فصل: تفسير الآية رقم (231):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (231):

{وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)} فيه ست مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} معنى بلغن قاربن، بإجماع من العلماء، ولان المعنى يضطر إلى ذلك، لأنه بعد بلوغ الأجل لا خيار له في الإمساك، وهو في الآية التي بعدها بمعنى التناهى، لأن المعنى يقتضى ذلك، فهو حقيقة في الثانية مجاز في الأولى.
الثانية: قوله تعالى: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} الإمساك بالمعروف هو القيام بما يجب لها من حق على زوجها، ولذلك قال جماعة من العلماء: إن من الإمساك بالمعروف أن الزوج إذا لم يجد ما ينفق على الزوجة أن يطلقها، فإن لم يفعل خرج عن حد المعروف، فيطلق عليه الحاكم من أجل الضرر اللاحق لها من بقائها عند من لا يقدر على نفقتها، والجوع لا صبر عليه، وبهذا قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو ثور وأبو عبيد ويحيى القطان وعبد الرحمن بنمهدى، وقاله من الصحابة عمر وعلى وأبو هريرة، ومن التابعين سعيد بن المسيب وقال: إن ذلك سنة. ورواه أبو هريرة عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وقالت طائفة: لا يفرق بينهما، ويلزمها الصبر عليه، وتتعلق النفقة بذمته بحكم الحاكم، وهذا قول عطاء والزهري، وإليه ذهب الكوفيون والثوري، واحتجوا بقوله تعالى: {وَإِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ} وقال: {وَأَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ} الآية، فندب تعالى إلى إنكاح الفقير، فلا يجوز أن يكون الفقر سببا للفرقة، وهو مندوب معه إلى النكاح. وأيضا فإن النكاح بين الزوجين قد انعقد بإجماع فلا يفرق بينهما إلا بإجماع مثله، أو بسنة عن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا معارض لها. والحجة للأول قوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في صحيح البخاري: «تقول المرأة إما أن تطعمني وإما أن تطلقني» فهذا نص في موضع الخلاف. والفرقة بالإعسار عندنا طلقة رجعية خلافا للشافعي في قوله: إنها طلقة بائنة، لأن هذه فرقة بعد البناء لم يستكمل بها عدد الطلاق ولا كانت لعوض ولا لضرر بالزوج فكانت رجعية، أصله طلاق المولى.
الثالثة: قوله تعالى: {أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} يعني فطلقوهن، وقد تقدم. {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا} روى مالك عن ثور بن زيد الديلي: أن الرجل كان يطلق امرأته ثم يراجعها ولا حاجة له بها ولا يريد إمساكها، كيما يطول بذلك العدة عليها وليضارها، فأنزل الله تعالى: {وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} يعظهم الله به.
وقال الزجاج: {فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} يعني عرض نفسه للعذاب، لأن إتيان ما نهى الله عنه تعرض لعذاب الله. وهذا الخبر موافق للخبر الذي نزل بترك ما كان عليه أهل الجاهلية من الطلاق والارتجاع حسب ما تقدم بيانه عند قوله تعالى: {الطَّلاقُ مَرَّتانِ}. فأفادنا هذان الخبران أن نزول الآيتين المذكورتين كان في معنى واحد متقارب وذلك حبس الرجل المرأة ومراجعته لها قاصدا إلى الإضرار بها، وهذا ظاهر.
الرابعة: قوله تعالى: {وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً} معناه لا تأخذوا أحكام الله تعالى في طريق الهزو بالهزو فإنها جد كلها، فمن هزل فيها لزمته. قال أبو الدرداء: كان الرجل يطلق في الجاهلية ويقول: إنما طلقت وأنا لاعب، وكان يعتق وينكح ويقول: كنت لاعبا، فنزلت هذه الآية، فقال عليه السلام: «من طلق أو حرر أو نكح أو أنكح فزعم أنه لاعب فهو جد». رواه معمر قال: حدثنا عيسى بن يونس عن عمرو عن الحسن عن أبى الدرداء فذكره بمعناه. وفى موطإ مالك أنه بلغه أن رجلا قال لابن عباس: إنى طلقت امرأتي مائة مرة فماذا ترى على؟ فقال ابن عباس: طلقت منك بثلاث، وسبع وتسعون اتخذت بها آيات الله هزوا. وخرج الدارقطني من حديث إسماعيل بن أمية القرشي عن على قال: سمع النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلا طلق البتة فغضب وقال: «تتخذون آيات الله هزوا- أو دين الله هزوا ولعبا من طلق البتة ألزمناه ثلاثا لا تحل له حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ». إسماعيل بن أمية هذا كوفي ضعيف الحديث.
وروى عن عائشة: أن الرجل كان يطلق امرأته ثم يقول: والله لا أورثك ولا أدعك. قالت: وكيف ذاك؟ قال: إذا كدت تقضين عدتك راجعتك، فنزلت: {وَلا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً}. قال علماؤنا: والأقوال كلها داخلة في معنى الآية، لأنه يقال لمن سخر من آيات الله: اتخذها هزوا. ويقال ذلك لمن كفر بها، ويقال ذلك لمن طرحها ولم يأخذ بها وعمل بغيرها، فعلى هذا تدخل هذه الأقوال في الآية. وآيات الله: دلائله وأمره ونهيه.
الخامسة: ولا خلاف بين العلماء أن من طلق هازلا أن الطلاق يلزمه، واختلفوا في غيره على ما يأتي بيانه في براءة إن شاء الله تعالى. وخرج أبو داود عن أبى هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «ثلاث جدهن جد وهزلهن جد النكاح والطلاق والرجعة».
وروى عن علي بن أبى طالب وابن مسعود وأبى الدرداء كلهم قالوا: «ثلاث لا لعب فيهن واللاعب فيهن جاد: النكاح والطلاق والعتاق».
