فصل: تفسير الآية رقم (25):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (25):

{مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25)}
قوله تعالى: {مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا} ما صلة مؤكدة، والمعنى من خطاياهم وقال الفراء: المعنى من أجل خطاياهم، فأدت ما هذا المعنى. قال: وما تدل على المجازاة. وقراءة أبي عمرو خطاياهم على جمع التكسير، الواحدة خطية. وكان الأصل في الجمع خطائي على فعائل، فلما اجتمعت الهمزتان قلبت الثانية ياء، لان قبلها كسرة ثم استثقلت والجمع ثقيل، وهو معتل مع ذلك، فقلبت الياء ألفا ثم قلبت الهمزة الأولى ياء لخفائها بين الألفين. الباقون خَطِيئاتِهِمْ على جمع السلامة. قال أبو عمرو: قوم كفروا ألف سنة فلم يكن لهم إلا خطيات، يريد أن الخطايا أكثر من الخطيات.
وقال قوم: خطايا وخطيات واحد، جمعان مستعملان في الكثرة والقلة، واستدلوا بقوله تعالى: {ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ} [لقمان: 27] وقال الشاعر:
لنا الجفنات الغر يلمعن بالضحى ** وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

وقرى خَطِيئاتِهِمْ وخطياتهم بقلب الهمزة ياء وإدغامها. وعن الجحدري وعمرو ابن عبيد والأعمش وأبي حيوة وأشهب العقيلي {خطيئتهم} على التوحيد، والمراد الشرك. {فَأُدْخِلُوا ناراً} أي بعد إغراقهم. قال القشيري: وهذا يدل على عذاب القبر. ومنكروه يقولون: صاروا مستحقين دخول النار، أو عرض عليهم أماكنهم من النار، كما قال تعالى: {النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَعَشِيًّا} [غافر: 46].
وقيل: أشاروا إلى ما في الخبر من قوله: البحر نار في نار.
وروى أبو روق عن الضحاك في قوله تعالى: {أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً} قال: يعني عذبوا بالنار في الدنيا مع الغرق في الدنيا في حالة واحدة، كانوا يغرقون في جانب ويحترقون في الماء من جانب. ذكره الثعلبي قال: أنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال أنشدنا أبو سعيد أحمد بن محمد بن رميح قال أنشدني أبو بكر بن الأنباري:
الخلق مجتمع طورا ومفترق ** والحادثات فنون ذات أطوار

لا تعجبن لأضداد إن اجتمعت ** فالله يجمع بين الماء والنار

{فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً} أي من يدفع عنهم العذاب.

.تفسير الآيات (26- 27):

{وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: دعا عليهم حين يئس من أتباعهم إياه.
وقال قتادة: دعا عليهم بعد أن أوحى الله إليه: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36] فأجاب الله دعوته وأغرق أمته، وهذا كقول النبي صلي الله عليه وسلم: «اللهم منزل الكتاب سريع الحساب وهازم الأحزاب اهزمهم وزلزلهم».
وقيل: سبب دعائه أن رجلا من قومه حمل ولدا صغيرا على كتفه فمر بنوح فقال: احذر هذا فإنه يضلك فقال: يا أبت أنزلني، فأنزله فرماه فشجه، فحينئذ غضب ودعا عليهم.
وقال محمد بن كعب ومقاتل والربيع وعطية وابن زيد: إنما قال هذا حينما أخرج الله كل مؤمن من أصلابهم وأرحام نسائهم. وأعقم أرحام النساء وأصلاب الرجال قبل العذاب بسبعين سنة.
وقيل: بأربعين. قال قتادة: ولم يكن فيهم صبي وقت العذاب.
وقال الحسن وأبو العالية: لو أهلك الله أطفالهم معهم كان عذابا من الله لهم وعدلا فيهم، ولكن الله أهلك أطفالهم وذريتهم بغير عذاب، ثم أهلكهم بالعذاب، بدليل قوله تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ} [الفرقان: 37].
الثانية: قال ابن العربي: دعا نوح على الكافرين أجمعين، ودعا النبي صلي الله عليه وسلم على من تحزب على المؤمنين وألب عليهم. وكان هذا أصلا في الدعاء على الكافرين في الجملة، فأما كافر معين لم تعلم خاتمته فلا يدعى عليه، لان مآله عندنا مجهول، وربما كان عند الله معلوم الخاتمة بالسعادة. وإنما خص النبي صلي الله عليه وسلم بالدعاء عتبة وشيبة وأصحابهما، لعلمه بمالهم وما كشف له من الغطاء عن حالهم. والله أعلم. قلت: قد مضت هذه المسألة مجودة في سورة البقرة والحمد لله.
الثالثة: قال ابن العربي: إن قيل لم جعل نوح دعوته على قومه سببا لتوقفه عن طلب الشفاعة للخلق من الله في الآخرة؟ قلنا قال الناس في ذلك وجهان: أحدهما- أن تلك الدعوة نشأت عن غضب وقسوة، والشفاعة تكون عن رضا ورقة، فخاف أن يعاتب ويقال: دعوت على الكفار بالأمس وتشفع لهم اليوم.
الثاني- أنه دعا غضبا بغير نص ولا إذن صريح في ذلك، فخاف الدرك فيه يوم القيامة، كما قال موسى عليه السلام: إني قتلت نفسا لم أومر بقتلها. قال: وبهذا أقول. قلت: وإن كان لم يؤمر بالدعاء نصا فقد قيل له: {أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ} [هود: 36]. فأعلم عواقبهم فدعا عليهم بالهلاك، كما دعا نبينا صلي الله عليه وسلم على شيبة وعتبة ونظرائهم فقال: «اللهم عليك بهم» لما أعلم عواقبهم، وعلى هذا يكون فيه معنى الامر بالدعاء. والله أعلم.
الرابعة: قوله تعالى: {دَيَّاراً إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً} أي من يسكن الديار، قاله السدي. وأصله ديوار على فيعال من دار يدور، فقلبت الواو ياء وأدغمت إحداهما في الأخرى. مثل القيام، أصله قيوام. ولو كان فعالا لكان دوارا.
وقال القتبي: أصله من الدار، أي نازل بالدار. يقال: ما بالدار ديار، أي أحد.
وقيل: الديار صاحب الدار.

.تفسير الآية رقم (28):

{رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)}
قوله تعالى: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوالِدَيَّ} دعا لنفسه ولوالديه وكانا مؤمنين. وهما: لمك بن متوشلخ وشمخى بنت أنوش، ذكره القشيري والثعلبي.
وحكى الماوردي في أسم أمه منجل.
وقال سعيد بن جبير: أراد بوالديه أباه وجده. وقرأ سعيد بن جبير {لوالدي} بكسر الدال على الواحد. قال الكلبي: كان بينه وبين آدم عشرة آباء كلهم مؤمنون.
وقال ابن عباس: لم يكفر لنوح والد فيما بينه وبين آدم عليهما السلام. {وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً} أي مسجدي ومصلاي مصليا مصدقا بالله. وكان إنما يدخل بيوت الأنبياء من آمن منهم فجعل المسجد سببا للدعاء بالمغفرة. وقد قال النبي صلي الله عليه وسلم: «الملائكة تصلي على أحدكم ما دام في مجلسه الذي صلي فيه ما لم يحدث فيه تقول اللهم أغفر له اللهم أرحمه» الحديث. وقد تقدم. وهذا قول ابن عباس: بَيْتِيَ مسجدي، حكاه الثعلبي وقاله الضحاك. وعن ابن عباس أيضا: أي ولمن دخل ديني، فالبيت بمعنى الدين، حكاه القشيري وقاله جويبر. وعن ابن عباس أيضا: يعني صديقي الداخل إلى منزلي، حكاه الماوردي.
وقيل: أراد داري. وقيل سفينتي. {وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ} عامة إلى يوم القيامة، قاله الضحاك.
وقال الكلبي: من أمة محمد صلي الله عليه وسلم.
وقيل: من قومه، والأول أظهر. {وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ} أي الكافرين. {إِلَّا تَباراً} إلا هلاكا، فهي عامة في كل كافر ومشرك.
وقيل: أراد مشركي قومه. والتبار: الهلاك.
وقيل: الخسران، حكاهما السدي. ومنه قوله تعالى: {إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ} [الأعراف: 139].
وقيل: التبار الدمار، والمعنى واحد. والله أعلم بذلك. وهو الموفق للصواب.

.سورة الجن:

سورة الجن مكية في قول الجميع. وهي ثمان وعشرون آية.

.تفسير الآيات (1- 3):

{قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَلا وَلَداً (3)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ} أي قل يا محمد لأمتك: أوحى الله إلي على لسان جبريل أَنَّهُ اسْتَمَعَ إلي نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ وما كان عليه السلام عالما به قبل أن أوحى إليه. هكذا قال ابن عباس وغيره على ما يأتي. وقرأ ابن أبي عبلة: {أحى} على الأصل، يقال: أوحى إليه ووحى، فقلبت الواو همزة، ومنه قوله تعالى: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} [المرسلات: 11] وهو من القلب المطلق جوازه في كل واو مضمومة. وقد أطلقه المازني في المكسورة أيضا كإشاح وإسادة و{إعاء أخيه} ونحوه.
الثانية: واختلف هل رآهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أم لا؟ فظاهر القرآن يدل على أنه لم يرهم، لقوله تعالى: {اسْتَمَعَ}، وقوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ} [الأحقاف: 29].
وفي صحيح مسلم والترمذي عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على الجن وما رآهم، انطلق رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء، وأرسلت عليهم الشهب، فرجعت الشياطين إلى قومهم، فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا وبين خبر السماء، وأرسلت علينا الشهب! قالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها، فانظروا ما هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء؟ فانطلقوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة وهو بنخلة عامدين إلى سوق عكاظ، وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر، فلما سمعوا القرآن استمعوا له وقالوا: هذا الذي حال بيننا وبين خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم فقالوا: يا قومنا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً فأنزل الله عز وجل على نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ. رواه الترمذي عن ابن عباس قال: قول الجن لقومهم لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً قال: لما رأوه يصلى وأصحابه يصلون بصلاته فيسجدون بسجوده قال: تعجبوا من طواعية أصحابه له، قالوا لقومهم: {لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً} [الجن: 19]. قال: هذا حديث حسن صحيح، ففي هذا الحديث دليل على أنه عليه السلام لم ير الجن ولكنهم حضروه، وسمعوا قراءته. وفية دليل على أن الجن كانوا مع الشياطين حين تجسسوا الخبر بسبب الشياطين لما رموا بالشهب. وكان المرميون بالشهب من الجن أيضا. وقيل لهم شياطين كما قال: {شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ} [الأنعام: 112] فإن الشيطان كل متمرد وخارج عن طاعة الله.
وفي الترمذي عن ابن عباس قال: كان الجن يصعدون إلى السماء يستمعون إلى الوحي فإذا سمعوا الكلمة زادوا فيها تسعا، فأما الكلمة فتكون حقا، وأما ما زادوا فيها، فيكون باطلا. فلما بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منعوا مقاعدهم، فذكروا ذلك لإبليس ولم تكن النجوم يرمى بها قبل ذلك، فقال لهم إبليس: ما هذا الامر إلا من أمر قد حدث في الأرض!
فبعث جنوده فوجدوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائما يصلي بين جبلين- أراه قال بمكة- فأتوه فأخبروه فقال: هذا الحدث الذي حدث في الأرض. قال: هذا حديث حسن صحيح. فدل هذا الحديث على أن الجن رموا كما رميت الشياطين.
وفي رواية السدي: أنهم لما رموا أتوا إبليس فأخبروه بما كان من أمرهم فقال: ايتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها فأتوه فشم فقال: صاحبكم بمكة. فبعث نفرا من الجن، قيل: كانوا سبعة.
وقيل: تسعة منهم زوبعة.
وروى عاصم عن زر قال: قدم رهط زوبعة وأصحابه على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال الثمالي: أنهم من بني الشيصبان وهم أكثر الجن عددا وأقواهم شوكة وهم عامة جنود إبليس.
وروى أيضا عاصم عن زر: أنهم كانوا سبعة نفر، ثلاثة من أهل حران وأربعة من أهل نصيبين.
وحكى جويبر عن الضحاك: أنهم كانوا تسعة من أهل نصيبين قرية باليمن غير التي بالعراق.
