فصل: تفسير الآية رقم (186):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (186):

{وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِذا سَأَلَكَ} المعنى وإذا سألوك عن المعبود فأخبرهم أنه قريب يثيب على الطاعة ويجيب الداعي، ويعلم ما يفعله العبد من صوم وصلاة وغير ذلك. واختلف في سبب نزولها، فقال مقاتل: إن عمر رضي الله عنه واقع امرأته بعد ما صلى العشاء فندم على ذلك وبكى، وجاء إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره بذلك ورجع مغنما، وكان ذلك قبل نزول الرخصة، فنزلت هذه الآية: {وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}.
وقيل: لما وجب عليهم في الابتداء ترك الأكل بعد النوم فأكل بعضهم ثم ندم، فنزلت هذه الآية في قبول التوبة ونسخ ذلك الحكم، على ما يأتي بيانه.
وروى الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: قالت اليهود كيف يسمع ربنا دعاءنا، وأنت تزعم أن بيننا وبين السماء خمسمائة عام، وغلظ كل سماء مثل ذلك؟ فنزلت هذه الآية.
وقال الحسن: سببها أن قوما قالوا للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أقريب ربنا فنناجيه، أم بعيد فنناديه؟ فنزلت.
وقال عطاء وقتادة: لما نزلت: {وَقالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] قال قوم: في أي ساعة ندعوه؟ فنزلت.
الثانية: قوله تعالى: {فَإِنِّي قَرِيبٌ} أي بالإجابة. وقيل بالعلم.
وقيل: قريب من أوليائي بالإفضال والانعام.
الثالثة: قوله تعالى: {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ} أي أقبل عبادة من عبدني، فالدعاء بمعنى العبادة، والإجابة بمعنى القبول. دليله ما رواه أبو داود عن النعمان بن بشير عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «الدعاء هو العبادة قال ربكم ادعوني أستجب لكم» فسمي الدعاء عبادة، ومنه قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ} [غافر: 60] أي دعائي. فأمر تعالى بالدعاء وخص عليه وسماه عبادة، ووعد بأن يستجيب لهم. روى ليث عن شهر بن حوشب عن عبادة بن الصامت قال سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «أعطيت أمتي ثلاثا لم تعط إلا الأنبياء كان الله إذا بعث نبيا قال ادعني أستجب لك وقال لهذه الامة ادعوني أستجب لكم وكان الله إذا بعث النبي قال له ما جعل عليك في الدين من حرج وقال لهذه الامة ما جعل عليكم في الدين من حرج وكان الله إذا بعث النبي جعله شهيدا على قومه وجعل هذه الامة شهداء على الناس». وكان خالد الربعي يقول: عجبت لهذه الامة في: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة، وليس بينهما شرط. قال له قائل: مثل ماذا؟ قال مثل قوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ} [البقرة: 25] فها هنا شرط، وقوله: {وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} [يونس: 2] فليس فيه شرط العمل، ومثل قوله: {فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ} [غافر: 14] فها هنا شرط، وقوله: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ليس فيه شرط. وكانت الأمم تفزع إلى أنبيائها في حوائجهم حتى تسأل الأنبياء لهم ذلك. فإن قيل: فما للداعي قد يدعو فلا يجاب؟ فالجواب أن يعلم أن قوله الحق في الآيتين {أُجِيبُ} {أَسْتَجِبْ} لا يقتضي الاستجابة مطلقا لكل داع على التفصيل، ولا بكل مطلوب على التفصيل، فقد قال ربنا تبارك وتعالى في آية أخرى: {ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} [الأعراف: 55] وكل مصر على كبيرة عالما بها أو جاهلا فهو معتد، وقد أخبر أنه لا يحب المعتدين فكيف يستجيب له. وأنواع الاعتداء كثيرة، يأتي بيانها هنا وفي الأعراف إن شاء الله تعالى.
وقال بعض العلماء: أجيب إن شئت، كما قال: {فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ} [الأنعام: 41] فيكون هذا من باب المطلق والمقيد. وقد دعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ثلاث فأعطي اثنتين ومنع واحدة، على ما يأتي بيانه في الأنعام إن شاء الله تعالى.
وقيل: إنما مقصود هذا الاخبار تعريف جميع المؤمنين أن هذا وصف ربهم سبحانه أن يجيب دعاء الداعين في الجملة، وأنه قريب من العبد يسمع دعاءه ويعلم اضطراره فيجيبه بما شاء وكيف شاء {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ} [الأحقاف: 5] الآية. وقد يجيب السيد عبده والوالد ولده ثم لا يعطيه سؤله. فالاجابة كانت حاصلة لا محالة عند وجود الدعوة، لأن أجيب وأستجب خبر لا ينسخ فيصير المخبر كذابا. يدل على هذا التأويل ما روى ابن عمر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من فتح له في الدعاء فتحت له أبواب الإجابة». وأوحى الله تعالى إلى داود: أن قل للظلمة من عبادي لا يدعوني فإني أوجبت على نفسي أن أجيب من دعاني وإني إذا أجبت الظلمة لعنتهم.
وقال قوم: إن الله يجيب كل الدعاء، فإما أن تظهر الإجابة في الدنيا، وإما أن يكفر عنه، وإما أن يدخر له في الآخرة، لما رواه أبو سعيد الخدري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له وإما أن يكف عنه من السوء بمثلها». قالوا: إذن نكثر؟ قال: «لله أكثر». خرجه أبو عمر بن عبد البر، وصححه أبو محمد عبد الحق، وهو في الموطأ منقطع السند. قال أبو عمر: وهذا الحديث يخرج في التفسير المسند لقول الله تعالى: {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر: 60] فهذا كله من الإجابة.
وقال ابن عباس: كل عبد دعا أستجيب له، فإن كان الذي يدعو به رزقا له في الدنيا أعطيه، وإن لم يكن رزقا له في الدنيا ذخر له.
قلت: وحديث أبي سعيد الخدري وإن كان إذنا بالإجابة في إحدى ثلاث فقد دلك على صحة ما تقدم من اجتناب الاعتداء المانع من الإجابة حيث قال فيه: «ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم» وزاد مسلم: «ما لم يستعجل». رواه عن أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل- قيل: يا رسول الله، ما الاستعجال؟ قال- يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجيب لي فيستحسر عند ذلك ويدع الدعاء».
وروى البخاري ومسلم وأبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عيه وسلم قال: «يستجاب لأحدكم ما لم يعجل يقول دعوت فلم يستجب لي». قال علماؤنا رحمة الله عليهم: يحتمل قوله: «يستجاب لأحدكم» الاخبار عن وجوب وقوع الإجابة، والاخبار عن جواز وقوعها، فإذا كان بمعنى الاخبار عن الوجوب والوقوع فإن الإجابة تكون بمعنى الثلاثة الأشياء المتقدمة. فإذا قال: قد دعوت فلم يستجب لي، بطل وقوع أحد هذه الثلاثة الأشياء وعري الدعاء من جميعها. وإن كان بمعنى جواز الإجابة فإن الإجابة حينئذ تكون بفعل ما دعا به خاصة، ويمنع من ذلك قول الداعي: قد دعوت فلم يستجب، لي، لأن ذلك من باب القنوط وضعف اليقين والسخط.
قلت: ويمنع من إجابة الدعاء أيضا أكل الحرام وما كان في معناه، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأني يستجاب لذلك» وهذا استفهام على جهة الاستبعاد من قبول دعاء من هذه صفته، فإن إجابة الدعاء لا بد لها من شروط في الداعي وفي الدعاء وفي الشيء المدعو به. فمن شرط الداعي أن يكون عالما بأن لا قادر على حاجته إلا الله، وأن الوسائط في قبضته ومسخرة بتسخيره، وأن يدعو بنية صادقة وحضور قلب، فإن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه، وأن يكون مجتنبا لأكل الحرام، وألا يمل من الدعاء. ومن شرط المدعو فيه أن يكون من الأمور الجائزة الطلب والفعل شرعا، كما قال: «ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم» فيدخل في الإثم كل ما يأثم به من الذنوب، ويدخل في الرحم جميع حقوق المسلمين ومظالمهم.
وقال سهل بن عبد الله التستري: شروط الدعاء سبعة: أولها التضرع والخوف والرجاء والمداومة والخشوع والعموم واكل الحلال.
وقال ابن عطاء: إن للدعاء أركانا وأجنحة وأسبابا وأوقاتا، فإن وافق أركانه قوي، وإن وافق أجنحته طار في السماء، وإن وافق مواقيته فاز، وإن وافق أسبابه أنجح. فأركانه حضور القلب والرأفة والاستكانة والخشوع، وأجنحته الصدق، ومواقيته الأسحار، وأسبابه الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم.
وقيل: شرائطه أربع- أولها حفظ القلب عند الوحدة، وحفظ اللسان مع الخلق، وحفظ العين عن النظر إلى ما لا يحل، وحفظ البطن من الحرام. وقد قيل: إن من شرط الدعاء أن يكون سليما من اللحن، كما أنشد بعضهم:
ينادي ربه باللحن ليث ** كذاك إذا دعاه لا يجيب

وقيل لإبراهيم بن أدهم: ما بالنا ندعو فلا يستجاب لنا؟ قال: لأنكم عرفتم الله فلم تطيعوه، وعرفتم الرسول فلم تتبعوا سنته، وعرفتم القرآن فلم تعملوا به، وأكلتم نعم الله فلم تؤدوا شكرها، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها، وعرفتم النار فلم تهربوا منها، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه، وعرفتم الموت فلم تستعدوا له، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس. قال علي رضي الله عنه لنوف البكالي: يا نوف، إن الله أوحى إلى داود أن مر بني إسرائيل ألا يدخلوا بيتا من بيوتي إلا بقلوب طاهرة، وأبصار خاشعة، وأيد نقية، فإني لا أستجيب لاحد منهم، ما دام لاحد من خلقي مظلمة. يا نوف، لا تكونن شاعرا ولا عريفا ولا شرطيا ولا جابيا ولا عشارا، فإن داود قام في ساعة من الليل فقال: إنها ساعة لا يدعو عبد إلا استجيب له فيها، إلا أن يكون عريفا أو شرطيا أو جابيا أو عشارا، أو صاحب عرطبة، وهي الطنبور، أو صاحب كوبة، وهي الطبل. قال علماؤنا: ولا يقل الداعي: اللهم أعطني إن شئت، اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت، بل يعري سؤاله ودعاءه من لفظ المشيئة، ويسأل سؤال من يعلم أنه لا يفعل إلا أن يشاء. وأيضا فإن في قوله: إن شئت نوع من الاستغناء عن مغفرته وعطائه ورحمته، كقول القائل: إن شئت أن تعطيني كذا فافعل، لا يستعمل هذا إلا مع الغني عنه، وأما المضطر إليه فإنه يعزم في مسألته ويسأل سؤال فقير مضطر إلى ما سأله. روى الأئمة واللفظ للبخاري عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا دعا أحدكم فليعزم المسألة ولا يقولن اللهم إن شئت فأعطني فإنه لا مستكره له».
وفي الموطأ: «اللهم اغفر لي إن شئت، اللهم ارحمني إن شئت». قال علماؤنا: قوله: «فليعزم المسألة» دليل على أنه ينبغي للمؤمن أن يجتهد في، الدعاء ويكون على رجاء من الإجابة، ولا يقنط من رحمة الله، لأنه يدعو كريما. قال سفيان ابن عيينة: لا يمنعن أحدا من الدعاء ما يعلمه من نفسه فإن الله قد أجاب دعاء شر الخلق إبليس، قال: رب فأنظرني إلى يوم يبعثون، قال فإنك من المنظرين. وللدعاء أوقات وأحوال يكون الغالب فيها الإجابة، وذلك كالسحر ووقت الفطر، وما بين الأذان والإقامة، وما بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء، وأوقات الاضطرار وحالة السفر والمرض، وعند نزول المطر والصف في سبيل الله. كل هذا جاءت به الإثار، ويأتي بيانها في مواضعها.
وروى شهر بن حوشب أن أم الدرداء قالت له: يا شهر، ألا تجد القشعريرة؟ قلت نعم. قالت: فادع الله فإن الدعاء مستجاب عند ذلك.
وقال جابر بن عبد الله: دعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مسجد الفتح ثلاثا يوم الاثنين ويوم الثلاثاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين. فعرفت السرور في وجهه. قال جابر: ما نزل بي أمر مهم غليظ إلا توخيت تلك الساعة فأدعو فيها فأعرف الإجابة.
الرابعة: قوله تعالى: {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} قال أبو رجاء الخراساني: فليدعوا لي.
وقال ابن عطية: المعنى فليطلبوا أن أجيبهم. وهذا هو باب استفعل أي طلب الشيء إلا ما شذ، مثل استغنى الله.
وقال مجاهد وغيره: المعنى فليجيبوا إلي فيما دعوتهم إليه من الايمان، أي الطاعة والعمل. ويقال: أجاب واستجاب بمعنى، ومنه قول الشاعر:
فلم يستجبه عند ذاك مجيب

أي لم يجبه. والسين زائدة واللام لام الامر. وكذا {وَلْيُؤْمِنُوا} وجزمت لام الامر لأنها تجعل الفعل مستقبلا لا غير فأشبهت إن التي للشرط.
وقيل: لأنها لا تقع إلا على الفعل. والرشاد خلاف الغي. وقد رشد يرشد رشدا. ورشد بالكسر يرشد رشدا، لغة فيه. وأرشده الله. والمراشد: مقاصد الطرق. والطريق الأرشد: نحو الأقصد. وتقول: هو لرشدة. خلاف قولك: لزنية. وام راشد: كنية للفأرة: وبنو رشدان: بطن من العرب، عن الجوهري.
وقال الهروي: الرشد والرشد والرشاد: الهدى والاستقامة، ومنه قوله: {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}.

.تفسير الآية رقم (187):

{أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)}
فيه ست وثلاثون مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ} لفظ {أُحِلَّ} يقتضي أنه كان محرما قبل ذلك ثم نسخ. روى أبو داود عن ابن أبي ليلى قال وحدثنا أصحابنا قال: وكان الرجل إذا أفطر فنام قبل أن يأكل لم يأكل حتى يصبح، قال: فجاء عمر فأراد امرأته فقالت: إني قد نمت، فظن أنها تعتل فأتاها. فجاء رجل من الأنصار فأراد طعاما فقالوا: حتى نسخن لك شيئا فنام، فلما أصبحوا أنزلت هذه الآية، وفيها {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ}.
وروى البخاري عن البراء قال: كان أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا كان الرجل صائما فحضر الإفطار فنام قبل أن يفطر لم يأكل ليلته ولا يومه حتى يمسي، وأن قيس ابن صرمة الأنصاري كان صائما- وفي رواية: كان يعمل في النخيل بالنهار وكان صائما- فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال لها: أعندك طعام؟ قالت لا، ولكن أنطلق فأطلب لك، وكان يومه يعمل، فغلبته عيناه، فجاءته امرأته فلما رأته قالت: خيبة لك! فلما انتصف النهار غشى عليه، فذكر ذلك للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنزلت هذه الآية: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ} ففرحوا فرحا شديدا، ونزلت: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ}.
وفي البخاري أيضا عن البراء قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ}. يقال: خان واختان بمعنى من الخيانة، أي تخونون أنفسكم بالمباشرة في ليالي الصوم. ومن عصى الله فقد خان نفسه إذ جلب إليها العقاب.
وقال القتبي: أصل الخيانة أن يؤتمن الرجل على شيء فلا يؤدي الأمانة فيه. وذكر الطبري: أن عمر رضي الله تعالى عنه رجع من عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقد سمر عنده ليلة فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت له: قد نمت، فقال لها: ما نمت، فوقع بها. وصنع كعب بن مالك مثله، فغدا عمر على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أعتذر إلى الله وإليك، فإن نفسي زينت لي فواقعت أهلي، فهل تجد لي من رخصة؟ فقال لي: «لم تكن حقيقا يا عمر» فلما بلغ بيته أرسل إليه فأنبأه بعذره في آية من القرآن. وذكره النحاس ومكي، وأن عمر نام ثم وقع بامرأته، وأنه أتى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبره بذلك فنزلت: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَعَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ...} الآية.
الثانية: قوله تعالى: {لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ} {ليلة} نصب على الظرف، وهي اسم جنس فلذلك أفردت. والرفث: كناية عن الجماع لان الله عز وجل كريم يكني، قاله ابن عباس والسدي.
وقال الزجاج: الرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الرجل من امرأته، وقاله الأزهري أيضا.
وقال ابن عرفة: الرفث هاهنا الجماع. والرفث: التصريح بذكر الجماع والاعراب به. قال الشاعر:
ويرين من أنس الحديث زوانيا ** وبهن عن رفث الرجال

نفار وقيل: الرفث أصله قول الفحش، يقال: رفث وأرفث إذا تكلم بالقبيح، ومنه قول الشاعر:
ورب أسراب حجيج كظّم

