فصل: تفسير الآية رقم (252):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (252):

{تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)}
{تِلْكَ} ابتداء {آياتُ اللَّهِ} خبره، وإن شئت كان بدلا والخبر {نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ}. {وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ}، خبر إن أي وإنك لمرسل. نبه الله تعالى نبيه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أن هذه الآيات التي تقدم ذكرها لا يعلمها إلا نبى مرسل.

.تفسير الآية رقم (253):

{تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَأَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253)}
قوله تعالى: {تِلْكَ الرُّسُلُ} قال: {تِلْكَ} ولم يقل: ذلك مراعاة لتأنيث لفظ الجماعة، وهى رفع بالابتداء. و{الرُّسُلُ} نعته، وخبر الابتداء الجملة.
وقيل: الرسل عطف بيان، و{فَضَّلْنا} الخبر. وهذه آية مشكلة والأحاديث ثابتة بأن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «لا تخيروا بين الأنبياء» و«لا تفضلوا بين أنبياء الله» رواها الأئمة الثقات، أي لا تقولوا: فلان خير من فلان، ولا فلان أفضل من فلان. يقال: خير فلان بين فلان وفلان وفضل، مشددا إذا قال ذلك. وقد اختلف العلماء في تأويل هذا المعنى، فقال قوم: إن هذا كان قبل أن يوحى إليه بالتفضيل، وقبل أن يعلم أنه سيد ولد آدم، وإن القرآن ناسخ للمنع من التفضيل.
وقال ابن قتيبة: إنما أراد بقوله: «أنا سيد ولد آدم» يوم القيامة، لأنه الشافع يومئذ وله لواء الحمد والحوض، وأراد بقوله: «لا تخيرونى على موسى» على طريق التواضع، كما قال أبو بكر: وليتكم ولست بخيركم. وكذلك معنى قوله: «لا يقل أحد أنا خير من يونس بن متى» على معنى التواضع. وفى قوله تعالى: {وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ} ما يدل على أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أفضل منه، لأن الله تعالى يقول: ولا تكن مثله، فدل على أن قوله: «لا تفضلوني عليه» من طريق التواضع. ويجوز أن يريد لا تفضلوني عليه في العمل فلعله أفضل عملا منى، ولا في البلوى والامتحان فإنه أعظم محنة منى. وليس ما أعطاه الله لنبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من السودد والفضل يوم القيامة على جميع الأنبياء والرسل بعمله بل بتفضيل الله إياه واختصاصه له، وهذا التأويل اختاره المهلب. ومنهم من قال: إنما نهى عن الخوض في ذلك، لأن الخوض في ذلك ذريعة إلى الجدال وذلك يؤدى إلى أن يذكر منهم ما لا ينبغي أن يذكر ويقل احترامهم عند المماراة. قال شيخنا: فلا يقال: النبي أفضل من الأنبياء كلهم ولا من فلان ولا خير، كما هو ظاهر النهى لما يتوهم من النقص في المفضول، لأن النهى اقتضى منه إطلاق اللفظ لا منع اعتقاد ذلك المعنى، فإن الله تعالى أخبر بأن الرسل متفاضلون، فلا تقول: نبينا خير من الأنبياء ولا من فلان النبي اجتنابا لما نهى عنه وتأدبا به وعملا باعتقاد ما تضمنه القرآن من التفضيل، والله بحقائق الأمور عليم.
قلت: وأحسن من هذا قول من قال: إن المنع من التفضيل إنما هو من جهة النبوة التي هي خصلة واحدة لا تفاضل فيها، وإنما التفضيل في زيادة الأحوال والخصوص والكرامات والالطاف والمعجزات المتباينات، وأما النبوة في نفسها فلا تتفاضل وإنما تتفاضل بأمور أخر زائدة عليها، ولذلك منهم رسل وأولو عزم، ومنهم من اتخذ خليلا، ومنهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات، قال الله تعالى: {وَلَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً} وقال: {تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ}.
قلت: وهذا قول حسن، فإنه جمع بين الآي والأحاديث من غير نسخ، والقول بتفضيل بعضهم على بعض إنما هو بما منح من الفضائل وأعطى من الوسائل، وقد أشار ابن عباس إلى هذا فقال: إن الله فضل محمدا على الأنبياء وعلى أهل السماء، فقالوا: بم يا ابن عباس فضله على أهل السماء؟ فقال: إن الله تعالى قال: {وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ}.
وقال لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً. لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ}. قالوا: فما فضله على الأنبياء؟ قال قال الله تعالى: {وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ} وقال الله عز وجل لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: {وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ} فأرسله إلى الجن والإنس ذكره أبو محمد الدارمي في مسنده.