وقيل: إن الجن الذين أتوا مكة جن نصيبين، والذين أتوه بنخلة جن نينوى. وقد مضى بيان هذا في سورة الأحقاف. قال عكرمة: والسورة التي كان يقرؤها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} [العلق: 1] وقد مضى في سورة الأحقاف التعريف باسم النفر من الجن، فلا معنى لاعادة ذلك.
وقيل: إن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رأى الجن ليلة الجن وهو أثبت، روى عامر الشعبي قال: سألت علقمة هل كان ابن مسعود شهد مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الجن؟ فقال علقمة: أنا سألت ابن مسعود فقلت: هل شهد أحد منكم مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الجن؟ قال: لا، ولكنا كنا مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذات ليلة ففقدناه، فالتمسناه في الأودية والشعاب، فقلنا استطير أو اغتيل، قال: فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فلما أصبح إذا هو يجئ من قبل حراء، فقلنا: يا رسول الله! فقدناك وطلبناك فلم نجدك، فبتنا بشر ليلة بات بها قوم، فقال: «أتاني داعي الجن فذهبت معه فقرأت عليهم القرآن فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم، وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة، فقال: لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحما، وكل بعرة علف لدوابكم فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فلا تستنجوا بهما، فإنهما طعام إخوانكم الجن» قال ابن العربي: وابن مسعود أعرف من ابن عباس، لأنه شاهده وابن عباس سمعه وليس الخبر كالمعاينة. وقد قيل: إن الجن أتوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دفعتين: إحداهما بمكة وهي التي ذكرها ابن مسعود، والثانية بنخلة وهي التي ذكرها ابن عباس. قال البيهقي: الذي حكاه عبد الله بن عباس إنما هو في أول ما سمعت الجن قراءة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وعلمت بحاله، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم كما حكاه، ثم أتاه داعي الجن مرة أخرى فذهب معه وقرأ عليهم القرآن كما حكاه عبد الله بن مسعود قال البيهقي: والأحاديث الصحاح تدل على أن ابن مسعود لم يكن مع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة الجن، وإنما سار معه حين انطلق به وبغيره يريه آثار الجن وآثار نيرانهم. قال: وقد روى من غير وجه أنه كان معه ليلتئذ، وقد مضى هذا المعنى في سورة الأحقاف والحمد لله. روي عن ابن مسعود أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «أمرت أن أتلو القرآن على الجن فمن يذهب معي؟ فسكتوا، ثم قال الثانية، ثم قال الثالثة، ثم قال عبد الله بن مسعود: أنا أذهب معك يا رسول الله، فانطلق حتى جاء الحجون عند شعب أبي دب فخط علي خطا فقال: لا تجاوزه ثم مضى إلى الحجون فانحدر عليه أمثال الحجل يحدرون الحجارة بأقدامهم، يمشون يقرعون في دفوفهم كما تقرع النسوة في دفوفها، حتى غشوه فلا أراه، فقمت فأومى إلي بيده أن أجلس، فتلا القرآن فلم يزل صوته يرتفع، ولصقوا بالأرض حتى ما أراهم، فلما انفتل إلي قال: أردت أن تأتيني؟ قلت: نعم يا رسول الله. قال: ما كان ذلك لك، هؤلاء الجن أتوا يستمعون القرآن، ثم ولوا إلى قومهم منذرين فسألوني الزاد فزودتهم العظم والبعر فلا يستطيبن أحدكم بعظم ولا بعر».
قال عكرمة: وكانوا اثنى عشر ألفا من جزيرة الموصل.
وفي رواية: «انطلق بي عليه السلام حتى إذا جئنا المسجد الذي عند حائط عوف خط لي خطا، فأتاه نفر منهم فقال أصحابنا كأنهم رجال الزط وكان وجوههم المكاكي، فقالوا: ما أنت؟ قال: أنا نبي الله قالوا: فمن يشهد لك على ذلك؟ قال: هذه الشجرة فقال: يا شجرة فجاءت تجر عروقها، لها قعاقع حتى انتصبت بين يديه، فقال: على ماذا تشهدين قالت: أشهد أنك رسول الله فرجعت كما جاءت تجر بعروقها الحجارة، لها قعاقع حتى عادت كما كانت». ثم روى أنه عليه السلام لما فرغ وضع رأسه على حجر ابن مسعود فرقد ثم استيقظ فقال: هل من وضوء قال: لا، إلا أن معي إداوة فيها نبيذ. فقال: هل هو إلا تمر وماء فتوضأ منه. قد الثالثة: قد مضى الكلام في الماء في سورة الحجر وما يستنجى به في سورة براءة فلا معنى للإعادة.
