فصل: تفسير الآيات (7- 12):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (7- 12):

{وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)}
قوله تعالى: {وَكُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً} أي أصنافا ثلاثة كل، صنف يشاكل ما هو منه، كما يشاكل الزوج الزوجة، ثم بين من هم فقال: {فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ} {وَأَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ} و{السَّابِقُونَ}، فأصحاب الميمنة هم الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة، وأصحاب المشأمة هم الذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار، قاله السدي. والمشأمة الميسرة وكذلك الشأمة. يقال: قعد فلان شأمة. ويقال: يا فلان شائم بأصحابك، أي خذ بهم شأمة أي ذات الشمال. والعرب تقول لليد الشمال الشؤمى، وللجانب الشمال الأشأم. وكذلك يقال لما جاء عن اليمين اليمن، ولما جاء عن الشمال الشؤم.
وقال ابن عباس والسدي: أصحاب الميمنة هم الذين كانوا عن يمين آدم حين أخرجت الذرية من صلبه فقال الله لهم: هؤلاء في الجنة ولا أبالي.
وقال زيد بن أسلم: أصحاب الميمنة هم الذين أخذوا من شق آدم الأيمن يومئذ، وأصحاب المشأمة الذين أخذوا من شق آدم الأيسر.
وقال عطاء ومحمد بن كعب: أصحاب الميمنة من أوتي كتابه بيمينه، وأصحاب المشأمة من أوتي كتابه بشماله.
وقال ابن جريج: أصحاب الميمنة هم أهل الحسنات، وأصحاب المشأمة هم أهل السيئات.
وقال الحسن والربيع: أصحاب الميمنة الميامين على أنفسهم بالأعمال الصالحة، وأصحاب المشأمة المشائيم علي أنفسهم بالأعمال السيئة القبيحة.
وفي صحيح مسلم من حديث الاسراء عن أبي ذر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة- قال- فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى- قال- فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح- قال- قلت يا جبريل من هذا قال هذا آدم عليه السلام وهذه الاسودة التي عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار» وذكر الحديث.
وقال المبرد: وأصحاب الميمنة أصحاب التقدم، وأصحاب المشأمة أصحاب التأخر. والعرب تقول: اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك، أي اجعلني من المتقدمين ولا تجعلنا من المتأخرين. والتكرير في {ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ}. و{ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ} للتفخيم والتعجيب، كقوله: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} و{الْقارِعَةُ مَا الْقارِعَةُ} كما يقال: زيد ما زيد! وفي حديث أم زرع رضي الله عنها: مالك وما مالك! والمقصود تكثير ما لأصحاب الميمنة من الثواب ولأصحاب المشأمة من العقاب.
وقيل: {فَأَصْحابُ} رفع بالابتداء والخبر {ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ} كأنه قال: {فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ} ما هم، المعنى: أي شيء هم.
وقيل: يجوز أن تكون {ما} تأكيدا، والمعنى فالذين يعطون كتابهم بأيمانهم هم أصحاب التقدم وعلو المنزلة. قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ} روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «السابقون الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا سئلوه بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم» ذكره المهدوي.
وقال محمد بن كعب القرظي: إنهم الأنبياء. الحسن وقتادة: السابقون إلى الايمان من كل أمة. ونحوه عن عكرمة. محمد بن سيرين: هم الذين صلوا إلى القبلتين، دليله قوله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ}.
وقال مجاهد وغيره: هم السابقون إلى الجهاد، وأول الناس رواحا إلى الصلاة.
وقال علي رضي الله عنه: هم السابقون إلى الصلوات الخمس. الضحاك: إلى الجهاد. سعيد بن جبير: إلى التوبة وأعمال البر، قال الله تعالى: {وَسارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ} ثم أثنى عليهم فقال: {أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَهُمْ لَها سابِقُونَ}.
وقيل: إنهم أربعة، منهم سابق أمة موسى وهو حزقيل مؤمن آل فرعون، وسابق أمة عيسى وهو حبيب النجار صاحب أنطاكية، وسابقان في أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهما أبو بكر وعمر رضي الله عنهما، قاله ابن عباس، حكاه الماوردي.
وقال شميط بن العجلان: الناس ثلاثة، فرجل ابتكر للخير في حداثة سنه داوم عليه حتى خرج من الدنيا فهذا هو السابق المقرب، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ثم طول الغفلة ثم رجع بتوبته حتى ختم له بها فهذا من أصحاب اليمين، ورجل ابتكر عمره بالذنوب ثم لم يزل عليها حتى ختم له بها فهذا من أصحاب الشمال.
وقيل: هم كل من سبق إلى شيء من أشياء الصلاح. ثم قيل: {السَّابِقُونَ} رفع بالابتداء والثاني توكيد له والخبر {أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ}.
وقال الزجاج: {السَّابِقُونَ} رفع بالابتداء والثاني خبره، والمعنى السابقون إلى طاعة الله هم السابقون إلى رحمة الله {أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} من صفتهم.
وقيل: إذا خرج رجل من السابقين المقربين من منزله في الجنة كان له ضوء يعرفه به من دونه.

