فصل: تفسير الآيات (22- 24):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (22- 24):

{ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)}
قوله تعالى: {ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ} قال مقاتل: القحط وقلة النبات والثمار.
وقيل: الجوائح في الزرع. {وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ} بالاوصاب والاسقام، قاله قتادة.
وقيل: إقامة الحدود، قاله ابن حيان.
وقيل: ضيق المعاش، وهذا معنى رواه ابن جريج. {إِلَّا فِي كِتابٍ} يعني في اللوح المحفوظ. {مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها} الضمير في {نَبْرَأَها} عائد على النفوس أو الأرض أو المصائب أو الجميع.
وقال ابن عباس: من قبل أن يخلق المصيبة.
وقال سعيد بن جبير: من قبل أن يخلق الأرض والنفس. {إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} أي خلق ذلك وحفظ جميعه {عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} هين. قال الربيع بن صالح: لما أخذ سعيد بن جبير رضي الله عنه بكيت، فقال: ما يبكيك؟ قلت: أبكي لما أرى بك ولما تذهب إليه. قال: فلا تبك فإنه كان في علم الله أن يكون، ألم تسمع قوله تعالى: {ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ} الآية.
وقال ابن عباس: لما خلق الله القلم قال له اكتب، فكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة. ولقد ترك لهذه الآية جماعة من الفضلاء الدواء في أمراضهم فلم يستعملوه ثقة بربهم وتوكلا عليه، وقالوا قد علم الله أيام المرض وأيام الصحة، فلو حرص الخلق على تقليل ذلك أو زيادته ما قدروا، قال الله تعالى: {ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها}. وقد قيل: إن هذه الآية تتصل بما قبل، وهو أن الله سبحانه هون عليهم ما يصيبهم في الجهاد من قتل وجرح، وبين أن ما يخلفهم عن الجهاد من المحافظة على الأموال وما يقع فيها من خسران، فالكل مكتوب مقدر لا مدفع له، وإنما على المرء امتثال الامر، ثم أدبهم فقال هذا: {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ} أي حتى لا تحزنوا على ما فاتكم من الرزق، وذلك أنهم إذا علموا أن الرزق قد فرغ منه لم يأسوا على ما فاتهم منه. وعن ابن مسعود أن نبي الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا يجد أحدكم طعم الايمان حتى يعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه» ثم قرأ {لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ} إي كي لا تحزنوا على ما فاتكم من الدنيا فإنه لم يقدر لكم ولو قدر لكم لم يفتكم {وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ} أي من الدنيا، قاله ابن عباس.
وقال سعيد بن جبير: من العافية والخصب.
وروى عكرمة عن ابن عباس: ليس من أحد إلا وهو يحزن ويفرح، ولكن المؤمن يجعل مصيبته صبرا، وغنيمته شكرا. والحزن والفرح المنهي عنهما هما اللذان يتعدى فيهما إلى مالا يجوز، قال الله تعالى: {وَاللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ} أي متكبر بما أوتى من الدنيا، فخور به على الناس. وقراءة العامة {آتاكُمْ} بمد الالف أي أعطاكم من الدنيا. وأختاره أبو حاتم. وقرأ أبو العالية ونصر بن عاصم وأبو عمرو {أتاكم} بقصر الالف واختاره أبو عبيد. أي جاءكم، وهو معادل ل {فاتَكُمْ} ولهذا لم يقل أفاتكم. قال جعفر بن محمد الصادق: يا ابن آدم مالك تأسى على مفقود لا يرده عليك الفوت، أو تفرح بموجود لا يتركه في يديك الموت. وقيل لبرز جمهر: أيها الحكيم! مالك لا تحزن على ما فات، ولا تفرح بما هو آت؟ قال: لان الفائت لا يتلافى بالعبرة، والآتي لا يستدام بالحبرة.
وقال الفضيل بن عياض في هذا المعنى: الدنيا مبيد ومفيد، فما أباد فلا رجعة له، وما أفاد آذن بالرحيل.
