فصل: تفسير الآيات (31- 35):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (31- 35):

{فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى (31) وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35)}
قوله تعالى: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى} أي لم يصدق أبو جهل ولم يصل.
وقيل: يرجع هذا إلى الإنسان في أول السورة، وهو اسم جنس. والأول قول ابن عباس. أي لم يصدق بالرسالة {وَلا صَلَّى} ودعا لربه، وصلي على رسوله.
وقال قتادة: فلا صدق بكتاب الله، ولا صلى لله.
وقيل: ولا صدق بمال له، ذخرا له عند الله، ولا صلى الصلوات التي أمره الله بها.
وقيل: فلا آمن بقلبه ولا عمل ببدنه. قال الكسائي: {فَلا} بمعنى لم ولكنه يقرن بغيره، تقول العرب: لا عبد الله خارج ولا فلان، ولا تقول: مررت برجل لا محسن حتى يقال ولا مجمل، وقوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} [البلد: 11] ليس من هذا القبيل، لان معناه أفلا أقتحم، أي فهلا اقتحم، فحذف ألف الاستفهام.
وقال الأخفش: {فَلا صَدَّقَ} أي لم يصدق، كقوله: {فَلَا اقْتَحَمَ} أي لم يقتحم، ولم يشترط أن يعقبه بشيء آخر، والعرب تقول: لا ذهب، أي لم يذهب، فحرف النفي ينفى الماضي كما ينفي المستقبل، ومنه قول زهير:
فلا هو أبداها ولم يتقدم قوله تعالى: {وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أي كذب بالقرآن وتولى عن الايمان {ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} أي يتبختر، افتخارا بذلك، قاله مجاهد وغيره. مجاهد: المراد به أبو جهل.
وقيل: {يَتَمَطَّى} من المطا وهو الظهر، والمعنى يلوي مطاه.
وقيل: أصله يتمطط، وهو التمدد من التكسل والتثاقل، فهو يتثاقل عن الداعي إلى الحق، فأبدل من الطاء ياء كراهة التضعيف، والتمطي يدل على قلة الاكتراث، وهو التمدد، كأنه يمد ظهره ويلويه من التبختر. والمطيطة الماء الخاثر في أسفل الحوض، لأنه يتمطى أي يتمدد، وفي الخبر: «إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم كان بأسهم بينهم». والمطيطاء: التبختر ومد اليدين في المشي. قوله تعالى: {أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى}: تهديد بعد تهديد، ووعيد بعد وعيد، أي فهو وعيد أربعة لأربعة، كما روى أنها نزلت في أبي جهل الجاهل بربه فقال: {فَلا صَدَّقَ وَلا صَلَّى. وَلكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} أي لا صدق رسول الله، ولا وقف بين يدي فصلى، ولكن كذب رسولي، وتولى عن التصلية بين يدي. فترك التصديق خصلة، والتكذيب خصلة، وترك الصلاة خصلة، والتولي عن الله تعالى خصلة، فجاء الوعيد أربعة مقابلة لترك الخصال الاربعة. والله أعلم. لا يقال: فإن قوله: {ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} خصلة خامسة، فإنا نقول: تلك كانت عادته قبل التكذيب والتولي، فأخبر عنها. وذلك بين في قول قتادة على ما نذكره.
وقيل: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خرج من المسجد ذات يوم، فاستقبله أبو جهل على باب المسجد، مما يلي باب بني مخزوم، فأخذ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده، فهزه مرة أو مرتين ثم قال: {أَوْلى لَكَ فَأَوْلى} فقال له أبو جهل: أتهددني؟ فو الله إني لأعز أهل الوادي وأكرمه. ونزل على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كما قال لابي جهل. وهي كلمة وعيد. قال الشاعر:
فأولى ثم أولى ثم أولى ** وهل للدر يحلب من مرد

قال قتادة: أقبل أبو جهل بن هشام يتبختر، فأخذ النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بيده فقال: «أولى لك فأولى، ثم أولى لك فأولى». فقال: ما تستطيع أنت ولا ربك لي شيئا، إني لأعز من بين جبليها. فلما كان يوم بدر أشرف على المسلمين فقال: لا يعبد الله بعد هذا اليوم أبدا. فضرب الله عنقه، وقتله شر قتلة.
وقيل: معناه: الويل لك، ومنه قول الخنساء:
هممت بنفسي كل الهموم ** فأولى لنفسي أولى لها

سأحمل نفسي على آلة ** فإما عليها وإما لها

الآلة: الحالة، والآلة: السرير أيضا الذي يحمل عليه الميت، وعلى هذا التأويل قيل: هو من المقلوب، كأنه قيل: أويل، ثم أخر الحرف المعتل، والمعنى: الويل لك حيا، والويل لك ميتا، والويل لك يوم البعث، والويل لك يوم تدخل النار، وهذا التكرير كما قال:
لك الويلات إنك مرجلي

أي لك الويل، ثم الويل، ثم الويل، وضعف هذا القول.
وقيل: معناه الذم لك، أولى من تركه، إلا أنه كثير في الكلام فحذف.
وقيل: المعنى أنت أولى وأجدر بهذا العذاب.
وقال أبو العباس أحمد بن يحيى: قال الأصمعي {أَوْلى} في كلام العرب معناه مقاربة الهلاك، كأنه يقول: قد وليت الهلاك، قد دانيت الهلاك، وأصله من الولي، وهو القرب، قال الله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} [التوبة: 123] أي يقربون منكم، وأنشد الأصمعي:
وأولى أن يكون له الولاء

أي قارب أن يكون له، وأنشد أيضا:
أولى لمن هاجت له أن يكمدا

أي قد دنا صاحبها من الكمد. وكان أبو العباس ثعلب يستحسن قول الأصمعي ويقول: ليس أحد يفسر كتفسير الأصمعي. النحاس: العرب تقول أولى لك: كدت تهلك ثم أفلت، وكان تقديره: أولى لك وأولى بك الهلكة. المهدوي قال: ولا تكون أولى أفعل منك، وتكون خبر مبتدإ محذوف، كأنه قال: الوعيد أولى له من غيره، لان أبا زيد قد حكى: أولاة الآن: إذا أو عدوا. فدخول علامة التأنيث دليل على أنه ليس كذلك. و{لَكَ} خبر عن {أَوْلى}. ولم ينصرف {أَوْلى} لأنه صار علما للوعيد، فصار كرجل اسمه أحمد.
وقيل: التكرير فيه على معنى ألزم لك على عملك السيئ الأول، ثم على الثاني، والثالث، والرابع، كما تقدم.

.تفسير الآيات (36- 40):

{أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (39) أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)}
قوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسانُ} أي يظن ابن آدم {أَنْ يُتْرَكَ سُدىً} أي أن يخلى مهملا، فلا يؤمر ولا ينهى، قاله ابن زيد ومجاهد، ومنه إبل سدى: ترعى بلا راع.
وقيل: أيحسب أن يترك في قبره كذلك أبدا لا يبعث.
وقال الشاعر:
فأقسم بالله جهد اليم ** بين ما ترك الله شيئا سدى

قوله تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى} أي من قطرة ماء تمنى في الرحم، أي تراق فيه، ولذلك سميت {مَنِيٍّ} لإراقة الدماء. وقد تقدم. والنطفة: الماء القليل، يقال: نطف الماء: إذا قطر. أي ألم يك ماء قليلا في صلب الرجل وترائب المرأة. وقرأ حفص {مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى} بالياء، وهي قراءة ابن محيصن ومجاهد ويعقوب وعياش عن أبي عمرو، واختاره أبو عبيد لأجل المني. الباقون بالتاء لأجل النطفة، واختاره أبو حاتم. {ثُمَّ كانَ عَلَقَةً} أي دما بعد النطفة، أي قد رتبه تعالى بهذا كله على خسة قدره. ثم قال: {فَخَلَقَ} أي فقدر {فَسَوَّى} أي فسواه تسوية، وعدله تعديلا، بجعل الروح فيه {فَجَعَلَ مِنْهُ} أي من الإنسان.
وقيل: من المني. {الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى} أي الرجل والمرأة. وقد احتج بهذا من رأى إسقاط الخنثى. وقد مضى في سورة الشورى أن هذه الآية وقرينتها إنما خرجتا مخرج الغالب. وقد مضى في أول سورة النساء أيضا القول فيه، وذكرنا في آية المواريث حكمه، فلا معنى لإعادته {أَلَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ} أي أليس الذي قدر على خلق هذه النسمة من قطرة من ماء {بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى} أي على أن يعيد هذه الأجسام كهيئتها للبعث بعد البلى.
وروى عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه كان إذا قرأها قال: «سبحانك اللهم، بلى» وقال ابن عباس. من قرأ {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} [الأعلى: 1] إماما كان أو غيره فليقل: {سبحان ربي الأعلى} ومن قرأ {لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ} [القيامة: 1] إلى آخرها إماما كان أو غيره فليقل: «سبحانك اللهم بلى» ذكره الثعلبي من حديث أبي إسحاق السبيعي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس. ختمت السورة والحمد لله.