وقيل: المعنى لا تتركوا أوامر الله فتكونوا مقصرين لاعبين. ويدخل في هذه الآية الاستغفار من الذنب قولا مع الإصرار فعلا، وكذا كل ما كان في هذا المعنى فاعلمه.
السادسة: قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} أي بالإسلام وبيان الأحكام. {وَالْحِكْمَةِ}: هي السنة المبينة على لسان رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مراد الله فيما لم ينص عليه في الكتاب. {يَعِظُكُمْ بِهِ} أي يخوفكم. {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} تقدم.

.تفسير الآية رقم (232):

{وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232)}
فيه أربع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} روى أن معقل بن يسار كانت أخته تحت أبى البداح فطلقها وتركها حتى انقضت عدتها، ثم ندم فخطبها فرضيت وأبى أخوها أن يزوجها وقال: وجهى من وجهك حرام إن تزوجتيه. فنزلت الآية. قال مقاتل: فدعا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معقلا فقال: «إن كنت مؤمنا فلا تمنع أختك عن أبى البداح» فقال: آمنت بالله، وزوجها منه.
وروى البخاري عن الحسن أن أخت معقل بن يسار طلقها زوجها حتى انقضت عدتها فخطبها فأبى معقل فنزلت: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ}. وأخرجه أيضا الدارقطني عن الحسن قال: حدثني معقل بن يسار قال: كانت لي أخت فخطبت إلى فكنت أمنعها الناس، فأتى ابن عم لي فخطبها فأنكحتها إياه، فاصطحبا ما شاء الله ثم طلقها طلاقا رجعيا ثم تركها حتى انقضت عدتها فخطبها مع الخطاب، فقلت: منعتها الناس وزوجتك إياها ثم طلقتها طلاقا له رجعة ثم تركتها حتى انقضت عدتها فلما خطبت إلى أتيتني تخطبها مع الخطاب! لا أزوجك أبدا! فأنزل الله، أو قال أنزلت: {وَإِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ} فكفرت عن يميني وأنكحتها إياه. في رواية للبخاري: فحمى معقل من ذلك أنفا، وقال: خلى عنها وهو يقدر عليها ثم يخطبها! فأنزل الله الآية، فدعاه رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقرأ عليه الآية فترك الحمية وانقاد لأمر الله تعالى.
وقيل: هو معقل بن سنان بالنون. قال النحاس: رواه الشافعي في كتبه عن معقل بن يسار أو سنان.
وقال الطحاوي: هو معقل بن سنان.
الثانية: إذا ثبت هذا ففي الآية دليل على أنه لا يجوز النكاح بغير ولى لان أخت معقل كانت ثيبا، ولو كان الامر إليها دون وليها لزوجت نفسها، ولم تحتج إلى وليها معقل، فالخطاب إذا في قوله تعالى: {فَلا تَعْضُلُوهُنَّ} للأولياء، وأن الامر إليهم في التزويج مع رضاهن. وقد قيل: إن الخطاب في ذلك للأزواج، وذلك بأن يكون الارتجاع مضارة عضلا عن نكاح الغير بتطويل العدة عليها. واحتج بها أصحاب أبى حنيفة على أن تزوج المرأة نفسها قالوا: لان الله تعالى أضاف ذلك إليها كما قال: {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} ولم يذكر الولي. وقد تقدم القول في هذه المسألة مستوفى. والأول أصح لما ذكرناه من سبب النزول. والله أعلم.
الثالثة: قوله تعالى: {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} بلوغ الأجل في هذا الموضع: تناهيه، لأن ابتداء النكاح إنما يتصور بعد انقضاء العدة. و{تَعْضُلُوهُنَّ} معناه تحبسوهن.
وحكى الخليل: دجاجة معضل: قد أحتبس بيضها.
وقيل: العضل التضييق والمنع وهو راجع إلى معنى الحبس، يقال: أردت أمرا فعضلتني عنه أي منعتني عنه وضيقت على. وأعضل الامر: إذا ضاقت عليك فيه الحيل، ومنه قولهم: إنه لعضلة من العضل إذا كان لا يقدر على وجه الحيلة فيه.
وقال الأزهري: أصل العضل من قولهم: عضلت الناقة إذا نشب ولدها فلم يسهل خروجه، وعضلت الدجاجة: نشب بيضها. وفي حديث معاوية:- معضلة ولا أبا حسن، أي مسألة صعبة ضيقة المخارج.
وقال طاوس: لقد وردت عضل أقضيه ما قام بها إلا ابن عباس. وكل مشكل عند العرب معضل، ومنه قول الشافعي:
إذا المعضلات تصديننى ** كشفت حقائقها بالنظر

ويقال: أعضل الامر إذا اشتد. وداء عضال أي شديد عسر البرء أعيا الأطباء. وعضل فلان أيمه أي منعها، يعضلها بالضم والكسر لغتان.
الرابعة: قوله تعالى: {ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ} ولم يقل ذلكم لأنه محمول على معنى الجمع. ولو كان ذلكم لجاز، مثل: {ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ} أي ما لكم فيه من الصلاح. {وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} ذلك.

.تفسير الآية رقم (233):

{وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَتَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)} فيه ثمان عشرة مسألة: الأولى: قوله تعالى: {وَالْوالِداتُ} ابتداء. {يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ} في موضع الخبر. {حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ} ظرف زمان. ولما ذكر الله سبحانه النكاح والطلاق ذكر الولد، لأن الزوجين قد يفترقان وثم ولد، فالآية إذا في المطلقات اللاتي لهن أولاد من أزواجهن، قال السدى والضحاك وغيرهما، أي هن أحق برضاع أولادهن من الاجنبيات لأنهن أحنى وأرق، وانتزاع الولد الصغير إضرار به وبها، وهذا يدل على أن الولد وإن فطم فالام أحق بحضانته لفضل حنوها وشفقتها، وإنما تكون أحق بالحضانة إذا لم تتزوج على ما يأتي. وعلى هذا يشكل قوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} لان المطلقة لا تستحق الكسوة إذا لم تكن رجعية بل تستحق الأجرة إلا أن يحمل على مكارم الأخلاق فيقال: الأولى ألا تنقص الأجرة عما يكفيها لقوتها وكسوتها.