وقال أبو هريرة: خير بنى آدم نوح وإبراهيم وموسى ومحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهم أولو العزم من الرسل، وهذا نص من ابن عباس وأبى هريرة في التعيين، ومعلوم أن من أرسل أفضل ممن لم يرسل، فإن من أرسل فضل على غيره بالرسالة واستووا في النبوة إلى ما يلقاه الرسل من تكذيب أممهم وقتلهم إياهم، وهذا مما لا خفاء فيه، إلا أن ابن عطية أبا محمد عبد الحق قال: إن القرآن يقتضى التفضيل، وذلك في الجملة دون تعيين أحد مفضول، وكذلك هي الأحاديث، ولذلك قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أنا أكرم ولد آدم على ربى» وقال: «أنا سيد ولد آدم» ولم يعين، وقال عليه السلام: «لا ينبغي لاحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى» وقال: «لا تفضلوني على موسى».
وقال ابن عطية: وفى هذا نهى شديد عن تعيين المفضول، لأن يونس عليه السلام كان شابا وتفسخ تحت أعباء النبوة. فإذا كان التوقيف لمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فغيره أحرى.
قلت: ما اخترناه أولى إن شاء الله تعالى، فإن الله تعالى لما أخبر أنه فضل بعضهم على بعض جعل يبين بعض المتفاضلين ويذكر الأحوال التي فضلوا بها فقال: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَآتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ} وقال: {وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً} وقال تعالى: {وَآتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ}، {وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَهارُونَ الْفُرْقانَ وَضِياءً وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} وقال تعالى: {وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً} وقال: {وَإِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ} فعم ثم خص وبدأ بمحمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وهذا ظاهر.
قلت: وهكذا القول في الصحابة إن شاء الله تعالى، اشتركوا في الصحبة ثم تباينوا في الفضائل بما منحهم الله من المواهب والوسائل، فهم متفاضلون بتلك مع أن الكل شملتهم الصحبة والعدالة والثناء عليهم، وحسبك بقوله الحق: {مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ} إلى آخر السورة. وقال: {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَكانُوا أَحَقَّ بِها وَأَهْلَها} ثم قال: {لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقاتَلَ} وقال: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} فعم وخص، ونفى عنهم الشين والنقص، رضي الله عنهم أجمعين ونفعنا بحبهم آمين.
قوله تعالى: {مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ} المكلم موسى عليه السلام، وقد سئل رسوله الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن آدم أنبى مرسل هو؟ فقال: «نعم نبى مكلم». قال ابن عطية: وقد تأول بعض الناس أن تكليم آدم كان في الجنة، فعلى هذا تبقى خاصية موسى. وحذفت الهاء لطول الاسم، والمعنى من كلمه الله.
قوله تعالى: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ} قال النحاس: بعضهم هنا على قول ابن عباس والشعبي ومجاهد محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «بعثت إلى الأحمر والأسود وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا ونصرت بالرعب مسيرة شهر وأحلت لي الغنائم وأعطيت الشفاعة». ومن ذلك القرآن وانشقاق القمر وتكليمه الشجر وإطعامه الطعام خلقا عظيما من تميرات ودرور شاة أم معبد بعد جفاف.
وقال ابن عطية معناه، وزاد: وهو أعظم الناس أمة وختم به النبيون إلى غير ذلك من الخلق العظيم الذي أعطاه الله. ويحتمل اللفظ أن يراد به محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيره ممن عظمت آياته، ويكون الكلام تأكيدا. ويحتمل أن يريد به رفع إدريس المكان العلى، ومراتب الأنبياء في السماء كما في حديث الإسراء، وسيأتي. وبينات عيسى هي إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص وخلق الطير من الطين كما نص عليه في التنزيل. {وَأَيَّدْناهُ} قويناه. {بِرُوحِ الْقُدُسِ} جبريل عليه السلام، وقد تقدم.
قوله تعالى: {وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ} أي من بعد الرسل.
وقيل: الضمير لموسى وعيسى، والاثنان جمع.
وقيل: من بعد جميع الرسل، وهو ظاهر اللفظ.
وقيل: إن القتال إنما وقع من الذين جاءوا بعدهم وليس كذلك المعنى، بل المراد ما اقتتل الناس بعد كل نبى، وهذا كما تقول: اشتريت خيلا ثم بعتها، فجائز لك هذه العبارة وأنت إنما اشتريت فرسا وبعته ثم آخر وبعته ثم آخر وبعته، وكذلك هذه النوازل إنما اختلف الناس بعد كل نبى فمنهم من آمن ومنهم من كفر بغيا وحسدا وعلى حطام الدنيا، وذلك كله بقضاء وقدر وإرادة من الله تعالى، ولو شاء خلاف ذلك لكان ولكنه المستأثر بسر الحكمة في ذلك الفعل لما يريد. وكسرت النون من {وَلكِنِ اخْتَلَفُوا} لالتقاء الساكنين، ويجوز حذفها في غير القرآن، وأنشد سيبويه:
فلست بآتيه ولا أستطيعه ** ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل

{فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ} {من} في موضع رفع بالابتداء والصفة.

