فصل: تفسير الآية رقم (10):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (10):

{وَما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أي شيء يمنعكم من الإنفاق في سبيل الله، وفيما يقربكم من ربكم وأنتم تموتون وتخلفون أموالكم وهي صائرة إلى الله تعالى. فمعنى الكلام التوبيخ على عدم الإنفاق. {وَلِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ} أي إنهما راجعتان إليه بانقراض من فيهما كرجوع الميراث إلى المستحق له.
الثانية: قوله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ} أكثر المفسرين على أن المراد بالفتح فتح مكة.
وقال الشعبي والزهري: فتح الحديبية. قال قتادة:
كان قتالان أحدهما أفضل من الآخر، ونفقتان إحداهما أفضل من الأخرى، كان القتال والنفقة قبل فتح مكة أفضل من القتال والنفقة بعد ذلك.
وفي الكلام حذف، أي {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ} ومن أنفق من بعد الفتح وقاتل، فحذف لدلالة الكلام عليه. وإنما كانت النفقة قبل الفتح أعظم، لان حاجة الناس كانت أكثر لضعف الإسلام، وفعل ذلك كان على المنفقين حينئذ أشق والأجر على قدر النصب. والله أعلم.
الثالثة: روى أشهب عن مالك قال: ينبغي أن يقدم أهل الفضل والعزم، وقد قال الله تعالى: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ} وقال الكلبي: نزلت في أبي بكر رضي الله عنه، ففيها دليل واضح على تفضيل أبي بكر رضي الله عنه وتقديمه، لأنه أول من أسلم. وعن ابن مسعود: أول من أظهر الإسلام بسيفه النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبو بكر، ولأنه أول من أنفق على نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وعن ابن عمر قال: كنت عند النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعنده أبو بكر وعليه عبادة قد خللها في صدره بخلال فنزل جبريل فقال: يا نبي الله! ما لي أرى أبا بكر عليه عباءة قد خللها في صدره بخلال؟ فقال: «قد أنفق علي ماله قبل الفتح» قال: فإن الله يقول لك اقرأ على أبي بكر السلام وقل له أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط؟ فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يا أبا بكر إن الله عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول أراض أنت في فقرك هذا أم ساخط»؟ فقال أبو بكر: أأسخط على ربي؟ إني عن ربي لراض! إني عن ربي لراض! إني عن ربي لراض! قال: «فإن الله يقول لك قد رضيت عنك كما أنت عني راض» فبكى أبو بكر فقال جبريل عليه السلام: والذي بعثك يا محمد بالحق، لقد تخللت حملة العرش بالعبي منذ تخلل صاحبك هذا بالعباءة، ولهذا قدمته الصحابة عل أنفسهم، وأقروا له بالتقدم والسبق.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سبق النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وصلي أبو بكر وثلث عمر، فلا أوتى برجل فضلني على أبي بكر إلا جلدته حد المفتري ثمانين جلدة وطرح الشهادة. فنال المتقدمون من المشقة أكثر مما نال من بعدهم، وكانت بصائرهم أيضا أنفذ.
الرابعة: التقدم والتأخر قد يكون في أحكام الدنيا، فأما في أحكام الدين فقد قالت عائشة رضي الله عنها: أمرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن ننزل الناس منازلهم. وأعظم المنازل مرتبة الصلاة. وقد قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في مرضه: «مروا أبا بكر فليصل بالناس» الحديث. وقال: «يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله» وقال: «وليؤمكما أكبركما» من حديث مالك بن الحويرث وقد تقدم. وفهم منه البخاري وغيره من العلماء أنه أراد كبر المنزلة، كما قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الولاء للكبر» ولم يعن كبر السن. وقد قال مالك وغيره: إن للسن حقا. وراعاه الشافعي وأبو حنيفة وهو أحق بالمراعاة، لأنه إذا أجتمع العلم والسن في خيرين قدم العلم، وأما أحكام الدنيا فهي مرتبة على أحكام الدين، فمن قدم في الدين قدم في الدنيا.
وفي الآثار: «ليس منا من لم يوقر كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه». ومن الحديث الثابت في الافراد: «ما أكرم شاب شيخا لسنه إلا قيض الله له عند سنه من يكرمه». وأنشدوا:
يا عائبا للشيوخ من أشر ** داخله في الصبا ومن بذخ

اذكر إذا شئت أن تعيرهم ** جدك واذكر أباك يا بن أخ

وأعلم بأن الشباب منسلخ ** عنك وما وزره بمنسلخ

من لا يعز الشيوخ لا بلغت ** يوما به سنه إلى الشيخ

الخامسة: قوله تعالى: {وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى} أي المتقدمون المتناهون السابقون، والمتأخرون اللاحقون، وعدهم الله جميعا الجنة مع تفاوت الدرجات. وقرأ ابن عامر {وكل} بالرفع، وكذلك هو بالرفع في مصاحف أهل الشام. الباقون {وَكُلًّا} بالنصب على ما في مصافحهم، فمن نصب فعلى إيقاع الفعل عليه أي وعد الله كلا الحسنى. ومن رفع فلان المفعول إذا تقدم ضعف عمل الفعل، والهاء محذوفة من وعده.

