فصل: تفسير الآية رقم (219):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (219):

{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)}
قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما}. فيه تسع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {يَسْئَلُونَكَ} السائلون هم المؤمنون، كما تقدم. والخمر مأخوذة من خمر إذا ستر، ومنه خمار المرأة. وكل شيء غطى شيئا فقد خمره، ومنه: «خمروا آنيتكم» فالخمر تخمر العقل، أي تغطيه وتستره، ومن ذلك الشجر الملتف يقال له: الخمر بفتح الميم لأنه يغطى ما تحته ويستره، يقال منه: أخمرت الأرض كثر خمرها، قال الشاعر:
ألا يا زيد والضحاك سيرا ** فقد جاوزتما خمر الطريق

أي سيرا مدلين فقد جاوزتما الوهدة التي يستتر بها الذئب وغيره.
وقال العجاج يصف جيشا يمشي برايات وجيوش غير مستخف:
في لامع العقبان لا يمشى الخمر ** يوجه الأرض ويستاق الشجر

ومنه قولهم: دخل في غمار الناس وخمارهم، أي هو في مكان خاف. فلما كانت الخمر تستر العقل وتغطيه سميت بذلك.
وقيل: إنما سميت الخمر خمرا لأنها تركت حتى أدركت، كما يقال: قد اختمر العجين، أي بلغ إدراكه. وخمر الرأى، أي ترك حتى يتبين فيه الوجه.
وقيل: إنما سميت الخمر خمرا لأنها تخالط العقل، من المخامرة وهى المخالطة، ومنه قولهم: دخلت في خمار الناس، أي اختلطت بهم. فالمعاني الثلاثة متقاربة، فالخمر تركت وخمرت حتى أدركت، ثم خالطت العقل، ثم خمرته، والأصل الستر.
والخمر: ماء العنب الذي غلى أو طبخ، وما خامر العقل من غيره فهو في حكمه، لأن إجماع العلماء أن القمار كله حرام. وإنما ذكر الميسر من بينه فجعل كله قياسا على الميسر، والميسر إنما كان قمارا في الجزر خاصة، فكذلك كل ما كان كالخمر فهو بمنزلتها.
الثانية: والجمهور من الامة على أن ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فمحرم قليله وكثيره، والحد في ذلك واجب.
وقال أبو حنيفة والثوري وابن أبى ليلى وابن شبرمة وجماعة من فقهاء الكوفة: ما أسكر كثيره من غير خمر العنب فهو حلال، وإذا سكر منه أحد دون أن يتعمد الوصول إلى حد السكر فلا حد عليه، وهذا ضعيف يرده النظر والخبر، على ما يأتي بيانه في المائدة والنحل إن شاء الله تعالى.
الثالثة: قال بعض المفسرين: إن الله تعالى لم يدع شيئا من الكرامة والبر إلا أعطاه هذه الامة، ومن كرامته وإحسانه أنه لم يوجب عليهم الشرائع دفعة واحدة، ولكن أوجب عليهم مرة بعد مرة، فكذلك تحريم الخمر. وهذه الآية أول ما نزل في أمر الخمر، ثم بعده: {لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكارى} ثم قوله: {إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} ثم قوله: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ} على ما يأتي بيانه في المائدة.
الرابعة: قوله تعالى: {وَالْمَيْسِرِ} الميسر: قمار العرب بالأزلام. قال ابن عباس: كان الرجل في الجاهلية يخاطر الرجل على أهله وماله فأيهما قمر صاحبه ذهب بماله واهلة، فنزلت الآية.
وقال مجاهد ومحمد بن سيرين والحسن وابن المسيب وعطاء وقتادة ومعاوية ابن صالح وطاوس وعلى بن أبى طالب رضي الله عنه وابن عباس أيضا: كل شيء فيه قمار من نرد وشطرنج فهو الميسر، حتى لعب الصبيان بالجوز والكعاب، إلا ما أبيح من الرهان في الخيل والقرعة في إفراز الحقوق، على ما يأتي.
وقال مالك: الميسر ميسران: ميسر اللهو، وميسر القمار، فمن ميسر اللهو النرد والشطرنج والملاهي كلها. وميسر القمار: ما يتخاطر الناس عليه. قال علي بن أبى طالب: الشطرنج ميسر العجم. وكل ما قومر به فهو ميسر عند مالك وغيره من العلماء. وسيأتي في يونس زيادة بيان لهذا الباب إن شاء الله تعالى. والميسر مأخوذ من اليسر، وهو وجوب الشيء لصاحبه، يقال: يسر لي كذا إذا وجب فهو ييسر يسرا وميسرا. والياسر: اللاعب بالقداح، وقد يسر ييسر، قال الشاعر:
فأعنهم وأيسر بما يسروا به ** وإذا هم نزلوا بضنك فانزل

