فصل: تفسير الآيات (2- 3):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (2- 3):

{فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً (3)}
قوله تعالى: {فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي قاربن انقضاء العدة، كقوله تعالى: {وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ} [البقرة: 231] أي قربن من انقضاء الأجل. {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} يعني المراجعة بالمعروف، أي بالرغبة من غير قصد المضارة في الرجعة تطويلا لعدتها. كما تقدم في البقرة. {أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أي اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيملكن أنفسهن.
وفي قوله تعالى: {فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} ما يوجب أن يكون القول قول المرأة في انقضاء العدة إذا ادعت ذلك، على ما بيناه في سورة البقرة عند قوله تعالى: {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ} [البقرة: 228] الآية. قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا} أمر بالإشهاد على الطلاق.
وقيل: على الرجعة. والظاهر رجوعه إلى الرجعة لا إلى الطلاق. فإن راجع من غير إشهاد ففي صحة الرجعة قولان للفقهاء.
وقيل: المعنى وأشهدوا عند الرجعة والفرقة جميعا. وهذا الاشهاد مندوب إليه عند أبي حنيفة، كقوله تعالى: {وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ} [البقرة: 282]. وعند الشافعي واجب في الرجعة، مندوب إليه في الفرقة. وفائدة الاشهاد ألا يقع بينهما التجاحد، وألا يتهم في إمساكها، ولئلا يموت أحدهما فيدعي الباقي ثبوت الزوجية ليرث.
الثانية: الاشهاد عند أكثر العلماء على الرجعة ندب. وإذا جامع أو قبل أو باشر يريد بذلك الرجعة، وتكلم بالرجعة يريد به الرجعة فهو مراجع عند مالك، وإن لم يرد بذلك الرجعة فليس بمراجع.
وقال أبو حنيفة وأصحابه: إذا قبل أو باشر أو لامس بشهوة فهو رجعة. وقالوا: والنظر إلى الفرج رجعة.
وقال الشافعي وأبو ثور: إذا تكلم بالرجعة فهو رجعة. وقد قيل: وطؤه مراجعة على كل حال، نواها أو لم ينوها. وروي ذلك عن طائفة من أصحاب مالك. وإليه ذهب الليث. وكان ما لك يقول: إذا وطئ ولم ينو الرجعة فهو وطئ فاسد، ولا يعود لوطئها حتى يستبرئها من مائه الفاسد، وله الرجعة في بقية العدة الأولى، وليس له رجعة في هذا الاستبراء.
الثالثة: أوجب الاشهاد في الرجعة أحمد بن حنبل في أحد قوليه، والشافعي كذلك لظاهر الامر.
وقال مالك وأبو حنيفة وأحمد والشافعي في القول الآخر: إن الرجعة لا تفتقر إلى القبول، فلم تفتقر إلى الاشهاد كسائر الحقوق، وخصوصا حل الظهار بالكفارة. قال ابن العربي: وركب أصحاب الشافعي على وجوب الاشهاد في الرجعة أنه لا يصح أن يقول: كنت راجعت أمس وأنا أشهد اليوم على الإقرار بالرجعة، ومن شرط الرجعة الاشهاد فلا تصح دونه. وهذا فاسد مبني على أن الاشهاد في الرجعة تعبد. ونحن لا نسلم فيها ولا في النكاح بأن نقول: إنه موضع للتوثق، وذلك موجود في الإقرار كما هو موجود في الإنشاء.
الرابعة: من ادعى بعد انقضاء العدة أنه راجع امرأته في العدة، فإن صدقته جاز وإن أنكرت حلفت، فإن أقام بينة أنه ارتجعها في العدة ولم تعلم بذلك لم يضره جهلها بذلك، وكانت زوجته، وإن كانت قد تزوجت ولم يدخل بها ثم أقام الأول البينة على رجعتها فعن مالك في ذلك روايتان: إحداهما- أن الأول أحق بها. والأخرى- أن الثاني أحق بها. فإن كان الثاني قد دخل بها فلا سبيل للأول إليها.