.تفسير الآيات (11- 12):

{مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11) يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12)}
قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً} ندب إلى الإنفاق في سبيل الله. وقد مضى في البقرة القول فيه. والعرب تقول لكل من فعل فعلا حسنا: قد أقرض، كما قال:
وإذا جوزيت قرضا فاجزه ** إنما يجزي الفتى ليس الجمل

وسمي قرضا، لان القرض أخرج لاسترداد البدل. أي من ذا الذي ينفق في سبيل الله حتى يبدله الله بالأضعاف الكثيرة. قال الكلبي: {قَرْضاً} أي صدقة {حَسَناً} أي محتسبا من قلبه بلا من ولا أذى. {فَيُضاعِفَهُ لَهُ} ما بين السبع إلى سبعمائة إلى ما شاء الله من الاضعاف.
وقيل: القرض الحسن هو أن يقول سبحان الله والحمد الله ولا إله إلا الله والله أكبر، رواه سفيان عن أبي حيان.
وقال زيد بن أسلم: هو النفقة على الأهل. الحسن: التطوع بالعبادات.
وقيل: إنه عمل الخير، والعرب تقول: لي عند فلان قرض صدق وقرض سوء. القشيري: والقرض الحسن أن يكون المتصدق صادق النية طيب النفس، يبتغي به وجه الله دون الرياء والسمعة، وأن يكون من الحلال. ومن القرض الحسن ألا يقصد إلى الرديء فيخرجه، لقوله تعالى: {وَلا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ}
وأن يتصدق في حال يأمل الحياة، فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سئل عن أفضل الصدقة فقال: «أن تعطيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش ولا تمهل حتى إذا بلغت التراقي قلت لفلان كذا ولفلان كذا» وأن يخفي صدقته، لقوله تعالى: {وَإِنْ تُخْفُوها وَتُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} وألا يمن، لقوله تعالى: و{لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى} وأن يستحقر كثير ما يعطي، لان الدنيا كلها قليلة، وأن يكون من أحب أمواله، لقوله تعالى: {لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} وأن يكون كثيرا، لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أفضل الرقاب أغلاها ثمنا وأنفسها عند أهلها». {فَيُضاعِفَهُ لَهُ} وقرأ ابن كثير وابن عامر {فيضعفه} بإسقاط الالف إلا ابن عامر ويعقوب نصبوا الفاء. وقرأ نافع واهل الكوفة والبصرة {فيضاعفه} بالألف وتخفيف العين إلا أن عاصما نصب الفناء. ورفع الباقون عطفا على {يُقْرِضُ}. وبالنصب جوابا على الاستفهام. وقد مضى في البقرة القول في هذا مستوفى. {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} يعني الجنة. قوله تعالى: {يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ} العامل في {يَوْمَ} {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ}، وفي الكلام حذف أي {وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ} في {يَوْمَ تَرَى} فيه {الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ} أي يمضى على الصراط في قول الحسن، وهو الضياء الذي يمرون فيه {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} أي قدامهم. {وَبِأَيْمانِهِمْ} قال الفراء: الباء بمعنى في، أي في أيمانهم. أو بمعنى عن أي عن أيمانهم.
وقال الضحاك: {نُورُهُمْ} هداهم {وَبِأَيْمانِهِمْ} كتبهم، واختاره الطبري. أي يسعى إيمانهم وعملهم الصالح بين أيديهم، وفي أيمانهم كتب أعمالهم. فالباء على هذا بمعنى في. ويجوز على هذا أن يوقف على {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} ولا يوقف إذا كانت بمعنى عن. وقرأ سهل ابن سعد الساعدي وأبو حيوة {وَبِأَيْمانِهِمْ} بكسر الالف، أراد الايمان الذي هو ضد الكفر.
وعطف ما ليس بظرف على الظرف، لان معنى الظرف الحال وهو متعلق بمحذوف. والمعنى يسعى كائنا {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} وكائنا {بِأَيْمانِهِمْ}، وليس قوله: {بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} متعلقا بنفس {يَسْعى}.
وقيل: أراد بالنور القرآن. وعن ابن مسعود: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من يؤتى نوره كالنخلة، ومنهم من يؤتى نوره كالرجل القائم، وأدناهم نورا من نوره على إبهام رجله فيطفأ مرة ويوقد أخرى.
وقال قتادة: ذكر لنا أن نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن من المؤمنين من يضئ نوره كما بين المدينة وعدن أو ما بين المدينة وصنعاء ودون ذلك حتى يكون منهم من لا يضئ نوره إلا موضع قدميه» قال الحسن: ليستضيئوا به على الصراط كما تقدم.
وقال مقاتل: ليكون دليلا لهم إلى الجنة. والله أعلم. قوله تعالى: {بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} التقدير يقال لهم: {بُشْراكُمُ الْيَوْمَ} دخول جنات. ولا بد من تقدير حذف المضاف، لان البشرى حدث، والجنة عين فلا تكون هي هي. {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} أي من تحتهم أنهار اللبن والماء والخمر والعسل من تحت مساكنها. {خالِدِينَ فِيها} حال من الدخول المحذوف، التقدير {بُشْراكُمُ الْيَوْمَ} دخول جنات {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ} مقدرين الخلود فيها ولا تكون الحال من بشراكم، لان فيه فصلا بين الصلة والموصول. ويجوز أن يكون مما دل عليه البشرى، كأنه قال: تبشرون خالدين. ويجوز أن يكون الظرف الذي هو {الْيَوْمَ} خبرا عن {بُشْراكُمُ} و{جَنَّاتٌ} بدلا من البشرى على تقدير حذف المضاف كما تقدم. و{خالِدِينَ} حال حسب ما تقدم. وأجاز الفراء نصب {جَنَّاتٌ} على الحال على أن يكون {الْيَوْمَ} خبرا عن {بُشْراكُمُ} وهو بعيد، إذ ليس في {جَنَّاتٌ} معنى الفعل. وأجاز أن يكون {بُشْراكُمُ} نصبا على معنى يبشرونهم بشرى وينصب {جَنَّاتٌ} بالبشرى وفية تفرقة بين الصلة والموصول.