.تفسير الآيات (13- 16):

{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16)}
قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} أي جماعة من الأمم الماضية. {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} أي ممن آمن بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قال الحسن: ثلة ممن قد مضى قبل هذه الامة، وقليل من أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، اللهم اجعلنا منهم بكرمك. وسموا قليلا بالإضافة إلى من كان قبلهم، لان الأنبياء المتقدمين كثروا فكثر السابقون إلى الايمان منهم، فزادوا على عدد من سبق إلى التصديق من أمتنا.
وقيل: لما نزل هذا شق على أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فنزلت: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة بل ثلث أهل الجنة بل نصف أهل الجنة وتقاسمونهم في النصف الثاني» رواه أبو هريرة، ذكره الماوردي وغيره. ومعناه ثابت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن مسعود. وكأنه أراد أنها منسوخة والأشبه أنها محكمة لأنها خبر، ولان ذلك في جماعتين مختلفتين. قال الحسن: سابقو من مضي أكثر من سابقينا، فلذلك قال: {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} وقال في أصحاب اليمين وهم سوى السابقين: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ. وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} ولذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إني لأرجو أن تكون أمتي شطر أهل الجنة» ثم تلا قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} قال مجاهد: كل من هذه الأمة.
وروى سفيان عن أبان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الثلتان جميعا من أمتي» يعني {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ}. وروي هذا القول عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه. قال أبو بكر رضي الله عنه: كلا الثلتين من أمة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فمنهم من هو في أول أمته، ومنهم من هو في آخرها، وهو مثل قوله تعالى: {فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ}.
وقيل: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} أي من أول هذه الامة. {وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} يسارع في الطاعات حتى يلحق درجة الأولين، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «خيركم قرني» ثم سوى في أصحاب اليمين بين الأولين والآخرين. والثلة من ثللت الشيء أي قطعته، فمعنى ثلة كمعنى فرقة، قاله الزجاج. قوله تعالى: {عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} أي السابقون في الجنة {عَلى سُرُرٍ}، أي مجالسهم على سرر جمع سرير. {مَوْضُونَةٍ} قال ابن عباس: منسوجة بالذهب.
وقال عكرمة: مشبكة بالدر والياقوت. وعن ابن عباس أيضا: {مَوْضُونَةٍ} مصفوفة، كما قال في موضع آخر: {عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ}. وعنه أيضا وعن مجاهد: مرمولة بالذهب.
وفي التفاسير: مَوْضُونَةٍ أي منسوجة بقضبان الذهب مشبكة بالدر والياقوت والزبرجد. والوضن النسج المضاعف والنضد، يقال: وضن فلان الحجر والآجر بعضه فوق بعض فهو موضون، ودرع موضونة أي محكمة في النسج مثل مصفوفة، قال الأعشى:
ومن نسج داود موضونة ** تساق مع الحي عيرا فعيرا

وقال أيضا:
وبيضاء كالنهي موضونة ** لها قونس فوق جيب البدن

والسرير الموضون: الذي سطحه بمنزلة المنسوج، ومنه الوضين: بطان من سيور ينسج فيدخل بعضه في بعض، ومنه قوله: إليك تعدو قلقا وضينها {مُتَّكِئِينَ عَلَيْها} أي على السرر {مُتَقابِلِينَ} أي لا يرى بعضهم قفا بعض، بل تدور بهم الأسرة، وهذا في المؤمن وزوجته واهلة، أي يتكئون متقابلين. قاله مجاهد وغيره.
وقال الكلبي: طول كل سرير ثلاثمائة ذراع، فإذا أراد العبد أن يجلس عليها تواضعت فإذا جلس عليها ارتفعت.