الخامسة: قوله تعالى: {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} قال الحسن: من المسلمين. وعن قتادة: من أحراركم. وذلك يوجب اختصاص الشهادة على الرجعة بالذكور دون الإناث، لان ذَوَيْ مذكر. ولذلك قال علماؤنا: لا مدخل للنساء فيما عدا الأموال. وقد مضى ذلك في سورة البقرة.
السادسة: قوله تعالى: {وَأَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ} أي تقربا إلى الله في إقامة الشهادة على وجهها، إذا مست الحاجة إليها من غير تبديل ولا تغيير. وقد مضى في سورة البقرة معناه عند قوله تعالى: {وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ} [البقرة: 282]. قوله تعالى: {ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ} أي يرضى به. {مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} فأما غير المؤمن فلا ينتفع بهذه المواعظ. قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً} عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه سئل عمن طلق ثلاثا أو ألفا هل له من مخرج؟ فتلاها.
وقال ابن عباس والشعبي والضحاك: هذا في الطلاق خاصة، أي من طلق كما أمره الله يكن له مخرج في الرجعة في العدة، وأن يكون كأحد الخطاب بعد العدة وعن ابن عباس أيضا يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة.
وقيل: المخرج هو أن يقنعه الله بما رزقه، قاله علي بن صالح.
وقال الكلبي: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ بالصبر عند المصيبة. يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً من النار إلى الجنة.
وقال الحسن: مخرجا مما نهى الله عنه.
وقال أبو العالية: مخرجا من كل شدة. الربيع ابن خيثم: يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً من كل شيء ضاق على الناس. الحسين بن الفضل: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ في أداء الفرائض، يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً من العقوبة. {وَيَرْزُقْهُ} الثواب {مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} أي يبارك له فيما آتاه.
وقال سهل بن عبد الله: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ في أتباع السنة يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً من عقوبة أهل البدع، ويرزقه الجنة من حيث لا يحتسب.
وقيل: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ في الرزق بقطع العلائق يجعل له مخرجا بالكفاية.
وقال عمر بن عثمان الصدفي: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ فيقف عند حدوده ويجتنب معاصيه يخرجه من الحرام إلى الحلال، ومن الضيق إلى السعة، ومن النار إلى الجنة. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ من حيث لا يرجو.
وقال ابن عيينة: هو البركة في الرزق.
وقال أبو سعيد الخدري: ومن يبرأ من حوله وقوته بالرجوع إلى الله يجعل له مخرجا مما كلفه بالمعونة له. وتأول ابن مسعود ومسروق الآية على العموم.
وقال أبو ذر: قال النبي صلي الله عليه وسلم: «إنى لأعلم آية لو أخذ بها الناس لكفتهم- ثم تلا- وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ». فما زال يكررها ويعيدها.
وقال ابن عباس: قرأ النبي صلي الله عليه وسلم وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً. وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ قال: «مخرجا من شبهات الدنيا ومن غمرات الموت ومن شدائد يوم القيامة».
وقال أكثر المفسرين فيما ذكر الثعلبي: إنها نزلت في عوف بن مالك الأشجعي. روي الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: جاء عوف بن مالك الأشجعي إلى النبي صلي الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، إن ابني أسره العدو وجزعت الام. وعن جابر بن عبد الله: نزلت في عوف بن مالك الأشجعي أسر المشركون أبنا له يسمى سالما، فأتى رسول الله صلي الله عليه وسلم وشكا إليه الفاقة وقال: إن العدو أسر ابني وجزعت الام، فما تأمرني؟ فقال عليه السلام: «أتق الله وأصبر وآمرك وإياها أن تستكثرا من قول لا حول ولا قوة إلا بالله». فعاد إلى بيته وقال لا مرأته: إن رسول الله صلي الله عليه وسلم أمرني وإياك أن نستكثر من قول لا حول ولا قوة إلا بالله. فقالت: نعم ما أمرنا به. فجعلا يقولان، فغفل العدو عن أبنه، فساق غنمهم وجاء بها إلى أبيه، وهي أربعة آلاف شاة. فنزلت الآية، وجعل النبي صلي الله عليه وسلم تلك الأغنام له. في رواية: أنه جاء وقد أصاب إبلا من العدو وكان فقيرا. قال الكلبي: أصاب خمسين بعيرا.
