فصل: تفسير الآية رقم (6):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (6):

{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} قال أشهب عن مالك: يخرج عنها إذا طلقها ويتركها في المنزل، لقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ}. فلو كان معها ما قال أسكنوهن.
وقال ابن نافع: قال مالك في قول الله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} يعني المطلقات اللاتي بن من أزواجهن فلا رجعة لهم عليهن وليست حاملا، فلها السكنى ولا نفقة لها ولا كسوة، لأنها بائن منه، لا يتوارثان ولا رجعة له عليها وإن كانت حاملا فلها النفقة والكسوة والمسكن حتى تنقضي عدتها. فأما من لم تبن منهن فإنهن نساؤهم يتوارثون، ولا يخرجن إلا أن يأذن لهن أزواجهن ما كن في عدتهن، ولم يؤمروا بالسكنى لهن لان ذلك لازم لأزواجهن مع نفقتهن وكسوتهن، حوامل كن أو غير حوامل. وإنما أمر الله بالسكنى للائي بنَّ من أزواجهن مع نفقتهن، قال الله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} فجعل عز وجل للحوامل اللائي قد بن من أزواجهن السكنى والنفقة. قال ابن العربي: وبسط ذلك وتحقيقه أن الله سبحانه لما ذكر السكنى أطلقها لكل مطلقة، فلما ذكر النفقة قيدها بالحمل، فدل على أن المطلقة البائن لا نفقة لها. وهي مسألة عظيمة قد مهدنا سبلها قرآنا وسنة ومعنى في مسائل الخلاف. وهذا مأخذها من القرآن.
قلت: أختلف العلماء في المطلقة ثلاثا على ثلاثة أقوال فمذهب مالك والشافعي: أن لها السكنى ولا نفقة لها. ومذهب أبي حنيفة وأصحابه: أن لها السكنى والنفقة. ومذهب أحمد وإسحاق وأبي ثور: أن لا نفقة لها ولا سكنى، على حديث فاطمة بنت قيس، قالت: دخلت إلى رسول الله صلي الله عليه وسلم ومعي أخو زوجي فقلت: إن زوجي طلقني وإن هذا يزعم أن ليس لي سكنى ولا نفقة؟ قال: «بل لك السكنى ولك النفقة». قال: إن زوجها طلقها ثلاثا. فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: «إنما السكنى والنفقة على من له عليها الرجعة». فلما قدمت الكوفة طلبني الأسود بن يزيد ليسألني عن ذلك، وإن أصحاب عبد الله يقولون: إن لها السكنى والنفقة. خرجه الدارقطني. ولفظ مسلم عنها: أنه طلقها زوجها في عهد النبي صلي الله عليه وسلم، وكان أنفق عليها نفقة دون، فلما رأت ذلك قالت: والله لأعلمن رسول الله صلي الله عليه وسلم، فإن كان لي نفقة أخذت الذي يصلحني وإن لم تكن لي نفقة لم آخذ شيئا. قالت: فذكرت ذلك لرسول الله صلي الله عليه وسلم فقال: «لا نفقة لك ولا سكنى». وذكر الدارقطني عن الأسود قال: قال عمر لما بلغه قول فاطمة بنت قيس: لا نجيز في المسلمين قول امرأة. وكان يجعل للمطلقة ثلاثا السكنى والنفقة. وعن الشعبي قال: لقيني الأسود بن يزيد فقال. يا شعبي، أتق الله وأرجع عن حديث فاطمة بنت قيس، فإن عمر كان يجعل لها السكنى والنفقة. قلت: لا أرجع عن شيء حدثتني به فاطمة بنت قيس عن رسول الله صلي الله عليه وسلم. قلت: ما أحسن هذا. وقد قال قتادة وابن أبي ليلى: لا سكنى إلا للرجعية، لقوله تعالى: {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً} [الطلاق: 1]، وقوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ} راجع إلى ما قبله، وهي المطلقة الرجعية. والله أعلم. ولان السكنى تابعة للنفقة وجارية مجراها، فلما لم تجب للمبتوتة نفقة لم يجب لها سكنى. وحجة أبي حنيفة أن للمبتوتة النفقة قوله تعالى: {وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} وترك النفقة من أكبر الإضرار.
وفي إنكار عمر على فاطمة قولها ما يبين هذا، ولأنها معتدة تستحق السكنى عن طلاق فكانت لها النفقة كالرجعية، ولأنها محبوسة عليه لحقه فاستحقت النفقة كالزوجة. ودليل مالك قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ} حَمْلٍ الآية. على ما تقدم بيانه. وقد قيل: إن الله تعالى ذكر المطلقة الرجعية وأحكامها أول الآية إلى قوله: {ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2] ثم ذكر بعد ذلك حكما يعم المطلقات كلهن من تعديد الأشهر وغير ذلك. وهو عام في كل مطلقة، فرجع ما بعد ذلك من الأحكام إلى كل مطلقة.