وقيل: المختال الذي ينظر إلى نفسه بعين الافتخار، والفخور الذي ينظر إلى الناس بعين الاحتقار، وكلاهما شرك خفي. والفخور بمنزلة المصراة تشد أخلافها ليجتمع فيها اللبن، فيتوهم المشتري أن ذلك معتاد وليس كذلك، فكذلك الذي يرى من نفسه حالا وزينة وهو مع ذلك مدع فهو الفخور. قوله تعالى: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} أي لا يحب المختالين {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} ف {الَّذِينَ} في موضع خفض نعتا للمختال.
وقيل: رفع بابتداء أي الذين يبخلون فالله غني عنهم. قيل: أراد رؤساء اليهود الذين يبخلون ببيان صفة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التي في كتبهم، لئلا يؤمن به الناس فتذهب مأكلتهم، قاله السدي والكلبي.
وقال سعيد بن جبير: {الَّذِينَ يَبْخَلُونَ} يعني بالعلم {وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ} أي بألا يعلموا الناس شيئا. زيد بن أسلم: إنه البخل بأداء حق الله عز وجل.
وقيل: إنه البخل بالصدقة والحقوق، قاله عامر بن عبد الله الأشعري.
وقال طاوس: إنه البخل بما في يديه. وهذه الأقوال الثلاثة متقاربة المعنى. وفرق أصحاب الخواطر بين البخل والسخاء بفرقين: أحدهما أن البخيل الذي يلتذ بالإمساك. والسخي الذي يلتذ بالإعطاء.
الثاني- أن البخيل الذي يعطي عند السؤال، والسخي الذي يعطي بغير سؤال. {وَمَنْ يَتَوَلَّ} أي عن الايمان {فَإِنَّ اللَّهَ} غني عنه. ويجوز أن يكون لما حث على الصدقة أعلمهم أن الذين يبخلون بها ويأمرون الناس بالبخل بها فإن الله غني عنهم. وقراءة العامة {بِالْبُخْلِ} بضم الباء وسكون الخاء. وقرأ أنس وعبيد بن عمير ويحيى ابن يعمر ومجاهد وحميد وابن محيصن وحمزة والكسائي {بالبخل} بفتحتين وهى لغة الأنصار. وقرأ أبو العالية وابن السميقع {بالبخل} بفتح الباء واسكان الخاء. وعن نصر بن عاصم {البخل} بضمتين وكلها لغات مشهورة. وقد تقدم الفرق بين البخل والشح في آخر آل عمران.
وقرأ نافع وابن عامر {فإن الله الغني الحميد} بغير {هُوَ}. والباقون {هُوَ الْغَنِيُّ} على أن يكون فصلا. ويجوز أن يكون مبتدأ و{الْغَنِيُّ} خبره والجملة خبر إن. ومن حذفها فالأحسن أن يكون فصلا، لان حذف الفصل أسهل من حذف المبتدأ.

.تفسير الآيات (25- 26):

{لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَالْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25) وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26)}
قوله تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ} أي بالمعجزات البينة والشرائع الظاهرة.
وقيل: الإخلاص لله تعالى في العبادة، واقام الصلاة وإيتاء الزكاة، بذلك دعت الرسل: نوح فمن دونه إلى محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {وَأَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ} أي الكتب، أي أوحينا إليهم خبر ما كان قبلهم {وَالْمِيزانَ} قال ابن زيد: هو ما يوزن به ويتعامل {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} أي بالعدل في معاملاتهم. وقوله: {بِالْقِسْطِ} يدل على أنه أراد الميزان المعروف.
وقال قوم: أراد به العدل. قال القشيري: وإذا حملناه على الميزان المعروف، فالمعنى أنزلنا الكتاب ووضعنا الميزان فهو من باب:
علفتها تبنا وماء باردا

ويدل على هذا قوله تعالى: {وَالسَّماءَ رَفَعَها وَوَضَعَ الْمِيزانَ} ثم قال: {وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ} وقد مضى القول فيه. {وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} روى عمر رضي الله عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الله أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض: الحديد والنار والماء والملح».