وفي رواية: فأفلت أبنه من الأسر وركب ناقة للقوم، ومر في طريقه بسرح لهم فاستاقه وقال مقاتل: أصاب غنما ومتاعا فسأل النبي صلي الله عليه وسلم: أيحل لي أن آكل مما أتى به ابني؟ قال: «نعم». ونزلت: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ}. فروي الحسن عن عمران بن الحصين قال: قال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «من انقطع إلى الله كفاه الله كل مئونة ورزقه من حيث لا يحتسب. ومن انقطع إلى الدنيا وكله الله إليها».
وقال الزجاج: أي إذا اتقى وآثر الحلال والتصبر على أهله، فتح الله عليه إن كان ذا ضيقة ورزقه من حيث لا يحتسب. وعن ابن عباس أن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «من أكثر الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجا ومن كل ضيق مخرجا ورزقه من حيث لا يحتسب». قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أي من فوض إليه أمره كفاه ما أهمه.
وقيل: أي من اتقى الله وجانب المعاصي وتوكل عليه، فله فيما يعطيه في الآخرة من ثوابه كفاية. ولم يرد الدنيا، لان المتوكل قد يصاب في الدنيا وقد يقتل. {إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ} قال مسروق: أي قاض أمره فيمن توكل عليه وفيمن لم يتوكل عليه، إلا أن من توكل عليه فيكفر عنه سيئاته ويعظم له أجرا. وقراءة العامة {بالغ} منونا. {أمره} نصبا. وقرأ عاصم {بالغ أمره} بالإضافة وحذف التنوين استخفافا وقرأ المفضل {بالغا أمره} على أن قوله: قَدْ جَعَلَ اللَّهُ خبر إِنَّ و{بالغا} حال. وقرأ داود بن أبي هند {بالغ أمره} بالتنوين ورفع الراء. قال الفراء: أي أمره بالغ.
وقيل: {أمره} مرتفع ب {بالغ} والمفعول محذوف، والتقدير: بالغ أمره ما أراد. {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً} أي لكل شيء من الشدة والرخاء أجلا ينتهي إليه. وقيل تقديرا.
وقال السدي: هو قدر الحيض في الأجل والعدة.
وقال عبد الله بن رافع: لما نزل قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} قال أصحاب النبي صلي الله عليه وسلم: فنحن إذا توكلنا عليه نرسل ما كان لنا ولا نحفظه، فنزلت: {إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ} فيكم وعليكم.
وقال الربيع بن خيثم: إن الله تعالى قضى على نفسه أن من توكل عليه كفاه ومن آمن به هداه، ومن أقرضه جازاه، ومن وثق به نجاه، ومن دعاه أجاب له. وتصديق ذلك في كتاب الله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} [التغابن: 11]. {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3]. {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ} [التغابن: 17]. {وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ} [آل عمران: 101]. {وَإِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ} [البقرة: 186].

.تفسير الآيات (4- 5):

{وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5)}
قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} فيه سبع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ} لما بين أمر الطلاق والرجعة في التي تحيض، وكانوا قد عرفوا عدة ذوات الاقراء، عرفهم في هذه السورة عدة التي لا ترى الدم وقال أبو عثمان عمر بن سالم: لما نزلت عدة النساء في سورة البقرة في المطلقة والمتوفى عنها زوجها قال أبي بن كعب: يا رسول الله، إن ناسا يقولون قد بقي من النساء من لم يذكر فيهن شي: الصغار وذوات الحمل، فنزلت: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ} الآية.
وقال مقاتل: لما ذكر قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة: 228] قال خلاد بن النعمان: يا رسول الله، فما عدة التي لم تحض، وعدة التي انقطع حيضها، وعدة الحبلى؟ فنزلت: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ} يعني قعدن عن المحيض.