عن اللغا ورفث التكلم وتعدى {الرفث} بإلى في قوله تعالى جده: {الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ}. وأنت لا تقول: رفثت إلى النساء، ولكنه جئ به محمولا على الإفضاء الذي يراد به الملابسة في مثل قوله: {وَقَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ} [النساء: 21]. ومن هذا المعنى: {وَإِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ} [البقرة: 14] كما تقدم. وقوله: {يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها} [التوبة: 35] أي يوقد، لأنك تقول: أحميت الحديدة في النار، وسيأتي، ومنه قوله: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63] حمل على معنى ينحرفون عن أمره أو يروغون عن أمره، لأنك تقول: خالفت زيدا. ومثله قوله تعالى: {وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً} [الأحزاب: 43] حمل على معنى رءوف في نحو: {بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ} [التوبة: 128]، ألا ترى أنك تقول: رؤفت به، ولا تقول رحمت به، ولكنه لما وافقه في المعنى نزل منزلته في التعدية. ومن هذا الضرب قول أبي كبير الهذلي:
حملت به في ليلة مزءودة ** كرها وعقد نطاقها لم يحلل

عدى حملت بالباء، وحقه أن يصل إلى المفعول بنفسه، كما جاء في التنزيل: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً} [الأحقاف: 15]، ولكنه قال: حملت به، لأنه في معنى حبلت به.
الثالثة: قوله تعالى: {هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ} ابتداء وخبر، وشددت النون من {هُنَّ} لأنها بمنزلة الميم والواو في المذكر. {وَأَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ} أصل اللباس في الثياب، ثم سمي امتزاج كل واحد من الزوجين بصاحبه لباسا، لانضمام الجسد وامتزاجهما وتلازمهما تشبيها بالثوب.
وقال النابغة الجعدي:
إذا ما الضجيع ثنى جيدها ** تداعت فكانت عليه لباسا

وقال أيضا:
لبست أناسا فأفنيتهم ** وأفنيت بعد أناس أناسا

وقال بعضهم: يقال لما ستر الشيء وداراه: لباس. فجائز أن يكون كل واحد منهما سترا لصاحبه عما لا يحل، كما ورد في الخبر.
وقيل: لان كل واحد منهما ستر لصاحبه فيما يكون بينهما من الجماع من أبصار الناس.
وقال أبو عبيد وغيره: يقال للمرأة هي لباسك وفراشك وإزارك. قال رجل لعمر بن الخطاب:
ألا أبلغ أبا حفص رسولا ** فدى لك من أخي ثقة إزاري

قال أبو عبيد: أي نسائي. وقيل نفسي.
وقال الربيع: هن فراش لكم، وأنتم لحاف لهن. مجاهد: أي سكن لكم، أي يسكن بعضكم إلى بعض.
الرابعة: قوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} يستأمر بعضكم بعضا في مواقعة المحظور من الجماع والأكل بعد النوم في ليالي الصوم، كقوله تعالى: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة: 85] يعني يقتل بعضكم بعضا. ويحتمل أن يريد به كل واحد منهم في نفسه بأنه يخونها، وسماه خائنا لنفسه من حيث كان ضرره عائدا عليه، كما تقدم. وقوله تعالى: {فَتابَ عَلَيْكُمْ} يحتمل معنيين: أحدهما- قبول التوبة من خيانتهم لأنفسهم. والآخر- التخفيف عنهم بالرخصة والإباحة، كقوله تعالى: {عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ} [المزمل: 20] يعني خفف عنكم. وقوله عقيب القتل الخطأ: {فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ} [النساء: 92] يعني تخفيفا، لأن القاتل خطأ لم يفعل شيئا تلزمه التوبة منه، وقال تعالى: {لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ} [التوبة: 117] وإن لم يكن من النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يوجب التوبة منه. وقوله تعالى: {وَعَفا عَنْكُمْ} يحتمل العفو من الذنب، ويحتمل التوسعة والتسهيل، كقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أول الوقت رضوان الله وآخره عفو الله» يعني تسهيله وتوسعته. فمعنى: {عَلِمَ اللَّهُ} أي علم وقوع هذا منكم مشاهدة {فَتابَ عَلَيْكُمْ} بعد ما وقع، أي خفف عنكم {وَعَفا} أي سهل. و{تَخْتانُونَ} من الخيانة، كما تقدم. قال ابن العربي: وقال علماء الزهد: وكذا فلتكن العناية وشرف المنزلة، خان نفسه عمر رضي الله عنه فجعلها الله تعالى شريعة، وخفف من أجله عن الامة فرضي الله عنه وأرضاه.
قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} كناية عن الجماع، أي قد أحل لكم ما حرم عليكم. وسمي الوقاع مباشرة لتلاصق البشرتين فيه. قال ابن العربي: وهذا يدل على أن سبب الآية جماع عمر رضي الله عنه لا جوع قيس، لأنه لو كان السبب جوع قيس لقال: فالان كلوا، ابتدأ به لأنه المهم الذي نزلت الآية لأجله.
الخامسة: قوله تعالى: {وَابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} قال ابن عباس ومجاهد والحكم ابن عيينة وعكرمة والحسن والسدي والربيع والضحاك: معناه وابتغوا الولد، يدل عليه أنه عقيب قوله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ}.
وقال ابن عباس: ما كتب الله لنا هو القرآن. الزجاج: أي ابتغوا القرآن بما أبيح لكم فيه وأمرتم به. وروي عن ابن عباس ومعاذ بن جبل أن المعنى وابتغوا ليلة القدر.
وقيل: المعنى اطلبوا الرخصة والتوسعة، قاله قتادة. قال ابن عطية: وهو قول حسن.
وقيل: {ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ} من الإماء والزوجات. وقرأ الحسن البصري والحسن بن قرة {واتبعوا} من الاتباع، وجوزها ابن عباس، ورجح {ابْتَغُوا} من الابتغاء.
السادسة: قوله تعالى: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} هذا جواب نازلة قيس، والأول جواب عمر، وقد ابتدأ بنازلة عمر لأنه المهم فهو المقدم.
السابعة: قوله تعالى: {حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} {حتى} غاية للتبيين، ولا يصح أن يقع التبيين لاحد ويحرم عليه الأكل إلا وقد مضى لطلوع الفجر قدر. واختلف في الحد الذي بتبينه يجب الإمساك، فقال الجمهور: ذلك الفجر المعترض في الأفق يمنه ويسرة، وبهذا جاءت الاخبار ومضت عليه الأمصار. روى مسلم عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا يغرنكم من سحوركم أذان بلال ولا بياض الأفق المستطيل هكذا حتى يستطير هكذا». وحكاه حماد بيديه قال: يعني معترضا.
وفي حديث ابن مسعود: «إن الفجر ليس الذي يقول هكذا- وجمع أصابعه ثم نكسها إلى الأرض- ولكن الذي يقول هكذا- ووضع المسبحة على المسبحة ومد يديه».
وروى الدارقطني عن عبد الرحمن بن عباس أنه بلغه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «هما فجران فأما الذي كأنه ذنب السرحان فإنه لا يحل شيئا ولا يحرمه وأما المستطيل الذي عارض الأفق ففيه تحل الصلاة ويحرم الطعام» هذا مرسل. وقالت طائفة: ذلك بعد طلوع الفجر وتبينه في الطرق والبيوت، روي ذلك عن عمر وحذيفة وابن عباس وطلق بن علي وعطاء بن أبي رباح والأعمش سليمان وغيرهم أن الإمساك يجب بتبيين الفجر في الطرق وعلى رءوس الجبال.
وقال مسروق: لم يكن يعدون الفجر فجركم إنما كانوا يعدون الفجر الذي يملأ البيوت.
وروى النسائي عن عاصم عن زر قال قلنا لحذيفة: أي ساعة تسحرت مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ قال: هو النهار إلا أن الشمس لم تطلع.
وروى الدارقطني عن طلق بن علي أن نبي الله قال: «كلوا واشربوا ولا يغرنكم الساطع المصعد وكلوا واشربوا حتى يعرض لكم الأحمر». قال الدارقطني: قيس بن طلق ليس بالقوي.
وقال أبو داود: هذا مما تفرد به أهل اليمامة. قال الطبري: والذي قادهم إلى هذا أن الصوم إنما هو في النهار، والنهار عندهم من طلوع الشمس، وآخره غروبها، وقد مضى الخلاف في هذا بين اللغويين. وتفسير رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك بقوله: «إنما هو سواد الليل وبياض النهار» الفيصل في ذلك، وقوله: {أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ} [البقرة: 184].
وروى الدارقطني عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من لم يبيت الصيام قبل طلوع الفجر فلا صيام له». تفرد به عبد الله بن عباد عن المفضل بن فضالة بهذا الاسناد، وكلهم ثقات. وروي عن حفصة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من لم يجمع الصيام قبل الفجر فلا صيام له». رفعه عبد الله بن أبي بكر وهو من الثقات الرفعاء، وروي عن حفصة مرفوعا من قولها. ففي هذين الحديثين دليل على ما قاله الجمهور في الفجر، ومنع من الصيام دون نية قبل الفجر، خلافا لقول أبي حنيفة.
الثامنة: وذلك أن الصيام من جملة العبادات فلا يصح إلا بنية، وقد وقتها الشارع قبل الفجر، فكيف يقال: إن الأكل والشرب بعد الفجر جائز.
وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد قال: نزلت {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ} ولم ينزل {مِنَ الْفَجْرِ} وكان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود، ولا يزال يأكل ويشرب حتى يتبين له رؤيتهما، فأنزل الله بعد {مِنَ الْفَجْرِ} فعلموا أنه إنما يعني بذلك بياض النهار. وعن عدي بن حاتم قال قلت: يا رسول الله، ما الخيط الأبيض من الخيط الأسود، أهما الخيطان؟ قال: «إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين- ثم قال- لا بل هو سواد الليل وبياض النهار». أخرجه البخاري. وسمي الفجر خيطا لان ما يبدو من البياض يرى ممتدا كالخيط. قال الشاعر:
الخيط الأبيض ضوء الصبح منفلق ** والخيط الأسود جنح الليل مكتوم