.تفسير الآية رقم (254):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَلا خُلَّةٌ وَلا شَفاعَةٌ وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)}
قال الحسن: هي الزكاة المفروضة.
وقال ابن جريج وسعيد بن جبير: هذه الآية تجمع الزكاة المفروضة والتطوع. قال ابن عطية. وهذا صحيح، ولكن ما تقدم من الآيات في ذكر القتال وأن الله يدفع بالمؤمنين في صدور الكافرين يترجح منه أن هذا الندب إنما هو في سبيل الله، ويقوى ذلك في آخر الآية قوله: {وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} أي فكافحوهم بالقتال بالأنفس وإنفاق الأموال.
قلت: وعلى هذا التأويل يكون إنفاق الأموال مرة واجبا ومرة ندبا بحسب تعين الجهاد وعدم تعينه. وأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم الله وأنعم به عليهم، وحذرهم من الإمساك إلى أن يجئ يوم لا يمكن فيه بيع ولا شراء ولا استدراك نفقة، كما قال: {فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ}. والخلة: خالص المودة، مأخوذة من تخلل الاسرار بين الصديقين. والخلالة والخلالة والخلالة: الصداقة والمودة، قال الشاعر:
وكيف تواصل من أصبحت ** خلالته كأبي مرحب

وأبو مرحب كنية الظل، ويقال: هو كنية عرقوب الذي قيل فيه: مواعيد عرقوب. والخلة بالضم أيضا: ما خلا من النبت، يقال: الخلة خبز الإبل والحمض فاكهتها. والخلة بالفتح: الحاجة والفقر. والخلة: ابن مخاض، عن الأصمعي. يقال: أتاهم بقرص كأنه فرسن خلة. والأنثى خلة أيضا. ويقال للميت: اللهم أصلح خلته، أي الثلمة التي ترك. والخلة: الخمرة الحامضة. والخلة بالكسر: واحدة خلل السيوف، وهى بطائن كانت تغشى بها أجفان السيوف منقوشة بالذهب وغيره، وهى أيضا سيور تلبس ظهر سيتى القوس. والخلة أيضا: ما يبقى بين الأسنان. وسيأتي في النساء اشتقاق الخليل ومعناه. فأخبر الله تعالى ألا خلة في الآخرة ولا شفاعة إلا بإذن الله. وحقيقتها رحمة منه تعالى شرف بها الذي أذن له في أن يشفع. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو {لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة}
بالنصب من غير تنوين، وكذلك في سورة إبراهيم {لا بيع فيه ولا خلال} وفى الطور {لا لغو فيها ولا تأثيم} وأنشد حسان بن ثابت:
ألا طعان ولا فرسان عادية ** إلا تجشؤكم عند التنانير

وألف الاستفهام غير مغيرة عمل لا كقولك: ألا رجل عندك، ويجوز ألا رجل ولا امرأة كما جاز في غير الاستفهام فاعلمه. وقرأ الباقون جميع ذلك بالرفع والتنوين، كما قال الراعي:
وما صرمتك حتى قلت معلنة ** لا ناقة لي في هذا ولا جمل

ويروى وما هجرتك فالفتح على النفي العام المستغرق لجميع الوجوه من ذلك الصنف، كأنه جواب لمن قال: هل فيه من بيع؟ فسأل سؤالا عاما فأجيب جوابا عاما بالنفي. ولا مع الاسم المنفي بمنزلة اسم واحد في موضع رفع بالابتداء، والخبر فيه. وإن شئت جعلته صفة ليوم، ومن رفع جمله لا بمنزلة ليس. وجعل الجواب غير عام، وكأنه جواب من قال: هل فيه بيع؟ بإسقاط من، فأتى الجواب غير مغير عن رفعه، والمرفوع مبتدأ أو اسم ليس وفيه الخبر. قال مكي: والاختيار الرفع، لأن أكثر القراء عليه، ويجوز في غير القرآن لا بيع فيه ولا خلة، وأنشد سيبويه لرجل من مذحج: هذا لعمركم الصغار بعينه لا أم لي إن كان ذاك ولا أب ويجوز أن تبنى الأول وتنصب الثاني وتنونه فتقول: لا رجل فيه ولا امرأة، وأنشد سيبويه:
لا نسب اليوم ولا خلة ** اتّسع الخرق على الراقع

فلا زائدة في الموضعين، الأول عطف على الموضع والثاني على اللفظ. ووجه خامس أن ترفع الأول وتبنى الثاني كقولك: لا رجل فيها ولا امرأة، قال أمية:
فلا لغو ولا تأثيم فيها ** وما فاهوا به أبدا مقيم

وهذه الخمسة الأوجه جائزة في قولك: لا حول ولا قوة إلا بالله، وقد تقدم هذا والحمد لله. {وَالْكافِرُونَ} ابتداء. {هُمُ} ابتداء ثان، {الظَّالِمُونَ} خبر الثاني، وإن شئت كانت {هُمُ} زائدة للفصل و{الظَّالِمُونَ} خبر {الْكافِرُونَ}. قال عطاء بن دينار: والحمد لله الذي قال: {وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} ولم يقل والظالمون هم الكافرون.