.سورة الإنسان:

سورة الإنسان وهي إحدى وثلاثون آية مكية في قول ابن عباس ومقاتل والكلبي. وقال الجمهور: مدنية. وقيل: فيها مكي، من قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا} [الإنسان: 23] إلى آخر السورة، وما تقدمه مدني. وذكر ابن وهب قال: وحدثنا ابن زيد قال: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليقرأ {هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ} وقد أنزلت عليه وعنده رجل أسود كان يسأل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقال له عمر بن الخطاب: لا تثقل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: «دعه يا ابن الخطاب» قال: فنزلت عليه هذه السورة وهو عنده، فلما قرأها عليه وبلغ صفة الجنان زفر زفرة فخرجت نفسه. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أخرج نفس صاحبكم- أو أخيكم- الشوق إلى الجنة» وروي عن ابن عمر بخلاف هذا اللفظ، وسيأتي. وقال القشيري: إن هذه السورة نزلت في علي بن طالب رضي الله عنه. والمقصود من السورة عام. وهكذا القول في كل ما يقال إنه نزل بسبب كذا وكذا.

.تفسير الآيات (1- 3):

{هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (3)}
قوله تعالى: {هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} هَلْ: بمعنى قد، قاله الكسائي والفراء وأبو عبيدة. وقد حكى عن سيبويه هَلْ بمعنى قد.
قال الفراء: هل تكون جحدا، وتكون خبرا، فهذا من الخبر، لأنك تقول: هل أعطيتك؟ تقرره بأنك أعطيته. والجحد أن تقول: هل يقدر أحد على مثل هذا؟ وقيل: هي بمنزلة الاستفهام، والمعنى: أتى. والإنسان هنا آدم عليه السلام، قاله قتادة والثوري وعكرمة والسدي.
وروى عن ابن عباس. حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ قال ابن عباس في رواية أبي صالح: أربعون سنة مرت به، قبل أن ينفخ فيه الروح، وهو ملقى بين مكة والطائف. وعن ابن عباس أيضا في رواية الضحاك أنه خلق من طين، فأقام أربعين سنة، ثم من حمإ مسنون أربعين سنة، ثم من صلصال أربعين سنة، فتم خلقه بعد مائة وعشرين سنة. وزاد ابن مسعود فقال: أقام وهو من تراب أربعين سنة، فتم خلقه بعد مائة وستين سنة، ثم نفخ فيه الروح.
وقيل: الحين المذكور ها هنا: لا يعرف مقداره، عن ابن عباس أيضا، حكاه الماوردي. لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً قال الضحاك عن ابن عباس: لا في السماء ولا في الأرض.
وقيل: أي كان جسدا مصورا ترابا وطئنا، لا يذكر ولا يعرف، ولا يدرى ما اسمه ولا ما يراد به، ثم نفخ فيه الروح، فصار مذكورا، قال الفراء وقطرب وثعلب.
وقال يحيى بن سلام: لم يكن شيئا مذكورا في الخلق وإن كان عند الله شيئا مذكورا.