وقال الأزهري: الميسر: الجزور الذي كانوا يتقامرون عليه، سمى ميسرا لأنه يجزأ أجزاء، فكأنه موضع التجزئة، وكل شيء جزأته فقد يسرته. والياسر: الجازر، لأنه يجزئ لحم الجزور. قال: وهذا الأصل في الياسر، ثم يقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور: يأسرون، لأنهم جازرون إذ كانوا سببا لذلك. وفى الصحاح: ويسر القوم الجزور أي اجتزروها واقتسموا أعضاءها. قال سحيم بن وثيل اليربوعي:
أقول لهم بالشعب إذ ييسرونني ** ألم تيأسوا أني ابن فارس زهدم

كان قد وقع عليه سباء فضرب عليه بالسهام. ويقال: يسر القوم إذا قامروا. ورجل يسر وياسر بمعنى. والجمع أيسار، قال النابغة:
أنى أتمم أيساري وأمنحهم ** مثنى الايادي وأكسو الجفنة الأدما

وقال طرفة:
وهم أيسار لقمان إذا ** أغلت الشتوة إبداء الجزر

وكان من تطوع بنحرها ممدوحا عندهم، قال الشاعر:
وناجية نحرت لقوم صدق ** وما ناديت أيسار الجزور

الخامسة: روى مالك في الموطأ عن داود بن حصين أنه سمع سعيد بن المسيب يقول: كان من ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين، وهذا محمول عند مالك وجمهور أصحابه في الجنس الواحد، حيوانه بلحمه، وهو عنده من باب المزابنة والغرر والقمار، لأنه لا يدرى هل في الحيوان مثل اللحم الذي أعطى أو أقل أو أكثر، وبيع اللحم باللحم لا يجوز متفاضلا، فكان بيع الحيوان باللحم كبيع اللحم المغيب في جلده إذا كانا من جنس واحد، والجنس الواحد عنده الإبل والبقر والغنم والظباء والوعول وسائر الوحوش، وذوات الأربع المأكولات كلها عنده جنس واحد، لا يجوز بيع شيء من حيوان هذا الصنف والجنس كله بشيء واحد من لحمه بوجه من الوجوه، لأنه عنده من باب المزابنة، كبيع الزبيب بالعنب والزيتون بالزيت والشيرج بالسمسم، ونحو ذلك. والطير عنده كله جنس واحد، وكذلك الحيتان من سمك وغيره.
وروى عنه أن الجراد وحده صنف.
وقال الشافعي وأصحابه والليث ابن سعد: لا يجوز بيع اللحم بالحيوان على حال من الأحوال من جنس واحد كان أم من جنسين مختلفين، على عموم الحديث.
وروى عن ابن عباس أن جزورا نحرت على عهد أبي بكر الصديق فقسمت على عشرة أجزاء، فقال رجل: أعطوني جزءا منها بشاة، فقال أبو بكر: لا يصلح هذا. قال الشافعي: ولست أعلم لابي بكر في ذلك مخالفا من الصحابة. قال أبو عمر: قد روى عن ابن عباس أنه أجاز بيع الشاة باللحم، وليس بالقوى.
وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن يحيى بن سعيد عن سعيد بن المسيب أنه كره أن يباع حي بميت، يعني الشاة المذبوحة بالقائمة. قال سفيان: ونحن لا نرى به بأسا. قال المزني: إن لم يصح الحديث في بيع الحيوان باللحم فالقياس أنه جائز، وإن صح بطل القياس واتبع الأثر. قال أبو عمر: وللكوفيين في أنه جائز بيع اللحم بالحيوان حجج كثيرة من جهة القياس والاعتبار، إلا أنه إذا صح الأثر بطل القياس والنظر.
