فصل: تفسير الآية رقم (235):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (235):

{وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)}
قوله تعالى: {وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ} إلى قوله: {مَعْرُوفاً} فيه تسع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَلا جُناحَ} أي لا إثم، والجناح الإثم، وهو أصح في الشرع.
وقيل: بل هو الامر الشاق، وهو أصح في اللغة، قال الشماخ:
إذا تعلو براكبها خليجا ** تذكر ما لديه من الجناح

وقوله: {عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ} المخاطبة لجميع الناس، والمراد بحكمها هو الرجل الذي في نفسه تزوج معتدة لا وزر عليكم في التعريض بالخطبة في عدة الوفاة. والتعريض: ضد التصريح، وهو إفهام المعنى بالشيء المحتمل له ولغيره وهو من عرض الشيء وهو جانبه، كأنه يحوم به على الشيء ولا يظهره. وقيل، هو من قولك عرضت الرجل، أي أهديت إليه تحفة، وفى الحديث: أن ركبا من المسلمين عرضوا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبا بكر ثيابا بيضا، أي أهدوا لهما. فالمعرض بالكلام يوصل إلى صاحبه كلاما يفهم معناه.
الثانية: قال ابن عطية: أجمعت الامة على أن الكلام مع المعتدة بما هو نص في تزوجها وتنبيه عليه لا يجوز، وكذلك أجمعت الامة على أن الكلام معها بما هو رفث وذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز، وكذلك ما أشبهه، وجوز ما عدا ذلك. وما أعظمه قربا إلى التصريح قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفاطمة بنت قيس: «كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك». ولا يجوز التعريض لخطبة الرجعية إجماعا لأنها كالزوجة. وأما من كانت في عدة البينونة فالصحيح جواز التعريض لخطبتها والله أعلم.
وروى في تفسير التعريض ألفاظ كثيرة جماعها يرجع إلى قسمين: الأول- أن يذكرها لوليها يقول له لا تسبقني بها. والثاني- أن يشير بذلك إليها دون واسطة، فيقول لها: إنى أريد التزويج، أو إنك لجميلة، إنك لصالحة، إن الله لسائق إليك خيرا، إنى فيك لراغب، ومن يرغب عنك! إنك لنافقة، وإن حاجتي في النساء، وإن يقدر الله أمرا يكن. هذا هو تمثيل مالك وابن شهاب.
وقال ابن عباس: لا بأس أن يقول: لا تسبقيني بنفسك، ولا بأس أن يهدى إليها، وأن يقوم بشغلها في العدة إذا كانت من شأنه، قاله إبراهيم. وجائز أن يمدح نفسه ويذكر مآثره على وجه التعريض بالزواج، وقد فعله أبو جعفر محمد بن علي بن حسين، قالت سكينة بنت حنظلة استأذن على محمد بن على ولم تنقض عدتي من مهلك زوجي فقال: قد عرفت قرابتي من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقرابتي من على وموضعي في العرب. قلت غفر الله لك يا أبا جعفر! إنك رجل يؤخذ عنك تخطبني في عدتي! قال: إنما أخبرتك بقرابتي من رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومن على. وقد دخل رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أم سلمة وهى متأيمة من أبى سلمة فقال: «لقد علمت أنى رسول الله وخيرته وموضعي في قومي» كانت تلك خطبة، أخرجه الدارقطني. والهدية إلى المعتدة جائزة، وهى من التعريض، قاله سحنون وكثير من العلماء وقاله إبراهيم. وكره مجاهد أن يقول لها: لا تسبقيني بنفسك ورآه من المواعدة سرا. قال القاضي أبو محمد بن عطية: وهذا عندي على أن يتأول قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لفاطمة أنه على جهة الرأى لها فيمن يتزوجها لا أنه أرادها لنفسه وإلا فهو خلاف لقول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
الثالثة: قوله تعالى: {مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ} الخطبة بكسر الخاء: فعل الخاطب من كلام وقصد واستلطاف بفعل أو قول. يقال: خطبها يخطبها خطبا وخطبة. ورجل خطاب كثير التصرف في الخطبة، ومنه قول الشاعر:
برّح بالعينين خطّاب الكثب ** يقول إنى خاطب وقد كذب

وإنما يخطب عسّا من حلب

والخطيب: الخاطب. والخطّيبى: الخطبة، قال عدى بن زيد يذكر قصد جذيمة الأبرش لخطبة الزباء:
لخطّيبى التي غدرت وخانت ** وهن ذوات غائلة لحينا

