فصل: تفسير الآيات (27- 40):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (27- 40):

{وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَماءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36) عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)}
قوله تعالى: {وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ} رجع إلى ذكر منازل أصحاب الميمنة وهم السابقون على ما تقدم، والتكرير لتعظيم شأن النعيم الذي هم فيه. {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} أي في نبق قد خضد شوكه أي قطع، قاله ابن عباس وغيره.
وذكر ابن المبارك: حدثنا صفوان عن سليم بن عامر قال: كان أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولون: إنه لينفعنا الاعراب ومسائلهم، قال: أقبل أعرابي يوما، فقال: «يا رسول الله! لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية، وما كنت أرى في الجنة شجرة تؤذي صاحبها؟ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وما هي قال: السدر فإن له شوكا مؤذيا، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أو ليس يقول: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} خضد الله شوكه فجعل مكان كل شوكة ثمرة فإنها تنبت ثمرا يفتق الثمر منها عن اثنين وسبعين لونا من الطعام ما فيه لون يشبه الآخر».
وقال أبو العالية والضحاك: نظر المسلمون إلى وج وهو واد بالطائف مخصب فأعجبهم سدره، فقالوا: يا ليت لنا مثل هذا، فنزلت. قال أمية بن أبي الصلت يصف الجنة:
إن الحدائق في الجنان ظليلة ** فيها الكواعب سدرها مخضود

وقال الضحاك ومجاهد ومقاتل بن حيان: {فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} وهو الموقر حملا. وهو قريب مما ذكرنا في الخبر. سعيد بن جبير: ثمرها أعظم من القلال. وقد مضى هذا في سورة النجم عند قوله تعالى: {عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى} وأن ثمرها مثل قلال هجر من حديث أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. قوله تعالى: {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} الطلح شجر الموز واحده طلحة. قاله أكثر المفسرين علي وابن عباس وغيرهم.
وقال الحسن: ليس هو موز ولكنه شجر له ظل بارد رطب.
وقال الفراء وأبو عبيدة: شجر عظام له شوك، قال بعض الحداة وهو الجعدي:
بشرها دليلها وقالا ** غدا ترين الطلح والاحبالا

فالطلح كل شجر عظيم كثير الشوك. الزجاج: يجوز أن يكون في الجنة وقد أزيل شوكه.
وقال الزجاج أيضا: كشجر أم غيلان له نور طيب جدا فخوطبوا ووعدوا بما يحبون مثله، إلا أن فضله على ما في الدنيا كفضل سائر ما في الجنة على ما في الدنيا.
وقال السدي: طلح الجنة يشبه طلح الدنيا لكن له ثمر أحلى من العسل. وقرأ علي بن أبي طالب رضي عنه الله: {وطلع منضود} بالعين وتلا هذه الآية {وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ} وهو خلاف المصحف. في رواية أنه قرئ بين يديه {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} فقال: ما شأن الطلح؟ إنما هو {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} ثم قال: {لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ} فقيل له: أفلا نحولها؟ فقال: لا ينبغي أن يهاج القرآن ولا يحول. فقد اختار هذه القراءة ولم ير إثباتها في المصحف لمخالفة ما رسمه مجمع عليه. قاله القشيري. وأسنده أبو بكر الأنباري قال: حدثني أبي قال حدثنا الحسن بن عرفة حدثنا عيسى بن يونس عن مجالد عن الحسن بن سعد عن قيس بن عباد قال: قرأت عند علي أو قرئت عند علي- شك مجالد- {وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ} فقال علي رضي الله عنه: ما بال الطلح؟ أما تقرأ {وَطَلْحٍ} ثم قال: {لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ} فقال له: يا أمير المؤمنين أنحكها من المصحف؟ فقال: لا لا يهاج القرآن اليوم. قال أبو بكر: ومعنى هذا أنه رجع إلى ما في المصحف وعلم أنه هو الصواب، وأبطل الذي كان فرط من قوله. والمنضود المتراكب الذي قد نضد أوله وآخره بالحمل، ليست له سوق بارزة بل هو مرصوص، والنضد هو الرص والمنضد المرصوص، قال النابغة:
خلت سبيل أتى كان يحبسه ** ورفعته إلى السجفين فالنضد

وقال مسروق: أشجار الجنة من عروقها إلى أفنانها نضيدة ثمر كله، كلما أكل ثمرة عاد مكانها أحسن منها. قوله تعالى: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} أي دائم باق لا يزول ولا تنسخه الشمس، كقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً} وذلك بالغداة وهي ما بين الاسفار إلى طلوع الشمس حسب ما تقدم بيانه هناك. والجنة كلها ظل لا شمس معه. قال الربيع بن أنس: يعني ظل العرش.
وقال عمرو بن ميمون: مسيرة سبعين ألف سنة.
وقال أبو عبيدة: تقول العرب للدهر الطويل والعمر الطويل والشيء الذي لا ينقطع ممدود، وقال لبيد:
غلب العزاء وكنت غير مغلب ** دهر طويل دائم ممدود