وقيل: الآية عامة في المطلقات اللواتي لهن أولاد وفى الزوجات. والأظهر أنها في الزوجات في حال بقاء النكاح، لأنهن المستحقات للنفقة والكسوة، والزوجة تستحق النفقة والكسوة أرضعت أو لم ترضع، والنفقة والكسوة مقابلة التمكين، فإذا اشتغلت بالإرضاع لم يكمل التمكين، فقد يتوهم أن النفقة تسقط فأزال ذلك الوهم بقوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} أي الزوج {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ}، في حال الرضاع لأنه اشتغال في مصالح الزوج، فصارت كما لو سافرت لحاجة الزوج بإذنه فإن النفقة لا تسقط.
الثانية: {يُرْضِعْنَ} خبر معناه الامر على الوجوب لبعض الوالدات، وعلى جهة الندب لبعضهن على ما يأتي.
وقيل: هو خبر عن المشروعية كما تقدم.
الثالثة: واختلف الناس في الرضاع هل هو حق للأم أو هو حق عليها، واللفظ محتمل، لأنه لو أراد التصريح بكونه عليها لقال: وعلى الوالدات رضاع أولادهن كما قال تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَ}
ولكن هو عليها في حال الزوجية، وهو عرف يلزم إذ قد صار كالشرط، إلا أن تكون شريفة ذات ترفه فعرفها ألا ترضع وذلك كالشرط. وعليها إن لم يقبل الولد غيرها واجب. وهو عليها إذا عدم لاختصاصها به. فإن مات الأب ولا مال للصبي فمذهب مالك في المدونة أن الرضاع لازم للأم بخلاف النفقة. وفى كتاب ابن الجلاب: رضاعه في بيت المال.
وقال عبد الوهاب: هو فقير من فقراء المسلمين. وأما المطلقة طلاق بينونة فلا رضاع عليها، والرضاع على الزوج إلا أن تشاء هي، فهي أحق بأجرة المثل، هذا مع يسر الزوج فإن كان معدما لم يلزمها الرضاع إلا أن يكون المولود لا يقبل غيرها فتجبر حينئذ على الإرضاع. وكل من يلزمها الإرضاع فإن أصابها عذر يمنعها منه عاد الإرضاع على الأب.
وروى عن مالك أن الأب إذا كان معدما ولا مال للصبي أن الرضاع على الام، فإن لم يكن لها لبن ولها مال فالإرضاع عليها في مالها. قال الشافعي: لا يلزم الرضاع إلا والدا أو جدا وإن علا، وسيأتي ما للعلماء في هذا عند قوله تعالى: {وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ}. يقال: رضع يرضع رضاعة ورضاعا، ورضع يرضع رضاعا ورضاعة بكسر الراء في الأول وفتحها في الثاني واسم الفاعل راضع فيهما. والرضاعة: اللؤم مفتوح الراء لا غير.
الرابعة: قوله تعالى: {حَوْلَيْنِ} أي سنتين، من حال الشيء إذا انقلب، فالحول منقلب من الوقت الأول إلى الثاني.
وقيل: سمى العام حولا لاستحالة الأمور فيه في الأغلب. {كامِلَيْنِ} قيد بالكمال لان القائل قد يقول: أقمت عند فلان حولين وهو يريد حولا وبعض حول آخر، قال الله تعالى: {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ} وإنما يتعجل في يوم وبعض الثاني. وقوله تعالى: {لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ} دليل على أن إرضاع الحولين ليس حتما فإنه يجوز الفطام قبل الحولين، ولكنه تحديد لقطع التنازع بين الزوجين في مدة الرضاع، فلا يجب على الزوج إعطاء الأجرة لأكثر من حولين. وإن أراد الأب الفطم قبل هذه المدة ولم ترض الام لم يكن له ذلك. والزيادة على الحولين أو النقصان إنما يكون عند عدم الإضرار بالمولود وعند رضا الوالدين. وقرأ مجاهد وابن محيصن {لمن أراد أن تتم الرضاعة} بفتح التاء ورفع {الرضاعة} على إسناد الفعل إليها. وقرأ أبو حيوة وابن أبى عبلة والجارود بن أبى سبرة بكسر الراء من {الرضاعة} وهى لغة كالحضارة والحضارة.
وروى عن مجاهد أنه قرأ {الرضعة} على وزن الفعلة.
وروى عن ابن عباس أنه قرأ {أن يكمل الرضاعة}. النحاس: لا يعرف البصريون الرضاعة إلا بفتح الراء، ولا الرضاع إلا بكسر الراء، مثل القتال.
وحكى الكوفيون كسر الراء مع الهاء وفتحها بغير هاء.
الخامسة: انتزع مالك رحمه الله تعالى ومن تابعه وجماعة من العلماء من هذه الآية أن الرضاعة المحرمة الجارية مجرى النسب إنما هي ما كان في الحولين، لأنه بانقضاء الحولين تمت الرضاعة، ولا رضاعة بعد الحولين معتبرة. هذا قوله في موطئة، وهى رواية محمد بن عبد الحكم عنه، وهو قول عمر وابن عباس، وروى عن ابن مسعود، وبه قال الزهري وقتادة والشعبي وسفيان الثوري والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وأبو يوسف ومحمد وأبو ثور.
وروى ابن عبد ال حكم عنه الحولين وزيادة أيام يسيرة. عبد الملك: كالشهر ونحوه.
وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال: الرضاع الحولين والشهرين بعد الحولين، وحكى عنه الوليد بن مسلم أنه قال: ما كان بعد الحولين من رضاع بشهر أو شهرين أو ثلاثة فهو من الحولين، وما كان بعد ذلك فهو عبث.
وحكى عن النعمان أنه قال: وما كان بعد الحولين إلى ستة أشهر فهو رضاع، والصحيح الأول لقوله تعالى: {وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ} وهذا يدل على ألا حكم لما ارتضع المولود بعد الحولين.
وروى سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «لا رضاع إلا ما كان في الحولين». قال الدارقطني: لم يسنده عن ابن عيينة غير الهيثم بن جميل، وهو ثقة حافظ.
قلت: وهذا الخبر مع الآية والمعنى، ينفى رضاعة الكبير وأنه لا حرمة له. وقد روى عن عائشة القول به. وبه يقول الليث بن سعد من بين العلماء.
وروى عن أبى موسى الأشعري أنه كان يرى رضاع الكبير.
وروى عنه الرجوع عنه. وسيأتي في سورة النساء مبينا إن شاء الله تعالى.
السادسة: قال جمهور المفسرين: إن هذين الحولين لكل ولد.
وروى عن ابن عباس أنه قال: هي في الولد يمكث في البطن ستة أشهر، فإن مكث سبعة أشهر فرضاعه ثلاثة وعشرون شهرا، فإن مكث ثمانية أشهر فرضاعه اثنان وعشرون شهرا، فإن مكث تسعة أشهر فرضاعه أحد وعشرون شهرا، لقوله تعالى: {وَحَمْلُهُ وَفِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً}. وعلى هذا نتداخل مدة الحمل ومدة الرضاع ويأخذ الواحد من الآخر.
السابعة: قوله تعالى: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ} أي وعلى الأب. ويجوز في العربية وعلى المولود لهم كقوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} لان المعنى وعلى الذي ولد له والذي يعبر به عن الواحد والجمع كما تقدم.
الثامنة: قوله تعالى: {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} الرزق في هذا الحكم الطعام الكافي، وفى هذا دليل على وجوب نفقة الولد على الوالد لضعفه وعجزه. وسماه الله سبحانه للأم، لأن الغذاء يصل إليه بواسطتها في الرضاع كما قال: {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} لان الغذاء لا يصل إلا بسببها. وأجمع العلماء على أن على المرء نفقة ولده الأطفال الذين لا مال لهم.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لهند بنت عتبة وقد قالت له: إن أبا سفيان رجل شحيح وإنه لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفى بنى إلا ما أخذت من ماله بغير علمه فهل على في ذلك جناح؟ فقال-: «خذي ما يكفيك وولدك بالمعروف». والكسوة: اللباس. وقوله: {بِالْمَعْرُوفِ} أي بالمتعارف في عرف الشرع من غير تفريط ولا إفراط. ثم بين تعالى أن الإنفاق على قدر غنى الزوج ومنصبها من غير تقدير مد ولا غيره بقوله تعالى: {لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها} على ما يأتي بيانه في الطلاق إن شاء الله تعالى. وقيل المعنى: أي لا تكلف المرأة الصبر على التقتير في الأجرة، ولا يكلف الزوج ما هو إسراف بل يراعى القصد.
التاسعة: في هذه الآية دليل لمالك على أن الحضانة للأم، فهي في الغلام إلى البلوغ، وفى الجارية إلى النكاح، وذلك حق لها، وبه قال أبو حنيفة.
وقال الشافعي: إذا بلغ الولد ثمان سنين وهو سن التمييز، خير بين أبويه، فإنه في تلك الحالة تتحرك همته لتعلم القرآن والأدب ووظائف العبادات، وذلك يستوي فيه الغلام والجارية.
وروى النسائي وغيره عن أبى هريرة أن امرأة جاءت إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت له: زوجي يريد أن يذهب بابني، فقال له النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «هذا أبوك وهذه أمك فخذ أيهما شئت» فأخذ بيد أمه. وفى كتاب أبى داود عن أبى هريرة قال: جاءت امرأة إلى رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأنا قاعد عنده فقالت: يا رسول الله، إن زوجي يريد أن يذهب بابني، وقد سقاني من بئر أبى عنبة، وقد نفعني، فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «استهما عليه» فقال زوجها: من يحاقنى في ولدي! فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «هذا أبوك وهذه أمك فخذ بيد أحدهما شئت» فأخذ بيد أمه فانطلقت به. ودليلنا ما رواه أبو داود عن الأوزاعي قال: حدثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عبد الله بن عمرو أن امرأة جاءت إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقالت: يا رسول الله، إن ابني هذا كان بطني له وعاء، وثديي له سقاء، وحجري له حواء، وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه منى، فقال لها رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أنت أحق به ما لم تنكحي». قال ابن المنذر: أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على أن الزوجين إذا افترقا ولهما ولد أن الام أحق به ما لم تنكح. وكذا قال أبو عمر: لا أعلم خلافا بين السلف من العلماء في المرأة المطلقة إذا لم تتزوج أنها أحق بولدها من أبيه ما دام طفلا صغيرا لا يميز شيئا إذا كان عندها في حرز وكفاية ولم يثبت فيها فسق ولا تبرج. ثم اختلفوا بعد ذلك في تخييره إذا ميز وعقل بين أبيه وأمه وفيمن هو أولى به، قال ابن المنذر: وثبت أن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قضى في ابنة حمزة للخالة من غير تخيير.