والخيط في كلامهم عبارة عن اللون. والفجر مصدر فجرت الماء أفجره فجرا إذا جرى وانبعث، وأصله الشق، فلذلك قيل للطالع من تباشير ضياء الشمس من مطلعها: فجرا لانبعاث ضوئه، وهو أول بياض النهار الظاهر المستطير في الأفق المنتشر، تسميه العرب الخيط الأبيض، كما بينا. قال أبو دواد الايادي:
فلما أضاءت لنا سدفة ** ولاح من الصبح خيط أنارا

وقال آخر:
قد كاد يبدو وبدت تباشره ** وسدف الليل البهيم ساتره

وقد تسميه أيضا الصديع، ومنه قولهم: انصدع الفجر، قال بشر بن أبي خازم أو عمرو بن معديكرب:
ترى السرحان مفترشا يديه ** كأن بياض لبته صديع

وشبهه الشماخ بمفرق الرأس فقال:
إذا ما الليل كان الصبح فيه ** أشق كمفرق الرأس الدهين

ويقولون في الامر الواضح: هذا كفلق الصبح، وكانبلاج الفجر، وتباشير الصبح. قال الشاعر:
فوردت قبل انبلاج الفجر ** وابن ذكاء كامن في كفر

التاسعة: قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ} جعل الله جل ذكره الليل ظرفا للأكل والشرب والجماع، والنهار ظرفا للصيام، فبين أحكام الزمانين وغاير بينهما. فلا يجوز في اليوم شيء مما أباحه بالليل إلا لمسافر أو مريض، كما تقدم بيانه. فمن أفطر في رمضان من غير من ذكر فلا يخلو إما أن يكون عامدا أو ناسيا، فإن كان الأول فقال مالك: من أفطر في رمضان عامدا بأكل أو شرب أو جماع فعليه القضاء والكفارة، لما رواه مالك في موطئة، ومسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رجلا أفطر في رمضان فأمره رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يكفر بعتق رقبة أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام ستين مسكينا، الحديث. وبهذا قال الشعبي.
وقال الشافعي وغيره: إن هذه الكفارة إنما تختص بمن أفطر بالجماع، لحديث أبي هريرة أيضا قال: جاء رجل إلى رسول الله فقال: هلكت يا رسول الله! قال: «وما أهلكك» قال: وقعت على امرأتي في رمضان، الحديث. وفيه ذكر للكفارة على الترتيب، أخرجه مسلم. وحملوا هذه القضية على القضية الأولى فقالوا: هي واحدة، وهذا غير مسلم به بل هما قضيتان مختلفتان، لأن مساقهما مختلف، وقد علق الكفارة على من أفطر مجردا عن القيوم فلزم مطلقا. وبهذا قال مالك وأصحابه والأوزاعي وإسحاق وأبو ثور والطبري وابن المنذر، وروي ذلك عن عطاء في رواية، وعن الحسن والزهري. ويلزم الشافعي القول به فإنه يقول: ترك الاستفصال مع تعارض الأحوال يدل على هموم الحكم. وأوجب الشافعي عليه مع القضاء العقوبة لانتهاك حرمة الشهر.
العاشرة: واختلفوا أيضا فيما يجب على المرأة يطؤها زوجها في شهر رمضان، فقال مالك وأبو يوسف وأصحاب الرأي: عليها مثل ما على الزوج.
وقال الشافعي: ليس عليها إلا كفارة واحدة، وسواء طاوعته أو أكرهها، لأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أجاب السائل بكفارة واحدة ولم يفصل. وروي عن أبي حنيفة: إن طاوعته فعلى كل واحد منهما كفارة، وإن أكرهها فعليه كفارة واحدة لا غير. وهو قول سحنون بن سعيد المالكي.
وقال مالك: عليه كفارتان، وهو تحصيل مذهبه عند جماعة أصحابه.
الحادية عشرة: واختلفوا أيضا فيمن جامع ناسيا لصومه أو أكل، فقال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه وإسحاق: ليس عليه في الوجهين شي، لا قضاء ولا كفارة.
وقال مالك والليث والأوزاعي: عليه القضاء ولا كفارة، وروي مثل ذلك عن عطاء. وقد روي عن عطاء أن عليه الكفارة إن جامع، وقال: مثل هذا لا ينسى.
وقال قوم من أهل الظاهر: سواء وطئ ناسيا أو عامدا فعليه القضاء والكفارة، وهو قول ابن الماجشون عبد الملك، وإليه ذهب أحمد بن حنبل، لأن الحديث الموجب للكفارة لم يفرق فيه بين الناسي والعامد. قال ابن المنذر: لا شيء عليه.
الثانية عشرة: قال مالك والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي: إذا أكل ناسيا فظن أن ذلك قد فطره فجامع عامدا أن عليه القضاء ولا كفارة عليه. قال ابن المنذر: وبه نقول. وقيل في المذهب: عليه القضاء والكفارة إن كان قاصدا لهتك حرمة صومه جرأة وتهاونا. قال أبو عمر: وقد كان يجب على أصل مالك ألا يكفر، لأن من أكل ناسيا فهو عنده مفطر يقضي يومه ذلك، فأي حرمة هتك وهو مفطر. وعند غير مالك: ليس بمفطر كل من أكل ناسيا لصومه.
قلت: وهو الصحيح، وبه قال الجمهور: إن من أكل أو شرب ناسيا فلا قضاء عليه وإن صومه تام، لحديث أبي هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا أكل الصائم ناسيا أو شرب ناسيا فإنما هو رزق ساقه الله تعالى إليه ولا قضاء عليه»- في رواية- «وليتم صومه فإن الله أطعمه وسقاه». أخرجه الدارقطني. وقال: إسناد صحيح وكلهم ثقات. قال أبو بكر الأثرم: سمعت أبا عبد الله يسئل عمن أكل ناسيا في رمضان، قال: ليس عليه شيء على حديث أبي هريرة. ثم قال أبو عبد الله مالك: وزعموا أن مالكا يقول عليه القضاء! وضحك.
وقال ابن المنذر: لا شيء عليه، لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لمن أكل أو شرب ناسيا: «يتم صومه» وإذا قال: «يتم صومه» فأتمه فهو صوم تام كامل.
قلت: وإذا كان من أفطر ناسيا لا قضاء عليه وصومه صوم تام فعليه إذا جامع عامدا القضاء والكفارة- والله أعلم- كمن لم يفطر ناسيا. وقد احتج علماؤنا على إيجاب القضاء بأن قالوا: المطلوب منه صيام يوم تام لا يقع فيه خرم، لقوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ} وهذا لم يأت به على التمام فهو باق عليه، ولعل الحديث في صوم التطوع لخفته. وقد جاء في صحيحي البخاري ومسلم: «من نسي وهو صائم فأكل أو شرب فليتم صومه» فلم يذكر قضاء ولا تعرض له، بل الذي تعرض له سقوط المؤاخذة والامر بمضيه على صومه وإتمامه، هذا إن كان واجبا فدل على ما ذكرناه من القضاء. وأما صوم التطوع فلا قضاء فيه لمن أكل ناسيا، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لا قضاء عليه».
قلت: هذا ما احتج به علماؤنا وهو صحيح، لولا ما صح عن الشارع ما ذكرناه، وقد جاء بالنص الصريح الصحيح وهو ما رواه أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من أفطر في شهر رمضان ناسيا فلا قضاء عليه ولا كفارة» أخرجه الدارقطني وقال: تفرد به ابن مرزوق وهو ثقة عن الأنصاري، فزال الاحتمال وارتفع الاشكال، والحمد لله ذي الجلال والكمال.