وفي صحيح الترمذي وغيره من حديث أبي هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وفي الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها واقرءوا إن شئتم {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ وَماءٍ مَسْكُوبٍ}» أي جار لا ينقطع واصل السكب الصب، يقال: سكبه سكبا، والسكوب انصبابه، يقال: سكب سكوبا، وانسكب انسكابا، أي وماء مصبوب يجرى الليل والنهار في غير أخدود لا ينقطع عنهم. وكانت العرب أصحاب بادية وبلاد حارة، وكانت الأنهار في بلادهم عزيزة لا يصلون إلى الماء إلا بالدلو والرشاء فوعدوا في الجنة خلاف ذلك، ووصف لهم أسباب النزهة المعروفة في الدنيا، وهي الأشجار وظلالها، والمياه والأنهار واطرادها.
قوله تعالى: {وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ} أي ليست بالقليلة العزيزة كما كانت في بلادهم {لا مَقْطُوعَةٍ} أي في وقت من الأوقات كانقطاع فواكه الصيف في الشاء {وَلا مَمْنُوعَةٍ} أي لا يحظر عليها كثمار الدنيا.
وقيل: {وَلا مَمْنُوعَةٍ} أي لا يمنع من أرادها بشوك ولا بعد ولا حائط، بل إذا اشتهاها العبد دنت منه حتى يأخذها، قال الله تعالى: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا}.
وقيل: ليست مقطوعة بالأزمان، ولا ممنوعة بالأثمان. والله أعلم. قوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} روى الترمذي عن أبي سعيد عن النبي صلى الله وسلم في قوله تعالى: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} قال: «ارتفاعها لكما بين السماء والأرض مسيرة خمسمائة سنة» قال: حديث غريب لا نعرفه إلا من حديث رشدين بن سعد.
وقال بعض أهل العلم في تفسير هذا الحديث: الفرش في الدرجات، وما بين الدرجات كما بين السماء والأرض.
وقيل: إن الفرش هنا كناية عن النساء اللواتي في الجنة ولم يتقدم لهن ذكر، ولكن قوله عز وجل: {وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ} دال، لأنها محل النساء، فالمعنى ونساء مرتفعات الاقدار في حسنهن وكمالهن، دليله قوله تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً} أي خلقناهن خلقا وأبدعناهن إبداعا. والعرب تسمي المرأة فراشا ولباسا وإزارا، وقد قال تعالى: {هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ}. ثم قيل: على هذا هن الحور العين، أي خلقناهن من غير ولادة.
وقيل: المراد نساء بني آدم، أي خلقناهن خلقا جديدا وهو الإعادة، أي أعدناهن إلى حال الشباب وكمال الجمال. والمعنى أنشأنا العجوز والصبية إنشاء واحدا، وأضمرن ولم يتقدم ذكرهن، لأنهن قد دخلن في أصحاب اليمين، ولان الفرش كناية عن النساء كما تقدم. وروي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً} قال: «منهن البكر والثيب». وقالت أم سلمة رضي الله تعالى عنها: سألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن قوله تعالى: {إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عُرُباً أَتْراباً} فقال: «يا أم سلمة هن اللواتي قبضن في الدنيا عجائز شمطاء عمشا رمصا جعلهن الله بعد الكبر أترابا على ميلاد واحد في الاستواء» أسنده النحاس عن أنس قال: حدثنا أحمد بن عمرو قال: حدثنا عمرو بن على قال: حدثنا أبو عاصم عن موسى بن عبيدة، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك رفعه {إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً} قال: «هن العجائز العمش الرمص كن في الدنيا عمشا رمصا».
وقال المسيب بن شريك: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً} الآية قال: «هن عجائز الدنيا أنشأهن الله خلقا جديدا كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا» فلما سمعت عائشة ذلك قالت: وأوجعاه! فقال لها النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس هناك وجع». {عُرُباً} جمع عروب. قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما: العرب العواشق لأزواجهن. وعن ابن عباس أيضا: إنها العروب الملقة. عكرمة: الغنجة. ابن زيد: بلغة أهل المدينة. ومنه قول لبيد:
وفى الخباء عروب غير فاحشة ** ريا الروادف يعشى دونها البصر

وهي الشكلة بلغة أهل مكة. وعن زيد بن أسلم أيضا: الحسنة الكلام. وعن عكرمة أيضا وقتادة: العرب المتحببات إلى أزواجهن، واشتقاقه من أعرب إذا بين، فالعروب تبين محبتها لزوجها بشكل وغنج وحسن كلام.
وقيل: إنها الحسنة التبعل لتكون ألذ استمتاعا.
وروى جعفر بن محمد عن أبيه عن جده قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {عُرُباً} قال: «كلامهن عربي». وقرأ حمزة وأبو بكر عن عاصم {عربا} بإسكان الراء. وضم الباقون وهما جائزان في جمع فعول. {أَتْراباً} على ميلاد واحد في الاستواء وسن واحدة ثلاث وثلاثين سنة. يقال في النساء أتراب وفي الرجال أقران. وكانت العرب تميل إلى من جاوزت حد الصبا من النساء وانحطت عن الكبر.
وقيل: {أَتْراباً} أمثالا وأشكالا، قاله مجاهد. السدي: أتراب في الأخلاق لا تباغض بينهن ولا تحاسد. قيل: الحور العين للسابقين، والأتراب العرب لأصحاب اليمين. قوله تعالى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} رجع الكلام إلى قوله تعالى: {وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ} أي هم {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} وقد مضى الكلام في معناه.
وقال أبو العالية ومجاهد وعطاء بن أبي رباح والضحاك:
{ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} يعني من سابقي هذه الامة {وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} من هذه الامة من آخرها، يدل عليه ما روي عن ابن عباس في هذه الآية {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هم جميعا من أمتي».
وقال الواحدي: أصحاب الجنة نصفان نصف من الأمم الماضية ونصف من هذه الامة. وهذا يرده ما رواه ابن ماجه في سننه والترمذي في جامعه عن بريدة بن خصيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أهل الجنة عشرون ومائة صف ثمانون منها من هذه الامة وأربعون من سائر الأمم». قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. و{ثُلَّةٌ} رفع على الابتداء، أو على حذف خبر حرف الصفة، ومجازه: لأصحاب اليمين ثلتان: ثلة من هؤلاء وثلة من هؤلاء. والأولون الأمم الماضية، والآخرون هذه الامة على القول الثاني.

.تفسير الآيات (41- 56):

{وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)}
قوله تعالى: {وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ} ذكر منازل أهل النار وسماهم أصحاب الشمال، لأنهم يأخذون كتبهم بشمائلهم، ثم عظم ذكرهم في البلاد والعذاب فقال: {ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ} والسموم الريح الحارة التي تدخل في مسام البدن. والمراد هنا حر النار ولفحها. {وَحَمِيمٍ} أي ماء حار قد انتهى حره، إذا أحرقت النار أكبادهم وأجسادهم فزعوا إلى الحميم، كالذي يفزع من النار إلى الماء ليطفئ به الحر فيجده حميما حارا في نهاية الحرارة والغليان. وقد مضى في القتال {وَسُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ}. {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} أي يفزعون من السموم إلى الظل كما يفزع أهل الدنيا فيجدونه ظلا من يحموم، أي من دخان جهنم أسود شديد السواد. عن ابن عباس ومجاهد وغيرهما. وكذلك اليحموم في اللغة: الشديد السواد وهو يفعول من الحم وهو الشحم المسود باحتراق النار.
وقيل: هو مأخوذ من الحمم وهو الفحم.
وقال الضحاك: النار سوداء وأهلها سود وكل ما فيها أسود. وعن ابن عباس أيضا: النار سوداء.
وقال ابن زيد: اليحموم جبل في جهنم يستغيث إلى ظله أهل النار. {لا بارِدٍ} بل حار لأنه من دخان شفير جهنم. {وَلا كَرِيمٍ} عذب، عن الضحاك.
وقال سعيد بن المسيب: ولا حسن منظره، وكل مالا خير فيه فليس بكريم.
وقيل: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} أي من النار يعذبون بها، كقوله تعالى: {لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ}. {إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ} أي إنما استحقوا هذه العقوبة لأنهم كانوا في الدنيا متنعمين بالحرام. والمترف المنعم، عن ابن عباس وغيره.
وقال السدي: {مُتْرَفِينَ} أي مشركين. {وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ} أي يقيمون على الشرك، عن الحسن والضحاك وابن زيد.
وقال قتادة ومجاهد: الذنب العظيم الذي لا يتوبون منه. الشعبي: هو اليمين الغموس وهى من الكبائر، يقال: حنث في يمينه أي لم يبرها ورجح فيها. وكانوا يقسمون أن لأبعث، وأن الأصنام أنداد الله فذلك حنثهم، قال الله تعالى مخبرا عنهم: {وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ}.
وفي الخبر:
كان يتحنث في حراء، أي يفعل ما يسقط عن نفسه الحنث وهو الذنب. {وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا} هذا استبعاد منهم لأمر البعث وتكذيب له، فقال الله تعالى: {قُلْ} لهم يا محمد {إِنَّ الْأَوَّلِينَ} من آبائكم {وَالْآخِرِينَ} منكم {لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} يريد يوم القيامة. ومعنى الكلام القسم ودخول اللام في قول تعالى: {لَمَجْمُوعُونَ} هو دليل القسم في المعنى، أي إنكم لمجموعون قسما حقا خلاف قسمكم الباطل {ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ} عن الهدى {الْمُكَذِّبُونَ} بالبعث {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} وهو شجر كريه المنظر، كريه الطعم، وهي التي ذكرت في سورة والصافات. {فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ} أي من الشجرة، لان المقصود من الشجر شجرة. ويجوز أن تكون {مِنْ} الأولى زائدة، ويجوز أن يكون المفعول محذوفا كأنه قال: {لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ} طعاما. وقوله: {مِنْ زَقُّومٍ} صفة لشجر، والصفة إذا قدرت الجار زائدا نصبت على المعنى، أو جررت على اللفظ، فإن قدرت المفعول محذوفا لم تكن الصفة إلا في موضع جر. قوله تعالى: {فَشارِبُونَ عَلَيْهِ} أي على الزقوم أو على الأكل أو على الشجر، لأنه يذكر ومؤنث. {مِنَ الْحَمِيمِ} وهو الماء المغلي الذي قد اشتد غليانه وهو صديد أهل النار. أي يورثهم حرما يأكلون من الزقوم مع الجوع الشديد عطشا فيشربون ماء يظنون أنه يزيل العطش فيجدونه حميما مغلي. قوله تعالى: {فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ} قراءة نافع وعاصم وحمزة {شُرْبَ} بضم الشين. الباقون بفتحها لغتان جيدتان، تقول العرب: شربت شربا وشربا وشربا وشربا بضمتين. قال أبو زيد: سمعت العرب تقول بضم الشين وفتحها وكسرها، والفتح هو المصدر الصحيح، لان كل مصدر من ذوات الثلاثة فأصله فعل، ألا ترى أنك ترده إلى المرة الواحدة، فتقول: فعلة نحو شربة وبالضم الاسم.
وقيل: إن المفتوح والاسم مصدران، فالشرب كالأكل، والشرب كالذكر، والشرب بالكسر المشروب كالطحن المطحون. والهيم الإبل العطاش التي لا تروى لداء يصيبها، عن ابن عباس وعكرمة وقتادة والسدي وغيرهم، وقال عكرمة أيضا: هي الإبل المراض. الضحاك: الهيم الإبل يصيبها داء تعطش منه عطشا شديدا، واحدها أهيم والأنثى هيماء. ويقال لذلك الداء الهيام، قال قيس بن الملوح:
يقال به داء الهيام أصابه ** وقد علمت نفسي مكان شفائها

وقوم هيم أيضا أي عطاش، وقد هاموا هياما. ومن العرب من يقول في الإبل: هائم وهائمة والجمع هيم، قال لبيد:
أجزت إلى معارفها بشعث ** وأطلاح من العيدي هيم

وقال الضحاك والأخفش وابن عيينة وابن كيسان: الهيم الأرض السهلة ذات الرمل. وروي أيضا عن ابن عباس: فيشربون شرب الرمال التي لا تروى بالماء. المهدوي: ويقال لكل مالا يروى من الإبل والرمل أهيم وهيماء.
وفي الصحاح: والهيام بالضم أشد العطش. والهيام كالجنون من العشق. والهيام داء يأخذ الإبل فتهيم في الأرض لا ترعى. يقال: ناقة هيماء. والهيماء أيضا المفازة لا ماء بها. والهيام بالفتح: الرمل الذي لا يتماسك أن يسيل من اليد للينه والجمع هيم مثل قذال وقذل. والهيام بالكسر الإبل العطاش الواحد هيمان، وناقة هيماء مثل عطشان وعطشى. قوله تعالى: {هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ} أي رزقهم الذي يعد لهم، كالنزل الذي يعد للأضياف تكرمة لهم، وفية تهكم، كما في قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ} وكقول أبي السعد الضبي:
وكنا إذا الجبار بالجيش ضافنا ** جعلنا القنا والمرهفات له نزلا

وقرا يونس بن حبيب وعباس عن أبي عمرو {هذا نُزُلُهُمْ} بإسكان الزاي، وقد مضى في آخر آل عمران القول فيه. {يَوْمَ الدِّينِ} يوم الجزاء، يعني في جهنم.