.تفسير الآيات (13- 15):

{يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)}
قوله تعالى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ} العامل في {يَوْمَ} {ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}.
وقيل: هو بد ل من اليوم الأول. {انْظُرُونا نَقْتَبِسْ} قراءة العامة بوصل الالف مضمومة الظاء من نظر، والنظر الانتظار أي انتظرونا. وقرأ الأعمش وحمزة ويحيى بن وثاب {انْظُرُونا} بقطع الالف وكسر الظاء من الانظار. أي أمهلونا وأخرونا، أنظرته أخرته، واستنظرته أي استمهلته.
وقال الفراء: تقول العرب: أنظرني انتظرني، وأنشد لعمرو بن كلثوم:
أبا هند فلا تعجل علينا ** وأنظرنا نخبرك اليقينا

أي انتظرنا. {نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} أي نستضئ من نوركم. قال ابن عباس وأبو أمامة: يغشى الناس يوم القيامة ظلمة- قال الماوردي: أظنها بعد فصل القضاء- ثم يعطون نورا يمشون فيه. قال المفسرون: يعطي الله المؤمنين نورا يوم القيامة على قدر أعمالهم يمشون به على الصراط، ويعطي المنافقين أيضا نورا خديعة لهم، دليله قوله تعالى: {وَهُوَ خادِعُهُمْ}
.
وقيل: إنما يعطون النور، لان جميعهم أهل دعوة دون الكافر، ثم يسلب المنافق نوره لنفاقه، قاله ابن عباس.
وقال أبو أمامة: يعطى المؤمن النور ويترك الكافر والمنافق بلا نور.
وقال الكلبي: بل يستضئ المنافقون بنور المؤمنين ولا يعطون النور، فبينما هم يمشون إذ بعث الله فيهم ريحا وظلمة فأطفأ بذلك نور المنافقين، فذلك قوله تعالى: {رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا} يقوله المؤمنون، خشية أن يسلبوه كما سلبه المنافقون، فإذا بقي المنافقون في الظلمة لا يبصرون مواضع أقدامهم قالوا للمؤمنين: {انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ}. {قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ} أي قالت لهم الملائكة {ارْجِعُوا}.
وقيل: بل هو قول المؤمنين لهم {ارْجِعُوا وَراءَكُمْ} إلى الموضع الذي أخذنا منه النور فاطلبوا هنالك لأنفسكم نورا فإنكم لا تقتبسون من نورنا. فلما رجعوا وانعزلوا في طلب النور {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ}.
وقيل: أي هلا طلبتم النور من الدنيا بأن تؤمنوا. {بِسُورٍ} أي سور، والباء صلة. قال الكسائي. والسور حاجز بين الجنة والنار. وروي أن ذلك السور ببيت المقدس عند موضع يعرف بوادي جهنم. {باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} يعني ما يلي منه المؤمنين {وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ} يعني ما يلي المنافقين. قال كعب الأحبار: هو الباب الذي ببيت المقدس المعروف بباب الرحمة.
وقال عبد الله بن عمرو: إنه سور بيت المقدس الشرقي باطنه فيه المسجد {وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ} يعني جهنم. ونحوه عن ابن عباس.
وقال زياد بن أبي سوادة: قام عبادة ابن الصامت على سور بيت المقدس الشرقي فبكى، وقال: من ها هنا أخبرنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه رأى جهنم.
وقال قتادة: هو حائط بين الجنة والنار {باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ} يعني الجنة {وَظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ} يعني جهنم.
