فصل: تفسير الآية رقم (188):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (188):

{وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)}
فيه ثماني مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ} قيل: إنه نزل في عبدان ابن أشوع الحضرمي، ادعى ملا امرئ القيس الكندي واختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فأنكر امرؤ القيس وأراد أن يحلف فنزلت الآية، فكف عن اليمين وحكم عبدان في أرضه ولم يخاصمه.
الثانية: الخطاب بهذه الآية يتضمن جميع أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والمعنى: لا يأكل بعضكم مال بعض بغير حق. فيدخل في هذا: القمار والخداع والغصوب وجحد الحقوق، وما لا تطيب به نفس مالكه، أو حرمته الشريعة وإن طابت به نفس مالكه، كهر البغي وحلوان الكاهن وأثمان الخمور والخنازير وغير ذلك. ولا يدخل فيه الغبن في البيع مع معرفة البائع بحقيقة ما باع لان الغبن كأنه هبة، على ما يأتي بيانه في سورة النساء. وأضيفت الأموال إلى ضمير المنتهى لما كان كل واحد منهما منهيا ومنهيا عنه، كما قال: {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ}.
وقال قوم: المراد بالآية {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ} أي في الملاهي والقيان والشرب والبطالة، فيجيء على هذا إضافة المال إلى ضمير المالكين.
الثالثة: من أخذ مال غيره لا على وجه إذن الشرع فقد أكله بالباطل، ومن الأكل بالباطل أن يقتضى القاضي لك وأنت تعلم أنك مبطل، فالحرام لا يصير حلالا بقضاء القاضي، لأنه إنما يقضى بالظاهر. وهذا إجماع في الأموال، وإن كان عند أبى حنيفة قضاؤه ينفذ في الفروج باطنا، وإذا كان قضاء القاضي لا يغير حكم الباطن في الأموال فهو في الفروج أولى.
وروى الأئمة عن أم سلمة قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إنكم تختصمون إلى ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو مما أسمع فمن قطعت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من نار- في رواية- فليحملها أو يذرها». وعلى القول بهذا الحديث جمهور العلماء وأئمة الفقهاء. وهو نص في أن حكم الحاكم على الظاهر لا يغير حكم الباطن، وسواء كان ذلك في الأموال والدماء والفروج، إلا ما حكى عن أبى حنيفة في الفروج، وزعم أنه لو شهد شاهدا زور على رجل بطلاق زوجته وحكم الحاكم بشهادتهما لعدالتهما عنده فإن فرجها يحل لمتزوجها- ممن يعلم أن القضية باطل- بعد العدة. وكذلك لو تزوجها أحد الشاهدين جاز عنده، لأنه لما حلت للأزواج في الظاهر كان الشاهد وغيره سواء، لأن قضاء القاضي قطع عصمتها، وأحدث في ذلك التحليل والتحريم في الظاهر والباطن جميعا، ولولا ذلك ما حلت للأزواج. واحتج بحكم اللعان وقال: معلوم أن الزوجة إنما وصلت إلى فراق زوجها باللعان الكاذب، الذي لو علم الحاكم كذبها فيه لحدها وما فرق بينهما، فلم يدخل هذا في عموم قوله عليه السلام: «فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه» الحديث.
الرابعة: وهذه الآية مستمك كل مؤالف ومخالف في كل حكم يدعونه لأنفسهم بأنه لا يجوز، فيستدل عليه بقوله تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ}. فجوابه أن يقال له: لا نسلم أنه باطل حتى تبينه بالدليل، وحينئذ يدخل في هذا العموم، فهي دليل على أنه الباطل في المعاملات لا يجوز، وليس فيها تعيين الباطل.
الخامسة: قوله تعالى: {بِالْباطِلِ} الباطل في اللغة: الذاهب الزائل، يقال: بطل يبطل بطولا وبطلانا، وجمع الباطل بواطل. والأباطل جمع البطولة. وتبطل أي اتبع اللهو. وأبطل فلان إذا جاء بالباطل. وقوله تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ} قال قتادة: هو إبليس، لا يزيد في القرآن ولا ينقض. وقوله: {وَيَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ} يعني الشرك. والبطلة: السحرة.
السادسة: قوله تعالى: {وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ} الآية. قيل: يعني الوديعة وما لا تقوم فيه بينة، عن ابن عباس والحسن.
وقيل: هو مال اليتيم الذي في أيدي الأوصياء، يرفعه إلى الحكام إذا طولب به ليقطع بعضه وتقوم له في الظاهر حجة.