.تفسير الآية رقم (255):

{اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَلا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)}
قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ} هذه آية الكرسي سيدة آي القرآن وأعظم آية، كما تقدم بيانه في الفاتحة، ونزلت ليلا ودعا النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ زيدا فكتبها. روى عن محمد ابن الحنفية أنه قال: لما نزلت آية الكرسي خر كل صنم في الدنيا، وكذلك خر كل ملك في الدنيا وسقطت التيجان عن رؤوسهم، وهربت الشياطين يضرب بعضهم على بعض إلى أن أتوا إبليس فأخبروه بذلك فأمرهم أن يبحثوا عن ذلك، فجاءوا إلى المدينة فبلغهم أن آية الكرسي قد نزلت.
وروى الأئمة عن أبى بن كعب قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «يا أبا المنذر أتدرى أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال قلت: الله ورسوله أعلم، قال: يا أبا المنذر أتدرى أي آية من كتاب الله معك أعظم؟ قال قلت: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ فضرب في صدري وقال: ليهنك العلم يا أبا المنذر». زاد الترمذي الحكيم أبو عبد الله: «فو الذي نفسي بيده إن لهذه الآية للسانا وشفتين تقدس الملك عند ساق العرش». قال أبو عبد الله: فهذه آية أنزلها الله جل ذكره، وجعل ثوابها لقارئها عاجلا وآجلا، فأما في العاجل فهي حارسه لمن قرأها من الآفات، وروى لنا عن نوف البكالي أنه قال: آية الكرسي تدعى في التوراة ولية الله. يريد يدعى قارئها في ملكوت السموات والأرض عزيزا، قال: فكان عبد الرحمن بن عوف إذا دخل بيته قرأ آية الكرسي في زوايا بيته الأربع، معناه كأنه يلتمس بذلك أن تكون له حارسا من جوانبه الأربع، وأن تنفى عنه الشيطان من زوايا بيته.
وروى عن عمر أنه صارع جنيا فصرعه عمر رضي الله عنه، فقال له الجنى: خل عني حتى أعلمك ما تمتنعون به منا، فخلى عنه وسأله فقال: إنكم تمتنعون منا بآية الكرسي.
قلت: هذا صحيح، وفي الخبر: من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة كان الذي يتولى قبض روحه ذو الجلال والإكرام، وكان كمن قاتل مع أنبياء الله حتى يستشهد. وعن على رضي الله عنه قال: سمعت نبيكم صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول وهو على أعواد المنبر: «من قرأ آية الكرسي دبر كل صلاة لم يمنعه من دخول الجنة إلا الموت ولا يواظب عليها إلا صديق أو عابد، ومن قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه الله على نفسه وجاره وجار جاره والأبيات حوله». وفى البخاري عن أبى هريرة قال: وكلني رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بحفظ زكاة رمضان، وذكر قصة وفيها: فقلت يا رسول الله، زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله، قال: «ما هي؟» قلت قال لي: إذا آويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم {اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}.
وقال لي: لن يزال عليك من الله حافظ ولا يقربك شيطان حتى تصبح، وكانوا أحرص شيء على الخير. فقال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «أما إنه قد صدقك وهو كذوب تعلم من تخاطب منذ ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ قال: لا، قال: ذاك شيطان». وفى مسند الدارمي أبى محمد قال الشعبي قال عبد الله بن مسعود: لقى رجل من أصحاب محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رجلا من الجن فصارعه فصرعه الإنسي، فقال له الإنسي: إنى لأراك ضئيلا شخيتا كأن ذريعتيك ذريعتا كلب فكذلك أنتم معشر الجن، أم أنت من بينهم كذلك؟ قال: لا والله! إنى منهم لضليع ولكن عاودني الثانية فإن صرعتني علمتك شيئا ينفعك، قال نعم، فصرعه، قال: تقرأ آية الكرسي: {اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}؟ قال: نعم، قال: فإنك تقرأها في بيت إلا خرج منه الشيطان له خبج كخبج الحمار ثم لا يدخله حتى يصبح. أخرجه أبو نعيم عن أبى عاصم الثقفي عن الشعبي. وذكره أبو عبيدة في غريب حديث عمر حدثناه أبو معاوية عن أبى عاصم الثقفي عن الشعبي عن عبد الله قال: فقيل لعبد الله: أهو عمر؟ فقال: ما عسى أن يكون إلا عمر!. قال أبو محمد الدارمي: الضئيل: الدقيق، والشخيت: المهزول، والضليع: جيد الأضلاع، والخبج: الريح.
وقال أبو عبيدة: الخبج: الضراط، وهو الحبج أيضا بالحاء. وفى الترمذي عن أبى هريرة قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «من قرأ حم- المؤمن- إلى إليه المصير وآية الكرسي حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح» قال: حديث غريب.
وقال أبو عبد الله الترمذي الحكيم: وروى أن المؤمنين ندبوا إلى المحافظة على قراءتها دبر كل صلاة. عن أنس رفع الحديث إلى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «أوحى الله إلى موسى عليه السلام من داوم على قراءة آية الكرسي دبر كل صلاة أعطيته فوق ما أعطى الشاكرين واجر النبيين وأعمال الصديقين وبسطت عليه يميني بالرحمة ولم يمنعه أن أدخله الجنة إلا أن يأتيه ملك الموت قال موسى عليه السلام: يا رب من سمع بهذا لا يداوم عليه؟ قال: إنى لا أعطيه من عبادي إلا لنبي أو صديق أو رجل أحبه أو رجل أريد قتله في سبيلي». وعن أبى بن كعب قال قال الله تعالى: {يا موسى من قرأ آية الكرسي في دبر كل صلاة أعطيته ثواب الأنبياء} قال أبو عبد الله: معناه عندي أعطيته ثواب عمل الأنبياء، فأما ثواب النبوة فليس لاحد إلا للأنبياء. وهذه الآية تضمنت التوحيد والصفات العلا، وهى خمسون كلمة، وفى كل كلمة خمسون بركة، وهى تعدل ثلث القرآن، ورد بذلك الحديث، ذكره ابن عطية. و{اللَّهُ} مبتدأ، و{لا إِلهَ} مبتدأ ثان وخبره محذوف تقديره معبود أو موجود. و{إِلَّا هُوَ} بدل من موضع لا إله.
وقيل: {اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ} ابتداء وخبر، وهو مرفوع محمول على المعنى، أي ما إله إلا هو، ويجوز في غير القرآن لا إله إلا إياه، نصب على الاستثناء. قال أبو ذر في حديثه الطويل: سألت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أي آية أنزل الله عليك من القرآن أعظم؟ فقال: {اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ}.
وقال ابن عباس: أشرف آية في القرآن آية الكرسي. قال بعض العلماء: لأنه يكرر فيها اسم الله تعالى بين مضمر وظاهر ثماني عشرة مرة. {الْحَيُّ الْقَيُّومُ} نعت لله عز وجل، وإن شئت كان بدلا من {هُوَ}، وإن شئت كان خبرا بعد خبر، وإن شئت على إضمار مبتدأ. ويجوز في غير القرآن النصب على المدح. و{الْحَيُّ} اسم من أسمائه الحسنى يسمى به، ويقال: إنه اسم الله تعالى الأعظم. ويقال: إن عيسى ابن مريم عليه السلام كان إذا أراد أن يحيى الموتى يدعو بهذا الدعاء: ياحي يا قيوم. ويقال: إن آصف بن برخيا لما أراد أن يأتي بعرش بلقيس إلى سليمان دعا بقوله ياحي يا قيوم. ويقال: إن بنى إسرائيل سألوا موسى عن اسم الله الأعظم فقال لهم: أيا هيا شرا هيا، يعني يا حي يا قيوم. ويقال: هو دعاء أهل البحر إذا خافوا الغرق يدعون به. قال الطبري عن قوم: إنه يقال حي قيوم كما وصف نفسه، ويسلم ذلك دون أن ينظر فيه.
وقيل: سمى نفسه حيا لصرفه الأمور مصاريفها وتقديره الأشياء مقاديرها.
وقال قتادة: الحي الذي لا يموت.
وقال السدى: المراد بالحي الباقي. قال لبيد:
فإما تريني اليوم أصبحت سالما ** ولست بأحيا من كلاب وجعفر

