فصل: تفسير الآية رقم (44):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (44):

{خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)}
قوله تعالى: {خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ} أي ذليلة خاضعة، لا يرفعونها لما يتوقعونه من عذاب الله. {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أي يغشاهم الهوان. قال قتادة: هو سواد الوجوه. والرهق: الغشيان، ومنه غلام مراهق إذا غشي الاحتلام. رهقه بالكسر يرهقه رهقا أي غشيه، ومنه قوله تعالى: {وَلا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلا ذِلَّةٌ} [يونس: 26]. {ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ} أي يوعدونه في الدنيا أن لهم فيه العذاب. وأخرج الخبر بلفظ الماضي لان ما وعد الله به يكون ولا محالة.

.سورة نوح:

سورة نوح مكية، وهي ثمان وعشرون آية.
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

.تفسير الآية رقم (1):

{إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1)}
قد مضى القول في الأعراف أن نوحا عليه السلام أول رسول أرسل. ورواه قتادة عن ابن عباس عن النبي صلي الله عليه وسلم قال: «أول رسول أرسل نوح وأرسل إلى جميع أهل الأرض». فلذلك لما كفروا أغرق الله أهل الأرض جميعا. وهو نوح بن لامك ابن متوشلخ بن أخنوخ وهو إدريس بن يرد بن مهلايل بن أنوش بن قينان بن شيث بن آدم عليه السلام. قال وهب: كلهم مؤمنون. أرسل إلى قومه وهو ابن خمسين سنة.
وقال ابن عباس: ابن أربعين سنة.
وقال عبد الله بن شداد: بعث وهو ابن ثلاثمائة وخمسين سنة. وقد مضى في سورة العنكبوت القول فيه. والحمد لله. {أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ} أي بأن أنذر قومك، فموضع أَنْ نصب بإسقاط الخافض.
وقيل: موضعها جر لقوة خدمتها مع أَنْ. ويجوز أَنْ بمعنى المفسرة فلا يكون لها موضع من الاعراب، لان في الإرسال معنى الامر، فلا حاجة إلى إضمار الباء. وقراءة عبد الله أَنْذِرْ قَوْمَكَ بغير أَنْ بمعنى قلنا له أنذر قومك. وقد تقدم معنى الإنذار في أول البقرة. {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ} قال ابن عباس: يعني عذاب النار في الآخرة.
وقال الكلبي: هو ما نزل عليهم من الطوفان.
وقيل: أي أنذرهم العذاب الأليم على الجملة إن لم يؤمنوا. فكان يدعو قومه وينذرهم فلا يرى منهم مجيبا، وكانوا يضربونه حتى يغشى عليه فيقول: «رب اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون». وقد مضى هذا مستوفى في سورة العنكبوت والحمد لله.

.تفسير الآيات (2- 4):

{قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)}
قوله تعالى: {قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ} أي مخوف. {مُبِينٌ} أي مظهر لكم بلسانكم الذي تعرفونه. {أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ} وأَنِ المفسرة على ما تقدم في أَنْ أَنْذِرْ. اعْبُدُوا أي وحدوا. واتقوا: خافوا. {وَأَطِيعُونِ} أي فيما آمركم به، فإني رسول الله إليكم. {يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ} جزم يَغْفِرْ بجواب الامر. ومِنْ صلة زائدة. ومعنى الكلام يغفر لكم ذنوبكم، قاله السدي.
وقيل: لا يصح كونها زائدة، لان مِنْ لا تزاد في الواجب، وإنما هي هنا للتبعيض، وهو بعض الذنوب، وهو ما لا يتعلق بحقوق المخلوقين.
وقيل: هي لبيان الجنس. وفية بعد، إذ لم يتقدم جنس يليق به.
وقال زيد ابن أسلم: المعنى يخرجكم من ذنوبكم. ابن شجرة: المعنى يغفر لكم من ذنوبكم ما استغفرتموه منها {وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى} قال ابن عباس: أي ينسئ في أعماركم. ومعناه أن الله تعالى كان قضى قبل خلقهم أنهم إن آمنوا بارك في أعمارهم، وإن لم يؤمنوا عوجلوا بالعذاب.
وقال مقاتل: يؤخركم إلى منتهى آجالكم في عافية، فلا يعاقبكم بالقحط وغيره. فالمعنى على هذا يؤخركم من العقوبات والشدائد إلى آجالكم. وقال: الزجاج أي يؤخركم عن العذاب فتموتوا غير موتة المستأصلين بالعذاب. وعلى هذا قيل: أَجَلٍ مُسَمًّى عندكم تعرفونه، لا يميتكم غرقا ولا حرقا ولا قتلا، ذكره الفراء. وعلى القول الأول أَجَلٍ مُسَمًّى عند الله. {إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ} أي إذا جاء الموت لا يؤخر بعذاب كان أو بغير عذاب. وأضاف الأجل إليه سبحانه لأنه الذي أثبته. وقد يضاف إلى القوم، كقوله تعالى: {فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ} [النحل: 61] لأنه مضروب لهم. ولَوْ بمعنى {إن} أي إن كنتم تعلمون.
وقال الحسن: معناه لو كنتم تعلمون لعلمتم أن أجل الله إذا جاءكم لم يؤخر.

