فصل: تفسير الآية رقم (230):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (230):

{فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)}
قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} فيه إحدى عشرة مسألة:
الأولى: احتج بعض مشايخ خراسان من الحنفية بهذه الآية على أن المختلعة يلحقها الطلاق، قالوا: فشرع الله سبحانه صريح الطلاق بعد المفاداة بالطلاق، لأن الفاء حرف تعقيب، فيبعد أن يرجع إلى قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتانِ} لان الذي تخلل من الكلام يمنع بناء قوله: {فَإِنْ طَلَّقَها} على قوله: {الطَّلاقُ مَرَّتانِ} بل الأقرب عوده على ما يليه كما في الاستثناء ولا يعود إلى ما تقدمه إلا بدلالة، كما أن قوله تعالى: {وَرَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} فصار مقصورا على ما يليه غير عائد على ما تقدمه حتى لا يشترط الدخول في أمهات النساء. وقد اختلف العلماء في الطلاق بعد الخلع في العدة، فقالت طائفة: إذا خالع الرجل زوجته ثم طلقها وهى في العدة لحقها الطلاق ما دامت في العدة، كذلك قال سعيد بن المسيب وشريح وطاوس والنخعي والزهري والحكم وحماد والثوري وأصحاب الرأى. وفيه قول ثان وهو أن الطلاق لا يلزمها، وهو قول ابن عباس وابن الزبير وعكرمة والحسن وجابر بن زيد والشافعي وأحمد وإسحاق وأبى ثور، وهو قول مالك إلا أن مالكا قال: إن افتدت منه على أن يطلقها ثلاثا متتابعا نسقا حين طلقها فذلك ثابت عليه، وإن كان بين ذلك صمات فما أتبعه بعد الصمات فليس بشيء، وإنما كان ذلك لان نسق الكلام بعضه على بعض متصلا يوجب له حكما واحدا، وكذلك إذا اتصل. الاستثناء باليمين بالله أثر وثبت له حكم الاستثناء، وإذا انفصل عنه لم يكن له تعلق بما تقدم من الكلام.
الثانية: المراد بقوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَها} الطلقة الثالثة {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ}. وهذا مجمع عليه لا خلاف فيه. واختلفوا فيما يكفى من النكاح، وما الذي يبيح التحليل، فقال سعيد بن المسيب ومن وافقه: مجرد العقد كاف.
وقال الحسن بن أبى الحسن: لا يكفى مجرد الوطي حتى يكون إنزال. وذهب الجمهور من العلماء والكافة من الفقهاء إلى أن الوطي كاف في ذلك، وهو التقاء الختانين الذي يوجب الحد والغسل، ويفسد الصوم والحج ويحصن الزوجين ويوجب كمال الصداق. قال ابن العربي: ما مرت بى في الفقه مسألة أعسر منها، وذلك أن من أصول الفقه أن الحكم هل يتعلق بأوائل الأسماء أو بأواخرها؟ فإن قلنا: إن الحكم يتعلق بأوائل الأسماء لزمنا أن نقول بقول سعيد بن المسيب. وإن قلنا: إن الحكم يتعلق بأواخر الأسماء لزمنا أن نشترط الانزال مع مغيب الحشفة في الإحلال، لأنه آخر ذوق العسيلة على ما قاله الحسن. قال ابن المنذر: ومعنى ذوق العسيلة هو الوطي، وعلى هذا جماعة العلماء إلا سعيد ابن المسيب قال: أما الناس فيقولون: لا تحل للأول حتى يجامعها الثاني، وأنا أقول: إذا تزوجها تزواجا صحيحا لا يريد بذلك إحلالها فلا بأس أن يتزوجها الأول. وهذا قول لا نعلم أحدا وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج، والسنة مستغنى بها عما سواها.
قلت: وقد قال بقول سعيد بن المسيب سعيد بن جبير، ذكره النحاس في كتاب معاني القرآن له. قال: واهل العلم على أن النكاح هاهنا الجماع، لأنه قال: {زَوْجاً غَيْرَهُ} فقد تقدمت الزوجية فصار النكاح الجماع، إلا سعيد بن جبير فإنه قال: النكاح هاهنا التزوج الصحيح إذا لم يرد إحلالها.
قلت: وأظنهما لم يبلغهما حديث العسيلة أو لم يصح عندهما فأخذا بظاهر القرآن، وهو قوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} والله أعلم. روى الأئمة واللفظ للدارقطني عن عائشة قالت: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «إذا طلق الرجل امرأته ثلاثا لا تحل له حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ ويذوق كل واحد منهما عسيلة صاحبه». قال بعض علماء الحنفية: من عقد على مذهب سعيد بن المسيب فللقاضي أن يفسخه، ولا يعتبر فيه خلافه لأنه خارج عن إجماع العلماء. قال علماؤنا: ويفهم من قوله عليه السلام: «حتى يذوق كل واحد منهما عسيلة صاحبه» استواؤهما في إدراك لذة الجماع، وهو حجة لاحد القولين عندنا في أنه لو وطئها نائمة أو مغمى عليها لم تحل لمطلقها، لأنها لم تذق العسيلة إذ لم تدركها.
الثالثة: روى النسائي عن عبد الله قال: لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة وآكل الربا ومؤكله والمحلل والمحلل له.
وروى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال: لعن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المحلل والمحلل له.
وقال: هذا حديث حسن صحيح.
وقد روى هذا الحديث عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من غير وجه. والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، منهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وغيرهم، وهو قول الفقهاء من التابعين، وبه يقول سفيان الثوري وابن المبارك والشافعي ومالك وأحمد وإسحاق، وسمعت الجارود يذكر عن وكيع أنه قال بهذا، وقال: ينبغي أن يرمى بهذا الباب من قول أصحاب الرأى.
وقال سفيان: إذا تزوج الرجل المرأة ليحلها ثم بدا له أن يمسكها فلا تحل له حتى يزوجها بنكاح جديد. قال أبو عمر بن عبد البر: اختلف العلماء في نكاح المحلل، فقال مالك، المحلل لا يقيم على نكاحه حتى يستقبل نكاحا جديدا، فإن أصابها فلها مهر مثلها، ولا تحلها إصابته لزوجها الأول، وسواء علما أو لم يعلما إذا تزوجها ليحلها، ولا يقر على نكاحه ويفسخ، وبه قال الثوري والأوزاعي. وفيه قول ثان روى عن الثوري في نكاح الخيار والمحلل أن النكاح جائز والشرط باطل، وهو قول ابن أبى ليلى في ذلك وفى نكاح المتعة.
وروى عن الأوزاعي في نكاح المحلل: بئس ما صنع والنكاح جائز.
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد: النكاح جائز إن دخل بها، وله أن يمسكها إن شاء.
وقال أبو حنيفة مرة هو وأصحابه: لا تحل للأول إن تزوجها ليحلها، ومرة قالوا: تحل له بهذا النكاح إذا جامعها وطلقها. ولم يختلفوا في أن نكاح هذا الزوج صحيح، وأن له أن يقيم عليه. وفيه قول ثالث- قال الشافعي: إذا قال أتزوجك لاحلك ثم لا نكاح بيننا بعد ذلك فهذا ضرب من نكاح المتعة، وهو فاسد لا يقر عليه ويفسخ، ولو وطئ على هذا لم يكن تحليلا. فإن تزوجها تزوجا مطلقا لم يشترط ولا أشترط عليه التحليل فللشافعي في ذلك قولان في كتابه القديم: أحدهما مثل قول مالك، والآخر مثل قول أبى حنيفة. ولم يختلف قوله في كتابه الجديد المصري أن النكاح صحيح إذا لم يشترط، وهو قول داود.
قلت: وحكى الماوردي عن الشافعي أنه إن شرط التحليل قبل العقد صح النكاح وأحلها للأول، وإن شرطاه في العقد بطل النكاح ولم يحلها للأول، قال: وهو قول الشافعي.