وقد قيل: إن هذا الاسم هو اسم الله الأعظم. {الْقَيُّومُ} من قام، أي القائم بتدبير ما خلق، عن قتادة.
وقال الحسن: معناه القائم على كل نفس بما كسبت حتى يجازيها بعملها، من حيث هو عالم بها لا يخفى عليه شيء منها.
وقال ابن عباس: معناه الذي لا يحول ولا يزول، قال أمية بن أبى الصلت:
لم تخلق السماء والنجوم ** والشمس معها قمر يقوم

قدره مهيمن قيوم ** والحشر والجنة والنعيم

إلا لأمر شأنه عظيم قال البيهقي: ورأيت في عيون التفسير لإسماعيل الضرير تفسير القيوم قال: ويقال هو الذي لا ينام، وكأنه أخذه من قوله عز وجل عقيبه في آية الكرسي: {لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ}.
وقال الكلبي: القيوم الذي لا بدئ له، ذكره أبو بكر الأنباري. واصل قيوم قيووم اجتمعت الواو والياء وسبقت إحداهما بالسكون فأدغمت الأولى في الثانية بعد قلب الواو ياء، ولا يكون قيوم فعولا، لأنه من الواو فكان يكون قيووما. وقرأ ابن مسعود وعلقمة والأعمش والنخعي {الحي القيام} بالألف، وروى ذلك عن عمر. ولا خلاف بين أهل اللغة في أن القيوم أعرف عند العرب وأصح بناء وأثبت علة. والقيام منقول عن القوام إلى القيام، صرف عن الفعال إلى الفيعال، كما قيل للصواغ الصياغ، قال الشاعر:
إن ذا العرش للذي يرزق النا ** س وحي عليهم قيوم

ثم نفى عز وجل أن تأخذه سنة ولا نوم. والسنة: النعاس في قول الجميع. والنعاس ما كان من العين فإذا صار في القلب صار نوما، قال عدى بن الرقاع يصف امرأة بفتور النظر:
وسنان أقصده النعاس فرنقت ** في عينه سنة وليس بنائم

وفرق المفضل بينهما فقال: السنة من الرأس، والنعاس في العين، والنوم في القلب.
وقال ابن زيد: الوسنان الذي يقوم من النوم وهو لا يعقل، حتى ربما جرد السيف على أهله. قال ابن عطية: وهذا الذي قاله ابن زيد فيه نظر، وليس ذلك بمفهوم من كلام العرب.
وقال السدى: السنة: ريح النوم الذي يأخذ في الوجه فينعس الإنسان.
قلت: وبالجملة فهو فتور يعتري الإنسان ولا يفقد معه عقله. والمراد بهذه الآية أن الله تعالى لا يدركه خلل ولا يلحقه ملل بحال من الأحوال. والأصل في سنة وسنة حذفت الواو كما حذفت من يسن. والنوم هو المستثقل الذي يزول معه الذهن في حق البشر. والواو للعطف ولا توكيد.
قلت: والناس يذكرون في هذا الباب عن أبى هريرة قال: سمعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحكى عن موسى على المنبر قال: «وقع في نفس موسى هل ينام الله جل ثناؤه فأرسل الله إليه ملكا فأرقه ثلاثا ثم أعطاه قارورتين في كل يد قارورة وأمره أن يحتفظ بهما قال فجعل ينام وتكاد يداه تلتقيان ثم يستيقظ فينحي إحداهما عن الأخرى حتى نام نومة فاصطفقت يداه فانكسرت القارورتان- قال- ضرب الله له مثلا أن لو كان ينام لم تمتسك السماء والأرض» ولا يصح هذا الحديث، ضعفه غير واحد منهم البيهقي قوله تعالى: {لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ} أي بالملك فهو مالك الجميع وربه. وجاءت العبارة بما وإن كان في الجملة من يعقل من حيث المراد الجملة والموجود. قال الطبري: نزلت هذه الآية لما قال الكفار: ما نعبد أوثانا إلا ليقربونا إلى الله زلفى.
قوله تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} {من} رفع بالابتداء و{ذا} خبره، و{الذي} نعت ل {ذا}، وإن شئت بدل، ولا يجوز أن تكون {ذا} زائدة كما زيدت مع ما لان ما مبهمة فزيدت {ذا} معها لشبهها بها. وتقرر في هذه الآية أن الله يأذن لمن يشاء في الشفاعة، وهم الأنبياء والعلماء والمجاهدون والملائكة وغيرهم ممن أكرمهم وشرفهم الله، ثم لا يشفعون إلا لمن ارتضى، كما قال: {وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى} قال ابن عطية: والذي يظهر أن العلماء والصالحين يشفعون فيمن لم يصل إلى النار وهو بين المنزلتين، أو وصل ولكن له أعمال صالحة. وفى البخاري في (باب بقية من أبو أب الرؤية): إن المؤمنين يقولون: ربنا إن إخواننا كانوا يصلون معنا ويصومون معنا. وهذه شفاعة فيمن يقرب أمره، وكما يشفع الطفل المحبنطئ على باب الجنة. وهذا إنما هو في قراباتهم ومعارفهم. وإن الأنبياء يشفعون فيمن حصل في النار من عصاة أممهم بذنوب دون قربى ولا معرفة إلا بنفس الايمان، ثم تبقى شفاعة أرحم الراحمين في المستغرقين في الخطايا و- الذنوب الذين لم تعمل فيهم شفاعة الأنبياء. وأما شفاعة محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في تعجيل الحساب فخاصة له.
قلت: قد بين مسلم في صحيحه كيفية الشفاعة بيانا شافيا، وكأنه رحمه الله لم يقرأه وأن الشافعين يدخلون النار ويخرجون منها أناسا استوجبوا العذاب، فعلى هذا لا يبعد أن يكون للمؤمنين شفاعتان: شفاعة فيمن لم يصل إلى النار، وشفاعة فيمن وصل إليها ودخلها، أجارنا الله منها. فذكر من حديث أبى سعيد الخدري: ثم يضرب الجسر على جهنم وتحل الشفاعة ويقولون اللهم سلم سلم- قيل: يا رسول الله وما الجسر؟ قال: دحض مزلة فيها خطاطيف وكلاليب وحسكة تكون بنجد فيها شويكة يقال لها السعدان فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب فناج مسلم ومخدوش مرسل ومكدوس في نار جهنم حتى إذا خلص المؤمنون من النار فوالذي نفسي بيده ما من أحد منكم بأشد مناشدة لله في استيفاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم الذين في النار، يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون، فيقال لهم أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به، فيقول عز وجل أرجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا، ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحدا ممن أمرتنا به، ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال نصف دينار من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها أحد ممن أمرتنا به، ثم يقول ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال ذرة من خير فأخرجوه، فيخرجون خلقا كثيرا ثم يقولون ربنا لم نذر فيها خيرا وكان أبو سعيد يقول: إن لم تصدقوني بهذا الحديث فاقرءوا إن شئتم {إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً}- «فيقول الله تعالى: شفعت الملائكة وشفع النبيون وشفع المؤمنون ولم يبق إلا أرحم الراحمين فيقبض قبضة من النار فيخرج منها قوما لم يعملوا خيرا قط قد عادوا حمما» وذكر الحديث. وذكر من حديث أنس عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «فأقول يا رب ائذن لي فيمن قال لا إله إلا الله قال ليس ذلك لك- أو قال ليس ذلك إليك- وعزتي وكبريائي وعظمتي وجبريائى لأخرجن من قال لا إله إلا الله». وذكر من حديث أبى هريرة عنه عليه الصلاة وسلم: «حتى إذا فرغ الله من القضاء بين العباد وأراد أن يخرج برحمته من أراد من أهل النار أمر الملائكة أن يخرجوا من النار من كان لا يشرك بالله شيئا ممن أراد الله تعالى أن يرحمه ممن يقول لا إله إلا الله فيعرفونهم في النار يعرفونهم بأثر السجود تأكل النار ابن آدم إلا أثر السجود حرم الله على النار أن تأكل أثر السجود» الحديث بطوله.
قلت: فدلت هذه الأحاديث على أن شفاعة المؤمنين وغيرهم إنما هي لمن دخله النار وحصل فيها، أجارنا الله! منها وقول ابن عطية: ممن لم يصل أو وصل يحتمل أن يكون أخذه من أحاديث أخر، والله أعلم. وقد خرج ابن ماجه في سننه عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «يصف الناس يوم القيامة صفوفا- وقال ابن نمير أهل الجنة- فيمر الرجل من أهل النار على الرجل فيقول يا فلان أما تذكر يوم استسقيت فسقيتك شربة؟ قال فيشفع له ويمر الرجل على الرجل فيقول أما تذكر يوم ناولتك طهورا؟ فيشفع له- قال ابن نمير- ويقول يا فلان أما تذكر يوم بعثتني لحاجة كذا وكذا فذهبت لك؟ فيشفع له».
وأما شفاعات نبينا محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فاختلف فيها، فقيل ثلاث اثنتان، وقيل: خمس، يأتي بيانها في سبحان إن شاء الله تعالى. وقد أتينا عليها في كتاب التذكرة والحمد لله.
قوله تعالى: {يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ} الضميران عائدان على كل من يعقل ممن تضمنه قوله: {لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ}.
وقال مجاهد: {ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ} الدنيا {وَما خَلْفَهُمْ} الآخرة. قال ابن عطية: وكل هذا صحيح في نفسه لا بأس به، لأن ما بين اليد هو كل ما تقدم الإنسان، وما خلفه هو كل ما يأتي بعده، وبنحو قول مجاهد قال السدى وغيره.
قوله تعالى: {وَلا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِما شاءَ} العلم هنا بمعنى المعلوم، أي ولا يحيطون بشيء من معلوماته، وهذا كقول الخضر لموسى عليه السلام حين نقر العصفور في البحر: ما نقصى علمي وعلمك من علم الله إلا كما نقص هذا العصفور من هذا البحر. فهذا وما شاكله راجع إلى المعلومات، لأن علم الله سبحانه وتعالى الذي هو صفة ذاته لا يتبعض.
ومعنى الآية لا معلوم لاحد إلا ما شاء الله أن يعلمه.
قوله تعالى: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} ذكر ابن عساكر. في تاريخه عن على رضي الله عنه قال قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «الكرسي لؤلؤة والقلم لؤلؤة وطول القلم سبعمائة سنة وطول الكرسي حيث لا يعلمه إلا الله».
وروى حماد بن سلمة عن عاصم بن بهدلة- وهو عاصم بن أبى النجود- عن زر بن حبيش عن ابن مسعود قال: بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام وبين السماء السابعة وبين الكرسي خمسمائة عام، وبين الكرسي وبين العرش مسيرة خمسمائة عام، والعرش فوق الماء والله فوق العرش يعلم ما أنتم فيه وعليه. يقال: كرسي وكرسي والجمع الكراسي.
وقال ابن عباس: كرسيه علمه. ورجحه الطبري، قال: ومنه الكراسة التي تضم العلم، ومنه قيل للعلماء: الكراسي، لأنهم المعتمد عليهم، كما يقال: أوتاد الأرض.
قال الشاعر:
يحف بهم بيض الوجوه وعصبة ** كراسي بالاحداث حين تنوب