والخطب، الرجل الذي يخطب المرأة، ويقال أيضا: هي خطبه وخطبته التي يخطبها. والخطبة فعلة كجلسة وقعدة: والخطبة بضم الخاء هي الكلام الذي يقال في النكاح وغيره. قال النحاس: والخطبة ما كان لها أول وآخر، وكذا ما كان على فعلة نحو الاكلة والضغطة.
الرابعة: قوله تعالى: {أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ} معناه سترتم وأضمرتم من التزوج بها بعد انقضاء عدتها. والإكنان: الستر والإخفاء، يقال: كننته وأكننته بمعنى واحد.
وقيل: كننته أي صنته حتى لا تصيبه آفة وإن لم يكن مستورا، ومنه بيض مكنون ودر مكنون. وأكننته أسررته وسترته.
وقيل: كنت الشيء من الأجرام إذا سترته بثوب أو بيت أو أرض ونحوه. وأكننت الامر في نفسي. ولم يسمع من العرب كننته في نفسي. ويقال: أكن البيت الإنسان، ونحو هذا. فرفع الله الجناح عمن أراد تزوج المعتدة مع التعريض ومع الأكنان، ونهى عن المواعدة التي هي تصريح بالتزويج وبناء عليه واتفاق على وعد. ورخص لعلمه تعالى بغلبة النفوس وطمحها وضعف البشر عن ملكها.
الخامسة: استدلت الشافعية بهذه الآية على أن التعريض لا يجب فيه حد، وقالوا: لما رفع الله تعالى الحرج في التعريض في النكاح دل على أن التعريض بالقذف لا يوجب الحد، لأن الله سبحانه لم يجعل التعريض في النكاح مقام التصريح. قلنا: هذا ساقط لان الله سبحانه وتعالى لم يأذن في التصريح بالنكاح في الخطبة، وأذن في التعريض الذي يفهم منه النكاح، فهذا دليل على أن التعريض يفهم منه القذف، والاعراض يجب صيانتها، وذلك يوجب حد المعرض، لئلا يتطرق الفسقة إلى أخذ الاعراض بالتعريض الذي يفهم منه ما يفهم بالتصريح.
السادسة: قوله تعالى: {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} أي إما سرا وإما إعلانا في نفوسكم وبألسنتكم، فرخص في التعريض دون التصريح. الحسن: معناه ستخطبونهن.
السابعة: قوله تعالى: {وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا} أي على سر فحذف الحرف، لأنه مما يتعدى إلى مفعولين أحدهما بحرف جر. واختلف العلماء في معنى قوله تعالى: {سِرًّا} فقيل، معناه نكاحا، أي لا يقل الرجل لهذه المعتدة تزوجيني، بل يعرض إن أراد، ولا يأخذ ميثاقها وعهدها ألا تنكح غيره في استسرار وخفية، هذا قول ابن عباس وابن جبير ومالك وأصحابه والشعبي ومجاهد وعكرمة والسدي وجمهور أهل العلم. {وسِرًّا} على هذا التأويل نصب على الحال، أي مستسرين.
وقيل: السر الزنا، أي لا يكونن منكم مواعدة على الزنا في العدة ثم التزوج بعدها. قال معناه جابرابن زيد وأبو مجلز لاحق بن حميد، والحسن وقتادة والنخعي والضحاك، وأن السر في هذه الآية الزنا، أي لا تواعدوهن زنا، واختاره الطبري، ومنه قول الأعشى:
فلا تقربنّ جارة إن سرها ** عليك حرام فانكحن أو تأبّدا

وقال الحطيئة:
ويحرم سر جارتهم عليهم ** ويأكل جارهم أنف القصاع

وقيل: السر الجماع، أي لا تصفوا أنفسكم لهن بكثرة الجماع ترغيبا لهن في النكاح فإن ذكر الجماع مع غير الزوج فحش، هذا قول الشافعي.
وقال امرؤ القيس:
ألا زعمت بسباسة اليوم أنني ** كبرت وألا يحسن السر أمثالي

وقال رؤبة:
فكف عن إسرارها بعد العسق

أي كف عن جماعها بعد ملازمته لذلك. وقد يكون السر عقدة النكاح، سرا كان أو جهرا، قال الأعشى:
فلن يطلبوا سرها للغنى ** ولن يسلموها لإزهادها