وروى عكرمة عن ابن عباس قال: ثلاثة أشياء نزلت مع آدم عليه السلام: الحجر الأسود وكان أشد بياضا من الثلج، وعصا موسى وكانت من آس الجنة، طولها عشرة أذرع مع طول موسى، والحديد أنزل معه ثلاثة أشياء: السندان والكلبتان والميقعة وهي المطرقة، ذكره الماوردي.
وقال الثعلبي: قال ابن عباس نزل آدم من الجنة ومعه من الحديد خمسة أشياء من آلة الحدادين: السندان، والكلبتان، والميقعة، والمطرقة، والإبرة. وحكاه القشيري قال: والميقعة ما يحدد به، يقال وقعت الحديدة أقعها أي حددتها.
وفي الصحاح: والميقعة الموضع الذي يألفه البازي فيقع عليه، وخشبة القصار التي يدق عليها، والمطرقة والمسن الطويل. وروي أن الحديد أنزل في يوم الثلاثاء. {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} أي لإهراق الدماء. ولذلك نهى عن الفصد والحجامة في يوم الثلاثاء، لأنه يوم جرى فيه الدم. وروي عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «في يوم الثلاثاء ساعة لا يرقأ فيها الدم».
وقيل: {أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ} أي أنشأناه وخلقناه، كقوله تعالى: {وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الأنعام ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ} وهذا قول الحسن. فيكون من الأرض غير منزل من السماء.
وقال أهل المعاني: أي أخرج الحديد من المعادن وعلمهم صنعته بوحيه. {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} يعني السلاح والكراع والجنة.
وقيل: أي فيه من خشية القتل خوف شديد. {وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ} قال مجاهد: يعني جنة.
وقيل: يعني انتفاع الناس بالماعون من الحديد، مثل السكين والفأس والإبرة ونحوه {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} أي أنزل الحديد ليعلم من ينصره.
وقيل: هو عطف على قوله تعالى: {لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} أي أرسلنا رسلنا وأنزلنا معهم الكتاب، وهذه الأشياء، ليتعامل الناس بالحق، {وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ} وليرى الله من ينصر دينه {وَ} ينصر {رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ} قال ابن عباس: ينصرونهم لا يكذبونهم، ويؤمنون بهم {بِالْغَيْبِ} أي وهم لا يرونهم. {إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ} {قَوِيٌّ} في أخذه {عَزِيزٌ} أي منيع غالب. وقد تقدم.
وقيل: {بِالْغَيْبِ} بالإخلاص.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَإِبْراهِيمَ} فصل ما أجمل من إرسال الرسل بالكتب، وأخبر أنه أرسل نوحا وإبراهيم وجعل النبوة في نسلهما {وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتابَ} أي جعلنا بعض ذريتهما الأنبياء، وبعضهم أمما يتلون الكتب المنزلة من السماء: التوراة والإنجيل والزبور والفرقان.
وقال ابن عباس: الكتاب الخط بالقلم {فَمِنْهُمْ} أي من ائتم بإبراهيم ونوح {مُهْتَدٍ}.
وقيل: {فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ} أي من ذريتهما مهتدون. {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ} كافرون خارجون عن الطاعة.

.تفسير الآية رقم (27):

{ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {ثُمَّ قَفَّيْنا} أي اتبعنا {عَلى آثارِهِمْ} أي على آثار الذرية.
وقيل: على آثار نوح وإبراهيم {بِرُسُلِنا} موسى وإلياس وداود وسليمان ويونس وغيرهم {وَقَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ} فهو من ذرية إبراهيم من جهة أمه {وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ} وهو الكتاب المنزل عليه. وتقدم اشتقاقه في أول سورة آل عمران.
الثانية: قوله تعالى: {وَجَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ} على دينه يعني الحواريين وأتباعهم {رَأْفَةً وَرَحْمَةً} أي مودة فكان يواد بعضهم بعضا.
وقيل: هذا إشارة إلى أنهم أمروا في الإنجيل بالصلح وترك إيذاء الناس والان الله قلوبهم لذلك، بخلاف اليهود الذين قست قلوبهم وحرفوا الكلم عن مواضعه. والرأفة اللين، والرحمة الشفقة.
وقيل: الرأفة تخفيف الكل، والرحمة تحمل الثقل.