الثالثة عشرة: لما بين سبحانه محظورات الصيام وهي الأكل والشرب والجماع، ولم يذكر المباشرة التي هي اتصال البشرة بالبشرة كالقبلة والجسة وغيرها، دل ذلك على صحة صوم من قبل وباشر، لأن فحوى الكلام إنما يدل على تحريم ما أباحه الليل وهو الأشياء الثلاثة، ولا دلالة فيه على غيرها بل هو موقوف على الدليل، ولذلك شاع الاختلاف فيه، واختلف علماء السلف فيه، فمن ذلك المباشرة. قال علماؤنا: يكره لمن لا يأمن على نفسه ولا يملكها، لئلا يكون سببا إلى ما يفسد الصوم. روى مالك عن نافع أن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما كان ينهى عن القبلة والمباشرة للصائم، وهذا- والله أعلم- خوف ما يحدث عنهما، فإن قبل وسلم فلا جناح عليه، وكذلك إن باشر.
وروى البخاري عن عائشة قالت: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقبل ويباشر وهو صائم. وممن كره القبلة للصائم عبد الله بن مسعود وعروة ابن الزبير. وقد روي عن ابن مسعود أنه يقضي يوما مكانه، والحديث حجة عليهم. قال أبو عمر: ولا أعلم أحدا رخص فيها لمن يعلم أنه يتولد عليه منها ما يفسد صومه، فإن قبل فأمنى فعليه القضاء ولا كفارة، قاله أبو حنيفة وأصحابه والثوري والحسن والشافعي، واختاره ابن المنذر وقال: ليس لمن أوجب عليه الكفارة حجة. قال أبو عمر: ولو قبل فأمذى لم يكن عليه شيء عندهم.
وقال أحمد: من قبل فأمذى أو أمنى فعليه القضاء ولا كفارة عليه، إلا على من جامع فأولج عامدا أو ناسيا.
وروى ابن القاسم عن مالك فيمن قبل أو باشر فأنعظ ولم يخرج منه ماء جملة عليه القضاء.
وروى ابن وهب عنه لا قضاء عليه حتى يمذي. قال القاضي أبو محمد: واتفق أصحابنا على أنه لا كفارة عليه. وإن كان منيا فهل تلزمه الكفارة مع القضاء، فلا يخلو أن يكون قبل قبلة واحدة فأنزل، أو قبل فالتذ فعاود فأنزل، فإن كان قبل قبلة واحدة أو باشر أو لمس مرة فقال أشهب وسحنون: لا كفارة عليه حتى يكرر.
وقال ابن القاسم: يكفر في ذلك كله، إلا في النظر فلا كفارة عليه حتى يكرر. وممن قال بوجوب الكفارة عليه إذا قبل أو باشر أو لاعب امرأته أو جامع دون الفرج فأمنى: الحسن البصري وعطاء وابن المبارك وأبو ثور وإسحاق، وهو قول مالك في المدونة. وحجة قول أشهب: أن اللمس والقبلة والمباشرة ليست تفطر في نفسها، وإنما يبقى أن تؤول إلى الامر الذي يقع به الفطر، فإذا فعل مرة واحدة لم يقصد الانزال وإفساد الصوم فلا كفارة عليه كالنظر إليها، وإذا كرر ذلك فقد قصد إفساد صومه فعليه الكفارة كما لو تكرر النظر. قال اللخمي: واتفق جميعهم في الانزال عن النظر أن لا كفارة عليه إلا أن يتابع. والأصل أنه لا تجب الكفارة إلا على من قصد الفطر وانتهاك حرمة الصوم، فإذا كان ذلك وجب أن ينظر إلى عادة من نزل به ذلك، فإذا كان ذلك شأنه أن ينزل عن قبلة أو مباشرة مرة، أو كانت عادته مختلفة: مرة ينزل، ومرة لا ينزل، رأيت عليه الكفارة، لأن فاعل ذلك قاصد لانتهاك صومه أو متعرض له. وإن كانت عادته السلامة فقدر أن كان منه خلاف العادة لم يكن عليه كفارة، وقد يحتمل قول مالك في وجوب الكفارة، لن ذلك لا يجري إلا ممن يكون ذلك طبعه واكتفي بما ظهر منه. وحمل أشهب الامر على الغالب من الناس أنهم يسلمون من ذلك، وقولهم في النظر دليل على ذلك.
قلت: ما حكاه من الاتفاق في النظر وجعله أصلا ليس كذلك، فقد حكى الباجي في المنتقى فإن نظر نظرة واحدة يقصد بها اللذة فأنزل فقد قال الشيخ أبو الحسن: عليه القضاء والكفارة. قال الباجي: وهو الصحيح عندي، لأنه إذا قصد بها الاستمتاع كانت كالقبلة وغير ذلك من أنواع الاستمتاع، والله أعلم.
وقال جابر بن زيد والثوري والشافعي وأبو ثور وأصحاب الرأي فيمن ردد النظر إلى المرأة حتى أمنى: فلا قضاء عليه ولا كفارة، قاله ابن المنذر. قال الباجي: وروى في المدنية ابن نافع عن مالك أنه إن نظر إلى امرأة متجردة فالتذ فأنزل عليه القضاء دون الكفارة.
الرابعة عشرة: والجمهور من العلماء على صحة صوم من طلع عليه الفجر وهو جنب.
وقال القاضي أبو بكر بن العربي: وذلك جائز إجماعا، وقد كان وقع فيه بين الصحابة كلام ثم استقر الامر على أن من أصبح جنبا فإن صومه صحيح.
قلت: أما ما ذكر من وقوع الكلام فصحيح مشهور، وذلك قول أبي هريرة: من أصبح جنبا فلا صوم له، أخرجه الموطأ وغيره.
وفي كتاب النسائي أنه قال لما روجع: والله ما أنا قلته، محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ والله قاله. وقد اختلف في رجوعه عنها، وأشهر قوليه عند أهل العلم أنه لا صوم له، حكاه ابن المنذر، وروي عن الحسن بن صالح. وعن أبي هريرة أيضا قول ثالث قال: إذا علم بجنابته ثم نام حتى يصبح فهو مفطر، وإن لم يعلم حتى أصبح فهو صائم، روي ذلك عن عطاء وطاوس وعروة بن الزبير. وروي عن الحسن والنخعي أن ذلك يجزي في التطوع ويقضى في الفرض.
قلت: فهذه أربعة أقوال للعلماء فيمن أصبح جنبا، والصحيح منها مذهب الجمهور، لحديث عائشة رضي الله عنها وام سلمة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يصبح جنبا من جماع غير احتلام ثم يصوم. وعن عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدركه الفجر في رمضان وهو جنب من غير احتلام فيغتسل ويصوم، أخرجهما البخاري ومسلم. وهو الذي يفهم من ضرورة قوله تعالى: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} الآية، فإنه لما مد إباحة الجماع إلى طلوع الفجر فبالضرورة يعلم أن الفجر يطلع عليه وهو جنب، وإنما يتأتى الغسل بعد الفجر. وقد قال الشافعي: ولو كان الذكر داخل المرأة فنزعه مع طلوع الفجر أنه لا قضاء عليه.
وقال المزني: عليه القضاء لأنه من تمام الجماع، والأول أصح لما ذكرنا، وهو قول علمائنا.
الخامسة عشرة: واختلفوا في الحائض تطهر قبل الفجر وتترك التطهر حتى تصبح، فجمهورهم على وجوب الصوم عليها وإجزائه، سواء تركته عمدا أو سهوا كالجنب، وهو قول مالك وابن القاسم.
وقال عبد الملك: إذا طهرت الحائض قبل الفجر فأخرت غسلها حتى طلع الفجر فيومها يوم فطر، لأنها في بعضه غير طاهرة، وليست كالجنب لان الاحتلام لا ينقض الصوم، والحيضة تنقضه. هكذا ذكره أبو الفرج في كتابه عن عبد الملك.
وقال الأوزاعي: تقضي لأنها فرطت في الاغتسال.
وذكر ابن الجلاب عن عبد الملك أنها إن طهرت قبل الفجر في وقت يمكنها فيه الغسل ففرطت ولم تغتسل حتى أصبحت لم يضرها كالجنب، وإن كان الوقت ضيقا لا تدرك فيه الغسل لم يجز صومها ويومها يوم فطر، وقاله مالك، وهي كمن طلع عليها الفجر وهي حائض.