روى أبو داود عن على قال: خرج زيد بن حارثة إلى مكة فقدم بابنة حمزة، فقال جعفر: أنا آخذها أنا أحق بها، ابنة عمى وخالتها عندي والخالة أم. فقال على: أنا أحق بها، ابنة عمى وعندي ابنة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهى أحق بها. فقال زيد: أنا أحق بها، أنا خرجت إليها وسافرت وقدمت بها. فخرج النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكر حديثا قال: «وأما الجارية فأقضي بها لجعفر تكون مع خالتها وإنما الخالة أم».
العاشرة: قال ابن المنذر: وقد أجمع كل من يحفظ عنه من أهل العلم على ألا حق للأم في الولد إذا تزوجت.
قلت: كذا قال في كتاب الاشراف له. وذكر القاضي عبد الوهاب في شرح الرسالة له عن الحسن أنه لا يسقط حقها من الحضانة بالتزوج. وأجمع مالك والشافعي والنعمان وأبو ثور على أن الجدة أم الام أحق بحضانة الولد. واختلفوا إذا لم يكن لها أم وكان لها جدة هي أم الأب، فقال مالك: أم الأب أحق إذا لم يكن للصبي خالة.
وقال ابن القاسم قال مالك: وبلغني ذلك عنه أنه قال: الخالة أولى من الجدة أم الأب. وفى قول الشافعي والنعمان: أم الأب أحق من الخالة. وقد قيل: إن الأب أولى بابنه من الجدة أم الأب. قال أبو عمر: وهذا عندي إذا لم يكن له زوجة أجنبية. ثم الأخت بعد الأب ثم العمة. وهذا إذا كان كل واحد من هؤلاء مأمونا على الولد، وكان عنده في حرز وكفاية، فإذا لم يكن كذلك لم يكن له حق في الحضانة، وإنما ينظر في ذلك إلى من يحوط الصبى ومن يحسن إليه في حفظه وتعلمه الخير. وهذا على قول من قال إن الحضانة حق الولد، وقد روى ذلك عن مالك وقال به طائفة من أصحابه، وكذلك لا يرون حضانة لفاجرة ولا لضعيفة عاجزة عن القيام بحق الصبى لمرض أو زمانة.
وذكر ابن حبيب عن مطرف وابن الماجشون عن مالك أن الحضانة للأم ثم الجدة للأم ثم الخالة ثم الجدة للأب ثم أخت الصبى ثم عمة الصبى ثم ابنة أخى الصبى ثم الأب. والجدة للأب أولى من الأخت والأخت أولى من العمة والعمة أولى ممن بعدها، وأولى من جميع الرجال الأولياء. وليس لابنة الخالة ولا لابنة العمة ولا لبنات أخوات الصبى من حضانته شي. فإذا كان الحاضن لا يخاف منه على الطفل تضييع أو دخول فساد كان حاضنا له أبدا حتى يبلغ الحلم. وقد قيل: حتى يثغر، وحتى تتزوج الجارية، إلا أن يريد الأب نقلة سفر وإيطان فيكون حينئذ أحق بولده من أمه وغيرها إن لم ترد الانتقال. وإن أراد الخروج لتجارة لم يكن له ذلك. وكذلك أولياء الصبى الذين يكون مآله إذا انتقلوا للاستيطان. وليس للأم أن تنقل ولدها عن موضع سكنى الأب إلا فيما يقرب نحو المسافة التي لا تقصر فيها الصلاة. ولو شرط عليها في حين انتقاله عن بلدها أنه لا يترك ولده عندها إلا أن تلتزم نفقته ومئونته سنين معلومة فإن التزمت ذلك لزمها: فإن ماتت لم تتبع بذلك ورثتها في تركتها. وقد قيل: ذلك دين يؤخذ من تركتها، والأول أصح إن شاء الله تعالى، كما لو مات الولد أو كما لو صالحها على نفقة الحمل والرضاع فأسقطت لم تتبع بشيء من ذلك.
الحادية عشرة: إذا تزوجت الام لم ينزع منها ولدها حتى يدخل بها زوجها عند مالك.
وقال الشافعي: إذا نكحت فقد انقطع حقها. فإن طلقها لم يكن له الرجوع فيه عند مالك في الأشهر عندنا من مذهبه. وقد ذكر القاضي إسماعيل وذكره ابن خويز منداد أيضا عن مالك أنه اختلف قوله في ذلك، فقال مرة: يرد إليها.
وقال مرة: لا يرد. قال ابن المنذر: فإذا خرجت الام عن البلد الذي به ولدها ثم رجعت إليه فهي أحق بولدها في قول الشافعي وأبى ثور وأصحاب الرأى. وكذلك لو تزوجت ثم طلقت أو توفى عنها زوجها رجعت في حقها من الولد. قلت وكذلك قال القاضي أبو محمد عبد الوهاب، فإن طلقها الزوج أو مات عنها كان لها أخذه لزوال العذر الذي جاز له تركه.
الثانية عشرة: فإن تركت المرأة حضانة ولدها ولم ترد أخذه وهى فارغة غير مشغولة بزوج ثم أرادت بعد ذلك أخذه نظر لها، فإن كان تركها له من عذر كان لها أخذه، وإن كانت تركته رفضا له ومقتا لم يكن لها بعد ذلك أخذه.
الثالثة عشرة: واختلفوا في الزوجين يفترقان بطلاق والزوجة ذمية، فقالت طائفة: لا فرق بين الذمية والمسلمة وهى أحق بولدها، هذا قول أبى ثور وأصحاب الرأى وابن القاسم صاحب مالك. قال ابن المنذر: وقد روينا حديثا مرفوعا موافقا لهذا القول، وفى إسناده مقال. وفيه قول ثان أن الولد مع المسلم منهما، هذا قول مالك وسوار وعبد الله بن الحسن، وحكى ذلك عن الشافعي. وكذلك اختلفوا في الزوجين يفترقان، أحدهما حر والآخر مملوك، فقالت طائفة: الحر أولى، هذا قول عطاء والثوري والشافعي وأصحاب الرأى.