وقيل: الرأفة أشد الرحمة. وتم الكلام. ثم قال:
{وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها} أي من قبل أنفسهم. والأحسن أن تكون الرهبانية منصوبة بإضمار فعل، قال أبو علي: وابتدعوها رهبانية ابتدعوها.
وقال الزجاج: أي ابتدعوها رهبانية، كما تقول رأيت زيدا وعمرا كلمت.
وقيل: إنه معطوف على الرأفة والرحمة، والمعنى على هذا أن الله تعالى أعطاهم إياها فغيروا وابتدعوا فيها. قال الماوردي: وفيها قراءتان، إحداهما بفتح الراء وهي الخوف من الرهب.
الثانية بضم الراء وهي منسوبة إلى الرهبان كالرضوانية من الرضوان، وذلك لأنهم حملوا أنفسهم على المشقات في الامتناع من المطعم والمشرب والنكاح والتعلق بالكهوف والصوامع، وذلك أن ملوكهم غيروا وبدلوا وبقي نفر قليل فترهبوا وتبتلوا. قال الضحاك: إن ملوكا بعد عيسى عليه السلام ارتكبوا المحارم ثلاثمائة سنة، فأنكرها عليهم من كان بقي على منهاج عيسى فقتلوهم، فقال قوم بقوا بعدهم: نحن إذا نهيناهم قتلونا فليس يسعنا المقام بينهم، فاعتزلوا الناس واتخذوا الصوامع.
وقال قتادة: الرهبانية التي ابتدعوها رفض النساء واتخاذ الصوامع.
وفي خبر مرفوع: «هي لحوقهم بالبراري والجبال». {ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ} أي ما فرضناها عليهم ولا أمرناهم بها، قاله ابن زيد. وقوله تعالى: {إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ} أي ما أمرناهم إلا بما يرضي الله، قاله ابن مسلم.
وقال الزجاج: {ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ} معناه لم نكتب عليهم شيئا البتة. ويكون {ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ} بدلا من الهاء والألف في {كَتَبْناها} والمعنى: ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله.
وقيل: {إِلَّا ابْتِغاءَ} الاستثناء منقطع، والتقدير ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها ابتغاء رضوان الله. {فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها} أي فما قاموا بها حق القيام. وهذا خصوص، لان الذين لم يرعوها بعض القوم، وإنما تسببوا بالترهب إلى طلب الرياسة على الناس واكل أموالهم، كما قال تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَالرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} وهذا في قوم أداهم الترهب إلى طلب الرياسة في آخر الامر.
وروى سفيان الثوري عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في قوله تعالى: {وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها} قال: كانت ملوك بعد عيسى بدلوا التوراة والإنجيل، وكان فيهم مؤمنون يقرءون التوراة والإنجيل ويدعون إلى دين الله تعالى، فقال أناس لملكهم: لو قتلت هذه الطائفة. فقال المؤمنون: نحن نكفيكم أنفسنا. فطائفة قالت: ابنوا لنا أسطوانة ارفعونا فيها، وأعطونا شيئا نرفع به طعامنا وشرابنا ولا نرد عليكم. وقالت طائفة: دعونا نهيم في الأرض ونسيح، ونشرب كما تشرب الوحوش في البرية، فإذا قدرتم علينا فاقتلونا. وطائفة قالت: ابنوا لنا دورا في الفيافي ونحتفر الآبار ونحترث البقول فلا تروننا. وليس أحد من هؤلاء إلا وله حميم منهم ففعلوا، فمضى أولئك على منهاج عيسى، وخلف قوم من بعدهم ممن قد غير الكتاب فقالوا: نسيح ونتعبد كما تعبد أولئك، وهم على شركهم لا علم لهم بإيمان من تقدم من الذين اقتدوا بهم، فذلك قوله تعالى: {وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ} الآية. يقول: ابتدعها هؤلاء الصالحون {فَما رَعَوْها} المتأخرون {حَقَّ رِعايَتِها} {فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} يعني الذين ابتدعوها أولا ورعوها {وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ} يعني المتأخرين، فلما بعث الله محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولم يبق منهم إلا قليل، جاءوا من الكهوف والصوامع والغيران فآمنوا بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثالثة: وهذه الآية دالة على أن كل محدثة بدعة، فينبغي لمن ابتدع خيرا أن يدوم عليه، ولا يعدل عنه إلى ضده فيدخل في الآية. وعن أبى أمامة الباهلي- واسمه صدى بن عجلان- قال: أحدثتم قيام رمضان ولم يكتب عليكم، انما كتب عليكم الصيام، فدوموا على القيام إذ فعلتموه ولا تتركوه، فان ناسا من بنى إسرائيل ابتدعوا بدعا لم يكتبها الله عليهم ابتغوا بها رضوان الله فما رعوها حق رعايتها، فعابهم الله بتركها فقال: {وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها}.