الثانية: قوله تعالى: {مِنْ وُجْدِكُمْ} أي من سعتكم، يقال وجدت في المال أجد وجدا ووجدا ووجدا وجدة. والوجد: الغنى والمقدرة. وقراءة العامة بضم الواو. وقرأ الأعرج والزهري بفتحها، ويعقوب بكسرها. وكلها لغات فيها.
الثالثة: قوله تعالى: {وَلا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} قال مجاهد: في المسكن. مقاتل: في النفقة، وهو قول أبي حنيفة. وعن أبي الضحى: هو أن يطلقها فإذا بقي يومان من عدتها راجعها ثم طلقها.
الرابعة: قوله تعالى: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} لا خلاف بين العلماء في وجوب النفقة والسكنى للحامل المطلقة ثلاثا أو أقل منهن حتى تضع حملها. فأما الحامل المتوفى عنها زوجها فقال علي وابن عمر وابن مسعود وشريح والنخعي والشعبي وحماد وابن أبي ليلى وسفيان والضحاك: ينفق عليها من جميع المال حتى تضع.
وقال ابن عباس وابن الزبير وجابر بن عبد الله ومالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابهم: لا ينفق عليها إلا من نصيبها. وقد مضى في البقرة بيانه. قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ}- يعني المطلقات- أولادكم منهن فعلى الآباء أن يعطوهن أجرة إرضاعهن. وللرجل أن يستأجر امرأته للرضاع كما يستأجر أجنبية ولا يجوز عند أبي حنيفة وأصحابه الاستئجار إذا كان الولد منهن ما لم يبن. ويجوز عند الشافعي. وتقدم القول في الرضاع في البقرة والنساء مستوفى ولله الحمد.
الثانية: قوله تعالى: {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} هو خطاب للأزواج والزوجات، أي وليقبل بعضكم من بعض ما أمره به من المعروف الجميل. والجميل منها إرضاع الولد من غير أجرة. والجميل منه توفير الأجرة عليها للإرضاع.
وقيل: ائتمروا في رضاع الولد فيما بينكم بمعروف حتى لا يلحق الولد إضرار.
وقيل: هو الكسوة والدثار.
وقيل: معناه لا تضار والدة بولدها ولا مولود له بولده.
الثالثة: قوله تعالى: {وَإِنْ تَعاسَرْتُمْ} أي في أجرة الرضاع فأبى الزوج أن يعطي الام رضاعها وأبت الام أن ترضعه فليس له إكراهها، وليستأجر مرضعة غير أمه.
وقيل: معناه وإن تضايقتم وتشاكستم فليسترضع لولده غيرها، وهو خبر في معنى الامر.
وقال الضحاك: إن أبت الام أن ترضع استأجر لولده أخرى، فإن لم يقبل أجبرت أمه على الرضاع بالأجر. وقد اختلف العلماء فيمن يجب عليه رضاع الولد على ثلاثة أقوال: قال علماؤنا: رضاع الولد على الزوجة ما دامت الزوجية، إلا لشرفها وموضعها فعلى الأب رضاعه يومئذ في ماله.
الثاني- قال أبو حنيفة: لا يجب على الام بحال.
الثالث- يجب عليها في كل حال.
الرابعة: فإن طلقها فلا يلزمها رضاعه إلا أن يكون غير قابل ثدي غيرها فيلزمها حينئذ الإرضاع. فإن اختلفا في الأجر فإن دعت إلى أجر مثلها وأمتنع الأب إلا تبرعا فالام أولى بأجر المثل إذا لم يجد الأب متبرعا. وإن دعا الأب إلى أجر المثل وامتنعت الام لتطلب شططا فالأب أولى به. فإن أعسر الأب بأجرتها أخذت جبرا برضاع ولدها.

.تفسير الآية رقم (7):

{لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ} أي لينفق الزوج على زوجته وعلى ولده الصغير على قدر وسعه حتى يوسع عليهما إذا كان موسعا عليه. ومن كان فقيرا فعلى قدر ذلك. فتقدر النفقة بحسب الحالة من المنفق والحاجة من المنفق عليه بالاجتهاد على مجرى حياة العادة، فينظر المفتي إلى قدر حاجة المنفق، عليه ثم ينظر إلى حالة المنفق، فإن احتملت الحالة أمضاها عليه، فإن اقتصرت حالته على حاجة المنفق عليه ردها إلى قدر احتماله.