وقال مجاهد: إنه حجاب كما في الأعراف وقد مضى القول فيه. وقد قل: إن الرحمة التي في باطنه نور المؤمنين، والعذاب الذي في ظاهره ظلمة المنافقين. قوله تعالى: {يُنادُونَهُمْ} أي ينادي المنافقون المؤمنين {أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ} في الدنيا يعني نصلي مثل ما تصلون، ونغزوا مثل ما تغزون، ونفعل مثل ما تفعلون {قالُوا بَلى} أي يقول المؤمنون {بَلى} قد كنتم معنا في الظاهر {وَلكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ} أي استعملتموها في الفتنة.
وقال مجاهد: أهلكتموها بالنفاق.
وقيل: بالمعاصي، قاله أبو سنان.
وقيل: بالشهوات واللذات، رواه أبو نمير الهمداني. {وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ} أي {تَرَبَّصْتُمْ} بالنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الموت، وبالمؤمنين الدوائر.
وقيل: {تَرَبَّصْتُمْ} بالتوبة {وَارْتَبْتُمْ} أي شككتم في التوحيد والنبوة {وَغَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ} أي الأباطيل.
وقيل: طول الأمل.
وقيل: هو ما كانوا يتمنونه من ضعف المؤمنين ونزول الدوائر بهم.
وقال قتادة: الأماني هنا خدع الشيطان.
وقيل: الدنيا، قاله عبد الله بن عباس.
وقال أبو سنان: هو قولهم سيغفر لنا.
وقال بلال بن سعد: ذكرك حسناتك ونسيانك سيئاتك غرة. {حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ} يعني الموت.
وقيل: نصرة نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال قتادة: إلقاؤهم في النار. {وَغَرَّكُمْ} أي خدعكم {بِاللَّهِ الْغَرُورُ} أي الشيطان، قاله عكرمة.
وقيل: الدنيا، قاله الضحاك.
وقال بعض العلماء: إن للباقي بالماضي معتبرا، وللآخر بالأول مزدجرا، والسعيد من لا يغتر بالطمع، ولا يركن إلى الخدع، ومن ذكر المنية نسي الأمنية، ومن أطال الأمل نسي العمل، وغفل عن الأجل. وجاء {الْغَرُورُ} على لفظ المبالغة للكثرة. وقرأ أبو حيوة ومحمد بن السميقع وسماك بن حرب {الغرور} بضم الغين يعني الأباطيل وهو مصدر. وعن ابن عباس: أن نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خط لنا خطوطا، وخط منها خطا ناحية فقال: «أتدرون ما هذا هذا مثل ابن آدم ومثل التمني وتلك الخطوط الآمال بينما هو يتمنى إذ جاءه الموت». وعن ابن مسعود قال: خط لنا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خطا مربعا، وخط وسطه خطا وجعله خارجا منه، وخط عن يمينه ويساره خطوطا صغارا فقال: «هذا ابن آدم وهذا أجله محيط به وهذا أمله قد جاوز أجله وهذه الخطوط الصغار الاعراض فإن أخطأه هذا نهشه هذا وإن أخطأه هذا نهشه هذا». قوله تعالى: {فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ} أيها المنافقون {وَلا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا} إياسهم من النجاة. وقراءة العامة {يُؤْخَذُ} بالياء، لان التأنيث غير. حقيقي، ولأنه قد فصل بينها وبين الفعل. وقرأ ابن عامر ويعقوب {تؤخذ} بالتاء وأختاره أبو حاتم لتأنيث الفدية. والأول اختيار أبي عبيد، أي لا يقبل منكم بدل ولا عوض ولا نفس أخرى. {مَأْواكُمُ النَّارُ} أي مقامكم ومنزلكم {هِيَ مَوْلاكُمْ} أي أولى بكم، والمولى من يتولى مصالح الإنسان، ثم استعمل فيمن كان ملازما للشيء.
وقيل: أي النار تملك أمرهم، بمعنى أن الله تبارك وتعالى يركب فيها الحياة والعقل فهي تتميز غيظا على الكفار، ولهذا خوطبت في قوله تعالى: {يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ}. {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أي ساءت مرجعا ومصيرا.