وروى مالك عن زيد بن أسلم عن سعيد بن المسيب أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نهى عن بيع الحيوان باللحم. قال أبو عمر: ولا أعلمه يتصل عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من وجه ثابت، وأحسن أسانيده مرسل سعيد بن المسيب على ما ذكره مالك في موطئة، وإليه ذهب الشافعي، وأصله أنه لا يقبل المراسيل إلا أنه زعم أنه افتقد مراسيل سعيد فوجدها أو أكثرها صحاحا. فكره بيع أنواع الحيوان بأنواع اللحوم على ظاهر الحديث وعمومه، لأنه لم يأت أثر يخصه ولا إجماع. ولا يجوز عنده أن يخص النص بالقياس. والحيوان عنده اسم لكل ما يعيش في البر والماء وإن اختلفت أجناسه، كالطعام الذي هو اسم لكل مأكول أو مشروب، فاعلم.
السادسة: قوله تعالى: {قُلْ فِيهِما} يعني الخمر والميسر {إِثْمٌ كَبِيرٌ} إثم الخمر ما يصدر عن الشارب من المخاصمة والمشاتمة وقول الفحش والزور، وزوال العقل الذي يعرف به ما يجب لخالقه، وتعطيل الصلوات والتعوق عن ذكر الله، إلى غير ذلك. روى النسائي عن عثمان رضي الله عنه قال: اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن كان قبلكم تعبد فعلقته امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها فقالت له: إنا ندعوك للشهادة، فانطلق مع جاريتها فطفقت كلما دخل بابا أغلقته دونه، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر، فقالت: إنى والله ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع علي، أو تشرب من هذه الخمر كأسا، أو تقتل هذا الغلام. قال: فاسقينى من هذه الخمر كأسا، فسقته كأسا. قال: زيدوني، فلم يرم حتى وقع عليها، وقتل النفس، فاجتنبوا الخمر، فإنها والله لا يجتمع الايمان وإدمان الخمر، إلا ليوشك أن يخرج أحدهما صاحبه، وذكره أبو عمر في الاستيعاب.
وروى أن الأعشى لما توجه إلى المدينة ليسلم فلقيه بعض المشركين في الطريق فقالوا له: أين تذهب؟ فأخبرهم بأنه يريد محمدا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالوا: لا تصل إليه، فإنه يأمرك بالصلاة، فقال: إن خدمة الرب واجبة. فقالوا: إنه يأمرك بإعطاء المال إلى الفقراء. فقال:
اصطناع المعروف واجب. فقيل له: إنه ينهى عن الزنى. فقال: هو فحش وقبيح في العقل، وقد صرت شيخا فلا أحتاج إليه. فقيل له: إنه ينهى عن شرب الخمر. فقال: أما هذا فإنى لا أصبر عليه! فرجع، وقال: أشرب الخمر سنة ثم أرجع إليه، فلم يصل إلى منزله حتى سقط عن البعير فانكسرت عنقه فمات. وكان قيس بن عاصم المنقري شرابا لها في الجاهلية ثم حرمها على نفسه، وكان سبب ذلك أنه غمز عكنة ابنته وهو سكران، وسب أبويه، وراي القمر فتكلم بشيء، وأعطى الخمار كثيرا من ماله، فلما أفاق أخبر بذلك فحرمها على نفسه، وفيها يقول:
رأيت الخمر صالحة وفيها ** خصال تفسد الرجل الحليما

فلا والله أشربها صحيحا ** ولا أشفي بها أبدا سقيما

ولا أعطي بها ثمنا حياتي ** ولا أدعو لها أبدا نديما

فإن الخمر تفضح شاربيها ** وتجنيهم بها الأمر العظيما

قال أبو عمر: وروى ابن الأعرابي عن المفضل الضبي أن هذه الأبيات لابي محجن الثقفي قالها في تركه الخمر، وهو القائل رضي الله عنه:
إذا مت فادفني إلى جنب كرمة ** تروى عظامي بعد موتى عروقها

ولا تدفنني بالفلاة فإنني ** أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