وقال الحسن وإبراهيم: إذا هم أحد الثلاثة بالتحليل فسد النكاح، وهذا تشديد.
وقال سالم والقاسم: لا بأس أن يتزوجها ليحلها إذا لم يعلم الزوجان وهو مأجور، وبه قال ربيعة ويحيى بن سعيد، وقاله داود بن على إذا لم يظهر ذلك في اشتراطه في حين العقد.
الرابعة: مدار جواز نكاح التحليل عند علمائنا على الزوج الناكح، وسواء شرط ذلك أو نواه، ومتى كان شيء من ذلك فسد نكاحه ولم يقر عليه، ولم يحلل وطؤه المرأة لزوجها. وعلم الزوج المطلق وجهله في ذلك سواء. وقد قيل: إنه ينبغي له إذا علم أن الناكح لها لذلك تزوجها أن يتنزه عن مراجعتها، ولا يحلها عند مالك إلا نكاح رغبة لحاجته إليها، ولا يقصد به التحليل، ويكون وطؤه لها وطأ مباحا: لا تكون صائمة ولا محرمة ولا في حيضتها، ويكون الزوج بالغا مسلما.
وقال الشافعي: إذا أصابها بنكاح صحيح وغيب الحشفة في فرجها فقد ذاقا العسيلة، وسواء في ذلك قوى النكاح وضعيفه، وسواء أدخله بيده أم بيدها، وكان من صبي أو مراهق أو مجبوب بقي له ما يغيبه كما يغيب غير الخصى، وسواء أصابها الزوج محرمة أو صائمة، وهذا كله- على ما وصف الشافعي- قول أبى حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي والحسن بن صالح، وقول بعض أصحاب مالك.
الخامسة: قال ابن حبيب: وإن تزوجها فإن أعجبته أمسكها، وإلا كان قد أحتسب في تحليلها الأجر لم يجز، لما خالط نكاحه من نية التحليل، ولا تحل بذلك للأول.
السادسة: وطئ السيد لامته التي قد بت زوجها طلاقها لا يحلها، إذ ليس بزوج، روى عن علي بن أبى طالب، وهو قول عبيدة ومسروق والشعبي وإبراهيم وجابر بن زيد وسليمان بن يسار وحماد بن أبى سليمان وأبى الزناد، وعليه جماعة فقهاء الأمصار. ويروى عن عثمان وزيد بن ثابت والزبير خلاف ذلك، وأنه يحلها إذا غشيها سيدها غشيانا لا يريد بذلك مخادعة ولا إحلالا، وترجع إلى زوجها بخطبة وصداق. والقول الأول أصح، لقوله تعالى: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} والسيد إنما تسلط بملك اليمين وهذا واضح.
السابعة: في موطإ مالك أنه بلغه أن سعيد بن السيب وسليمان بن يسار سئلا عن رجل زوج عبد اله جارية له فطلقها العبد البتة ثم وهبها سيدها له هل تحل له بملك اليمين؟ فقالا: لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره.
الثامنة: روى عن مالك أنه سأل ابن شهاب عن رجل كانت تحته أمة مملوكة فاشتراها وقد كان طلقها واحدة، فقال: تحل له بملك يمينه ما لم يبت طلاقها، فإن بت طلاقها فلا تحل له بملك يمينه حتى تنكح زوجا غيره. قال أبو عمر: وعلى هذا جماعة العلماء وائمة الفتوى: مالك والثوري والأوزاعي والشافعي وأبو حنيفة وأحمد وإسحاق وأبو ثور. وكان ابن عباس وعطاء وطاوس والحسن يقولون: إذا اشتراها الذي بت طلاقها حلت له بملك اليمين، على عموم قوله عز وجل: {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ}. قال أبو عمر: وهذا خطأ من القول، لأن قوله عز وجل: {أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ} لا يبيح الأمهات ولا الأخوات، فكذلك سائر المحرمات.
التاسعة: إذا طلق المسلم زوجته الذمية ثلاثا فنكحها ذمي ودخل بها ثم طلقها، فقالت طائفة: الذمي زوج لها، ولها أن ترجع إلى الأول، هكذا قال الحسن والزهري وسفيان الثوري والشافعي وأبو عبيد وأصحاب الرأى. قال ابن المنذر: وكذلك نقول، لأن الله تعالى قال: {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} والنصراني زوج.
وقال مالك وربيعة: لا يحلها.
العاشرة: النكاح الفاسد لا يحل المطلقة ثلاثا في قول الجمهور. مالك والثوري والشافعي والأوزاعي وأصحاب الرأى وأحمد وإسحاق وأبى عبيد، كلهم يقولون: لا تحل للزوج الأول إلا بنكاح صحيح، وكان الحكم يقول: هو زوج. قال ابن المنذر: ليس بزوج، لأن أحكام الأزواج في الظهار والإيلاء واللعان غير ثابتة بينهما. وأجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم أن المرأة إذا قالت للزوج الأول: قد تزوجت ودخل على زوجي وصدقها أنها تحل للأول. قال الشافعي: والورع ألا يفعل إذا وقع في نفسه أنها كذبته.
الحادية عشرة: جاء عن عمر بن الخطاب في هذا الباب تغليظ شديد وهو قوله: لا أوتى بمحلل ولا محلل له إلا رجمتهما.
وقال ابن عمر: التحليل سفاح، ولا يزالان زانيين ولو أقاما عشرين سنة. قال أبو عمر: لا يحتمل قول عمر إلا التغليظ، لأنه قد صح عنه أنه وضع الحد عن الواطئ فرجا حراما قد جهل تحريمه وعذره بالجهالة، فالتأويل أولى بذلك، ولا خلاف أنه لا رجم عليه.
قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَإِنْ طَلَّقَها} يريد الزوج الثاني. {فَلا جُناحَ عَلَيْهِما} أي المرأة والزوج الأول، قال ابن عباس، ولا خلاف فيه. قال ابن المنذر: أجمع أهل العلم على أن الحر إذا طلق زوجته ثلاثا ثم انقضت عدتها ونكحت زوجا آخر ودخل بها ثم فارقها وانقضت عدتها ثم نكحت زوجها الأول أنها تكون عنده على ثلاث تطليقات. واختلفوا في الرجل يطلق امرأته تطليقة أو تطليقتين ثم تتزوج غيره ثم ترجع إلى زوجها الأول، فقالت طائفة: تكون على ما بقي من طلاقها، وكذلك قال الأكابر من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عمر بن الخطاب وعلى بن أبى طالب وأى بن كعب وعمران ابن حصين وأبو هريرة. ويروى ذلك عن زيد بن ثابت ومعاذ بن جبل وعبد الله بن عمرو ابن العاص، وبه قال عبيدة السلماني وسعيد بن المسيب والحسن البصري ومالك وسفيان الثوري وابن أبى ليلى والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو عبيد وأبو ثور ومحمد بن الحسن وابن نصر. وفيه قول ثان وهو أن النكاح جديد والطلاق جديد، هذا قول ابن عمر وابن عباس، وبه قال عطاء والنخعي وشريح والنعمان ويعقوب.
وذكر أبو بكر بن أبى شيبة قال: حدثنا أبو معاوية ووكيع عن الأعمش عن إبراهيم قال: كان أصحاب عبد الله يقولون: أيهدم الزوج الثلاث، ولا يهدم الواحدة والاثنتين! قال، وحدثنا حفص عن حجاج عن طلحة عن إبراهيم أن أصحاب عبد الله كانوا يقولون: يهدم الزوج الواحدة والاثنتين كما يهدم الثلاث، إلا عبيدة فإنه قال: هي على ما بقي من طلاقها، ذكره أبو عمر. قال ابن المنذر: وبالقول الأول أقول. وفيه قول ثالث وهو: إن كان دخل بها الأخير فطلاق جديد ونكاح جديد، وإن لم يكن دخل بها فعلى ما بقي، هذا قول إبراهيم النخغي.
الثانية: قوله تعالى: {إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ} شرط. قال طاوس: إن ظنا أن كل واحد منهما يحسن عشرة صاحبه.
وقيل: حدود الله فرائضه، أي إذا علما أنه يكون بينهما الصلاح بالنكاح الثاني، فمتى علم الزوج أنه يعجز عن نفقة زوجته أو صداقها أو شيء من حقوقها الواجبة عليه فلا يحل له أن يتزوجها حتى يبين لها، أو يعلم من نفسه القدرة على أداء حقوقها، وكذلك لو كانت به علة تمنعه من الاستمتاع كان عليه أن يبين، كيلا يغر المرأة من نفسه. وكذلك لا يجوز أن يغرها بنسب يدعيه ولا مال له ولا صناعة يذكرها وهو كاذب فيها. وكذلك يجب على المرأة إذا علمت من نفسها العجز عن قيامها بحقوق الزوج، أوكان بها علة تمنع الاستمتاع من جنون أو جذام أو برص أو داء في الفرج لم يجز لها أن تغره، وعليها أن تبين له ما بها من ذلك، كما يجب على بائع السلعة أن يبين ما بسلعته من العيوب، ومتى وجد أحد الزوجين بصاحبه عيبا فله الرد، فإن كان العيب بالرجل فلها الصداق إن كان دخل بها، وإن لم يدخل بها فلها نصفه. وإن كان العيب بالمرأة ردها الزوج واخذ ما كان أعطاها من الصداق، وقد روى أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تزوج امرأة من بنى بياضة فوجد بكشحها برصا فردها وقال: «دلستم على».
واختلفت الرواية عن مالك في امرأة العنين إذا سلمت نفسها ثم فرق بينهما بالعنة، فقال مرة: لها جميع الصداق، وقال مرة: لها نصف الصداق، وهذا ينبني على اختلاف قوله: بم تستحق الصداق بالتسليم أو الدخول؟ قولان.
الثالثة: قال ابن خويز منداد: واختلف أصحابنا هل على الزوجة خدمة أو لا؟ فقال بعض أصحابنا: ليس على الزوجة خدمة، وذلك أن العقد يتناول الاستمتاع لا الخدمة، ألا ترى أنه ليس بعقد إجارة ولا تملك رقبة، وإنما هو عقد على الاستمتاع، والمستحق بالعقد هو الاستمتاع دون غيره، فلا تطالب بأكثر منه، ألا ترى إلى قوله تعالى: {فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا}.
وقال بعض أصحابنا: عليها خدمة مثلها، فإن كانت شريفة المحل ليسار أبو ة أو ترفه فعليها التدبير للمنزل وأمر الخادم، وإن كانت متوسطة الحال فعليها أن تفرش الفراش ونحو ذلك، وإن كانت دون ذلك فعليها أن تقم البيت وتطبخ وتغسل. وإن كانت من نساء الكرد والديلم والجبل في بلدهن كلفت ما يكلفه نساؤهم، وذلك أن الله تعالى قال: {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}. وقر جرى عرف المسلمين في بلدانهم في قديم الامر وحديثه بما ذكرنا، ألا ترى أن أزواج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابه كانوا يتكلفون الطحين والخبيز والطبخ وفرش الفراش وتقريب الطعام وأشباه ذلك، ولا نعلم امرأة امتنعت من ذلك، ولا يسوغ لها الامتناع، بل كانوا يضربون نساءهم إذا قصرن في ذلك، ويأخذونهن بالخدمة، فلولا أنها مستحقة لما طالبوهن ذلك.
الرابعة: قوله تعالى: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} حدود الله: ما منع منه، والحد مانع من الاجتزاء على الفواحش، وأحدت المرأة: امتنعت من الزينة، ورجل محدود: ممنوع من الخير، والبواب حداد أي مانع. وقد تقدم هذا مستوفى. وإنما قال: {لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} لان الجاهل إذا كثر له أمره ونهيه فإنه لا يحفظه ولا يتعاهده. والعالم يحفظ ويتعاهد، فلهذا المعنى خاطب العلماء ولم يخاطب الجهال.