.تفسير الآيات (17- 26):

{يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَلا يُنْزِفُونَ (19) وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)}
قوله تعالى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ} أي غلمان لا يموتون، قاله مجاهد. الحسن والكلبي: لا يهرمون ولا يتغيرون، ومنه قول امرئ القيس:
وهل ينعمن إلا سعيد مخلد ** قليل الهموم ما يبيت بأوجال

وقال سعيد بن جبير: مخلدون مقرطون، يقال للقرط الخلدة ولجماعة الحلي الخلدة.
وقيل: مسورون ونحوه عن الفراء، قال الشاعر:
ومخلدات باللجين كأنما ** أعجازهن أقاوز الكثبان

وقيل: مقرطون يعني ممنطقون من المناطق.
وقال عكرمة: {مُخَلَّدُونَ} منعمون.
وقيل: على سن واحدة أنشأهم الله لأهل الجنة يطوفون عليهم كما شاء من غير ولادة.
وقال علي ابن أبي طالب رضي الله عنه والحسن البصري: الولدان ها هنا ولدان المسلمين الذين يموتون صغارا ولا حسنة لهم ولا سيئة.
وقال سلمان الفارسي: أطفال المشركين هم خدم أهل الجنة. قال الحسن: لم يكن لهم حسنات يجزون بها، ولا سيئات يعاقبون عليها، فوضعوا في هذا الموضع. والمقصود: أن أهل الجنة على أتم السرور والنعمة، والنعمة إنما تتم باحتفاف الخدم والولدان بالإنسان. {بِأَكْوابٍ وَأَبارِيقَ} أكواب جمع كوب وقد مضى في الزخرف وهي الآنية التي لا عرى لها ولا خراطيم، والأباريق التي لها عرى وخراطيم واحدها إبريق، سمي بذلك لأنه يبرق لونه من صفائه. {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ} مضى في والصافات القول فيه. والمعين الجاري من ماء أو خمر، غير أن المراد في هذا الموضع الخمر الجارية من العيون.
وقيل: الظاهرة للعيون فيكون {مَعِينٍ} مفعولا من المعاينة.
وقيل: هو فعيل من المعن وهو الكثرة. وبين أنها ليست كخمر الدنيا التي تستخرج بعصر وتكلف ومعالجة. قوله تعالى: {لا يُصَدَّعُونَ عَنْها} أي لا تنصدع رؤوسهم من شربها، أي إنها لذة بلا أذى بخلاف شراب الدنيا. {وَلا يُنْزِفُونَ} تقدم في والصافات أي لا يسكرون فتذهب عقولهم. وقرأ مجاهد: {لا يُصَدَّعُونَ} بمعنى لا يتصدعون أي لا يتفرقون، كقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ}. وقرأ أهل الكوفة {يُنْزِفُونَ} بكسر الزاي، أي لا ينفد شرابهم ولا تقنى خمرهم، ومنه قول الشاعر:
لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم ** لبئس الندامى كنتم آل أبجرا

وروى الضحاك عن ابن عباس قال: في الخمر أربع خصال: السكر والصداع والقيء والبول، وقد ذكر الله تعالى خمر الجنة فنزهها عن هذه الخصال. قوله تعالى: {وَفاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ} أي يتخيرون ما شاءوا لكثرتها.
وقيل: وفاكهة متخيرة مرضية، والتخير الاختيار. {وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} روى الترمذي عن أنس بن مالك قال: سئل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما الكوثر؟ قال: «ذاك نهر أعطانيه الله تعالى- يعني في الجنة- أشد بياضا من اللبن أحلى من العسل فيه طير أعناقها كأعناق الجزر» قال عمر: إن هذه لناعمة، قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أكلتها أحسن منها» قال: حديث حسن. وخرجه الثعلبي من حديث أبي الدرداء أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن في الجنة طيرا مثل أعناق البخت تصطف على يد ولي الله فيقول أحدها يا ولي الله رعيت في مروج تحت العرش وشربت من عيون التسنيم فكل مني فلا يزلن يفتخرن بين يديه حتى يخطر على قلبه أكل أحدها فتخر بين يديه على ألوان مختلفة فيأكل منها ما أراد فإذا شبع تجمع عظام الطائر فطار يرعى في الجنة حيث شاء» فقال عمر: يا نبي الله إنها لنا عمة. فقال: «آكلها أنعم منها». وروي عن أبي سعيد الخدري أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن في الجنة لطيرا في الطائر منها سبعون ألف ريشة فيقع على صحفة الرجل من أهل الجنة ثم ينتفض فيخرج من كل ريشة لون طعام أبيض من الثلج وأبرد والين من الزبد وأعذب من الشهد ليس فيه لون يشبه صاحبه فيأكل منه ما أراد ثم يذهب فيطير». قوله تعالى: {وَحُورٌ عِينٌ} قرئ بالرفع والنصب والجر، فمن جر وهو حمزة والكسائي وغيرهما جاز أن يكون معطوفا على {بِأَكْوابٍ} وهو محمول على المعنى، لان المعنى يتنعمون بأكواب وفاكهة ولحم وحور، قاله الزجاج. وجاز أن يكون معطوفا على {جَنَّاتِ} أي هم في {جَنَّاتِ النَّعِيمِ} وفي حُورٌ على تقدير حذف المضاف، كأنه قال: وفي معاشرة حور. الفراء: الجر على الاتباع في اللفظ وإن اختلفا في المعنى، لان الحور لا يطاف بهن، قال الشاعر:
إذا ما الغانيات برزن يوما ** وزججن الحواجب والعيونا