وجلده عمر الحد عليها مرارا، ونفاه إلى جزيرة في البحر، فلحق بسعد فكتب إليه عمر أن يحبسه فحبسه، وكان أحد الشجعان البهم، فلما كان من أمره في حرب القادسية ما هو معروف حل قيوده وقال: لا نجلدك على الخمر أبدا. قال أبو محجن: وأنا والله لا أشربها أبدا، فلم يشربها بعد ذلك.
وفي رواية: قد كنت أشربها إذ يقام على الحد وأطهر منها، وأما إذ بهرجتني فو الله لا أشربها أبدا. وذكر الهيثم بن عدى أنه أخبره من رأى قبر أبى محجن باذر بيجان، أو قال: في نواحي جرجان، وقد نبتت عليه ثلاث أصول كرم وقد طالت وأثمرت، وهى معروشة على قبره، ومكتوب على القبر هذا قبر أبى محجن قال: فجعلت أتعجب وأذكر قوله: إذا مت فادفنّي إلى جنب كرمة ثم إن الشارب يصير ضحكة للعقلاء، فيلعب ببوله وعذرته، وربما يمسح وجهه، حتى رئي بعضهم يمسح وجهه ببوله ويقول: اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ورئي بعضهم والكلب يلحس وجهه وهو يقول له: أكرمك الله. وأما القمار فيورث العداوة والبغضاء، لأنه أكل مال الغير بالباطل.
السابعة: قوله تعالى: {وَمَنافِعُ لِلنَّاسِ} أما في الخمر فربح التجارة، فإنهم كانوا يجلبونها من الشام برخص فيبيعونها في الحجاز بربح، وكانوا لا يرون المماكسة فيها، فيشترى طالب الخمر الخمر بالثمن الغالي. هذا أصح ما قيل في منفعتها، وقد قيل في منافعها: إنها تهضم الطعام، وتقوى الضعف، وتعين على الباه، وتسخى البخيل، وتشجع الجبان، وتصفى اللون، إلى غير ذلك من اللذة بها. وقد قال حسان بن ثابت رضي الله عنه:
ونشربها فتتركنا ملوكا ** وأسدا ما ينهنهنا اللقاء

إلى غير ذلك من أفراحها.
وقال آخر:
فإذا شربت فإنني ** رب الخورنق والسدير

وإذا صحوت فإنني ** رب الشويهة والبعير

ومنفعة الميسر مصير الشيء إلى الإنسان في القمار بغير كد ولا تعب، فكانوا يشترون الجزور ويضربون بسهامهم، فمن خرج سهمه أخذ نصيبه من اللحم ولا يكون عليه من الثمن شيء، ومن بقي سهمه آخرا كان عليه ثمن الجزور كله ولا يكون له من اللحم شي.
وقيل: منفعته التوسعة على المحاويج، فإن من قمر منهم كان لا يأكل من الجزور وكان يفرقه في المحتاجين.
وسهام الميسر أحد عشر سهما، منها سبعة لها حظوظ وفيها فروض على عدد الحظوظ، وهى: الفذ وفيه علامة واحدة له نصيب وعليه نصيب إن خاب.
الثاني- التوأم وفيه علامتان وله وعليه نصيبان.
الثالث- الرقيب وفيه ثلاث علامات على ما ذكرنا.
الرابع- الحلس وله أربع.
الخامس- النافز والنافس أيضا وله خمس.
السادس: المسبل وله ست.
السابع- المعلى وله سبع.
فذلك ثمانية وعشرون فرضا، وأنصباء الجزور كذلك في قول الأصمعي. وبقي من السهام أربعة، وهى الاغفال لا فروض لها ولا أنصباء، وهى: المصدر والمضعف والمنيح والسفيح.
وقيل: الباقية الاغفال الثلاثة: السفيح والمنيح والوغد تزاد هذه الثلاثة لتكثر السهام على الذي يجيلها فلا يجد إلى الميل مع أحد سبيلا. ويسمى المجيل المفيض والضارب والضريب والجمع الضرباء.
وقيل: يجعل خلفه رقيب لئلا يحابى أحدا، ثم يجثو الضريب على ركبتيه، ويلتحف بثوب ويخرج رأسه ويدخل يده في الربابة فيخرج. وكانت عادة العرب أن تضرب الجزور بهذه السهام في الشتوة وضيق الوقت وكلب البرد على الفقراء، يشترى الجزور ويضمن الإيسار ثمنها ويرضى صاحبها من حقه، وكانوا يفتخرون بذلك ويذمون من لم يفعل ذلك منهم، ويسمونه البرم قال متمم بن نويرة:
ولا برما تهدى النساء لعرسه ** إذا القشع من برد الشتاء تقعقعا