الرابعة: واختلف أهل العلم، في أصل الجن، فروى إسماعيل عن الحسن البصري: أن الجن ولد إبليس، والانس ولد آدم، ومن هؤلاء وهؤلاء مؤمنون وكافرون، وهم شركاء في الثواب والعقاب. فمن كان من هؤلاء وهؤلاء مؤمنا فهو ولي الله، ومن كان من هؤلاء وهؤلاء كافرا فهو شيطان.
وروى الضحاك عن ابن عباس: أن الجن هم ولد الجان وليسوا بشياطين، وهم يؤمنون، ومنهم المؤمن ومنهم الكافر، والشياطين هم ولد إبليس لا يموتون إلا مع إبليس. واختلفوا في دخول مؤمني الجن الجنة، على حسب الاختلاف في أصلهم. فمن زعم أنهم من الجان لا من ذرية إبليس قال: يدخلون الجنة بإيمانهم. ومن قال: إنهم من ذرية إبليس فلهم فيه قولان: أحدهما- وهو قول الحسن يدخلونها.
الثاني- وهو رواية مجاهد لا يدخلونها وإن صرفوا عن النار. حكاه الماوردي. وقد مضى في سورة الرحمن عند قوله تعالى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلا جَانٌّ} [الرحمن: 56] بيان أنهم يدخلونها.
الخامسة: قال البيهقي في روايته: وسألوه الزاد وكانوا من جن الجزيرة فقال: لكم كل عظم دليل على أنهم يأكلون ويطعمون. وقد أنكر جماعة من كفرة الأطباء والفلاسفة الجن، وقالوا: إنهم بسائط، ولا يصح طعامهم، اجتراء على الله وافتراء، والقرآن والسنة ترد عليهم، وليس في المخلوقات بسيط مركب مزدوج، إنما الواحد الواحد سبحانه، وغيره مركب وليس بواحد كيفما تصرف حاله. وليس يمتنع أن يراهم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صورهم كما يرى الملائكة. وأكثر ما يتصورون لنا في صور الحيات، ففي الموطأ: أن رجلا حديث عهد بعرس استأذن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإنصاف النهار أن يرجع إلى أهله... الحديث، وفيه: فإذا حية عظيمة منطوية على الفراش، فأهوى إليها بالرمح فانتظمها. وذكر الحديث.
وفي الصحيح أنه عليه السلام قال: «إن لهذه البيوت عوامر، فإذا رأيتم منها شيئا فحرجوا عليها ثلاثا، فإن ذهب وإلا فاقتلوه فإنه كافر». وقال: «اذهبوا فادفنوا صاحبكم» وقد مضى هذا المعنى في سورة البقرة وبيان التحريج عليهن. وقد ذهب قوم إلى أن ذلك مخصوص بالمدينة، لقوله في الصحيح: «إن بالمدينة جنا قد أسلموا». وهذا لفظ مختص بها فيختص بحكمها. قلنا: هذا يدل على أن غيرها من البيوت مثلها، لأنه لم يعلل بحرمة المدينة، فيكون ذلك الحكم مخصوصا بها، وإنما علل بالإسلام، وذلك عام في غيرها، ألا ترى قوله في الحديث مخبرا عن الجن الذي لقى: «وكانوا من جن الجزيرة» وهذا بين يعضده قوله: «ونهى عن عوامر البيوت» وهذا عام. وقد مضى في سورة البقرة القول في هذا فلا معنى للإعادة.
قوله تعالى: {فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً} أي في فصاحة كلامه.
وقيل: عجبا في بلاغة مواعظه.
وقيل: عجبا في عظم بركته.
وقيل: قرآنا عزيزا لا يوجد مثله.
وقيل: يعنون عظيما. يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ أي إلى مراشد الأمور.
وقيل: إلى معرفة الله تعالى، ويَهْدِي في موضع الصفة أي هاديا. فَآمَنَّا بِهِ أي فاهتدينا به وصدقنا أنه من عند الله وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً أي لا نرجع إلى إبليس ولا نطيعه، لأنه الذي كان بعثهم ليأتوه بالخبر، ثم رمى الجن بالشهب. وقيل لا نتخذ مع الله إلها آخر، لأنه المتفرد بالربوبية.
وفي هذا تعجيب المؤمنين بذهاب مشركي قريش عما أدركته الجن بتدبرها القرآن. وقوله تعالى: {اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ} أي استمعوا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فعلموا أن ما يقرؤه كلام الله. ولم يذكر المستمع إليه لدلالة الحال عليه. والنفر الرهط، قال الخليل: ما بين ثلاثة إلى عشرة. وقرأ عيسى الثقفي يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ بفتح الراء والشين. قوله تعالى: {وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا} كان علقمة ويحيى والأعمش وحمزة والكسائي وابن عامر وخلف وحفص والسلمى ينصبون أن في جميع السورة في اثنى عشر موضعا، وهو: {أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا}، {وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ}، {وَأَنَّا