.تفسير الآيات (5- 6):

{قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6)}
قوله تعالى: {قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهاراً} أي سرا وجهرا.
وقيل: أي واصلت الدعاء. {فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً} أي تباعدا من الايمان. وقراءة العامة بفتح الياء من {دعائي} وأسكنها الكوفيون ويعقوب والدوري عن أبي عمرو.

.تفسير الآية رقم (7):

{وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7)}
قوله تعالى: {وَإِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ} أي إلى سبب المغفرة، وهي الايمان بك والطاعة لك. {جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ} لئلا يسمعوا دعائي {وَاسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ} أي غطوا بها وجوههم لئلا يروه.
وقال ابن عباس: جعلوا ثيابهم على رؤوسهم لئلا يسمعوا كلامه. فاستغشاء الثياب إذا زيادة في سد الآذان حتى لا يسمعوا، أو لتنكيرهم أنفسهم حتى يسكت، أو ليعرفوه إعراضهم عنه.
وقيل: هو كناية عن العداوة. يقال: لبس لي فلان ثياب العداوة. {وَأَصَرُّوا} أي على الكفر فلم يتوبوا. {وَاسْتَكْبَرُوا} عن قبول الحق، لأنهم قالوا: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} [الشعراء: 111]. {اسْتِكْباراً} تفخيم.

.تفسير الآيات (8- 9):

{ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9)}
قوله تعالى: {ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً} أي مظهرا لهم الدعوة. وهو منصوب ب دَعَوْتُهُمْ نصب المصدر، لان الدعاء أحد نوعيه الجهار، فنصب به نصب القرفصاء بقعد، لكونها أحد أنواع القعود، أو لأنه أراد ب دَعَوْتُهُمْ جاهرتهم. ويجوز أن يكون صفة لمصدر دعا، أي دعاء جهارا، أي مجاهرا به. ويكون مصدرا في موضع الحال، أي دعوتهم مجاهرا لهم بالدعوة. {ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً} أي لم أبق مجهودا.
وقال مجاهد: معنى أعلنت: صحت، وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً. بالدعاء عن بعضهم من بعض.
وقيل: أَسْرَرْتُ لَهُمْ أتيتهم في منازلهم. وكل هذا من نوح عليه السلام مبالغة في الدعاء لهم، وتلطف في الاستدعاء. وفتح الياء من إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ الحرميون وأبو عمرو. وأسكن الباقون.

.تفسير الآيات (10- 12):

{فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12)}
فيه ثلاث مسائل الأولى: قوله تعالى: {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ} أي سلوه المغفرة من ذنوبكم السالفة بإخلاص الايمان. {إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً} وهذا منه ترغيب في التوبة. وقد روى حذيفة ابن اليمان عن النبي صلي الله عليه وسلم أنه قال: «الاستغفار ممحاة للذنوب».
وقال الفضيل: يقول العبد أستغفر الله، وتفسيرها أقلني.
الثانية: قوله تعالى: {يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً} أي يرسل ماء السماء، ففيه إضمار.
وقيل: السماء المطر، أي يرسل المطر. قال الشاعر:
إذا سقط السماء بأرض قوم ** رعيناه وإن كانوا غضابا