وقال محمد بن مسلمة في هذه: تصوم وتقضي، مثل قول الأوزاعي. وروي عنه أنه شذ فأوجب على من طهرت قبل الفجر ففرطت وتوانت وتأخرت حتى تصبح- الكفارة مع القضاء.
السادسة عشرة: وإذا طهرت المرأة ليلا في رمضان فلم تدر أكان ذلك قبل الفجر أو بعده، صامت وقضت ذلك اليوم احتياطا، ولا كفارة عليها.
السابعة عشرة: روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «أفطر الحاجم والمحجوم». من حديث ثوبان وحديث شداد بن أوس وحديث رافع بن خديج، وبه قال أحمد وإسحاق، وصحح أحمد حديث شداد بن أوس، وصحح علي بن المديني حديث رافع بن خديج.
وقال مالك والشافعي والثوري: لا قضاء عليه، إلا أنه يكره له ذلك من أجل التغرير.
وفي صحيح مسلم من حديث أنس أنه قيل له: أكنتم تكرهون الحجامة للصائم؟ قال لا، إلا من أجل الضعف.
وقال أبو عمر: حديث شداد ورافع وثوبان عندنا منسوخ بحديث ابن عباس أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ احتجم صائما محرما، لأن في حديث شداد بن أوس وغيره أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مر عام الفتح على رجل يحتجم لثمان عشره ليلة خلت من رمضان فقال: «أفطر الحاجم والمحجوم». واحتجم هو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام حجة الوداع وهو محرم صائم، فإذا كانت حجته صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عام حجة الوداع فهي ناسخة لا محالة، لأنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يدرك بعد ذلك رمضان، لأنه توفي في ربيع الأول، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثامنة عشرة: قوله تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ} أمروا يقتضي الوجوب من غير خلاف. و{إلى} غاية، فإذا كان ما بعدها من جنس ما قبلها فهو داخل في حكمه، كقولك: اشتريت الفدان إلى حاشيته، أو اشتريت منك من هذه الشجرة إلى هذه الشجرة- والمبيع شجر، فإن الشجرة داخلة في المبيع. بخلاف قولك: اشتريت الفدان إلى الدار، فإن الدار لا تدخل في المحدود إذ ليست من جنسه. فشرط تعالى تمام الصوم حتى يتبين الليل، كما جوز الأكل حتى يتبين النهار.
التاسعة عشرة: ومن تمام الصوم استصحاب النية دون رفعها، فإن رفعها في بعض النهار ونوى الفطر إلا أنه لم يأكل ولم يشرب فجعله في المدونة مفطرا وعليه القضاء.
وفي كتاب ابن حبيب أنه على صومه، قال: ولا يخرجه من الصوم إلا الإفطار بالفعل وليس بالنية.
وقيل: عليه القضاء والكفارة.
وقال سحنون: إنما يكفر من بيت الفطر، فأما من نواه في نهاره فلا يضره، وإنما يقضي استحسانا.
قلت: هذا حسن.
الموفية عشرين: قوله تعالى: {إِلَى اللَّيْلِ} إذا تبين الليل سن الفطر شرعا، أكل أو لم يأكل. قال ابن العربي: وقد سئل الامام أبو إسحاق الشيرازي عن رجل حلف بالطلاق ثلاثا أنه لا يفطر على حار ولا بارد، فأجاب أنه بغروب الشمس مفطر لا شيء عليه، واحتج بقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا جاء الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا فقد أفطر الصائم». وسيل عنها الامام أبو نصر بن الصباغ صاحب الشامل فقال: لا بد أن يفطر على حار أو بارد. وما أجاب به الامام أبو إسحاق أولى، لأنه مقتضى الكتاب والسنة.
الحادية والعشرون: فإن ظن أن الشمس قد غربت لغيم أو غيره فأفطر ثم ظهرت الشمس فعليه القضاء في قول أكثر العلماء.
وفي البخاري عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت: أفطرنا على عهد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يوم غيم ثم طلعت الشمس، قيل لهشام: فأمروا بالقضاء، قال: لا بد من قضاء؟. قال عمر في الموطأ في هذا: الخطب يسير، وقد اجتهدنا في الوقت يريد القضاء. وروي عن عمر أنه قال: لا قضاء عليه، وبه قال الحسن البصري: لا قضاء عليه كالناسي، وهو قول إسحاق وأهل الظاهر. وقول الله تعالى: {إِلَى اللَّيْلِ} يرد هذا القول، والله أعلم.
الثانية والعشرون: فإن أفطر وهو شاك في غروبها كفر مع القضاء، قاله مالك، إلا أن يكون الأغلب عليه غروبها. ومن شك عنده في طلوع الفجر لزمه الكف عن الأكل، فإن أكل مع شكه فعليه القضاء كالناسي، لم يختلف في ذلك قوله. ومن أهل العلم بالمدينة وغيرها من لا يرى عليه شيئا حتى يتبين له طلوع الفجر، وبه قال ابن المنذر.
وقال إلكيا الطبري: وقد ظن قوم أنه إذا أبيح له الفطر إلى أول الفجر فإذا أكل على ظن أن الفجر لم يطلع فقد أكل بإذن الشرع في وقت جواز الأكل فلا قضاء عليه، كذلك قال مجاهد وجابر ابن زيد. ولا خلاف في وجوب القضاء إذا غم عليه الهلال في أول ليلة من رمضان فأكل ثم بان أنه من رمضان، والذي نحن فيه مثله. وكذلك الأسير في دار الحرب إذا أكل ظنا أنه من شعبان ثم بان خلافه.
الثالثة عشرين: قوله تعالى: {إِلَى اللَّيْلِ} فيه ما يقتضي النهي عن الوصال، إذ الليل غاية الصيام، وقالته عائشة. وهذا موضع اختلف فيه، فمن واصل عبد الله بن الزبير وإبراهيم التيمي وأبو الجوزاء وأبو الحسن الدينوري وغيرهم. كان ابن الزبير يواصل سبعا، فإذا أفطر شرب السمن والصبر حتى يفتق أمعاءه، قال: وكانت تيبس أمعاؤه. وكان أبو الجوزاء يواصل سبعة أيام وسبع ليال ولو قبض على ذراع الرجل الشديد لحطمها. وظاهر القرآن والسنة يقتضي المنع، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا غابت الشمس من ها هنا وجاء الليل من. ها هنا فقد أفطر الصائم». خرجه مسلم من حديث عبد الله بن أبي أوفى. ونهى عن الوصال، فلما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوما ثم يوما ثم رأوا الهلال فقال: «لو تأخر الهلال لزدتكم» كالمنكل لهم حين أبوا أن ينتهوا. أخرجه مسلم عن أبي هريرة.
وفي حديث أنس: «لو مد لنا الشهر لواصلنا وصالا يدع المتعمقون تعمقهم». خرجه مسلم أيضا.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إياكم والوصال إياكم والوصال» تأكيدا في المنع لهم منه، وأخرجه البخاري. وعلى كراهية الوصال- لما ذكرنا ولما فيه من ضعف القوى وإنهاك الأبدان- جمهور العلماء. وقد حرمه بعضهم لما فيه من مخالفة الظاهر والتشبه بأهل الكتاب، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحر». خرجه مسلم وأبو داود.