وقال مالك: في الأب إذا كان حرا وله ولد حر والام مملوكة: إن الام أحق به إلا أن تباع فتنتقل فيكون الاب أحق به.
الرابعة عشرة: قوله تعالى: {لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} المعنى: لا تأبى الام أن ترضعه إضرارا بأبيه أو تطلب أكثر من أجر مثلها، ولا يحل للأب أن يمنع الام من ذلك مع رغبتها في الإرضاع، هذا قول جمهور المفسرين. وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي {تُضَارَّ} بفتح الراء المشددة وموضعه جزم على النهى، وأصله لا تضارر على الأصل، فأدغمت الراء الأولى في الثانية وفتحت الثانية لالتقاء الساكنين، وهكذا يفعل في المضاعف إذا كان قبله فتح أو ألف، تقول: عض يا رجل، وضار فلانا يا رجل. أي لا ينزع الولد منها إذا رضيت بالإرضاع وألفها الصبى. وقرأ أبو عمرو وابن كثير وأبان بن عاصم وجماعة {تضار} بالرفع عطفا على قوله: {تُكَلَّفُ نَفْسٌ} وهو خبر والمراد به الامر.
وروى يونس عن الحسن قال يقول: لا تضار زوجها، تقول: لا أرضعه، ولا يضارها فينزعه منها وهى تقول: أنا أرضعه. ويحتمل أن يكون الأصل تضارر بكسر الراء الأولى، ورواها أبان عن عاصم، وهى لغة أهل الحجاز. ف {والِدَةٌ} فاعله، ويحتمل أن يكون تضارر ف {والِدَةٌ} مفعول ما لم يسم فاعله.
وروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قرأ {لا تضارر} براءين الأولى مفتوحة. وقرأ أبو جعفر بن القعقاع {تضار} بإسكان الراء وتخفيفها. وكذلك {لا يضار كاتب} وهذا بعيد لان المثلين إذا اجتمعا وهما أصليان لم يجز حذف أحدهما للتخفيف، فإما الإدغام وإما الإظهار.
وروى عنه الإسكان والتشديد.
وروى عن ابن عباس والحسن {لا تضارر} بكسر الراء الأولى.
الخامسة عشرة: قوله تعالى: {وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} هو معطوف على قوله: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ} واختلفوا في تأويل قوله: {وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} فقال قتادة والسدي والحسن وعمر بن الخطاب رضي الله عنه: هو وارث الصبى أن لو مات. قال بعضهم: وارثه من الرجال خاصة يلزمه الإرضاع، كما كان يلزم أبا الصبى لو كان حيا، وقال مجاهد وعطاء.
وقال قتادة وغيره: هو وارث الصبى من كان من الرجال والنساء، ويلزمهم إرضاعه على قدر مواريثهم منه، وبه قال أحمد وإسحاق.
وقال القاضي أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق في كتاب معاني القرآن له: فأما أبو حنيفة فإنه قال: تجب نفقة الصغير ورضاعه على كل ذى رحم محرم، مثل أن يكون رجل له ابن أخت صغير محتاج وابن عم صغير محتاج وهو وارثه، فإن النفقة تجب على الخال لابن أخته الذي لا يرثه، وتسقط عن ابن العم لابن عمه الوارث. قال أبو إسحاق: فقالوا قولا ليس في كتاب الله ولا نعلم أحدا قاله.
وحكى الطبري عن أبى حنيفة وصاحبيه أنهم قالوا: الوارث الذي يلزمه الإرضاع هو وارثه إذا كان ذا رحم محرم منه، فإن كان ابن عم وغيره ليس بذي رحم محرم فلا يلزمه شي.
وقيل: المراد عصبة الأب عليهم النفقة والكسوة. قال الضحاك: إن مات أبو الصبى وللصبي مال أخذ رضاعه من المال، وإن لم يكن له مال أخذ من العصبة، وإن لم يكن للعصبة مال أجبرت الام على إرضاعه.
وقال قبيصة بن ذؤيب والضحاك وبشير بن نصر قاضى عمر بن عبد العزيز: الوارث هو الصبى نفسه، وتأولوا قوله: {وَعَلَى الْوارِثِ} المولود، مثل ما على المولود له، أي عليه في ماله إذا ورث أباه إرضاع نفسه.
وقال سفيان: الوارث هنا هو الباقي من والدي المولود بعد وفاة الآخر منهما، فإن مات الأب فعلى الام كفاية الطفل إذا لم يكن له مال، ويشاركها العاصب في إرضاع المولود على قدر حظه من الميراث.
وقال ابن خويز منداد: ولو كان اليتيم فقيرا لا مال له، وجب على الامام القيام به من بيت المال، فإن لم يفعل الامام وجب ذلك على المسلمين، الأخص به فالاخص، والام أخص به فيجب عليها إرضاعه والقيام به، ولا ترجع عليه ولا على أحد. والرضاع واجب والنفقة استحباب: ووجه الاستحباب قوله تعالى: {وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ} وواجب على الأزواج القيام بهن، فإذا تعذر استيفاء الحق لهن بموت الزوج أو إعساره لم يسقط الحق عنهن، ألا ترى أن العدة واجبة عليهن والنفقة والسكنى على أزواجهن، وإذا تعذرت النفقة لهن لم تسقط العدة عنهن.
وروى عبد الرحمن بن القاسم في الأسدية عن مالك بن أنس رحمه الله أنه قال: لا يلزم الرجل نفقة أخ ولا ذى قرابة ولا ذى رحم منه. قال: وقول الله عز وجل: {وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} هو منسوخ. قال النحاس: هذا لفظ مالك، ولم يبين ما الناسخ لها ولا عبد الرحمن بن القاسم، ولا علمت أن أحدا من أصحابهم بين ذلك، والذي يشبه أن يكون الناسخ لها عنده والله أعلم، أنه لما أوجب الله تعالى للمتوفى عنها زوجها من مال المتوفى نفقة حول والسكنى ثم نسخ ذلك ورفعه، نسخ ذلك أيضا عن الوارث.