وقال الزجاج: تعملون ما يوجبه ظاهر الأحكام وتتركون ما علمتم أنه الحق. يقال: أدلى الرجل بحجته أو بالأمر الذي يرجو النجاح به، تشبيها بالذي يرسل الدلو في البئر، يقال: أدلى دلوه: أرسلها. ودلاها: أخرجها. وجمع الدلو والدلاء: أدل ودلاء ودلى. والمعنى في الآية: لا تجمعوا بين أكل المال بالباطل وبين الأدلاء إلى الحكام بالحجج الباطلة، وهو كقوله: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ}. وهو من قبيل قولك: لا تأكل السمك وتشرب اللبن.
وقيل: المعنى لا تصانعوا بأموالكم الحكام وترشوهم ليقضوا لكم على أكثر منها، فالياء الزاق مجرد. قال ابن عطية: وهذا القول يترجح، لأن الحكام مظنة الرشاء إلا من عصم وهو الأقل. وأيضا فإن اللفظين متناسبان: تدلوا من إرسال الدلو، والرشوة من الرشاء، كأنه يمد بها ليقضى الحاجة.
قلت: ويقوى هذا قوله: {وَتُدْلُوا بِها} تدلوا في موضع جزم عطفا على تأكلوا كما ذكرنا. وفى مصحف أبى {ولا تدلوا} بتكرار حرف النهى، وهذه القراءة تؤيد جزم {تُدْلُوا} في قراءة الجماعة.
وقيل: {تُدْلُوا} في موضع نصب على الظرف، والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه أن مضمرة. والهاء في قوله: {بها} ترجع إلى الأموال، وعلى القول الأول إلى الحجة ولم يجر لها ذكر: فقوى القول الثاني لذكر الأموال، والله أعلم. في الصحاح: والرشوة معروفة، والرشوة بالضم مثله، والجمع رشى ورشى، وقد رشاه يرشوه. وارتشى: أخذ الرشوة. واسترشى في حكمه: طلب الرشوة عليه. قلت- فالحكام اليوم عين الرشاء لا مظنته، ولا حول ولا قوة إلا بالله!.
السابعة: قوله تعالى: {لِتَأْكُلُوا} نصب بلام كي. {فَرِيقاً} أي قطعة وجزاء، فعبر عن الفريق بالقطعة والبعض. والفريق: القطعة من الغنم تشذ عن معظمها.
وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، التقدير لتأكلوا أموال فريق من الناس. {بِالْإِثْمِ} معناه بالظلم والتعدي، وسمي ذلك إثما لما كان الإثم يتعلق بفاعله. {وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي بطلان ذلك وإثمه، وهذه مبالغة في الجرأة والمعصية.
الثامنة: اتفق أهل السنة على أن من أخذ ما وقع عليه اسم مال قل أو كثر أنه يفسق بذلك، وأنه محرم عليه أخذه. خلافا لبشر بن المعتمر ومن تابعه من المعتزلة حيث قالوا: إن المكلف لا يفسق إلا بأخذ مائتي درهم ولا يفسق بدون ذلك. وخلافا لابن الجبائى حيث قال: إنه يفسق بأخذ عشرة دراهم ولا يفسق بدونها. وخلافا لابن الهذيل حيث قال: يفسق بأخذ خمسة دراهم: وخلافا لبعض قدرية البصرة حيث قال: يفسق بأخذ درهم فما فوق، ولا يفسق بما دون ذلك. وهذا كله مردود بالقرآن والسنة وباتفاق علماء الامة، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام» الحديث، متفق على صحته.

.تفسير الآية رقم (189):

{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَلكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)}
فيه اثنتا عشرة مسألة:
الأولى: قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ} هذا مما سأل عنه اليهود واعترضوا به على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال معاذ: يا رسول الله، إن اليهود تغشانا ويكثرون مسألتنا عن الأهلة، فما بال الهلال يبدو دقيقا ثم يزيد حتى يستوي ويستدير، ثم ينتقص حتى يعود كما كان؟ فأنزل الله هذه الآية.
وقيل: إن سبب نزولها سؤال قوم من المسلمين النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الهلال وما سبب محاقه وكماله ومخالفته لحال الشمس، قاله ابن عباس وقتادة والربيع وغيرهم.