وقيل: ليس هذا الذكر بمعنى الاخبار، فإن إخبار الرب عن الكائنات قديم، بل هذا الذكر بمعنى الخطر والشرف والقدر، تقول: فلان مذكور أي له شرف وقدر. وقد قال تعالى: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ} [الزخرف: 44]. أي قد أتى على الإنسان حين لم يكن له قدر عند الخليقة. ثم لما عرف الله الملائكة أنه جعل آدم خليفة، وحمله الأمانة التي عجز عنها السموات والأرض والجبال، ظهر فضله على الكل، فصار مذكورا. قال القشيري: وعلى الجملة ما كان مذكورا للخلق، وإن كان مذكورا لله.
وحكى محمد بن الجهم عن الفراء: لَمْ يَكُنْ شَيْئاً قال: كان شيئا ولم يكن مذكورا.
وقال قوم: النفي يرجع إلى الشيء، أي قد مضى مدد من الدهر وآدم لم يكن شيئا يذكر في الخليقة، لأنه آخر ما خلقه من أصناف الخليقة، والمعدوم ليس بشيء حتى يأتي عليه حين. والمعنى: قد مضت عليه أزمنة وما كان آدم شيئا ولا مخلوقا ولا مذكورا لاحد من الخليقة. وهذا معنى قول قتادة ومقاتل: قال قتادة: إنما خلق الإنسان حديثا ما نعلم من خليقة الله جل ثناؤه خليقة كانت بعد الإنسان.
وقال مقاتل: في الكلام تقديم وتأخير، وتقديره: هل أتى حين من الدهر لم يكن الإنسان شيئا مذكورا، لأنه خلقه بعد خلق الحيوان كله، ولم يخلق بعده حيوانا. وقد قيل: الْإِنْسانِ في قوله تعالى هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ عني به الجنس من ذرية آدم، وأن الحين تسعة أشهر، مدة حمل الإنسان في بطن أمه لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً: إذ كان علقة ومضغة، لأنه في هذه الحالة جماد لا خطر له.
وقال أبو بكر رضي الله عنه لما قرأ هذه الآية: ليتها تمت فلا نبتلى. أي ليت المدة التي أتت على آدم لم تكن شيئا مذكورا تمت على ذلك، فلا يلد ولا يبتلى أولاده. وسمع عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلا يقرأ: {هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً} فقال ليتها تمت. قوله تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ} أي ابن آدم من غير خلاف مِنْ نُطْفَةٍ أي من ماء يقطر وهو المني، وكل ماء قليل في وعاء فهو نطفة، كقول عبد الله بن رواحة يعاتب نفسه:
مالي أراك تكرهين الجنة ** هل أنت إلا نطفة في شنه

وجمعها: نطف ونطاف. {أَمْشاجٍ}: أخلاط. واحدها: مشج ومشيج، مثل خدن وخدين، قال: رؤبة:
يطرحن كل معجل نشاج ** لم يكس جلدا في دم أمشاج

ويقال: مشجت هذا بهذا أي خلطته، فهو ممشوج ومشيج، مثل مخلوط وخليط.
وقال المبرد: واحد الأمشاج: مشيج، يقال: مشج يمشج: إذا خلط، وهو هنا اختلاط النطفة بالدم، قال الشماخ:
طوت أحشاء مرتجة لوقت ** على مشج سلالته مهين

وقال الفراء: أمشاج: أخلاط ماء الرجل وماء المرأة، والدم والعلقة. ويقال للشيء من هذا إذا خلط: مشيج كقولك خليط، وممشوج كقولك مخلوط.
وروى عن ابن عباس رضي الله عنه قال: الأمشاج: الحمرة في البياض، والبياض في الحمرة. وهذا قول يختاره كثير من أهل اللغة، قال الهذلي:
كأن الريش والفوقين منه ** خلاف النصل سيط به مشيج