ثم تنحر وتقسم على عشرة أقسام. قال ابن عطية: وأخطأ الأصمعي في قسمة الجزور، فذكر أنها على قدر حظوظ السهام ثمانية وعشرون قسما، وليس كذلك، ثم يضرب على العشرة فمن فاز سهمه بأن يخرج من الربابة متقدما أخذ أنصباءه وأعطاها الفقراء. والربابة بكسر الراء: شبيهة بالكنانة تجمع فيها سهام الميسر، وربما سموا جميع السهام ربابة، قال أبو ذؤيب يصف الحمار وأتنه:
وكأنهن ربابة وكأنه ** يسر يفيض على القداح ويصدع

والربابة أيضا: العهد والميثاق، قال الشاعر:
وكنت آمرا أفضت إليك ربابتي ** وقبلك ربتني فضعت ربوب

وفي أحيان ربما تقامروا لأنفسهم ثم يغرم الثمن من لم يفز سهمه، كما تقدم. ويعيش بهذه السيرة فقراء الحي، ومنه قول الأعشى:
المطعمو الضيف إذا ما شتوا ** والجاعلو القوت على الياسر

ومنه قول الآخر:
بأيديهم مقرومة ومغالق ** يعود بأرزاق العفاة منيحها

والمنيح في هذا البيت المستمنح، لأنهم كانوا يستعيرون السهم الذي قد أملس وكثر فوزه، فذلك المنيح الممدوح. وأما المنيح الذي هو أحد الاغفال فذلك إنما يوصف بالكر، وإياه أراد الأخطل بقوله:
ولقد عطفن على فزارة عطفة ** كر المنيح وجلن ثم مجالا

وفي الصحاح: والمنيح سهم من سهام الميسر مما لا نصيب له إلا أن يمنح صاحبه شيئا. ومن الميسر قول لبيد:
إذا يسروا لم يورث اليسر بينهم ** فواحش ينعى ذكرها بالمصائف

فهذا كله نفع الميسر، إلا أنه أكل المال بالباطل.
الثامنة: قوله تعالى: {وَإِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما} أعلم الله عز وجل أن الإثم أكبر من النفع، وأعود بالضرر في الآخرة، فالإثم الكبير بعد التحريم، والمنافع قبل التحريم. وقرأ حمزة والكسائي {كثير} بالثاء المثلثة، وحجتهما أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعن الخمر ولعن معها عشرة: بائعها ومبتاعها والمشتراة له وعاصرها والمعصورة له وساقيها وشاربها وحاملها والمحمولة له وآكل ثمنها. وأيضا فجمع المنافع يحسن معه جمع الآثام. و{كثير} بالثاء المثلثة يعطى ذلك. وقرأ باقى القراء وجمهور الناس {كَبِيرٌ} بالباء الموحدة، وحجتهم أن الذنب في القمار وشرب الخمر من الكبائر، فوصفه بالكبير أليق. وأيضا فاتفاقهم على {أَكْبَرُ} حجة ل {كَبِيرٌ} بالباء بواحدة. وأجمعوا على رفض {أكثر} بالثاء المثلثة، إلا في مصحف عبد الله بن مسعود فإن فيه {قل فيهما إثم كثير} {وإثمهما أكثر} بالثاء مثلثة في الحرفين.
التاسعة: قال قوم من أهل النظر: حرمت الخمر بهذه الآية، لأن الله تعالى قد قال: {قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ} فأخبر في هذه الآية أن فيها إثما فهو حرام. قال ابن عطية: ليس هذا النظر بجيد، لأن الإثم الذي فيها هو الحرام، لا هي بعينها على ما يقتضيه هذا النظر.
قلت: وقال بعضهم: في هذه الآية ما دل على تحريم الخمر لأنه سماه إثما، وقد حرم الإثم في آية أخرى، وهو قوله عز وجل: {قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَما بَطَنَ وَالْإِثْمَ} وقال بعضهم: الإثم أراد به الخمر، بدليل قول الشاعر:
شربت الإثم حتى ضل عقلي ** كذاك الإثم يذهب بالعقول