الثانية: قوله تعالى: {عَنِ الْأَهِلَّةِ} الأهلة جمع الهلال، وجمع وهو واحد في الحقيقة من حيث كونه هلالا واحدا في شهر، غير كونه هلالا في آخر، فإنما جمع أحواله من الأهلة. ويريد بالأهلة شهورها، وقد يعبر بالهلال عن الشهر لحلول فيه، كما قال:
أخوان من نجد على ثقة ** والشهر مثل قلامة الظفر

وقيل: سمي شهرا لان الأيدي تشهر بالإشارة إلى موضع الرؤية ويدلون عليه. ويطلق لفظ الهلال لليلتين من آخر الشهر، وليلتين من أوله.
وقيل: لثلاث من أوله.
وقال الأصمعي: هو هلال حتى يحجر ويستدير له كالخيط الرقيق.
وقيل: بل هو هلال حتى يبهر بضوئه السماء، وذلك ليلة سبع. قال أبو العباس: وإنما قيل له هلال لان الناس يرفعون أصواتهم بالأخبار عنه. ومنه استهل الصبي إذا ظهرت حياته بصراخه. واستهل وجهه فرحا وتهلل إذا ظهر فيه السرور. قال أبو كبير:
وإذا نظرت إلى أسرة وجهه ** برقت كبرق العارض المتهلل

ويقال: أهللنا الهلال إذا دخلنا فيه. قال الجوهري: وأهل الهلال واستهل على ما لم يسم فاعله. ويقال أيضا: استهل بمعنى تبين، ولا يقال: أهل ويقال: أهللنا عن ليلة كذا، ولا يقال: أهللناه فهل، كما يقال: أدخلناه فدخل، وهو قياسه: قال أبو نصر عبد الرحيم القشيري في تفسيره: ويقال: أهل الهلال واستهل وأهللنا الهلال واستهللنا.
الثالثة: قال علماؤنا: من حلف ليقضين غريمه أو ليفعلن كذا في الهلال أو رأس الهلال أو عند الهلال، ففعل ذلك بعد رؤية الهلال بيوم أو يومين لم يحنث. وجميع الشهور تصلح لجميع العبادات والمعاملات على ما يأتي.
قوله تعالى: {قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} تبيين لوجه الحكمة في زيادة القمر ونقصانه، وهو زوال الاشكال في الآجال والمعاملات والايمان والحج والعدد والصوم والفطر ومدة الحمل والإجارات والاكرية، إلى غير ذلك من مصالح العباد. ونظيره قوله الحق: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ} [الإسراء: 12] على ما يأتي. وقوله: {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ} [يونس: 5]. وإحصاء الأهلة أيسر من إحصاء الأيام.
الرابعة: وبهذا الذي قررناه يرد على أهل الظاهر ومن قال بقولهم: إن المساقاة تجوز إلى الأجل المجهول سنين غير معلومة، واحتجوا بأن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عامل اليهود على شطر الزرع والنخل ما بدا لرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غير توقيت. وهذا لا دليل فيه، لأنه عليه السلام قال لليهود: «أقركم فيها ما أقركم الله». وهذا أدل دليل وأوضح سبيل على أن ذلك خصوص له، فكان ينتظر في ذلك القضاء من ربه، وليس كذلك غيره. وقد أحكمت الشريعة معاني الإجارات وسائر المعاملات، فلا يجوز شيء منها إلا على ما أحكمه الكتاب والسنة، وقال به علماء الامة.
الخامسة: قوله تعالى: {مَواقِيتُ} المواقيت: جميع الميقات وهو الوقت.
وقيل: الميقات منتهى الوقت. و{مَواقِيتُ} لا تنصرف، لأنه جمع لا نظير له في الآحاد، فهو جمع ونهاية جمع، إذ ليس يجمع فصار كأن الجمع تكرر فيها. وصرفت قوارير في قوله: {قَوارِيرَا} [الإنسان: 16] لأنها وقعت في رأس آية فنونت كما تنون القوافي، فليس هو تنوين الصرف الذي يدل على تمكن الاسم.
السادسة: قوله تعالى: {وَالْحَجِّ} بفتح الحاء قراءة الجمهور. وقرأ ابن أبي إسحاق بالكسر في جميع القرآن، وفي قوله: {حِجُّ الْبَيْتِ في} [آل عمران: 97] في آل عمران. سيبويه: الحج كالرد والشد، والحج كالذكر، فهما مصدران بمعنى وقيل: الفتح مصدر، والكسر الاسم.