قلت: فعلى هذا تكون النفقة على الصبى نفسه من ماله، لا يكون على الوارث منها شيء على ما يأتي. قال ابن العربي: قوله: {وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} قال ابن القاسم عن مالك هي منسوخة، وهذا كلام تشمئز منه قلوب الغافلين، وتحتار فيه ألباب الشاذين، والامر فيه قريب! وذلك أن العلماء المتقدمين من الفقهاء والمفسرين كانوا يسمون التخصيص نسخا، لأنه رفع لبعض ما يتناوله العموم مسامحة، وجرى ذلك في ألسنتهم حتى أشكل ذلك على من بعدهم، وتحقيق القول فيه: أن قوله تعالى: {وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} إشارة إلى ما تقدم، فمن الناس من رده إلى جميعه من إيجاب النفقة وتحريم الإضرار، منهم أبو حنيفة من الفقهاء، ومن السلف قتادة والحسن وسند إلى عمر. وقالت طائفة من العلماء: إن معنى قوله تعالى: {وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} لا يرجع إلى جميع ما تقدم، وإنما يرجع إلى تحريم الإضرار، والمعنى: وعلى الوارث من تحريم الإضرار بالأم ما على الأب، وهذا هو الأصل، فمن ادعى أنه يرجع العطف فيه إلى جميع ما تقدم فعليه الدليل.
قلت: قوله: وهذا هو الأصل يريد في رجوع الضمير إلى أقرب مذكور، وهو صحيح، إذ لو أراد الجميع الذي هو الإرضاع والإنفاق وعدم الضرر لقال: وعلى الوارث مثل هؤلاء، فدل على أنه معطوف على المنع من المضارة، وعلى ذلك تأوله كافة المفسرين فيما حكى القاضي عبد الوهاب، وهو أن المراد به أن الوالدة لا تضار ولدها في أن الأب إذا بذل لها أجرة المثل ألا ترضعه، {وَلا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} في أن الام إذا بذلت أن ترضعه بأجرة المثل كان لها ذلك، لأن الام أرفق وأحن عليه، ولبنها خير له من لبن الأجنبية. قال ابن عطية: وقال مالك رحمه الله وجميع أصحابه والشعبي أيضا والزهري والضحاك وجماعة من العلماء: المراد بقوله: {مِثْلُ ذلِكَ} ألا تضار، وأما الرزق والكسوة فلا يجب شيء منه.
وروى ابن القاسم عن مالك أن الآية تضمنت أن الرزق والكسوة على الوارث، ثم نسخ ذلك بالإجماع من الامة في ألا يضار الوارث، والخلاف هل عليه رزق وكسوة أم لا. وقرأ يحيى بن يعمر {وعلى الورثة} بالجمع، وذلك يقتضى العموم، فإن أسدلوا بقوله عليه السلام. «لا يقبل الله صدقة وذو رحم محتاج» قيل لهم الرحم عموم في كل ذى رحم، محرما كان أو غير محرم، ولا خلاف أن صرف الصدقة إلى ذى الرحم أولى لقوله عليه السلام: «اجعلها في الأقربين» فحمل الحديث على هذا، ولا حجة فيه على ما راموه، والله أعلم.
وقال النحاس: وأما قوله من قال: {وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} ألا يضار فقوله حسن، لأن أموال الناس محظورة فلا يخرج شيء منها إلا بدليل قاطع. وأما قوله من قال على ورثة الأب فالحجة أن النفقة كانت على الأب، فورثته أولى من ورثة الابن. وأما حجة من قال على ورثة الابن فيقول: كما يرثونه يقومون به. قال النحاس: وكان محمد بن جرير يختار قول من قال الوارث هنا الابن، وهو وإن كان قولا غريبا فالاستدلال به صحيح والحجة به ظاهرة، لأن ماله أولى به. وقد أجمع الفقهاء إلا من شذ منهم أن رجلا لو كان له ولد طفل وللولد مال، والأب موسر أنه لا يجب على الأب نفقة ولإرضاع، وأن ذلك من مال الصبى. فإن قيل: قد قال الله عز وجل: {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ}، قيل: هذا الضمير للمؤنث، ومع هذا فإن الإجماع حد للآية مبين لها، لا يسع مسلما الخروج عنه. وأما من قال: ذلك على من بقي من الأبوين، فحجته أنه لا يجوز للأم تضييع ولدها، وقد مات من كان ينفق عليه وعليها. وقد ترجم البخاري على رد هذا القول (باب {وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ}، وهل على المرأة منه شيء) وساق حديث أم سلمة وهند. والمعنى فيه: أن أم سلمة كان لها أبناء من أبى سلمة ولم يكن، لهم مال، فسألت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فأخبرها أن لها في ذلك أجرا. فدل هذا الحديث على أن نفقة بنيها لا تجب عليها، ولو وجبت عليها لم تقل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ولست بتاركتهم. وأما حديث هند فإن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أطلقها على أخذ نفقتها ونفقة بنيها من مال الأب، ولم يوجبها عليها كما أوجبها على الأب. فاستدل البخاري من هذا على أنه لما لم يلزم الأمهات نفقات الأبناء في حياة الآباء فكذلك لا يلزمهن بموت الآباء. وأما قول من قال إن النفقة والكسوة على كل ذى رحم محرم فحجته أن على الرجل أن ينفق على كل ذى رحم محرم إذا كان فقيرا. قال النحاس: وقد عورض هذا القول بأنه لم يؤخذ من كتاب الله تعالى ولا من إجماع ولا من سنة صحيحة، بل لا يعرف من قول سوى ما ذكرناه. فأما القرآن فقد قال الله عز وجل: {وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ} فإن كان على الوارث النفقة والكسوة فقد خالفوا ذلك فقالوا: إذا ترك خال وابن عمه فالنفقة على خاله وليس على ابن عمه شي، فهذا مخالف نص القرآن لان الخال لا يرث مع ابن العم في قول أحد، ولا يرث وحده في قول كثير من العلماء، والذي احتجوا به من النفقة على كل ذى رحم محرم، أكثر أهل العلم على خلافه.
