فصل: تفسير الآيات (4- 5):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآيات (4- 5):

{وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5)}
روى سلمة عن ابن إسحاق قال: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى} أي ما عندي في مرجعك إلى يا محمد، خير لك مما عجلت لك من الكرامة في الدنيا.
وقال ابن عباس: أرى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يفتح الله على أمته بعده، فسر بذلك، فنزل جبريل بقوله: {وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى}. قال ابن إسحاق: الفلج في الدنيا، والثواب في الآخرة.
وقيل: الحوض والشفاعة. وعن ابن عباس: ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك. رفعه الأوزاعي، قال: حدثني إسماعيل بن عبيد الله، عن علي بن عبد الله بن عباس، عن أبيه قال: أرى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما هو مفتوح على أمته، فسر بذلك، فأنزل الله عز وجل وَالضُّحى إلى قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى} فأعطاه الله جل ثناؤه ألف قصر في الجنة، ترابها المسك، في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم. وعنه قال: رضي محمد ألا يدخل أحد من أهل بيته النار.
وقال السدي.
وقيل: هي الشفاعة في جميع المؤمنين. وعن علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يشفعني الله في أمتي حتى يقول الله سبحانه لي: رضيت يا محمد؟ فأقول يا رب رضيت».
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تلا قول الله تعالى في إبراهيم: {فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} [إبراهيم: 36] وقول عيسى: {إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ} [المائدة: 118]، فرفع يديه وقال: «اللهم أمتي أمتي» وبكى. فقال الله تعالى لجبريل: «اذهب إلى محمد، وربك أعلم، فسله ما يبكيك» فأتى جبريل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فسأل فأخبره. فقال الله تعالى لجبريل: «اذهب إلى محمد، فقل له: إن الله يقول لك: إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك».
وقال علي رضي الله عنه لأهل العراق: إنكم تقولون إن أرجى آية في كتاب الله تعالى: {قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ} [الزمر: 53] قالوا: إنا نقول ذلك. قال: ولكنا أهل البيت نقول: إن أرجى آية في كتاب الله قوله تعالى: {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى}.
وفي الحديث: لما نزلت هذه الآية قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا والله لا أرضى وواحد من أمتي في النار».

.تفسير الآية رقم (6):

{أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6)}
عدد سبحانه مننه على نبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقال: أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً لا أب لك، قد مات أبوك. فَآوى أي جعل لك مأوى تأوي إليه عند عمك أبي طالب، فكفلك. وقيل لجعفر بن محمد الصادق: لم أوتم النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أبويه؟ فقال: لئلا يكون لمخلوق عليه حق. وعن مجاهد: هو من قول العرب: درة يتيمة، إذا لم يكن لها مثل. فمجاز الآية: ألم يجدك واحدا في شرفك لا نظير لك، فآواك الله بأصحاب يحفظونك ويحوطونك.

.تفسير الآية رقم (7):

{وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7)}
أي غافلا عما يراد بك من أمر النبوة، فهداك: أي أرشدك. والضلال هنا بمعنى الغفلة، كقوله جل ثناؤه: {لا يَضِلُّ رَبِّي وَلا يَنْسى} [طه: 52] أي لا يغفل.
وقال في حق نبيه: {وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ} [يوسف: 3].
وقال قوم: ضَالًّا لم تكن تدري القرآن والشرائع، فهداك الله إلى القرآن، وشرائع الإسلام، عن الضحاك وشهر بن حوشب وغيرهما. وهو معنى قوله تعالى: {ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ} على ما بينا في سورة الشورى.
وقال قوم: وَوَجَدَكَ ضَالًّا أي في قوم ضلال، فهداهم الله بك. هذا قول الكلبي والفراء. وعن السدي نحوه، أي ووجد قومك في ضلال، فهداك إلى إرشادهم.
وقيل: وَوَجَدَكَ ضَالًّا عن الهجرة، فهداك إليها.
وقيل: ضَالًّا أي ناسيا شأن الاستثناء حين سئلت عن أصحاب الكهف وذي القرنين والروح- فأذكرك، كما قال تعالى: {أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما} [البقرة: 282].
وقيل: ووجدك طالبا للقبلة فهداك إليها، بيانه: {قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ} [البقرة: 144] الآية. ويكون الضلال بمعنى الطلب، لان الضال طالب.
وقيل: ووجدك متحيرا عن بيان ما نزل عليك، فهداك إليه، فيكون الضلال بمعنى التحير، لان الضال متحير.
وقيل: ووجدك ضائعا في قومك، فهداك إليه، ويكون الضلال بمعنى الضياع.
وقيل: ووجدك محبا للهداية، فهداك إليها، ويكون الضلال بمعنى المحبة. ومنه قوله تعالى: {قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ} [يوسف: 95] أي في محبتك. قال الشاعر:
هذا الضلال أشاب مني المفرقا ** والعارضين ولم أكن متحققا