وأراد أن يطلبوا نكاحها لكثرة مالها، ولن يسلموها لقلة مالها.
وقال ابن زيد: معنى قوله: {وَلكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا} أن لا تنكحوهن وتكتمون ذلك، فإذا حلت أظهرتموه ودخلتم بهن، وهذا هو معنى القول الأول، فابن زيد على هذا قائل بالقول الأول، وإنما شذ في أن سمى العقد مواعدة، وذلك قلق.
وحكى مكي والثعلبي عنه أنه قال: الآية منسوخة بقوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ}.
الثامنة: قال القاضي أبو محمد بن عطية: أجمعت الامة على كراهة المواعدة في العدة للمرأة في نفسها، وللأب في ابنته البكر، وللسيد في أمته. قال ابن المواز: وأما الولي الذي لا يملك الجبر فأكرهه وإن نزل لم أفسخه.
وقال مالك رحمه الله فيمن يواعد في العمدة ثم يتزوج بعدها: فراقها أحب إلى، دخل بها أو لم يدخل، وتكون تطليقة واحدة، فإذا حلت خطبها مع الخطاب، هذه رواية ابن وهب.
وروى أشهب عن مالك أنه يفرق بينهما إيجابا، وقاله ابن القاسم.
وحكى ابن الحارث مثله عن ابن الماجشون، وزاد ما يقتضى أن التحريم يتأبد.
وقال الشافعي: إن صرح بالخطبة وصرحت له بالإجابة ولم يعقد النكاح حتى تنقضي العدة فالنكاح ثابت والتصريح لها مكروه، لأن النكاح حادث بعد الخطبة، قاله ابن المنذر.
التاسعة: قوله تعالى: {إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً} استثناء منقطع بمعنى لكن، كقوله: {إِلَّا خَطَأً} أي لكن خطأ. والقول المعروف هو ما أبيح من التعريض. وقد ذكر الضحاك أن من القول المعروف أن يقول للمعتدة: احبسي على نفسك فإن لي بك رغبة، فتقول هي: وأنا مثل ذلك، وهذا شبه المواعدة.
قوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ} فيه تسع مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا} قد تقدم القول في معنى العزم، يقال: عزم الشيء وعزم عليه. والمعنى هنا: ولا تعزموا على عقدة النكاح. ومن الامر البين أن القرآن أفصح كلام، فما ورد فيه فلا معترض عليه، ولا يشك في صحته وفصاحته، وقد قال الله تعالى: {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ} وقال هنا: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ} والمعنى: لا تعزموا على عقدة النكاح في زمان العدة ثم حذف على ما تقدم.
وحكى سيبويه: ضرب فلان الظهر والبطن، أي على. قال سيبويه: والحذف في هذه الأشياء لا يقاس عليه. قال النحاس: ويجوز أن يكون {ولا تعقدوا عقدة النكاح}، لأن معنى: {تعزموا} وتعقدوا واحد. ويقال: تعزموا بضم الزاي.
الثانية: قوله تعالى: {حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ} يريد تمام العدة. والكتاب هنا هو الحد الذي جعل والقدر الذي رسم من المدة، سماها كتابا إذ قد حده وفرضه كتاب الله كما قال: {كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} وكما قال: {إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً}. فالكتاب: الفرض، أي حتى يبلغ الفرض أجله، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ} أي فرض.
وقيل: في الكلام حذف، أي حتى يبلغ فرض الكتاب أجله، فالكتاب على هذا التأويل بمعنى القرآن. وعلى الأول لا حذف فهو أولى، والله أعلم.
الثالثة: حرم الله تعالى عقد النكاح في العدة بقوله تعالى: {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ} وهذا من المحكم المجمع على تأويله، أن بلوغ أجله انقضاء العدة. وأباح التعريض في العدة بقوله: {وَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ} الآية. ولم يختلف العلماء في إباحة ذلك، واختلفوا في ألفاظ التعريض على ما تقدم. واختلفوا في الرجل يخطب امرأة في عدتها جاهلا، أو يواعدها ويعقد بعد العدة، وقد تقدم هذا في الآية التي قبلها. واختلفوا إن عزم العقدة في العدة وعثر عليه ففسخ الحاكم نكاحه، وذلك قبل الدخول.
الرابعة: فقول عمر بن الخطاب وجماعة من العلماء أن ذلك لا يؤبد تحريما، وأنه يكون خاطبا من الخطاب، وقاله مالك وابن القاسم في المدونة في آخر الباب الذي يليه ضرب أجل المفقود.
وحكى ابن الجلاب عن مالك رواية أن التحريم يتأبد في العقد وإن فسخ قبل الدخول، ووجهه أنه نكاح في العدة فوجب أن يتأبد به التحريم، أصله إذا بنى بها. وأما إن عقد في العدة ودخل بعد انقضائها وهى: الخامسة: فقال قوم من أهل العلم: ذلك كالدخول في العدة، يتأبد التحريم بينهما.
وقال قوم من أهل العلم: لا يتأبد بذلك تحريم.
وقال مالك: يتأبد التحريم.
وقال مرة: وما التحريم بذلك بالبين، والقولان له في المدونة في طلاق السنة. وأما إن دخل في العدة.
السادسة: فقال مالك والليث والأوزاعي: يفرق بينهما ولا تحل له أبدا. قال مالك والليث: ولا بملك اليمين، مع أنهم جوزوا التزويج بالمزنى بها. واحتجوا بأن عمر بن الخطاب قال: لا يجتمعان أبدا. قال سعيد: ولها مهرها بما استحل من فرجها، أخرجه مالك في موطئة وسيأتي.
وقال الثوري والكوفيون والشافعي: يفرق بينهما ولا يتأبد التحريم بل يفسخ بينهما ثم تعتد منه، ثم يكون خاطبا من الخطاب. واحتجوا بإجماع العلماء على أنه لو زنى بها لم يحرم عليه تزويجها، فكذلك وطؤه إياها في العدة. قالوا: وهو قول على. ذكره عبد الرزاق. وذكر عن ابن مسعود مثله، وعن الحسن أيضا.
وذكر عبد الرزاق عن الثوري عن أشعث عن الشعبي عن مسروق أن عمر رجع عن ذلك وجعلهما يجتمعان. وذكر القاضي أبو الوليد الباجى في المنتقى فقال: لا يخلو الناكح في العدة إذا بنى بها أن يبنى بها في العدة أو بعدها، فإن كان بنى بها في العدة فإن المشهور من المذهب أن التحريم يتأبد، وبه قال أحمد بن حنبل.
وروى الشيخ أبو القاسم في تفريعه أن في التي يتزوجها الرجل في عدة من طلاق أو وفاة عالما بالتحريم روايتين، إحداهما- أن تحريمه يتأبد على ما قدمناه. والثانية: أنه زان وعليه الحد، ولا يلحق به الولد، وله أن يتزوجها إذا انقضت عدتها، وبه قال الشافعي وأبو حنيفة. ووجه الرواية الأولى: وهى المشهور- ما ثبت من قضاء عمر بذلك، وقيامه بذلك في الناس، وكانت قضاياه تسير وتنتشر وتنقل في الأمصار، ولم يعلم له مخالف، فثبت أنه إجماع. قال القاضي أبو محمد: وقد روى مثل ذلك عن علي بن أبى طالب، ولا مخالف لهما مع شهرة ذلك وانتشاره، وهذا حكم الإجماع. ووجه الرواية الثانية أن هذا وطئ ممنوع فلم يتأبد تحريمه، كما لو زوجت نفسها أو تزوجت متعة أو زنت. وقد قال القاضي أبو الحسن: إن مذهب مالك المشهور في ذلك ضعيف من جهة النظر. والله أعلم. وأسند أبو عمر: حدثنا عبد الوارث بن سفيان حدثنا قاسم بن أصبغ عن محمد بن إسماعيل عن نعيم بن حماد عن ابن المبارك عن أشعث عن الشعبي عن مسروق قال: بلغ عمر بن الخطاب أن امرأة من قريش تزوجها رجل من ثقيف في عدتها فأرسل إليهما ففرق بينهما وعاقبهما وقال: لا تنكحها أبدا وجعل صداقها في بيت المال، وفشا ذلك في الناس فبلغ عليا فقال: يرحم الله أمير المؤمنين، ما بال الصداق وبئت المال! إنما جهلا فينبغي للإمام أن يردهما إلى السنة. قيل: فما تقول أنت فيهما؟ فقال: لها الصداق بما استحل من فرجها، ويفرق بينهما ولا جلد عليهما، وتكمل عدتها من الأول، ثم تعتد من الثاني عدة كاملة ثلاثة أقراء ثم يخطبها إن شاء. فبلغ عمر فخطب الناس فقال: أيها الناس، ردوا الجهالات إلى السنة. قال إلكيا الطبري: ولا خلاف بين الفقهاء أن من عقد على امرأة نكاحها وهى في عدة من غيره أن النكاح فاسد. وفى اتفاق عمر وعلى على نفى الحد عنهما ما يدل على أن النكاح الفاسد لا يوجب الحد، إلا أنه مع الجهل بالتحريم متفق عليه، ومع العلم به مختلف فيه. واختلفوا هل تعتد منهما جميعا، وهذه مسألة العدتين.
السابعة: فروى المدنيون عن مالك أنها تتم بقية عدتها من الأول، وتستأنف عدة أخرى من الآخر، وهو قول الليث والحسن بن حي والشافعي وأحمد وإسحاق.
وروى عن على كما ذكرنا، وعن عمر على ما يأتي.
وروى محمد بن القاسم وابن وهب عن مالك: أن عدتها من الثاني تكفيها من يوم فرق بينه وبينها، سواء كانت بالحمل أو بالأقراء أو بالشهور، وهو قول الثوري والأوزاعي وأبى حنيفة. وحجتهم الإجماع على أن الأول لا ينكحها في بقية العدة منه، فدل على أنها في عدة من الثاني، ولولا ذلك لنكحها في عدتها منه. أجاب الأولون فقالوا: هذا غير لازم لان منع الأول من أن ينكحها في بقية عدتها إنما وجب لما يتلوها من عدة الثاني، وهما حقان قد وجبا عليها لزوجين كسائر حقوق الآدميين، لا يدخل أحدهما في صاحبه. وخرج مالك عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب وعن سليمان بن يسار أن طليحة الأسدية كانت تحت رشيد الثقفي فطلقها فنكحت في عدتها فضربها عمر بن الخطاب وضرب زوجها بالمخفقة ضربات وفرق بينهما، ثم قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: أيما امرأة نكحت في عدتها فإن كان زوجها الذي تزوج بها لم يدخل بها فرق بينهما، ثم اعتدت بقية عدتها من الزوج الأول، ثم كان الآخر خاطبا من الخطاب، وإن كان دخل بها فرق بينهما ثم أعتدت بقية عدتها من الأول، ثم اعتدت من الآخر ثم لا يجتمعان أبدا. قال مالك: وقال سعيد ابن المسيب: ولها مهرها بما استحل من فرجها. قال أبو عمر: وأما طليحة هذه فهي طليحة بنت عبيد الله أخت طلحة بن عبيد الله التيمي، وفى بعض نسخ الموطأ من رواية يحيى: طليحة الأسدية وذلك خطأ وجهل، ولا أعلم أحدا قاله.
الثامنة: قوله فضربها عمر بالمخفقة وضرب زوجها ضربات يريد على وجه العقوبة لما ارتكباه من المحظور وهو النكاح في العدة.
وقال الزهري: فلا أدرى كم بلغ ذلك الجلد. قال: وجلد عبد الملك في ذلك كل واحد منهما أربعين جلدة. قال: فسئل عن ذلك قبيصة بن ذؤيب فقال: لو كنتم خففتم فجلدتم عشرين! وقال ابن حبيب في التي تتزوج في العدة فيمسها الرجل أو يقبل أو يباشر أو يغمز أو ينظر على وجه اللذة أن على الزوجين العقوبة وعلى الولي وعلى الشهود ومن علم منهم أنها في عدة، ومن جهل منهم ذلك فلا عقوبة عليه.
وقال ابن المواز: يجلد الزوجان الحد إن كانا تعمدا ذلك، فيحمل قول ابن حبيب على من علم بالعدة، ولعله جهل التحريم ولم يتعمد ارتكاب المحظور فذلك الذي يعاقب، وعلى ذلك كان ضرب عمر المرأة وزوجها بالمخفقة ضربات. وتكون العقوبة والأدب في ذلك بحسب حال المعاقب. ويحمل قول ابن المواز على أنهما علما التحريم واقتحما ارتكاب المحظور جرأة وإقداما. وقد قال الشيخ أبو القاسم: إنهما روايتان في التعمد، إحداهما يحد، والثانية يعاقب ولا يحد.
التاسعة: قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ} هذا نهاية التحذير من الوقوع فيما نهى عنه.