وفي البخاري عن أبي سعيد الخدري أنه سمع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السحر» قالوا: فإنك تواصل يا رسول الله؟ قال: «لست كهيئتكم إني أبيت لي مطعم يطعمني وساق يسقيني». قالوا: وهذا إباحة لتأخير الفطر إلى السحر، وهو الغاية في الوصال لمن أراده، ومنع من اتصال يوم بيوم، وبه قال أحمد وإسحاق وابن وهب صاحب مالك. واحتج من أجاز الوصال بأن قال: إنما كان النهي عن الوصال لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام، فخشي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن يتكلفوا الوصال وأعلى المقامات فيفتروا أو يضعفوا عما كان أنفع منه من الجهاد والقوة على العدو، ومع حاجتهم في ذلك الوقت. وكان هو يلتزم في خاصة نفسه الوصال وأعلى مقامات الطاعات، فلما سألوه عن وصالهم أبدى لهم فارقا بينه وبينهم، وأعلمهم أن حالته في ذلك غير حالاتهم فقال: «لست مثلكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني». فلما كمل الايمان في قلوبهم واستحكم في صدورهم ورسخ، وكثر المسلمون وظهروا على عدوهم، واصل أولياء الله وألزموا أنفسهم أعلى المقامات، والله أعلم.
قلت: ترك الوصال مع ظهور الإسلام وقهر الاعداء أولى، وذلك أرفع الدرجات وأعلى المنازل والمقامات، والدليل على ذلك ما ذكرناه. وأن الليل ليس بزمان صوم شرعي، حتى لو شرع إنسان فيه الصوم بنية ما أثيب عليه، والنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أخبر عن نفسه أنه واصل، وإنما الصحابة ظنوا ذلك فقالوا: إنك تواصل، فأخبر أنه يطعم ويسقى. وظاهر هذه الحقيقة: أنه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يؤتى بطعام الجنة وشرابها.
وقيل: إن ذلك محمول على ما يرد على قلبه من المعاني واللطائف، وإذا احتمل اللفظ الحقيقة والمجاز فالأصل الحقيقة حتى يرد دليل يزيلها. ثم لما أبوا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم وهو على عادته كما أخبر عن نفسه، وهم على عادتهم حتى يضعفوا ويقل صبرهم فلا يواصلوا. وهذه حقيقة التنكيل حتى يدعوا تعمقهم وما أرادوه من التشديد على أنفسهم. وأيضا لو تنزلنا على أن المراد بقوله: «أطعم وأسقي» المعنى لكان مفطرا حكما، كما أن من اغتاب في صومه أو شهد بزور مفطر حكما، ولا فرق بينهما، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه». وعلى هذا الحد ما واصل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا أمر به، فكان تركه أولى. وبالله التوفيق.
الرابعة والعشرون: ويستحب للصائم إذا أفطر أن يفطر على رطبات أو تمرات أو حسوات من الماء، لما رواه أبو داود عن أنس قال: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يفطر على رطبات قبل أن يصلي، فإن لم تكن رطبات فعلى تمرات، فإن لم تكن تمرات حسا حسوات من ماء. وأخرجه الدارقطني وقال فيه: إسناد صحيح.
وروى الدارقطني عن ابن عباس قال: كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أفطر قال: «لك صمنا وعلى رزقك أفطرنا فتقبل منا إنك أنت السميع العليم». وعن ابن عمر قال كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول إذا أفطر: «ذهب الظمأ وابتلت العروق وثبت الأجر إن شاء الله». خرجه أبو داود أيضا.
وقال الدارقطني: تفرد به الحسين بن واقد إسناده حسن.
وروى ابن ماجه عن عبد الله بن الزبير قال: أفطر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عند سعد بن معاذ فقال: «أفطر عندكم الصائمون واكل طعامكم الأبرار وصلت عليكم الملائكة». وروي أيضا عن زيد بن خالد الجهني قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من فطر صائما كان له مثل أجرهم من غير أن ينقص من أجورهم شيئا». وروي أيضا عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إن للصائم عند فطره لدعوة ما ترد». قال ابن أبى مليكة: سمعت عبد الله بن عمرو يقول إذا أفطر: اللهم إنى أسألك برحمتك التي وسعت كل شيء أن تغفر لي. وفى صحيح مسلم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «للصائم فرحتان يفرحهما إذا أفطر فرح بفطره وإذا لقى ربه فرح بصومه».
الخامسة والعشرون: ويستحب له أن يصوم من شوال ستة أيام، لما رواه مسلم والترمذي وأبو داود والنسائي وابن ماجه عن أبى أيوب الأنصاري قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من صام رمضان ثم أتبعه ستا من شوال كان له كصيام الدهر» هذا حديث صحيح من حديث سعد بن سعيد الأنصاري المدني، وهو ممن لم يخرج له البخاري شيئا، وقد جاء بإسناد جيد مفسرا من حديث أبى أسماء الرحبي عن ثوبان مولى النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «جعل الله الحسنة بعشر أمثالها فشهر رمضان بعشرة أشهر وستة أيام بعد الفطر تمام السنة». رواه النسائي. واختلف في صيام هذه الأيام، فكرهها مالك في موطئة خوفا أن يلحق أهل الجهالة برمضان ما ليس منه، وقد وقع ما خافه حتى أنه كان في بعض بلاد خراسان يقومون لسحورها على عادتهم في رمضان.
وروى مطرف عن مالك أنه كان يصومها في خاصة نفسه. واستحب صيامها الشافعي، وكرهه أبو يوسف.
السادسة والعشرون: قوله تعالى: {وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ} بين جل تعالى أن الجماع يفسد الاعتكاف. وأجمع أهل العلم على أن من جامع امرأته وهو معتكف عامدا لذلك في فرجها أنه مفسد لاعتكافه، واختلفوا فيما عليه إذا فعل ذلك، فقال الحسن البصري والزهري: عليه ما على المواقع أهله في رمضان. فأما المباشرة من غير جماع فإن قصد بها التلذذ فهي مكروهة، وإن لم يقصد لم يكره، لأن عائشة كانت ترجل رأس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو معتكف، وكانت لا محالة تمس بدن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيدها، فدل بذلك على أن المباشرة بغير شهوة غير محظورة، هذا قول عطاء والشافعي وابن المنذر. قال أبو عمر: وأجمعوا على أن المعتكف لا يباشر ولا يقبل. واختلفوا فيما عليه إن فعل، فقال مالك والشافعي: إن فعل شيئا من ذلك فسدا اعتكافه، قاله المزني.
وقال في موضع آخر من مسائل الاعتكاف: لا يفسد الاعتكاف من الوطي إلا ما يوجب الحد، واختاره المزني قياسا على أصله في الحج والصوم.
السابعة والعشرون: قوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ} جملة في موضع الحال. والاعتكاف في اللغة: الملازمة، يقال عكف على الشيء إذا لازمه مقبلا عليه. قال الراجز:
عكف النبيط يلعبون الفنزجا