أي علماء بحوادث الأمور.
وقيل: كرسيه قدرته التي يمسك بها السموات والأرض، كما تقول: اجعل لهذا الحائط كرسيا، أي ما يعمده. وهذا قريب من قول ابن عباس في قول: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} قاله البيهقي: وروينا عن ابن مسعود وسعيد بن جبير عن ابن عباس في قول: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ} قال: علمه. وسائر الروايات عن ابن عباس وغيره تدل على أن المراد به الكرسي المشهور مع العرش.
وروى إسرائيل عن السدى عن أبى مالك في قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} قال: إن الصخرة التي عليها الأرض السابعة ومنتهى الخلق على أرجائها، عليها أربعة من الملائكة لكل واحد منهم أربعة وجوه: وجه إنسان ووجه أسد ووجه ثور ووجه نسر، فهم قيام عليها قد أحاطوا بالأرضين والسموات، ورءوسهم تحت الكرسي والكرسي تحت العرش والله واضع كرسيه فوق العرش. قال البيهقي: في هذا إشارة إلى كرسيين: أحدهما تحت العرش، والآخر موضوع على العرش. وفى رواية أسباط عن السدى عن أبى مالك، وعن أبى صالح عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن عباس، وعن مرة الهمداني عن ابن مسعود عن ناس من أصحاب رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ} فإن السموات والأرض في جوف الكرسي والكرسي بين يدي العرش. وأرباب الإلحاد يحملونها على عظم الملك وجلالة السلطان، وينكرون وجود العرش والكرسي وليس بشيء. واهل الحق يجيزونهما، إذ في قدرة الله متسع فيجب الايمان بذلك. قال أبو موسى الأشعري: الكرسي موضع القدمين وله أطيط كأطيط الرحل. قال البيهقي: قد روينا أيضا في هذا عن ابن عباس وذكرنا أن معناه فيما يرى أنه موضوع من العرش موضع القدمين من السرير، وليس فيه إثبات المكان لله تعالى. وعن ابن بريدة عن أبيه قال: لما قدم جعفر من الحبشة قال له رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ما أعجب شيء رأيته؟» قال: رأيت امرأة على رأسها مكتل طعام فمر فارس فأذراه فقعدت تجمع طعامها، ثم التفتت إليه فقالت له: ويل لك يوم يضع الملك كرسيه فيأخذ للمظلوم من الظالم! فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تصديقا لقولها: «لا قدست أمة- أو كيف تقدس أمة- لا يأخذ ضعيفها حقه من شديدها». قال ابن عطية: في قول أبى موسى: «الكرسي موضع القدمين» يريد هو من عرش الرحمن كموضع القدمين من أسرة الملوك، فهو مخلوق عظيم بين يدي العرش نسبته إليه كنسبة الكرسي إلى سرير الملك.
وقال الحسن بن أبى الحسن: الكرسي هو العرش نفسه، وهذا ليس بمرضى، والذي تقتضيه الأحاديث أن الكرسي مخلوق بين يدي العرش والعرش أعظم منه.
وروى أبو إدريس الخولاني عن أبى ذر قال: قلت يا رسول الله، أي ما أنزل عليك أعظم؟ قال: «آية الكرسي- ثم قال- يا أبا ذر ما السموات السبع مع الكرسي إلا كخلقة ملقاة في أرض فلاة وفضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على الحلقة». أخرجه الآجري وأبو حاتم البستي في صحيح مسنده والبيهقي وذكر أنه صحيح.
وقال مجاهد: ما السموات والأرض في الكرسي إلا بمنزلة حلقة ملقاة في أرض فلاة. وهذه الآية منبئة عن عظم مخلوقات الله تعالى، ويستفاد من ذلك عظم قدرة الله عز وجل إذ لا يؤده حفظ هذا الامر العظيم. و{يَؤُدُهُ} معناه يثقله، يقال: آدني الشيء بمعنى أثقلني وتحملت منه المشقة، وبهذا فسر اللفظة ابن عباس والحسن وقتادة وغيرهم. قال الزجاج: فجائز أن تكون الهاء لله عز وجل، وجائز أن تكون للكرسي، وإذا كانت للكرسي، فهو من أمر الله تعالى. و{الْعَلِيُّ} يراد به علو القدر والمنزلة لا علو المكان، لأن الله منزه عن التحيز.
وحكى الطبري عن قوم أنهم قالوا: هو العلى عن خلقه بارتفاع مكانه عن أماكن خلقه. قال ابن عطية: وهذا قول جهلة مجسمين، وكان الوجه ألا يحكى. وعن عبد الرحمن بن قرط أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ليلة أسرى به سمع تسبيحا في السموات العلى: سبحان الله العلى الأعلى سبحانه وتعالى. والعلى والعالي: القاهر الغالب للأشياء، تقول العرب: علا فلان فلانا أي غلبه وقهره، قال الشاعر:
فلما علونا واستوينا عليهم ** تركناهم صرعى لنسر وكاسر

ومنه قوله تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ}. و{الْعَظِيمُ} صفة بمعنى عظيم القدر والخطر والشرف، لا على معنى عظم الأجرام.
وحكى الطبري عن قوم أن العظيم معناه المعظم، كما يقال: العتيق بمعنى المعتق، وأنشد بيت الأعشى:
فكأن الخمر العتيق من الاس ** فنط ممزوجة بماء زلال

وحكى عن قوم أنهم أنكروا ذلك وقالوا: لو كان بمعنى معظم لوجب ألا بكون عظيما قبل أن يخلق الخلق وبعد فنائهم، إذ لا معظم له حينئذ.