السابعة: أفرد سبحانه الحج بالذكر لأنه مما يحتاج فيه إلى معرفة الوقت، وأنه لا يجوز النسي فيه عن وقته، بخلاف ما رأته العرب، فإنها كانت تحج بالعدد وتبدل الشهور، فأبطل الله قولهم وفعلهم، على ما يأتي بيانه في براءة إن شاء الله تعالى.
الثامنة: استدل مالك رحمه الله وأبو حنيفة وأصحابهما في أن الإحرام بالحج يصح في غير أشهر الحج بهذه الآية، لأن الله تعالى جعل الأهلة كلها ظرفا لذلك، فصح أن يحرم في جميعها بالحج، وخالف في ذلك الشافعي، لقوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ} [البقرة: 197] على ما يأتي. وأن معنى هذه الآية أن بعضها مواقيت للناس، وبعضها مواقيت للحج، وهذا كما تقول: الجارية لزيد وعمرو، وذلك يقضي أن يكون بعضها لزيد وبعضها لعمرو، ولا يجوز أن يقال: جميعها لزيد وجميعها لعمرو. والجواب أن يقال: إن ظاهر قوله: {هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} يقتضي كون جميعها مواقيت للناس وجميعها مواقيت للحج، ولو أراد التبعيض لقال: بعضها مواقيت للناس وبعضها مواقيت للحج. وهذا كما تقول: إن شهر رمضان ميقات لصوم زيد وعمرو. ولا خلاف أن المراد بذلك أن جميعه ميقات لصوم كل واحد منهما. وما ذكروه من الجارية فصحيح، لأن كونها جمعاء لزيد مع كونها جمعاء لعمرو مستحيل، وليس كذلك في مسألتنا، فإن الزمان يصح أن يكون ميقاتا لزيد وميقاتا لعمرو، فبطل ما قالوه.
التاسعة: لا خلاف بين العلماء أن من باع معلوما من السلع بثمن معلوم إلى أجل معلوم من شهور العرب أو إلى أيام معروفة العدد أن البيع جائز. وكذلك قالوا في السلم إلى الأجل المعلوم. واختلفوا في من باع إلى الحصاد أو إلى الدياس أو إلى العطاء وشبه ذلك، فقال مالك: ذلك جائز لأنه معروف، وبه قال أبو ثور.
وقال أحمد: أرجو ألا يكون به بأس. وكذلك إلى قدوم الغزاة. وعن ابن عمر أنه كان يبتاع إلى العطاء. وقالت طائفة. ذلك غير جائز، لأن الله تعالى وقت المواقيت وجعلها علما لآجالهم في بياعاتهم ومصالحهم. كذلك قال ابن عباس، وبه قال الشافعي والنعمان. قال ابن المنذر: قول ابن عباس صحيح.
العاشرة: إذا رؤي الهلال كبيرا فقال علماؤنا: لا يعول على كبره ولا على صغره وإنما هو ابن ليلته. روى مسلم عن أبي البختري قال: خرجنا للعمرة فلما نزلنا ببطن نخلة قال: تراءينا الهلال، فقال بعض القوم: هو ابن ثلاث، وقال بعض القوم: هو ابن ليلتين. قال: فلقينا ابن عباس فقلنا: إنا رأينا الهلال فقال بعض القوم هو ابن ثلاث، وقال بعض القوم هو ابن ليلتين. فقال: أي ليلة رأيتموه؟ قال فقلنا: ليلة كذا وكذا. فقال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله مده للرؤية» فهو لليلة رأيتموه.
الحادية عشرة: قوله تعالى: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها} اتصل هذا بذكر مواقيت الحج لاتفاق وقوع القضيتين في وقت السؤال عن الأهلة وعن دخول البيوت من ظهورها، فنزلت الآية فيهما جميعا. وكان الأنصار إذا حجوا وعادوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم، فإنهم كانوا إذا أهلوا بالحج أو العمرة يلتزمون شرعا ألا يحول بينهم وبين السماء حائل، فإذا خرج الرجل منهم بعد ذلك، أي من بعد إحرامه من بيته، فرجع لحاجة لا يدخل من باب الحجرة من أجل سقف البيت أن يحول بينه وبين السماء، فكان يتسنم ظهر بيته على الجدران ثم يقوم في حجرته فيأمر بحاجته فتخرج إليه من بيته. فكانوا يرون هذا من النسك والبر، كما كانوا يعتقدون أشياء نسكا، فرد عليهم فيها، وبين الرب تعالى أن البر في امتثال أمره.