ظَنَنَّا}، {وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ}، {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا}، {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ}، {وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ}، {وَأَنَّا لا نَدْرِي}، {وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ}، {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ}، {وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى}، {وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ} عطفا على قوله: {أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ}، وأَنَّهُ اسْتَمَعَ لا يجوز فيه إلا الفتح، لأنها في موضع اسم فاعل أُوحِيَ فما بعده معطوف عليه.
وقيل: هو محمول على الهاء في فَآمَنَّا بِهِ، أي وب- أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا وجاز ذلك وهو مضمر مجرور لكثرة حرف الجار مع أن.
وقيل: المعنى أي وصدقنا أنه جد ربنا. وقرأ الباقون كلها بالكسر وهو الصواب، واختاره أبو عبيدة وأبو حاتم عطفا على قوله: فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا لأنه كله من كلام الجن. وأما أبو جعفر وشيبة فإنهما فتحا ثلاثة مواضع، وهي قوله تعالى: {وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا} {وَأَنَّهُ كانَ يَقُولُ} {وَأَنَّهُ كانَ رِجالٌ} قالا: لأنه من الوحي، وكسرا ما بقي، لأنه من كلام الجن. وأما قوله تعالى: {وَأَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ} [الجن: 19]. فكلهم فتحوا إلا نافعا وشيبة وزر بن حبيش وأبا بكر والمفضل عن عاصم، فإنهم كسروا لا غير. ولا خلاف في فتح همزة أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ، وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا وَأَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ، وأَنْ قَدْ أَبْلَغُوا. وكذلك لا خلاف في كسر ما بعد القول، نحو قوله تعالى: {فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا وقال إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي} [الجن: 20] {وقُلْ إِنْ أَدْرِي} [الجن: 25] {وقُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ} [الجن: 21]. وكذلك لا خلاف في كسر ما كان بعد فاء الجزاء، نحو قوله تعالى: {فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ} [الجن: 23] و{فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ} [الجن: 27]. لأنه موضع ابتداء.
قوله تعالى: {وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا} الجد في اللغة: العظمة والجلال، ومنه قول أنس: كان الرجل إذا حفظ البقرة وآل عمران جد في عيوننا، أي عظم وجل. فمعنى: جَدُّ رَبِّنا أي عظمته وجلاله، قاله عكرمة ومجاهد وقتادة. وعن مجاهد أيضا: ذكره.
وقال أنس بن مالك والحسن وعكرمة أيضا: غناه. ومنه قيل للحظ جد، ورجل مجدود أي محظوظ، وفي الحديث: «ولا ينفع ذا الجد منك الجد» قال أبو عبيدة والخليل: أي ذا الغنى، منك الغنى، إنما تنفعه الطاعة.
وقال ابن عباس: قدرته. الضحاك: فعله.
وقال القرظي والضحاك أيضا: آلاؤه ونعمه على خلقه.
وقال أبو عبيدة والأخفش: ملكه وسلطانه.
وقال السدي: أمره.
وقال سعيد بن جبير: وَأَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا أي تعالى ربنا.
وقيل: إنهم عنوا بذلك الجد الذي هو أب الأب، ويكون هذا من قول الجن.
وقال محمد بن علي بن الحسين وابنه جعفر الصادق والربيع: ليس لله تعالى جد، وإنما قالته الجن للجهالة، فلم يؤاخذوا به.
وقال القشيري: ويجوز إطلاق لفظ الجد في حق الله تعالى، إذ لو لم يجز لما ذكر في القرآن، غير أنه لفظ موهم، فتجنبه أولى. وقراءة عكرمة: {جد} بكسر الجيم: على ضد الهزل. وكذلك قرأ أبو حيوة ومحمد بن السميقع. ويروى عن ابن السميقع أيضا وأبي الأشهب جدا ربنا، وهو الجدوى والمنفعة. وقرأ عكرمة أيضا {جد} بالتنوين {ربنا} بالرفع على أنه مرفوع، ب- تَعالى، و{جدا} منصوب على التمييز. وعن عكرمة أيضا {جد} بالتنوين والرفع {ربنا} بالرفع على تقدير: تعالى جد جد ربنا، فجد الثاني بدل من الأول وحذف وأقيم المضاف إليه مقامه. ومعنى الآية: وأنه تعالى جلال ربنا أن يتخذ صاحبة وولدا للاستيناس بهما والحاجة إليهما، والرب يتعالى عن الأنداد والنظراء.