قلت: وهذا أيضا ليس بجيد، لأن الله تعالى لم يسم الخمر إثما في هذه الآية، وإنما قال: {قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ} ولم يقل: قل هما إثم كبير. وأما آية الأعراف وبئت الشعر فيأتي الكلام فيهما هناك مبينا، إن شاء الله تعالى. وقد قال قتادة: إنما في هذه الآية ذم الخمر، فأما التحريم فيعلم بآية أخرى وهى آية المائدة وعلى هذا أكثر المفسرين.
قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ. فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ} فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {قُلِ الْعَفْوَ} قراءة الجمهور بالنصب. وقرأ أبو عمرو وحده بالرفع. واختلف فيه عن ابن كثير. وبالرفع قراءة الحسن وقتادة وابن أبى إسحاق. قال النحاس وغيره: إن جعلت ذا بمعنى الذي كان الاختيار الرفع، على معنى: الذي ينفقون هو العفو، وجاز النصب. وإن جعلت ما وذا شيئا واحدا كان الاختيار النصب، على معنى: قل ينفقون العفو، وجاز الرفع.
وحكى النحويون: ماذا تعلمت: أنحوا أم شعرا؟ بالنصب والرفع، على أنهما جيدان حسنان، إلا أن التفسير في الآية على النصب.
الثانية: قال العلماء: لما كان السؤال في الآية المتقدمة في قوله تعالى: {وَيَسْئَلُونَكَ ماذا يُنْفِقُونَ} سؤالا عن النفقة إلى من تصرف، كما بيناه ودل عليه الجواب، والجواب خرج على وفق السؤال، كان السؤال الثاني في هذه الآية عن قدر الإنفاق، وهو في شأن عمرو بن الجموح- كما تقدم- فإنه لما نزل {قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ} قال: كم أنفق؟ فنزل {قُلِ الْعَفْوَ} والعفو: ما سهل وتيسر وفضل، ولم يشق على القلب إخراجه، ومنه قول الشاعر:
خذي العفو منى تستديمى مودتي ** ولا تنطقي في سورتي حين أغضب

فالمعنى: أنفقوا ما فضل عن حوائجكم، ولم تؤذوا فيه أنفسكم فتكونوا عالة، هذا أولى ما قيل في تأويل الآية، وهو معنى قول الحسن وقتادة وعطاء والسدي والقرظي محمد بن كعب وابن أبى ليلى وغيرهم، قالوا: العفو ما فضل عن العيال، ونحوه عن ابن عباس.
وقال مجاهد: صدقة عن ظهر غنى، وكذا قال عليه السلام: «خير الصدقة ما أنفقت عن غنى» وفي حديث آخر: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى».
وقال قيس بن سعد: هذه الزكاة المفروضة.
وقال جمهور العلماء: بل هي نفقات التطوع.
وقيل: هي منسوخة.
وقال الكلبي: كان الرجل بعد نزول هذه الآية إذا كان له مال من ذهب أو فضة أو زرع أو ضرع نظر إلى ما يكفيه وعياله لنفقة سنة أمسكه وتصدق بسائره، وإن كان ممن يعمل بيده أمسك ما يكفيه وعياله يوما وتصدق بالباقي، حتى نزلت آية الزكاة المفروضة فنسخت هذه الآية وكل صدقة أمروا بها.
وقال قوم: هي محكمة، وفى المال حق سوى الزكاة. والظاهر يدل على القول الأول.
الثالثة: قوله تعالى: {كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ} قال المفضل بن سلمة: أي في أمر النفقة. {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ. فِي الدُّنْيا وَالْآخِرَةِ} فتحبسون من أموالكم ما يصلحكم في معاش الدنيا وتنفقون الباقي فيما ينفعكم في العقبى وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، أي كذلك يبين الله لكم الآيات في أمر الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون في الدنيا وزوالها وفنائها فتزهدون فيها، وفى إقبال الآخرة وبقائها فترغبون فيها.