وقال شاعر:
وظل بنات الليل حولي عكفا ** عكوف البواكي بينهن صريع

ولما كان المعتكف ملازما للعمل بطاعة الله مدة اعتكافه لزمه هذا الاسم. وهو في عرف الشرع: ملازمة طاعة مخصوصة في وقت مخصوص على شرط مخصوص في موضع مخصوص. وأجمع العلماء على أنه ليس بواجب، وهو قربة من القرب ونافلة من النوافل عمل بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه وأزواجه، ويلزمه إن ألزمه نفسه، ويكره الدخول فيه لمن يخاف عليه العجز عن الوفاء بحقوقه.
الثامنة والعشرون: أجمع العلماء على أن الاعتكاف لا يكون إلا في المسجد، لقول الله تعالى: {فِي الْمَساجِدِ}. واختلفوا في المراد بالمساجد، فذهب قوم إلى أن الآية خرجت على نوح من المساجد، وهو ما بناه نبى كالمساجد الحرام ومسجد النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومسجد إيلياء، روى هذا عن حذيفة بن اليمان وسعد بن المسيب، فلا يجوز الاعتكاف عندهم في غيرها.
وقال آخرون: لا اعتكاف إلا في مسجد تجمع فيه الجمعة، لأن الإشارة في الآية عندهم إلى ذلك الجنس من المساجد، روى هذا عن علي بن أبى طالب وابن مسعود، وهو قول عروة والحكم وحماد والزهري وأبى جعفر محمد بن على، وهو أحد قولي مالك.
وقال آخرون: الاعتكاف في كل مسجد جائز، يروى هذا القول عن سعيد بن جبير وأبى قلابة وغيرهم، وهو قول الشافعي وأبى حنيفة وأصحابهما. وحجتهم حمل الآية على عمومها في كل مسجد له إمام ومؤذن، وهو أحد قولي مالك، وبه يقول ابن علية وداود بن على والطبري وابن المنذر.
وروى الدارقطني عن الضحاك عن حذيفة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم يقول: «كل مسجد له مؤذن وإمام فالاعتكاف فيه يصلح». قال الدارقطني: والضحاك لم يسمع من حذيفة.
التاسعة والعشرون: وأقل الاعتكاف عند مالك وأبى حنيفة يوم وليلة، فإن قال: لله على اعتكاف ليلة لزمه اعتكاف ليلة ويوم. وكذلك إن نذر اعتكاف يوم لزمه يوم وليلة.
وقال سحنون: من نذر اعتكاف ليلة فلا شيء على، وقال أبو حنيفة وأصحابه: إن نذر يوما فعليه يوم بغير ليلة، وإن نذر ليلة فلا شيء علبة. كما قال سحنون. قال الشافعي: عليه ما نذر، إن نذر ليلة فليلة، وإن نذر يوما فيوما. قال الشافعي: أقله لحظة ولا حد لأكثره.
وقال بعض أصحاب أبى حنيفة: يصح الاعتكاف ساعة. وعلى هذا القول فليس من شرطه صوم، وروى عن أحمد بن حنبل في أحد قوليه، وهو قول داود بن على وابن علية، واختاره ابن المنذر وابن العربي. واحتجوا بأن اعتكاف رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان في رمضان، ومحال أن يكون صوم رمضان لرمضان ولغيره. ولو نوى المعتكف في رمضان بصومه التطوع والفرض فسد صومه عند مالك وأصحابه. ومعلوم أن ليل المعتكف يلزمه فيه من اجتناب مباشرة النساء ما يلزمه في نهاره، وأن ليله داخل أفي اعتكافه، وأن الليل ليس بموضع صوم، فكذلك نهاره ليس بمفتقر إلى الصوم، وإن صام فحسن، وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في القول الأخر: لا يصح إلا بصوم.
وروى عن ابن عمر وابن عباس وعائشة رضي الله عنهم. وفى الموطأ عن القاسم بن محمد ونافع مولى عبد الله بن عمر: لا اعتكاف إلا بصيام، لقول الله تعالى في كتابه: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا} إلى قوله: {فِي الْمَساجِدِ} وقالا: فإنما ذكر الله الاعتكاف مع الصيام. قال يحيى قال مالك: وعلى ذلك الامر عندنا. واحتجوا بما رواه عبد الله بن بديل عن عمر بن دينار عن ابن عمر أن عمر جعل عليه أن يعتكف في الجاهلية ليلة أو يوما عند الكعبة فسأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: «اعتكف وصم». أخرجه أبو داود.
وقال الدارقطني: تفرد به ابن بديل عن عمرو وهو ضعيف. وعن عائشة أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «لا اعتكاف إلا بصيام». قال الدارقطني: تفرد به سويد بن عبد العزيز عن سفيان بن حسين عن الزهري عن عروة عن عائشة. وقالوا: ليس من شرط الصوم عندنا أن يكون للاعتكاف، بل يصح أن يكون الصوم له ولرمضان ولنذر ولغيره، فإذا نذره الناذر فإنما ينصرف نذره إلى مقتضاه في أصل الشرع، وهذا كمن نذر صلاة فإنما تلزمه، ولم يكن عليه أن يتطهر لها خاصة بل يجزئه أن يؤديها بطهارة لغيرها.
الموفية ثلاثين:
وليس للمعتكف أن يخرج من معتكفة إلا لما لأبد له منه، لما روى الأئمة عن عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا اعتكف يدنى إلى رأسه فأرجله، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان، تريد الغائط والبول. ولا خلاف في هذا بين الامة ولا بين الأئمة، فإذا خرج المعتكف لضرورة وما لأبد له منه ورجع في فوره بعد زوال الضرورة بنى على ما مضى من اعتكافه ولا شيء عليه. ومن الضرورة المرض البين والحيض. واختلفوا في خروجه لما سوى ذلك، فمذهب مالك ما ذكرنا، وكذلك مذهب الشافعي وأبى حنيفة.
وقال سعيد بن جبير والحسن والنخعي: يعود المريض ويشهد الجنائز، وروى عن على وليس بثابت عنه. وفرق إسحاق بين الاعتكاف الواجب والتطوع، فقال في الاعتكاف الواجب: لا يعود المريض ولا يشهد الجنائز، وقال في التطوع: يشترط حين يبتدئ حضور الجنائز وعيادة المرضى والجمعة.
وقال الشافعي: يصح اشتراط الخروج من معتكفة لعيادة مريض وشهود الجنائز وغير ذلك من حوائجه. واختلف فيه عن أحمد، فمنع منه مرة، وقال مرة: أرجو ألا يكون به بأس.
وقال الأوزاعي كما قال مالك: لا يكون في الاعتكاف شرط. قال ابن المنذر: لا يخرج المعتكف من اعتكافه إلا لما لأبد له منه، وهو الذي كان النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخرج له.
الحادية والثلاثون: واختلفوا في خروجه للجمعة، فقالت طائفة: يخرج للجمعة ويرجع إذا سلم، لأنه خرج إلى فرض ولا ينتقض اعتكافه. ورواه ابن الجهم عن مالك، وبه قال أبو حنيفة، واختاره ابن العربي وابن المنذر. ومشهور مذهب مالك أن من أراد أن يعتكف عشرة أيام أو نذر ذلك لم يعتكف إلا في المسجد الجامع، وإذا اعتكف في غيره لزمه الخروج إلى الجمعة وبطل اعتكافه.
وقال عبد الملك: يخرج إلى الجمعة فيشهدها ويرجع مكانه ويصح اعتكافه.
قلت: وهو صحيح لقوله تعالى: {وَأَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ} فعم. وأجمع العلماء على أن الاعتكاف ليس بواجب وأنه سنة، وأجمع الجمهور من الأئمة على أن الجمعة فرض على الأعيان، ومتى اجتمع واجبان أحدهما آكد من الأخر قدم الآكد، فكيف إذا اجتمع مندوب وواجب، ولم يقل أحد بترك الخروج إليها، فكان الخروج إليها في معنى حاجة الإنسان.
الثانية والثلاثون: المعتكف إذا أتى كبيرة فسد اعتكافه، لأن الكبيرة ضد العبادة، كما أن الحدث ضد الطهارة والصلاة، وترك حرم الله تعالى عليه أعلى منازل الاعتكاف في العبادة. قاله ابن خويز منداد عن مالك.
الثالثة والثلاثون: روى مسلم عن عائشة قالت: كان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذا أراد أن يعتكف صلى الفجر ثم دخل معتكفة...، الحديث. واختلف العلماء في وقت دخول المعتكف في اعتكافه، فقال الأوزاعي بظاهر هذا الحديث، وروى عن الثوري والليث ابن سعد في أحد قوليه، وبه قال ابن المنذر وطائفة من التابعين.
وقال أبو ثور: إنما يفعل هذا من نذر عشرة أيام، فإن زاد عليها فقبل غروب الشمس.
وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم: إذا أوجب على نفسه اعتكاف شهر، دخل المسجد قبل غروب الشمس من ليلة ذلك اليوم. قال مالك: وكذلك كل من أراد أن يعتكف يوما أو أكثر. وبه قال أبو حنيفة وابن الماجشون عبد الملك، لأن أول ليلة أيام الاعتكاف داخلة فيها، وأنه زمن للاعتكاف فلم يتبعض كاليوم.
وقال الشافعي: إذا قال لله على يوم دخل قبل طلوع الفجر وخروج بعد الغروب الشمس، خلاف قوله في الشهر.
وقال الليث في أحد قوليه وزفر: يدخل قبل طلوع الفجر، والشهر واليوم عندهم سواء.
وروى مثل ذلك عن أبى يوسف، وبه قال القاضي عبد الوهاب، وأن الليلة إنما تدخل في الاعتكاف على سبيل التبع، بدليل أن الاعتكاف لا يكون إلا بصوم وليس الليل بزمن للصوم. فثبت أن المقصود بالاعتكاف هو النهار دون الليل.
قلت: وحديث عائشة يرد هذه الأقوال وهو الحجة عند التنازع، وهو حديث ثابت لا خلاف في صحته.
الرابعة والثلاثون: استحب مالك لمن اعتكف العشر الأواخر أن يبيت ليلة الفطر في المسجد حتى يغدو منه إلى المصلى، وبه قال أحمد.
وقال الشافعي والأوزاعي: يخرج إذا غابت الشمس، ورواه سحنون عن ابن القاسم، لأن العشر يزول بزوال الشهر، والشهر ينقضي بغروب الشمس من آخر يوم من شهر رمضان.
وقال سحنون: إن ذلك على الوجوب، فإن خرج ليلة الفطر بطل اعتكافه.
وقال ابن الماجشون: وهذا يرده ما ذكرنا من انقضاء الشهر، ولو كان المقام ليلة الفطر من شرط صحة الاعتكاف لما صح اعتكاف لا يتصل بليلة الفطر، وفى الإجماع على جواز ذلك دليل على أن مقام ليلة الفطر للمعتكف ليس شرطا في صحة الاعتكاف. فهذه جمل كافية من أحكام الصيام والاعتكاف اللائقة بالآيات، فيها لمن اقتصر عليها كفاية، والله الموفق للهداية.
الخامسة والثلاثون: قوله تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي هذه الأحكام حدود الله فلا تخالفوا، ف {تِلْكَ} إشارة إلى هذه الأوامر والنوهى. والحدود: الحواجز. والحد: المنع، ومنه سمى الحديد حديدا، لأنه يمنع من وصول السلاح إلى البدن. وسمي البواب والسبحان حدادا، لأنه يمنع من في الدار من الخروج منها، ويمنع الخارج من الدخول فيها. وسميت حدود الله لأنها تمنع أن يدخل فيها ما ليس منها، وأن يخرج منها هو منها، ومنها سميت الحدود في المعاصي، لأنها تمنع أصحابهما من العود إلى أمثالها. ومنه سميت الحاد في العدة، لأنها تمتنع من الزينة.
السادسة والثلاثون: قوله تعالى: {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ} أي كما بين هذه الحدود يبين جميع الأحكام لتتقوا مجاوزتها. والآيات: العلامات الهادية إلى الحق. و{لَعَلَّهُمْ} ترج في حقهم، فظاهر ذلك عموم ومعناه خصوص فيمن يسره الله للهدى، بدلالة الآيات التي تتضمن أن الله يضل من يشاء.