وقال ابن عباس في رواية أبي صالح: كان الناس في الجاهلية وفي أول الإسلام إذا أحرم رجل منهم بالحج فإن كان من أهل المدر- يعني من أهل البيوت- نقب في ظهر بيته فمنه يدخل ومنه يخرج، أو يضع سلما فيصعد منه وينحدر عليه. وإن كان من أهل الوبر- يعني أهل الخيام- يدخل من خلف الخيام الخيمة، إلا من كان من الحمس.
وروى الزهري أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أهل زمن الحديبية بالعمرة فدخل حجرته ودخل خلفه رجل أنصاري من بني سلمة، فدخل وخرق عادة قومه، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لم دخلت وأنت قد أحرمت». فقال: دخلت أنت فدخلت بدخولك. فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إني أحمس» أي من قوم لا يدينون بذلك. فقال له الرجل: وأنا ديني دينك، فنزلت الآية، وقاله ابن عباس وعطاء وقتادة.
وقيل: إن هذا الرجل هو قطبة بن عامر الأنصاري. والحمس: قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وجشم وبنو عامر بن صعصعة وبنو نصر ابن معاوية. وسموا حمسا لتشديدهم في دينهم. والحماسة الشدة. قال العجاج: وكم قطعنا من قفاف حمس أي شداد. ثم اختلفوا في تأويلها، فقيل ما ذكرنا، وهو الصحيح.
وقيل: إنه النسي وتأخير الحج به، حتى كانوا يجعلون الشهر الحلال حراما بتأخير الحج إليه، والشهر الحرام حلالا بتأخير الحج عنه، فيكون ذكر البيوت على هذا مثلا لمخالفة الواجب في الحج وشهوره.
وسيأتي بيان النسي في سورة براءة إن شاء الله تعالى.
وقال أبو عبيدة: الآية ضرب مثل، المعنى ليس البر أن تسألوا الجهال ولكن اتقوا الله واسألوا العلماء، فهذا كما تقول: أتيت هذا الامر من بابه.
وحكى المهدوي ومكي عن ابن الأنباري، والماوردي عن ابن زيد أن الآية مثل في جماع النساء، أمر بإتيانهن في القبل لا من الدبر. وسمي النساء بيوتا للايواء إليهن كالايواء إلى البيوت. قال ابن عطية: وهذا بعيد مغير نمط الكلام.
وقال الحسن: كانوا يتطيرون، فمن سافر ولم تحصل حاجته كان يأتي بيته من وراء ظهره تطيرا من الخيبة، فقيل لهم: ليس في التطير بر، بل البر أن تتقوا الله وتتوكلوا عليه.
قلت: القول الأول أصح هذه الأقوال، لما رواه البراء قال: كان الأنصار إذا حجوا فرجعوا لم يدخلوا البيوت من أبوابها، قال: فجاء رجل من الأنصار فدخل من بابه، فقيل له في ذلك، فنزلت هذه الآية: {وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها} وهذا نص في البيوت حقيقة. خرجه البخاري ومسلم. وأما تلك الأقوال فتؤخذ من موضع آخر لا من الآية، فتأمله. وقد قيل: إن الآية خرجت مخرج التنبيه من الله تعالى على أن يأتوا البر من وجهه، وهو الوجه الذي أمر الله تعالى به، فذكر إتيان البيوت من أبوابها مثلا ليشير به إلى أن نأتي الأمور من مأتاها الذي ندبنا الله تعالى إليه.
قلت: فعلى هذا يصح ما ذكر من الأقوال. والبيوت جمع بيت، وقرى بضم الباء وكسرها. وتقدم معنى التقوى والفلاح ولعل، فلا معنى للإعادة.
الثانية عشرة: في هذه الآية بيان أن ما لم يشرعه الله قربة ولا ندب إليه لا يصير قربة بأن يتقرب به متقرب. قال ابن خويز منداد: إذا أشكل ما هو بر وقربة بما ليس هو بر وقربة أن ينظر في ذلك العمل، فإن كان له نظير في الفرائض والسنن فيجوز أن يكون، وإن لم يكن فليس ببر ولا قربة. قال: وبذلك جاءت الإثار عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وذكر حديث ابن عباس قال: بينما رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يخطب إذا هو برجل قائم في الشمس فسأل عنه، فقالوا: هو أبو إسرائيل، نذر أن يقوم ولا يقعد ولا يستظل ولا يتكلم ويصوم. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مروه فليتكلم وليستظل وليقعد وليتم صومه». فأبطل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما كان غير قربة مما لا أصل له في شريعته، وصحح ما كان قربة مما له نظير في الفرائض والسنن.