وعن ابن عباس أيضا قال: يختلط ماء الرجل وهو أبيض غليظ بماء المرأة وهو أصفر رقيق فيخلق منهما الولد، فما كان من عصب وعظم وقوه فهو من ماء الرجل، وما كان من لحم ودم وشعر فهو من ماء المرأة. وقد روى هذا مرفوعا، ذكره البزار.
وروى عن ابن مسعود: أمشاجها عروق المضغة. وعنه: ماء الرجل وماء المرأة وهما لونان.
وقال مجاهد: نطفة الرجل بيضاء وحمراء ونطفة المرأة خضراء وصفراء.
وقال ابن عباس: خلق من ألوان، خلق من تراب، ثم من ماء الفرج والرحم، وهي نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم عظم ثم لحم. ونحوه قال قتادة: هي أطوار الخلق: طور وطور علقة وطور مضغة عظام ثم يكسو العظام لحما، كما قال في سورة المؤمنون: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ} [المؤمنون: 12] الآية.
وقال ابن السكيت: الأمشاج الأخلاط، لأنها ممتزجة من أنواع فخلق الإنسان منها ذا طبائع مختلفة.
وقال أهل المعاني: الأمشاج ما جمع وهو في معنى الواحد، لأنه نعت للنطفة، كما يقال: برمة أعشار وثوب أخلاق. وروي عن أبي أيوب الأنصاري: قال جاء حبر من اليهود إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أخبرني عن ماء الرجل وماء المرأة؟ فقال: «ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق فإذا علا ماء المرأة أنثت وإذا علا ماء الرجل أذكرت فقال الحبر: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله». وقد مضى هذا القول مستوفى في سورة البقرة. {نَبْتَلِيهِ} أي نختبره.
وقيل: نقدر فيه الابتلاء وهو الاختبار. وفيما يختبر به وجهان: أحدهما:
نختبره بالخير والشر، قال الكلبي.
الثاني- نختبر شكره في السراء وصبره في الضراء، قاله الحسن.
وقيل: نَبْتَلِيهِ نكلفه. وفية أيضا وجهان: أحدهما- بالعمل بعد الخلق، قاله مقاتل.
الثاني- بالدين ليكون مأمورا بالطاعة ومنهيا عن المعاصي.
وروى عن ابن عباس: نَبْتَلِيهِ: نصرفه خلقا بعد خلق، لنبتليه بالخير والشر.
وحكى محمد بن الجهم عن الفراء قال: المعنى والله أعلم {فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً} لنبتليه، وهي مقدمة معناها التأخير. قلت: لان الابتلاء لا يقع إلا بعد تمام الخلقة.
وقيل: فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً: يعني جعلنا له سمعا يسمع به الهدى، وبصرا يبصر به الهدى. قوله تعالى: {إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ} أي بينا له وعرفناه طريق الهدى والضلال، والخير والشر ببعث الرسل، فآمن أو كفر، كقوله تعالى: {وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10].
وقال مجاهد: أي بينا له السبيل إلى الشقاء والسعادة.
وقال الضحاك وأبو صالح والسدي: السبيل هنا خروجه من الرحم.
وقيل: منافعه ومضاره التي يهتدي إليها بطبعه وكمال عقله. {إِمَّا شاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً} أي أيهما فعل فقد بينا له. قال الكوفيون: {إن} ها هنا تكون جزاء و{ما} زائدة أي بينا له الطريق إن شكر أو كفر. واختاره الفراء ولم يجزه البصريون، إذ لا تدخل {إن} للجزاء على الأسماء إلا أن يضمر بعدها فعل.
وقيل: أي هديناه الرشد، أي بينا له سبيل التوحيد بنصب الادلة عليه، ثم إن خلقنا له الهداية اهتدى وآمن، وإن خذلناه كفر. وهو كما تقول: قد نصحت لك، إن شئت فاقبل، وإن شئت فاترك، أي فإن شئت، فتحذف الفاء. وكذا إِمَّا شاكِراً والله أعلم. ويقال: هديته السبيل وللسبيل وإلى السبيل. وقد تقدم في الفاتحة وغيرها. وجمع بين الشاكر والكفور، ولم يجمع بين الشكور والكفور مع اجتماعهما في معنى المبالغة، نفيا للمبالغة في الشكر وإثباتا لها في الكفر، لان شكر الله تعالى لا يؤدى، فانتفت عنه المبالغة، ولم تنتف عن الكفر المبالغة، فقل شكره، لكثرة النعم عليه وكثرة كفره وإن قل مع الإحسان إليه. حكاه الماوردي.