والعين لا تزجج وإنما تكحل.
وقال آخر:
ورأيت زوجك في الوغى ** متقلدا سيفا ورمحا

وقال قطرب: هو معطوف على الأكواب والأباريق من غير حمل على المعنى. قال: ولا ينكر أن يطاف عليهم بالحور ويكون لهم في ذلك لذة. ومن نصب وهو الأشهب العقيلي والنخعي وعيسى بن عمر الثقفي وكذلك هو في مصحف أبي، فهو على تقدير إضمار فعل، كأنه قال: ويزوجون حورا عينا. والحمل في النصب على المعنى أيضا حسن، لان معنى يطاف عليهم به يعطونه. ومن رفع وهم الجمهور- وهو اختيار أبي عبيد وأبي حاتم- فعلى معنى وعندهم حور عين، لأنه لا يطاف عليهم بالحور.
وقال الكسائي: ومن قال: {وَحُورٌ عِينٌ} بالرفع وعلل بأنه لا يطاف بهن يلزمه ذلك في فاكهة ولحم، لان ذلك لا يطاف به وليس يطاف إلا بالخمر وحدها.
وقال الأخفش: يجوز أن يكون محمولا على المعنى، لان المعنى لهم أكواب ولهم حور عين. وجاز أن يكون معطوفا على {ثُلَّةٌ} و{ثُلَّةٌ} ابتداء وخبره {عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ} وكذلك {وَحُورٌ عِينٌ} وابتدأ بالنكرة لتخصيصها بالصفة. {كَأَمْثالِ} أي مثل أمثال {اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ} أي الذي لم تمسه الأيدي ولم يقع عليه الغبار فهو أشد ما يكون صفاء وتلألؤا، أي هن في تشاكل أجسادهن في الحسن من جميع جوانبهن كما قال الشاعر:
كأنما خلقت في قشر لؤلؤة ** فكل أكنافها وجه لمرصاد

{جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ} أي ثوابا ونصبه على المفعول له. ويجوز أن يكون على المصدر، لان معنى {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ} يجازون. وقد مضى الكلام في الحور العين في {والطور} وغيرها.
وقال أنس: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خلق الله الحور العين من الزعفران» وقال خالد بن الوليد: سمعت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «إن الرجل من أهل الجنة ليمسك التفاحة من تفاح الجنة فتنفلق في يده فتخرج منها حوراء لو نظرت للشمس لاخجلت الشمس من حسنها من غير أن ينقص من التفاحة» فقال له رجل: يا أبا سليمان إن هذا لعجب ولا ينقص من التفاحة؟ قال: نعم كالسراج الذي يوقد منه سراج آخر وسرج ولا ينقص، والله على ما يشاء قدير. وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: خلق الله الحور العين من أصابع رجليها إلى ركبتيها من الزعفران، ومن ركبتيها إلى ثدييها من المسك الأذفر، ومن ثدييها إلى عنقها من العنبر الأشهب، ومن عنقها إلى رأسها من الكافور الأبيض، عليها سبعون ألف حلة مثل شقائق النعمان، إذا أقبلت يتلألأ وجهها نورا ساطعا كما تتلألأ الشمس لأهل الدنيا، وإذا أدبرت يرى كبدها من رقة ثيابها وجلدها، في رأسها سبعون ألف ذؤابة من المسك الأذفر، لكل ذؤابة منها وصيفة ترفع ذيلها وهي تنادي: هذا ثواب الأولياء {جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ}. قوله تعالى: {لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً} قال ابن عباس: باطلا ولا كذبا. واللغو ما يلغى من الكلام، والتأثيم مصدر أثمته أي قلت له أثمت. محمد بن كعب: {وَلا تَأْثِيماً} أي لا يؤثم بعضهم بعضا. مجاهد: {لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَلا تَأْثِيماً} شتما ولا مأثما. {إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً} {قِيلًا} منصوب ب {يَسْمَعُونَ} أو استثناء منقطع أي لكن يقولون قيلا أو يسمعون. و{سَلاماً سَلاماً} منصوبان بالقول، أي إلا أنهم يقولون الخير. أو على المصدر أي إلا أن يقول بعضهم لبعض سلاما. أو يكون وصفا ل {قِيلًا}، والسلام الثاني بدل من الأول، والمعنى إلا قيلا يسلم فيه من اللغو. ويجوز الرفع على تقدير سلام عليكم. قال ابن عباس: أي يحيي بعضهم بعضا.
وقيل: تحييهم الملائكة أو يحييهم ربهم عز وجل.