قسي وقسي وأقواس وقياس، وأنشد أبو عبيدة:
ووتر الأساور القياسا

والقوس أيضا بقية النمر في الجلة أي الوعاء. والقوس برج في السماء. فأما القوس بالضم فصومعة الراهب، قال الشاعر وذكر امرأة:
لاستفتنتني وذا المسحين في القوس

قوله تعالى: {فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى}
تفخيم للوحي الذي أوحى إليه. وتقدم معنى الوحي وهو إلقاء الشيء بسرعة ومنه الوحاء الوحاء. والمعنى فأوحى الله تعالى إلى عبده محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أوحى.
وقيل: المعنى {فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ} جبريل عليه السلام {ما أَوْحى}.
وقيل: المعنى فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أوحى إليه ربه. قاله الربيع والحسن وابن زيد وقتادة. قال قتادة: أوحى الله إلى جبريل وأوحى جبريل إلى محمد. ثم قيل: هذا الوحي هل هو مبهم؟ لا نطلع عليه نحن وتعبدنا بالايمان به على الجملة، أو هو معلوم مفسر؟ قولان. وبالثاني قال سعيد بن جبير، قال: أوحى الله إلى محمد: ألم أجدك يتيما فآويتك! ألم أجدك ضالا فهديتك! ألم أجدك عائلا فأغنيتك! {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ}.
وقيل: أوحى الله إليه أن الجنة حرام على الأنبياء حتى تدخلها يا محمد، وعلى الأمم حتى تدخلها أمتك.