عجبا لعزة في اختيار قطيعتي ** بعد الضلال فحبلها قد أخلقا

وقيل: {ضالا} في شعاب مكة، فهداك وردك إلى جدك عبد المطلب. قال ابن عباس: ضل النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهو صغير في شعاب مكة، فرآه أبو جهل منصرفا عن أغنامه، فرده إلى جده عبد المطلب، فمن الله عليه بذلك، حين رده إلى جده على يدي عدوه.
وقال سعيد بن جبير: خرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مع عمه أبي طالب في سفر، فأخذ إبليس بزمام الناقة في ليلة ظلماء، فعدل بها عن الطريق، فجاء جبريل عليه السلام، فنفخ إبليس نفخة وقع منها إلى أرض الهند، ورده إلى القافلة، فمن الله عليه بذلك.
وقال كعب: إن حليمة لما قضت حق الرضاع، جاءت برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لترده على عبد المطلب، فسمعت عند باب مكة: هنيئا لك يا بطحاء مكة، اليوم يرد إليك النور والدين والبهاء والجمال. قالت: فوضعته لأصلح ثيابي، فسمعت هدة شديدة، فالتفت فلم أره، فقلت: معشر الناس، أين الصبي؟ فقال: لم نر شيئا، فصحت: وا محمداه! فإذا شيخ فان يتوكأ على عصاه، فقال: اذهبي إلى الصنم الأعظم، فإن شاء أن يرده عليك فعل. ثم طاف الشيخ بالصنم، وقبل رأسه وقال: يا رب، لم تزل منتك على قريش، وهذه السعدية تزعم أن ابنها قد ضل، فرده إن شئت. فانكب هبل على وجهه، وتساقطت الأصنام، وقالت: إليك عنا أيها الشيخ، فهلا كنا على يدي محمد. فألقى الشيخ عصاه، وارتعد وقال: إن لابنك ربا لا يضيعه، فاطلبيه على مهل. فانحشرت قريش إلى عبد المطلب، وطلبوه في جميع مكة، فلم يجدوه. فطاف عبد المطلب بالكعبة سبعا، وتضرع إلى الله أن يرده، وقال:
يا رب رد ولدي محمدا ** اردده ربي واتخذ عندي يدا

يا رب إن محمد لم يوجدا ** فشمل قومي كلهم تبددا

فسمعوا مناديا ينادي من السماء: معاشر الناس لا تضجوا، فإن لمحمد ربا لا يخذله ولا يضيعه، وإن محمدا بوادي تهامة، عند شجرة السمر. فسار عبد المطلب هو وورقة بن نوفل، فإذا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قائم تحت شجرة، يلعب بالأغصان وبالورق.
وقيل: وَوَجَدَكَ ضَالًّا ليلة المعراج، حين انصرف عنك جبريل وأنت لا تعرف الطريق، فهداك إلى ساق العرش.
وقال أبو بكر الوراق وغيره: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا} تحب أبا طالب، فهداك إلى محبة ربك.
وقال بسام بن عبد الله: وَوَجَدَكَ ضَالًّا بنفسك لا تدري من أنت، فعرفك بنفسك وحالك.
وقال الجنيدي: ووجدك متحيرا في بيان الكتاب، فعلمك البيان، بيانه: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44] الآية. {لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ} [النحل: 64].
وقال بعض المتكلمين: إذا وجدت العرب شجرة منفردة في فلاة من الأرض، لا شجر معها، سموها ضالة، فيهتدي بها إلى الطريق، فقال الله تعالى لنبيه محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَوَجَدَكَ ضَالًّا} أي لا أحد على دينك، وأنت وحيد ليس معك أحد، فهديت بك الخلق إلي. قلت: هذه الأقوال كلها حسان، ثم منها ما هو معنوي، ومنها ما هو حسي. والقول الأخير أعجب إلي، لأنه يجمع الأقوال المعنوية.
وقال قوم: إنه كان على جملة ما كان القوم عليه، لا يظهر لهم خلافا على ظاهر الحال، فأما الشرك فلا يظن به، بل كان على مراسم القوم في الظاهر أربعين سنة.
وقال الكلبي والسدي: هذا على ظاهره، أي وجدك كافرا والقوم كفار فهداك. وقد مضى هذا القول والرد عليه في سورة الشورى.
وقيل: وجدك مغمورا بأهل الشرك، فميزك عنهم. يقال: ضل الماء في اللبن، ومنه: {أَإِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ} [السجدة: 10] أي لحقنا بالتراب عند الدفن، حتى كأنا لا نتميز من جملته.
وفي قراءة الحسن ووجدك ضال فهدى أي وجدك الضال فاهتدى بك، وهذه قراءة على التفسير.
وقيل: وَوَجَدَكَ ضَالًّا لا يهتدي إليك قومك، ولا يعرفون قدرك، فهدى المسلمين إليك، حتى آمنوا بك.

.تفسير الآية رقم (8):

{وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8)}
أي فقيرا لا مال لك. فَأَغْنى أي فأغناك بخديجة رضي الله عنها، يقال: عال الرجل يعيل عيلة: إذا افتقر.
وقال أحيحة بن الجلاح:
فما يدري الفقير متى غناه ** وما يدري الغني متى يعيل

أي يفتقر.
وقال مقاتل: فرضاك بما أعطاك من الرزق.
وقال الكلبي: قنعك بالرزق.
وقال ابن عطاء: ووجدك فقير النفس، فأغنى قلبك.
وقال الأخفش: وجدك ذا عيال، دليله فَأَغْنى. ومنه قول جرير:
الله أنزل في الكتاب فريضة ** لابن السبيل وللفقير العائل

وقيل: وجدك فقيرا من الحجج والبراهين، فأغناك بها.
وقيل: أغناك بما فتح لك من الفتوح، وأفاءه عليك من أموال الكفار. القشيري: وفي هذا نظر، لان السورة مكية، وإنما فرض الجهاد بالمدينة. وقراءة العامة عائِلًا. وقرأ ابن السميقع {عيلا} بالتشديد، مثل طيب وهين.

.تفسير الآيات (9- 11):

{فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ} أي لا تسلط عليه بالظلم، ادفع إليه حقه، واذكر يتمك، قاله الأخفش.
وقيل: هما لغتان: بمعنى. وعن مجاهد فَلا تَقْهَرْ فلا تحتقر. وقرأ النخعي والأشهب العقيلي {تكهر} بالكاف، وكذا هو في مصحف ابن مسعود. فعلى هذا يحتمل أن يكون نهيا عن قهره، بظلمه واخذ ماله. وخص اليتيم لأنه لا ناصر له غير الله تعالى، فغلظ في أمره، بتغليظ العقوبة على ظالمه. والعرب تعاقب بين الكاف والقاف. النحاس: وهذا غلط، إنما يقال كهره: إذا اشتد عليه وغلظ.
وفي صحيح مسلم من حديث معاوية بن الحكم السلمي، حين تكلم في الصلاة برد السلام، قال: فبأبي هو وأمي! ما رأيت معلما قبله ولا بعده أحسن تعليما منه- يعني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فوالله ما كهرني، ولا ضربني، ولا شتمني... الحديث.
وقيل: القهر الغلبة. والكهر: الزجر.
الثانية: ودلت الآية على اللطف باليتيم، وبره والإحسان إليه، حتى قال قتادة: كن لليتيم كالأب الرحيم. وروي عن أبي هريرة أن رجلا شكا إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قسوة قلبه، فقال: «إن أردت أن يلين، فامسح رأس اليتيم، وأطعم المسكين».
وفي الصحيح عن أبي هريرة: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «أنا وكافل اليتيم له أو لغيره كهاتين».
وأشار بالسبابة والوسطى.
ومن حديث ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن اليتيم إذا بكى اهتز لبكائه عرش الرحمن فيقول الله تعالى لملائكته: يا ملائكتي، من ذا الذي أبكى هذا اليتيم الذي غيبت أباه في التراب، فتقول الملائكة ربنا أنت أعلم، فيقول الله تعالى لملائكته: يا ملائكتي، اشهدوا أن من أسكته وأرضاه؟ أن أرضيه يوم القيامة». فكان ابن عمر إذا رأى يتيما مسح برأسه، وأعطاه شيئا. وعن أنس قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من ضم يتيما فكان في نفقته، وكفاه مئونته، كان له حجابا من النار يوم القيامة، ومن مسح برأس يتيم كان له بكل شعرة حسنة».
وقال أكثم ابن صيفي: الأذلاء أربعة: النمام، والكذاب، والمديون، واليتيم.
الثالثة: قوله تعالى: {وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ} أي لا تزجره، فهو نهى عن إغلاظ القول. ولكن رده ببذل يسير، أو رد جميل، واذكر فقرك، قاله قتادة وغيره. وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «لا يمنعن أحدكم السائل، وأن يعطيه إذا سأل، ولو رأى في يده قلبين من ذهب».
وقال إبراهيم بن أدهم: نعم القوم السؤال: يحملون زادنا إلى الآخرة.
وقال إبراهيم النخعي: السائل بريد الآخرة، يجئ إلى باب أحدكم فيقول: هل تبعثون إلى أهليكم بشيء. وروي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «ردوا السائل ببذل يسير، أو رد جميل، فإنه يأتيكم من ليس من الانس ولا من الجن، ينظر كيف صنيعكم فيما خولكم الله».
وقيل: المراد بالسائل هنا، الذي يسأل عن الدين، أي فلا تنهره بالغلظة والجفوة، وأجبه برفق ولين، قاله سفيان. قال ابن العربي: وأما السائل عن الدين فجوابه فرض على العالم، على الكفاية، كإعطاء سائل البر سواء. وقد كان أبو الدرداء ينظر إلى أصحاب الحديث، ويبسط رداءه لهم، ويقول: مرحبا بأحبة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي حديث أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري، قال: كنا إذا أتينا أبا سعيد يقول: مرحبا بوصية رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إن الناس لكم تبع وإن رجالا يأتونكم من أقطار الأرض يتفقهون، فإذا أتوكم فاستوصوا بهم خيرا».
وفي رواية: «يأتيكم رجال من قبل المشرق».. فذكره. والْيَتِيمَ والسَّائِلَ منصوبان بالفعل الذي بعده، وحق المنصوب أن يكون بعد الفاء، والتقدير: مهما يكن من شيء فلا تقهر اليتيم، ولا تنهر السائل. وروي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «سألت ربي مسألة وددت أني لم أسألها: قلت يا رب اتخذت إبراهيم خليلا، وكلمت موسى تكليما، وسخرت مع داود الجبال يسبحن، وأعطيت فلانا كذا، فقال عز وجل: ألم أجدك يتيما فآويتك؟ ألم أجدك ضالا فهديتك؟ ألم أجدك عائلا فأغنيتك؟ ألم أشرح لك صدرك؟ ألم أوتك ما لم أوت أحدا قبلك: خواتيم سورة البقرة، الم أتخذك خليلا، كما اتخذت إبراهيم خليلا؟ قلت بلى يا رب» الرابعة: قوله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} أي أنشر ما أنعم الله عليك بالشكر والثناء. والتحدث بنعم الله، والاعتراف بها شكر.
وروى ابن أبي نجيح عن مجاهد وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ قال بالقرآن. وعنه قال: بالنبوة، أي بلغ ما أرسلت به. والخطاب للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، والحكم عام له ولغيره. وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: إذا أصبت خيرا، أو عملت خيرا، فحدث به الثقة من إخوانك. وعن عمرو بن ميمون قال: إذا لقي الرجل من إخوانه من يثق به، يقول له: رزق الله من الصلاة البارحة كذا وكذا. وكان أبو فراس عبد الله بن غالب إذا أصبح يقول: لقد رزقني الله البارحة كذا، قرأت كذا، وصليت كذا، وذكرت الله كذا، وفعلت كذا. فقلنا له: يا أبا فراس، إن مثلك لا يقول هذا! قال يقول الله تعالى: {وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} وتقولون أنتم: لا تحدث بنعمة الله! ونحوه عن أيوب السختياني وأبي رجاء العطاردي رضي الله عنهم.
وقال بكر بن عبد الله المزني قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من أعطى خيرا فلم ير عليه، سمي بغيض الله، معاديا لنعم الله».
وروى الشعبي عن النعمان بن بشير قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «من لم يشكر القليل، لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس، لم يشكر الله، والتحدث بالنعم شكر، وتركه كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب».
وروى النسائي عن مالك بن نضلة الجشمي قال: كنت عند رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالسا، فرآني رث الثياب فقال: «ألك مال؟ قلت: نعم، يا رسول الله، من كل المال. قال: إذا آتاك الله مالا فلير أثره عليك».
وروى أبو سعيد الخدري عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «إن الله جميل يحب الجمال، ويجب أن يرى أثر نعمته على عبده». فصل: يكبر القارئ في رواية البزي عن ابن كثير- وقد رواه مجاهد عن ابن عباس، عن أبي بن كعب، عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذا بلغ آخر وَالضُّحى كبر بين كل سورة تكبيرة، إلى أن يختم القرآن، ولا يصل آخر السورة بتكبيره، بل يفصل بينهما بسكتة. وكان المعنى في ذلك أن الوحي تأخر عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أياما، فقال ناس من المشركين: قد ودعه صاحبه وقلاه، فنزلت هذه السورة فقال: «الله أكبر». قال مجاهد: قرأت على ابن عباس، فأمرني به، وأخبرني به عن أبي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ولا يكبر في قراءة الباقين، لأنها ذريعة إلى الزيادة في القرآن. قلت: القرآن ثبت نقلا متواترا سوره وآياته وحروفه، لا زيادة فيه ولا نقصان، فالتكبير على هذا ليس بقرآن. فإذا كان بسم الله الرحمن الرحيم المكتوب في المصحف بخط المصحف ليس بقرآن، فكيف بالتكبير الذي هو ليس بمكتوب. أما أنه ثبت سنة بنقل الآحاد، فاستحبه ابن كثير، لا أنه أوجبه فخطأ من تركه. ذكر الحاكم أبو عبد الله محمد بن عبد الله الحافظ في كتاب المستدرك له على البخاري ومسلم: حدثنا أبو يحيى محمد بن عبد الله بن محمد بن عبد الله بن يزيد، المقرئ الامام بمكة، في المسجد الحرام، قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن علي بن زيد الصائغ، قال: حدثنا أحمد بن محمد بن القاسم بن أبي بزة: سمعت عكرمة بن سليمان يقول: قرأت على إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين، فلما بلغت وَالضُّحى قال لي كبر عند خاتمة كل سورة حتى تختم، فإني قرأت على عبد الله بن كثير فلما بلغت وَالضُّحى قال: كبر حتى تختم. وأخبره عبد الله بن كثير أنه قرأ على مجاهد، وأخبره مجاهد أن ابن عباس أمره بذلك، وأخبره ابن عباس أن أبي بن كعب أمره بذلك، وأخبره أبي بن كعب أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره بذلك. هذا حديث صحيح ولم يخرجاه.