السادسة عشرة: قوله تعالى: {فَإِنْ أَرادا فِصالًا} الضمير في: {أَرادا} للوالدين. و{فِصالًا} معناه فطاما عن الرضاع، أي عن الاغتذاء بلبن أمه إلى غيره من الأقوات. والفصال والفصل: الفطام، وأصله التفريق، فهو تفريق بين الصبى والثدي، ومنه سمى الفصيل، لأنه مفصول عن أمه. {عَنْ تَراضٍ مِنْهُما} أي قبل الحولين. {فَلا جُناحَ عَلَيْهِما} أي في فصله، وذلك أن الله سبحانه لما جعل مدة الرضاع حولين بين أن فطامهما هو الفطام، وفصالهما هو الفصال ليس لاحد عنه منزع، إلا أن يتفق الأبوان على أقل من ذلك العدد من غير مضارة بالولد، فذلك جائز بهذا البيان.
وقال قتادة: كان الرضاع واجبا في الحولين وكان يحرم الفطام قبله، ثم خفف وأبيح الرضاع أقل من الحولين بقوله: {فَإِنْ أَرادا فِصالًا} الآية. وفى هذا دليل على جواز الاجتهاد في الأحكام بإباحة الله تعالى للوالدين التشاور فيما يؤدى إلى صلاح الصغير، وذلك موقوف على غالب ظنونهما لا على الحقيقة واليقين، والتشاور: استخراج الرأى، وكذلك المشاورة، والمشورة كالمعونة، وشرت العسل: استخرجته، وشرت الدابة وشورتها أي أجريتها لاستخراج جريها، والشوار: متاع البيت، لأنه يظهر للناظر، والشارة: هيئة الرجل، والإشارة: إخراج ما في نفسك وإظهاره.
السابعة عشرة: قوله تعالى: {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ} أي لأولادكم غير الوالدة، قاله الزجاج. قال النحاس: التقدير في العربية أن تسترضعوا أجنبية لأولادكم، مثل: {كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ} أي كالوا لهم أو وزنوا لهم، وحذفت اللام لأنه يتعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف، وأنشد سيبويه:
أمرتك الخير فافعل ما أمرت به ** فقد تركتك ذا مال وذا نشب

ولا يجوز: دعوت زيدا، أي دعوت لزيد، لأنه يؤدى إلى التلبيس، فيعتبر في هذا النوع السماع.
قلت: وعلى هذا يكون في الآية دليل على جواز اتخاذ الظئر إذا اتفق الآباء والأمهات على ذلك. وقد قال عكرمة في قوله تعالى: {لا تُضَارَّ والِدَةٌ} معناه الظئر، حكاه ابن عطية. والأصل أن كل أم يلزمها رضاع ولدها كما أخبر الله عز وجل، فأمر الزوجات بإرضاع أولادهن، وأوجب لهن على الأزواج النفقة والكسوة والزوجية قائمة، فلو كان الرضاع على الأب لذكره مع ما ذكره من رزقهن وكسوتهن، إلا أن مالكا رحمه الله دون فقهاء الأمصار استثنى الحسيبة فقال: لا يلزمها رضاعة. فأخرجها من الآية وخصصها بأصل من أصول الفقه وهو العمل بالعادة. وهذا أصل لم يتفطن له إلا مالك. والأصل البديع فيه أن هذا أمر كان في الجاهلية في ذوى الحسب وجاء الإسلام فلم يغيره، وتمادى ذوو الثروة والأحساب على تفريغ الأمهات للمتعة بدفع الرضعاء للمراضع إلى زمانه فقأ به، وإلى زماننا فتحققناه شرعا.
الثامنة عشرة: قوله تعالى: {إِذا سَلَّمْتُمْ} يعني الآباء، أي سلمتم الأجرة إلى المرضعة الظئر، قال سفيان. مجاهد: سلمتم إلى الأمهات أجرهن بحساب ما أرضعن إلى وقت إرادة الاسترضاع. وقرأ الستة من السبعة {ما آتَيْتُمْ} بمعنى ما أعطيتم. وقرأ ابن كثير {أتيتم} بمعنى ما جئتم وفعلتم، كما قال زهير:
وما كان من خير أتوه فإنما ** توارثه آباء آبائهم قبل

قال قتادة والزهري: المعنى سلمتم ما أتيتم من إرادة الاسترضاع، أي سلم كل واحد من الأبوين ورضى، وكان ذلك على اتفاق منهما وقصد خير وإرادة معروف من الامر. وعلى هذا الاحتمال فيدخل في الخطاب {سَلَّمْتُمْ} الرجال والنساء، وعلى القولين المتقدمين الخطاب للرجال. قال أبو على: المعنى إذا سلمتم ما آتيتم نقده أو إعطاءه، فحذف المضاف وأقيم الضمير مقامه، فكان التقدير: ما آتيتموه، ثم حذف الضمير من الصلة، وعلى هذا التأويل فالخطاب للرجال، لأنهم الذين يعطون أجر الرضاع. قال أبو على: ويحتمل أن تكون {ما} مصدرية، أي إذا سلمتم الإتيان، والمعنى كالأول، لكن يستغنى عن الصفة من حذف المضاف ثم حذف الضمير.