فصل: سورة القدر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.سورة القدر:

سورة القدر وهي مدنية في قول أكثر المفسرين ذكره الثعلبي. وحكى الماوردي عكسه. قلت: وهي مدنية في قول الضحاك وأحد قولي ابن عباس. وذكر الواقدي أنها أول سورة نزلت بالمدينة. وهي خمس آيات.

.تفسير الآية رقم (1):

{إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1)}
قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ} يعني القرآن، وإن لم يجر له ذكر في هذه السورة، لان المعنى معلوم، والقرآن كله كالسورة الواحدة. وقد قال: {شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} [البقرة: 185] وقال: {حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ} [الدخان: 3- 1] يريد: في ليلة القدر. وقال الشعبي: المعنى إنا ابتدأنا إنزاله في ليلة القدر.
وقيل: بل نزل به جبريل عليه السلام جملة واحدة في ليلة القدر، من اللوح المحفوظ إلى سماء الدنيا، إلى بيت العزة، وأملاه جبريل على السفرة، ثم كان جبريل ينزله على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نجوما نجوما. وكان بين أوله وآخره ثلاث وعشرون سنة، قاله ابن عباس، وقد تقدم في سورة البقرة.
وحكى الماوردي عن ابن عباس قال: نزل القرآن في شهر رمضان، وفي ليلة القدر، في ليلة مباركة، جملة واحدة من عند الله، من اللوح المحفوظ إلى السفرة الكرام الكاتبين في السماء الدنيا، فنجمته السفرة الكرام الكاتبون على جبريل عشرين سنة، ونجمه جبريل على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشرين سنة. قال ابن العربي: وهذا باطل، ليس بين جبريل وبين الله واسطة، ولا بين جبريل ومحمد عليهما السلام واسطة. قوله تعالى: {فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} قال مجاهد: في ليلة الحكم. {وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ} قال: ليلة الحكم. والمعنى ليلة التقدير، سميت بذلك لان الله تعالى يقدر فيها ما يشاء من أمره، إلى مثلها من السنة القابلة، من أمر الموت والأجل والرزق وغيره. ويسلمه إلى مدبرات الأمور، وهم أربعة من الملائكة: إسرافيل، وميكائيل، وعزرائيل، وجبريل. عليهم السلام. وعن ابن عباس قال: يكتب من أم الكتاب ما يكون في السنة من رزق ومطر وحياة وموت، حتى الحاج. قال عكرمة: يكتب حاج بيت الله تعالى في ليلة القدر بأسمائهم وأسماء إبائهم، ما يغادر منهم أحد، ولا يزاد فيهم. وقاله سعيد بن جبير. وقد مضى في أول سورة الدخان هذا المعنى. وعن ابن عباس أيضا: أن الله تعالى يقضي الأقضية في ليلة نصف شعبان، ويسلمها إلى أربابها في ليلة القدر.
وقيل: إنما سميت بذلك لعظمها وقدرها وشرفها، من قولهم: لفلان قدر، أي شرف ومنزلة. قاله الزهري وغيره.
وقيل: سميت بذلك لان للطاعات فيها قدرا عظيما، وثوابا جزيلا.
وقال أبو بكر الوراق:
سميت بذلك لان من لم يكن له قدر ولا خطر يصير في هذه الليلة ذا قدر إذا أحياها.
وقيل: سميت بذلك لأنه أنزل فيها كتابا ذا قدر، على رسول ذي قدر، على أمة ذات قدر.
وقيل: لأنه ينزل فيها ملائكة ذوو قدر وخطر.
وقيل: لان الله تعالى ينزل فيها الخير والبركة والمغفرة.
وقال سهل: سميت بذلك لان الله تعالى قدر فيها الرحمة على المؤمنين.
وقال الخليل: لان الأرض تضيق فيها بالملائكة، كقوله تعالى: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} [الطلاق: 7] أي ضيق.