وقيل: إن معاذ بن جبل سأل عن عدة الكبيرة التي يئست، فنزلت الآية. والله أعلم.
وقال مجاهد: الآية واردة في المستحاضة لا تدري دم حيض هو أو دم علة.
الثانية: قوله تعالى: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} أي شككتم، وقيل تيقنتم. وهو من الأضداد، يكون شكا ويقينا كالظن. واختيار الطبري أن يكون المعنى: إن شككتم فلم تدروا ما الحكم فيهن.
وقال الزجاج: إن ارتبتم في حيضها وقد انقطع عنها الحيض وكانت ممن يحيض مثلها. القشيري: وفي هذا نظر، لأنا إذا شككنا هل بلغت سن اليأس لم نقل عدتها ثلاثة أشهر. والمعتبر في سن اليأس في قول، أقصى عادة امرأة في العالم، وفي قول: غالب نساء عشيرة المرأة.
وقال مجاهد: قوله إِنِ ارْتَبْتُمْ للمخاطبين، يعني إن لم تعلموا كم عدة اليائسة والتي لم تحض فالعدة هذه.
وقيل: المعنى إن ارتبتم أن الدم الذي يظهر منها من أجل كبر أو من الحيض المعهود أو من الاستحاضة فالعدة ثلاثة أشهر.
وقال عكرمة وقتادة: من الريبة المرأة المستحاضة التي لا يستقيم لها الحيض، تحيض في أول الشهر مرارا وفي الأشهر مرة.
وقيل: إنه متصل بأول السورة. والمعنى: لا تخرجوهن من بيوتهن إن ارتبتم في انقضاء العدة. وهو أصح ما قيل فيه.
الثالثة: المرتابة في عدتها لا تنكح حتى تستبرئ نفسها من ريبتها ولا تخرج من العدة إلا بارتفاع الريبة. وقد قيل في المرتابة التي ترفعها حيضتها وهي لا تدري ما ترفعها: إنها تنتظر سنة من يوم طلقها زوجها، منها تسعة أشهر استبراء، وثلاثة عدة. فإن طلقها فحاضت حيضة أو حيضتين ثم أرتفع عنها بغير يأس منها انتظرت تسعة أشهر، ثم ثلاثة من يوم طهرت من حيضتها ثم حلت للأزواج. وهذا قاله الشافعي بالعراق. فعلى قياس هذا القول تقيم الحرة المتوفى عنها زوجها المستبرأة بعد التسعة أشهر أربعة أشهر وعشرا، والامة شهرين وخمس ليال بعد التسعة الأشهر. وروي عن الشافعي أيضا أن أقراءها على ما كانت حتى تبلغ سن اليائسات. وهو قول النخعي والثوري وغيرهما، وحكاه أبو عبيد عن أهل العراق. فإن كانت المرأة شابة وهي:
المسألة الرابعة: استؤني بها هل هي حامل أم لا، فإن استبان حملها فإن أجلها وضعه. وإن لم يستبن فقال مالك: عدة التي أرتفع حيضها وهي شابة سنة. وبه قال أحمد وإسحاق ورووه عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه وغيره. واهل العراق يرون أن عدتها ثلاث حيض بعد ما كانت حاضت مرة واحدة في عمرها، وإن مكثت عشرين سنة، إلا أن تبلغ من الكبر مبلغا تيأس فيه من الحيض فتكون عدتها بعد الإياس ثلاثة أشهر. قال الثعلبي: وهذا الأصح من مذهب الشافعي وعليه جمهور العلماء. وروي ذلك عن ابن مسعود وأصحابه. قال الكيا. وهو الحق، لان الله تعالى جعل عدة الآيسة ثلاثة أشهر، والمرتابة ليست آيسة.
الخامسة: وأما من تأخر حيضها لمرض، فقال مالك وابن القاسم وعبد الله بن أصبغ: تعتد تسعة أشهر ثم ثلاثة.
وقال أشهب: هي كالمرضع بعد الفطام بالحيض أو بالسنة. وقد طلق حبان بن منقذ. امرأته وهي ترضع، فمكثت سنة لا تحيض لأجل الرضاع، ثم مرض حبان فخاف أن ترثه فخاصمها إلى عثمان وعنده علي وزيد، فقالا: نرى أن ترثه، لأنها ليست من القواعد ولا من الصغار، فمات حبان فورثته واعتدت عدة الوفاة.
السادسة: ولو تأخر الحيض لغير مرض ولا رضاع فإنها تنتظر سنة لا حيض فيها، تسعة أشهر ثم ثلاثة، على ما ذكرناه. فتحل ما لم ترتب بحمل، فإن ارتابت بحمل أقامت أربعة أعوام، أو خمسة، أو سبعة، على اختلاف الروايات عن علمائنا. ومشهورها خمسة أعوام، فإن تجاوزتها حلت.
وقال أشهب: لا تحل أبدا حتى تنقطع عنها الريبة. قال ابن العربي: وهو الصحيح، لأنه إذا جاز أن يبقى الولد في بطنها خمسة أعوام جاز أن يبقى عشرة وأكثر من ذلك. وقد روي عن مالك مثله.
السابعة: وأما التي جهل حيضها بالاستحاضة ففيها ثلاثة أقوال: قال ابن المسيب: تعتد سنة. وهو قول الليث. قال الليث: عدة المطلقة وعدة المتوفى عنها زوجها إذا كانت مستحاضة سنة. وهو مشهور قول علمائنا، سواء علمت دم حيضها من دم استحاضتها، وميزت ذلك أو لم تميزه، عدتها في ذلك كله عند مالك في تحصيل مذهبه سنة، منها تسعة أشهر استبراء وثلاثة عدة.
وقال الشافعي في أحد أقواله: عدتها ثلاثة أشهر. وهو قول جماعة من التابعين والمتأخرين من القرويين. ابن العربي: وهو الصحيح عندي.
وقال أبو عمر: المستحاضة إذا كان دمها ينفصل فعلمت إقبال حيضتها أو إدبارها أعتدت ثلاثة قروء. وهذا أصح في النظر، وأثبت في القياس والأثر. قوله تعالى: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ}- يعني الصغيرة- فعدتهن ثلاثة أشهر، فأضمر الخبر. وإنما كانت عدتها بالأشهر لعدم الاقراء فيها عادة، والأحكام إنما أجراها الله تعالى على العادات، فهي تعتد بالأشهر. فإذا رأت الدم في زمن احتماله عند النساء انتقلت إلى الدم لوجود الأصل، وإذا وجد الأصل لم يبق للبدل حكم، كما أن المسنة إذا اعتدت بالدم ثم أرتفع عادت إلى الأشهر. وهذا إجماع. قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فيه مسألتان: الأولى: قوله تعالى: {وَأُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ} وضع الحمل، وإن كان ظاهرا في المطلقة لأنه عليها عطف واليها رجع عقب الكلام، فإنه في المتوفى عنها زوجها كذلك، لعموم الآية وحديث سبعة. وقد مضى في البقرة القول فيه مستوفى.
الثانية: إذا وضعت المرأة ما وضعت من علقة أو مضغة حلت.
وقال الشافعي وأبو حنيفة: لا تحل إلا بما يكون ولدا. وقد مضى القول فيه في سورة البقرة وسورة الرعد والحمد لله. قوله تعالى: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} قال الضحاك: أي من يتقه في طلاق السنة يجعل له من أمره يسرا في الرجعة. مقاتل: ومن يتق الله في اجتناب معاصيه يجعل له من أمره يسرا في توفيقه للطاعة. {ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ} أي الذي ذكر من الأحكام أمر الله أنزله إليكم وبينه لكم. {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} أي يعمل بطاعته. {يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ} من الصلاة إلى الصلاة، ومن الجمعة إلى الجمعة. {وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً} أي في الآخرة.