ومِدْراراً ذا غيث كثير. وجزم يُرْسِلِ جوابا للأمر.
وقال مقاتل: لما كذبوا نوحا زمانا طويلا حبس الله عنهم المطر، وأعقم أرحام نسائهم أربعين سنة، فهلكت مواشيهم وزروعهم، فصاروا إلى نوح عليه السلام واستغاثوا به. فقال اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً أي لم يزل كذلك لمن أناب إليه. ثم قال ترغيبا في الايمان: يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً. وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً. قال قتادة: علم نبي الله صلي الله عليه وسلم أنهم أهل حرص على الدنيا فقال: «هلموا إلى طاعة الله فإن في طاعة الله درك الدنيا والآخرة».
الثالثة: في هذه الآية والتي في هود دليل على أن الاستغفار يستنزل به الرزق والأمطار. قال الشعبي: خرج عمر يستسقي فلم يزد على الاستغفار حتى رجع، فأمطروا فقالوا: ما رأيناك استسقيت؟ فقال: لقد طلبت المطر بمجاديح السماء التي يستنزل بها المطر، ثم قرأ: {اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً}.
وقال الأوزاعي: خرج الناس يستسقون، فقام فيهم بلال بن سعد فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: اللهم إنا سمعناك تقول: {ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ} [التوبة: 91] وقد أقررنا بالإساءة، فهل تكون مغفرتك إلا لمثلنا؟! اللهم اغفر لنا وارحمنا واسقنا! فرفع يديه ورفعوا أيديهم فسقوا.
وقال ابن صبيح: شكا رجل إلى الحسن الجدوبة فقال له: استغفر الله. وشكا آخر إليه الفقر فقال له: استغفر الله.
وقال له آخر. ادع الله أن يرزقني ولدا، فقال له: استغفر الله. وشكا إليه آخر جفاف بستانه، فقال له: استغفر الله. فقلنا له في ذلك؟ فقال: ما قلت من عندي شيئا، إن الله تعالى يقول في سورة نوح: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً. يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً.
وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً وقد مضى في سورة آل عمران كيفية الاستغفار، وإن ذلك يكون عن إخلاص وإقلاع من الذنوب. وهو الأصل في الإجابة.

.تفسير الآيات (13- 14):

{ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)}
قيل: الرجاء هنا بمعنى الخوف، أي مالكم لا تخافون لله عظمة وقدرة على أحدكم بالعقوبة. أي أي عذر لكم في ترك الخوف من الله.
وقال سعيد بن جبير وأبو العالية وعطاء ابن أبي رباح: ما لكم لا ترجون لله ثوابا ولا تخافون له عقابا.
وقال سعيد بن جبير عن ابن عباس: مالكم لا تخشون لله عقابا وترجون منه ثوابا.
وقال الوالبي والعوفي عنه: ما لكم لا تعلمون لله عظمة.
وقال ابن عباس أيضا ومجاهد: مالكم لا ترون لله عظمة. وعن مجاهد والضحاك: ما لكم لا تبالون لله عظمة. قال قطرب: هذه لغة حجازية. وهذيل وخزاعة ومضر يقولون: لم أرج: لم أبال. والوقار: العظمة. والتوقير: التعظيم.
وقال قتادة: ما لكم لا ترجون لله عاقبة، كأن المعنى ما لكم لا ترجون لله عاقبة الايمان.
وقال ابن كيسان: ما لكم لا ترجون في عبادة الله وطاعته أن يثيبكم على توقيركم خيرا.
وقال ابن زيد: مالكم لا تؤدون لله طاعة.
وقال الحسن: مالكم لا تعرفون لله حقا ولا تشكرون له نعمة.
وقيل: مالكم لا توحدون الله، لان من عظمه فقد وحده.
وقيل: إن الوقار الثبات لله عز وجل، ومنه قوله تعالى: {وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ} [الأحزاب: 33] أي أثبتن. ومعناه ما لكم لا تثبتون وحدانية الله تعالى وأنه إلهكم لا إله لكم سواه، قاله ابن بحر. ثم دلهم على ذلك فقال: {وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً} أي جعل لكم في أنفسكم آية تدل على توحيده. قال ابن عباس: أَطْواراً يعني نطفة ثم علقة ثم مضغة، أي طورا بعد طور إلى تمام الخلق، كما ذكر في سورة المؤمنون. والطور في اللغة: المرة، أي من فعل هذا وقدر عليه فهو أحق أن تعظموه.
وقيل: أَطْواراً صبيانا، ثم شبابا، ثم شيوخا وضعفاء، ثم أقوياء.
وقيل: أطوارا أي أنواعا: صحيحا وسقيما، وبصيرا وضريرا، وغنيا وفقيرا.
وقيل: إن أَطْواراً اختلافهم في الأخلاق والافعال.