.تفسير الآيات (2- 3):

{وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3)}
قال الفراء: كل ما في القرآن من قوله تعالى: {وَما أَدْراكَ} فقد أدراه. وما كان من قوله: {وَما يُدْرِيكَ} [الأحزاب: 63] فلم يدره. وقاله سفيان، وقد تقدم. {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} بين فضلها وعظمها. وفضيلة الزمان إنما تكون بكثرة ما يقع فيه من الفضائل.
وفي تلك الليلة يقسم الخير الكثير الذي لا يوجد مثله في ألف شهر. والله أعلم.
وقال كثير من المفسرين: أي العمل فيها خير من العمل في ألف شهر ليس فيها ليلة القدر.
وقال أبو العالية: ليلة القدر خير من ألف شهر لا تكون فيه ليلة القدر.
وقيل: عني بألف شهر جميع الدهر، لان العرب تذكر الالف في غاية الأشياء، كما قال تعالى: {يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [البقرة: 96] يعني جميع الدهر.
وقيل: إن العابد كان فيما مضى لا يسمى عابدا حتى يعبد الله ألف شهر، ثلاثا وثمانين سنة وأربعة أشهر، فجعل الله تعالى لامة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عبادة ليلة خيرا من ألف شهر كانوا يعبدونها.
وقال أبو بكر الوراق: كان ملك سليمان خمسمائة شهر، وملك ذي القرنين خمسمائة شهر فصار ملكهما ألف شهر، فجعل الله تعالى العمل في هذه الليلة لمن أدركها خيرا من ملكهما.
وقال ابن مسعود: إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلا من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر، فعجب المسلمون من ذلك، فنزلت {إِنَّا أَنْزَلْناهُ} [القدر: 3] الآية. خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، التي لبس فيها الرجل سلاحه في سبيل الله. ونحوه عن ابن عباس. وهب بن منبه: إن ذلك الرجل كان مسلما، وإن أمه جعلته نذرا لله، وكان من قرية قوم يعبدون الأصنام، وكان سكن قريبا منها، فجعل يغزوهم وحده، ويقتل ويسبي ويجاهد، وكان لا يلقاهم إلا بلحيي بعير، وكان إذا قاتلهم وقاتلوه وعطش، انفجر له من اللحيين ماء عذب، فيشرب منه، وكان قد أعطى قوة في البطش، لا يوجعه حديد ولا غيره: وكان اسمه شمسون.
وقال كعب الأحبار: كان رجلا ملكا في بني إسرائيل، فعل خصلة واحدة، فأوحى الله إلى نبي زمانهم: قل لفلان يتمنى. فقال: يا رب أتمنى أن أجاهد بمالي وولدي ونفسي، فرزقه الله ألف ولد، فكان يجهز الولد بماله في عسكر، ويخرجه مجاهدا في سبيل الله، فيقوم شهرا ويقتل ذلك الولد، ثم يجهز آخر في عسكر، فكان كل ولد يقتل في الشهر، والملك مع ذلك قائم الليل، صائم النهار، فقتل الالف ولد في ألف شهر، ثم تقدم فقاتل فقتل. فقال الناس: لا أحد يدرك منزلة هذا الملك، فأنزل الله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} من شهور ذلك الملك، في القيام والصيام والجهاد بالمال والنفس والأولاد في سبيل الله.
وقال علي وعروة: ذكر النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أربعة من بني إسرائيل، فقال: «عبدوا الله ثمانين سنة، لم يعصوه طرفة عين»، فذكر أيوب وزكريا، وحزقيل بن العجوز ويوشع بن نون، فعجب أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من ذلك. فأتاه جبريل فقال: يا محمد عجبت أمتك من عبادة هؤلاء النفر ثمانين سنة لم يعصوا الله طرفة عين، فقد أنزل الله عليك خيرا من ذلك، ثم قرأ: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}. فسر بذلك رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال مالك في الموطأ من رواية ابن القاسم وغيره: سمعت من أثق به يقول: إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرى أعمار الأمم قبله، فكأنه تقاصر أعمار أمته ألا يبلغوا من العمل مثل ما بلغ غيرهم في طول العمر، فأعطاه الله تعالى ليلة القدر، وجعلها خيرا من ألف شهر.
وفي الترمذي. عن الحسن بن علي رضي الله عنهما: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أرى بني أمية على منبره، فساءه ذلك، فنزلت {إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ} [الكوثر: 1]، يعني نهرا في الجنة. ونزلت {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ} يملكها بعدك بنو أمية. قال القاسم بن الفضل الحداني: فعددناها، فإذا هي ألف شهر، لا تزيد يوما، ولا تنقص يوما. قال: حديث غريب.