الرابعة: وفى الآية دليل على العزلة عن الناس في الصوامع والبيوت، وذلك مندوب إليه عند فساد الزمان وتغير الأصدقاء والاخوان. وقد مضى بيان هذا في سورة الكهف مستوفى والحمد لله. وفى مسند أحمد بن حنبل من حديث أبى أمامة الباهلي رضي الله عنه قال: خرجنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سرية من سراياه فقال: مر رجل بغار فيه شيء من ماء، فحدث نفسه بأن يقيم في ذلك الغار، فيقوته ما كان فيه من ماء ويصيب ما حوله من البقل ويتخلى عن الدنيا. قال: لو أنى أتيت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرت ذلك له فان أذن لي فعلت والا لم أفعل، فأتاه فقال: يا نبى الله! انى مرت بغار فيه ما يقوتنى من الماء والبقل، فحدثتني نفسي بأن أقيم فيه وأتخلى من الدنيا. قال: فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ولكني بعثت بالحنيفية السمحة والذي نفس محمد بيده لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها ولمقام أحدكم في الصف الأول خير من صلاته ستين سنة».
وروى الكوفيون عن ابن مسعود، قال قال لي رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «هل تدرى أي الناس أعلم قال قلت: الله ورسوله أعلم. قال: أعلم الناس أبصرهم بالحق إذا اختلف الناس فيه وان كان مقصرا في العمل وان كان يزحف على استه هل تدرى من أين اتخذ بنو إسرائيل الرهبانية ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى يعملون بمعاصي الله فغضب أهل الايمان فقاتلوهم فهزم أهل الايمان ثلاث مرات فلم يبق منهم الا القليل فقالوا ان أفنونا فلم يبق للدين أحد يدعون إليه فتعالوا نفترق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الأمي الذي وعدنا عيسى- يعنون محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فتفرقوا في غيران الجبال وأحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه ومنهم من كفر- وتلا {وَرَهْبانِيَّةً} الآية»- أتدرى ما رهبانية أمتي الهجرة والجهاد والصوم والصلاة والحج والعمرة والتكبير على التلاع يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم من اليهود على احدى وسبعين فرقة فنجا منهم فرقة وهلك سائرها واختلف من كان من قبلكم من النصارى على اثنين وسبعين فرقة فنجا منهم ثلاثة وهلك سائرها فرقة وازت الملوك وقاتلتهم على دين الله ودين عيسى- عليه السلام- حتى قتلوا وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك أقاموا بين ظهراني قومهم فدعوهم إلى دين الله ودين عيسى بن مريم فأخذتهم الملوك وقتلتهم وقطعتهم بالمناشير وفرقة لم تكن لهم طاقة بموازاة الملوك ولا بأن يقيموا بين ظهراني قومهم فيدعوهم إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فساحوا في الجبال وترهبوا فيها وهى التي قال الله تعالى فيهم: {وَرَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها} الآية- فمن آمن بى واتبعني وصدقني فقد رعاها حق رعايتها ومن لم يؤمن بى فأولئك هم الفاسقون يعني الذي تهودوا وتهصروا.
وقيل: هؤلاء الذين أدركوا محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فلم يؤمنوا به فأولئك هم الفاسقون. وفى الآية تسلية للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أي ان الأولين أصروا على الكفر أيضا فلا تعجب من أهل عصرك ان أصروا على الكفر. والله أعلم.