وقال الامام الشافعي رضي الله عنه وأصحابه: النفقة مقدرة محددة، ولا اجتهاد لحاكم ولا لمفت فيها. وتقديرها هو بحال الزوج وحده من يسره وعسره، ولا يعتبر بحالها وكفايتها. قالوا: فيجب لابنة الخليفة ما يجب لابنة الحارس. فإن كان الزوج موسرا لزمه مدان، وإن كان متوسطا فمد ونصف، وإن كان معسرا فمد. واستدلوا بقوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} الآية. فجعل الاعتبار بالزوج في اليسر والعسر دونها، ولان الاعتبار بكفايتها لا سبيل إلى علمه للحاكم ولا لغيره، فيؤدي إلى الخصومة، لان الزوج يدعي أنها تلتمس فوق كفايتها، وهي تزعم أن الذي تطلب تطلبه قدر كفايتها، فجعلناها مقدرة قطعا للخصومة. والأصل في هذا عندهم قوله تعالى: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} كما ذكرنا وقوله: {عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ} [البقرة: 236]. والجواب أن هذه الآية لا تعطي أكثر من فرق بين نفقة الغني والفقير، وإنها تختلف بعسر الزوج ويسره. وهذا مسلم. فأما إنه لا اعتبار بحال الزوجة على وجهه فليس فيه، وقد قال الله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} البقرة: 233 وذلك يقتضي تعلق المعروف في حقهما، لأنه لم يخص في ذلك واحدا منهما. وليس من المعروف أن يكون كفاية الغنية مثل نفقة الفقيرة، وقد قال رسول الله صلي الله عليه وسلم لهند: «خدي ما يكفيك وولدك بالمعروف». فأحالها على الكفاية حين علم السعة من حال أبي سفيان الواجب عليه بطلبها، ولم يقل لها لا اعتبار بكفايتك وأن الواجب لك شيء مقدر، بل ردها إلى ما يعلمه من قدر كفايتها ولم يعلقه بمقدار معلوم. ثم ما ذكروه من التحديد يحتاج إلى توقيف، والآية لا تقتضيه.
الثانية: روي أن عمر رضي الله عنه فرض للمنفوس مائة درهم، وفرض له عثمان خمسين درهما. ابن العربي: واحتمل أن يكون هذا الاختلاف بحسب اختلاف السنين أو بحسب حال القدر في التسعير لثمن القوت والملبس، وقد روي محمد بن هلال المزني قال: حدثني أبي وجدتي أنها كانت ترد على عثمان ففقدها فقال لأهله: ما لي لا أرى فلانة؟ فقالت امرأته: يا أمير المؤمنين، ولدت الليلة، فبعث إليها بخمسين درهما وشقيقة سنبلانية. ثم قال: هذا عطاء ابنك وهذه كسوته، فإذا مرت له سنة رفعناه إلى مائة. وقد أتي علي رضي الله عنه بمنبوذ ففرض له مائة. قال ابن العربي: هذا الفرض قبل الفطام مما أختلف فيه العلماء، فمنهم من رآه مستحبا لأنه داخل في حكم الآية، ومنهم من رآه واجبا لما تجدد من حاجته وعرض من مؤنته، وبه أقول. ولكن يختلف قدره بحاله عند الولادة وبحاله عند الفطام. وقد روي سفيان بن وهب أن عمر أخذ المد بيد والقسط بيد فقال: إني فرضت لكل نفس مسلمة في كل شهر مدى حنطة وقسطي خل وقسطي زيت. زاد غيره: وقال إنا قد أجرينا لكم أعطياتكم وأرزاقكم في كل شهر، فمن انتقصها فعل الله به كذا وكذا، فدعا عليه. قال أبو الدرداء: كم سنة راشدة مهدية قد سنها عمر رضي الله عنه في أمة محمد صلي الله عليه وسلم! والمد والقسط كيلان شاميان في الطعام والإدام، وقد درسا بعرف أخر.
فأما المد فدرس إلى الكيلجة. وأما القسط فدرس إلى الكيل، ولكن التقدير فيه عندنا ربعان في الطعام وثمنان في الإدام. وأما الكسوة فبقدر العادة قميص وسراويل وجبة في الشتاء وكساء وإزار وحصير. وهذا الأصل، ويتزيد بحسب الأحوال والعادة.
الثالثة: هذه الآية أصل في وجوب النفقة للولد على الوالد دون الام، خلافا لمحمد بن المواز يقول: إنها على الأبوين على قدر الميراث. ابن العربي: ولعل محمدا أراد أنها على الام عند عدم الأب.
وفي البخاري عن النبي صلي الله عليه وسلم: «تقول لك المرأة أنفق علي وإلا فطلقني ويقول لك العبد أنفق على واستعملني ويقول لك ولدك أنفق علي إلى من تكلني» فقد تعاضد القرآن والسنة وتواردا في شرعة واحدة.
الرابعة: قوله تعالى: {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها} أي لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني. سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً أي بعد الضيق غنى، وبعد الشدة سعة.