.تفسير الآية رقم (4):

{تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)}
قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ} أي تهبط من كل سماء، ومن سدرة المنتهى، ومسكن جبريل على وسطها. فينزلون إلى الأرض ويؤمنون على دعاء الناس، إلى وقت طلوع الفجر، فذلك قوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ}. {وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ} أي جبريل عليه السلام.
وحكى القشيري: أن الروح صنف من الملائكة، جعلوا حفظة على سائرهم، وأن الملائكة لا يرونهم، كما لا نرى نحن الملائكة.
وقال مقاتل: هم أشرف الملائكة. وأقربهم من الله تعالى.
وقيل: إنهم جند من جند الله عز وجل من غير الملائكة. رواه مجاهد عن ابن عباس مرفوعا، ذكره الماوردي وحكى القشيري: قيل هم صنف من خلق الله يأكلون الطعام، ولهم أيد وأرجل، وليسوا ملائكة.
وقيل: الرُّوحُ خلق عظيم يقوم صفا، والملائكة كلهم صفا.
وقيل: الرُّوحُ الرحمة ينزل بها جبريل عليه السلام مع الملائكة في هذه الليلة على أهلها، دليله: {يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ} [النحل: 2]، أي بالرحمة. فِيها أي في ليلة القدر. بِإِذْنِ رَبِّهِمْ أي بأمره. {مِنْ كُلِّ أَمْرٍ}: أمر بكل أمر قدره الله وقضاه في تلك السنة إلى قابل، قاله ابن عباس، كقوله تعالى: {يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11] أي بأمر الله. وقراءة العامة تَنَزَّلُ بفتح التاء، إلا أن البزي شدد التاء. وقرأ طلحة بن مصرف وابن السميقع، بضم التاء على الفعل المجهول. وقرأ علي وابن عباس وعكرمة والكلبي من كل امرئ. وروي عن ابن عباس أن معناه: من كل ملك، وتأولها الكلبي على أن جبريل ينزل فيها مع الملائكة، فيسلمون على كل امرئ مسلم. {فمن} بمعنى على. وعن أنس قال: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إذا كان ليلة القدر نزل جبريل في كبكبة من الملائكة، يصلون ويسلمون على كل عبد قائم أو قاعد يذكر الله تعالى».

.تفسير الآية رقم (5):

{سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)}
قيل: إن تمام الكلام مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ثم قال سَلامٌ. روي ذلك عن نافع وغيره، أي ليلة القدر سلامة وخير كلها لا شر فيها. حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ أي إلى طلوع الفجر. قال الضحاك: لا يقدر الله في تلك الليلة إلا السلامة، وفي سائر الليالي يقضي بالبلايا والسلامة وقيل: أي هي سلام، أي ذات سلامة من أن يؤثر فيها شيطان في مؤمن ومؤمنة. وكذا قال مجاهد: هي ليلة سالمة، لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءا ولا أذى. وروي مرفوعا.
وقال الشعبي: هو تسليم الملائكة على أهل المساجد، من حين تغيب الشمس إلى أن يطلع الفجر، يمرون على كل مؤمن، ويقولون: السلام عليك أيها المؤمن.
وقيل: يعني سلام الملائكة بعضهم على بعض فيها.
وقال قتادة: سَلامٌ هِيَ: خير هي. حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ أي إلى مطلع الفجر. وقرأ الكسائي وابن محيصن {مطلع} بكسر اللام، الباقون بالفتح. والفتح والكسر: لغتان في المصدر. والفتح الأصل في فعل يفعل، نحو المقتل والمخرج. والكسر على أنه مما شذ عن قياسه، نحو المشرق والمغرب والمنبت والمسكن والمنسك والمحشر والمسقط والمجزر. حكى في ذلك كله الفتح والكسر، على أن يراد به المصدر لا الاسم. وهنا ثلاث مسائل:
الأولى: في تعيين ليلة القدر، وقد اختلف العلماء في ذلك. والذي عليه المعظم أنها ليلة سبع وعشرين، لحديث زر بن حبيش قال: قلت لابي بن كعب: إن أخاك عبد الله بنمسعود يقول: من يقم الحول يصب ليلة القدر. فقال: يغفر الله لابي عبد الرحمن! لقد علم أنها في العشر الأواخر من رمضان، وأنها ليلة سبع وعشرين، ولكنه أراد ألا يتكل الناس، ثم حلف لا يستثنى: أنها ليلة سبع وعشرين. قال قلت: بأي شيء تقول ذلك يا أبا المنذر؟ قال: بالآية التي أخبرنا بها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أو بالعلامة أن الشمس تطلع يومئذ لا شعاع لها. قال الترمذي: حديث حسن صحيح. وخرجه مسلم.
وقيل: هي في شهر رمضان دون سائر العام، قاله أبو هريرة وغيره.
وقيل: هي في ليالي السنة كلها. فمن علق طلاق امرأته أو عتق عبده بليلة القدر، لم يقع العتق والطلاق إلا بعد مضي سنة من يوم حلف. لأنه لا يجوز إيقاع الطلاق بالشك، ولم يثبت اختصاصها بوقت، فلا ينبغي وقوع الطلاق إلا بمضي حول. وكذلك العتق، وما كان مثله من يمين أو غيره.
وقال ابن مسعود: من يقم الحول يصبها، فبلغ ذلك ابن عمر، فقال: يرحم الله أبا عبد الرحمن! أما إنه علم أنها في العشر الأواخر من شهر رمضان، ولكنه أراد ألا يتكل الناس. وإلى هذا القول ذهب أبو حنيفة أنها في جميع السنة. وقيل عنه: إنها رفعت- يعني ليلة القدر- وأنها إنما كانت مرة واحدة، والصحيح أنها باقية. وروي عن ابن مسعود أيضا: أنها إذا كانت في يوم من هذه السنة، كانت في العام المقبل في يوم آخر. والجمهور على أنها في كل عام من رمضان. ثم قيل: إنها الليلة الأولى من الشهر، قاله أبو رزين العقيلي.
وقال الحسن وابن إسحاق وعبد الله بن الزبير: هي ليلة سبع عشرة من رمضان، وهي الليلة التي كانت صبيحتها وقعة بدر. كأنهم نزعوا بقوله تعالى: {وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ} [الأنفال: 41]، وكان ذلك ليلة سبع عشرة، وقيل هي ليلة التاسع عشر. والصحيح المشهور: أنها في العشر الأواخر من رمضان، وهو قول مالك والشافعي والأوزاعي وأبي ثور وأحمد. ثم قال قوم: هي ليلة الحادي والعشرين. ومال إليه الشافعي رضي الله عنه، لحديث الماء والطين ورواه أبو سعيد الخدري، خرجه مالك وغيره. وقيل ليلة الثالث والعشرين، لما رواه ابن عمر أن رجلا قال: يا رسول الله إني رأيت ليلة القدر في سابعة تبقى. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أرى رؤياكم قد تواطأت على ثلاث وعشرين، فمن أراد أن يقوم من الشهر شيئا فليقم ليلة ثلاث وعشرين». قال معمر: فكان أيوب يغتسل ليلة ثلاث وعشرين ويمس طيبا.
وفي صحيح مسلم أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «إني رأيت أني أسجد في صبيحتها في ماء وطين». قال عبد الله بن أنيس: فرأيته في صبيحة ليلة ثلاث وعشرين في الماء والطين، كما أخبر رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقيل: ليلة خمس وعشرين، لحديث أبي سعيد الخدري: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «التمسوها في العشر الأواخر في تاسعة تبقى، في سابعه تبقى، في خامسة تبقى». رواه مسلم، قال مالك: يريد بالتاسعة ليلة إحدى وعشرين، والسابعة ليلة ثلاث وعشرين، والخامسة ليلة خمس وعشرين.
وقيل: ليلة سبع وعشرين. وقد مضى دليله، وهو قول علي رضي الله عنه وعائشة ومعاوية وأبي بن كعب.
وروى ابن عمر أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من كان متحريا ليلة القدر، فليتحرها ليلة سبع وعشرين».
وقال أبي بن كعب: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول: «ليلة القدر ليلة سبع وعشرين».
وقال أبو بكر الوراق: إن الله تعالى قسم ليالي هذا الشهر- شهر رمضان- على كلمات هذه السورة، فلما بلغ السابعة والعشرين أشار إليها فقال: هي وأيضا فإن ليلة القدر كرر ذكرها ثلاث مرات، وهي تسعة أحرف، فتجيء سبعا وعشرين.
وقيل: هي ليلة تسع وعشرين، لما روي أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «ليلة القدر التاسعة والعشرون- أو السابعة والعشرون- وأن الملائكة في تلك الليلة بعدد الحصى». وقد قيل: إنها في الاشفاع. قال الحسن: ارتقبت الشمس ليلة أربع وعشرين عشرين سنة، فرأيتها تطلع بيضاء لا شعاع لها. يعني من كثرة الأنوار في تلك الليلة. وقيل إنها مستورة في جميع السنة، ليجتهد المرء في إحياء جميع الليالي.
وقيل: أخفاها في جميع شهر رمضان، ليجتهدوا في العمل والعبادة ليالي شهر رمضان، طمعا في إدراكها، كما أخفى الصلاة الوسطى في الصلوات، واسمه الأعظم في أسمائه الحسنى، وساعة الإجابة في ساعات الجمعة وساعات الليل، وغضبه في المعاصي، ورضاه في الطاعات، وقيام الساعة في الأوقات، والعبد الصالح بين العباد، رحمة منه وحكمة.
الثانية: في علاماتها: منها أن الشمس، تطلع في صبيحتها بيضاء لا شعاع لها.
وقال الحسن قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في ليلة القدر: «إن من أماراتها: أنها ليلة سمحة بلجة، لا حارة ولا باردة، تطلع الشمس صبيحتها ليس لها شعاع».
وقال عبيد بن عمير: كنت ليلة السابع والعشرين في البحر، فأخذت من مائه، فوجدته عذبا سلسا.
الثالثة: في فضائلها. وحسبك بقوله تعالى: {لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ}. وقوله تعالى: {تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها}.
وفي الصحيحين: «من قام ليلة القدر إيمانا واحتسابا غفر الله له ما تقدم من ذنبه» رواه أبو هريرة.
وقال ابن عباس: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا كان ليلة القدر، تنزل الملائكة الذين هم سكان سدرة المنتهى، منهم جبريل، ومعهم ألوية ينصب منها لواء على قبري، ولواء على بيت المقدس، ولواء على المسجد الحرام، ولواء على طور سيناء، ولا تدع فيها مؤمنا ولا مؤمنة إلا تسلم عليه، إلا مدمن الخمر، وآكل الخنزير، والمتضمخ بالزعفران». وفي الحديث: «إن الشيطان لا يخرج في هذه الليلة حتى يضئ فجرها، ولا يستطيع أن يصيب فيها أحدا بخبل ولا شيء من الفساد، ولا ينفذ فيها سحر ساحر».
وقال الشعبي: وليلها كيومها، ويومها كليلها.
وقال الفراء، لا يقدر الله في ليلة القدر إلا السعادة والنعم، ويقدر في غيرها البلايا والنقم، وقد تقدم عن الضحاك. ومثله لا يقال من جهة الرأي، فهو مرفوع. والله أعلم.
وقال سعيد بن المسيب في الموطأ: من شهد العشاء من ليلة القدر، فقد أخذ بحظه منها، ومثله لا يدرك بالرأي. وقد روى عبيد الله بنعامر بن ربيعة: أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «من صلى صلاة المغرب والعشاء الآخرة من ليلة القدر في جماعة فقد أخذ بحظه من ليلة القدر» ذكره الثعلبي في تفسيره. وقالت عائشة رضي الله عنها: قلت: يا رسول الله إن وافقت ليلة القدر فما أقول؟ قال: «قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني».