فصل: تفسير الآية رقم (260):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»



.تفسير الآية رقم (260):

{وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)}
اختلف الناس في هذا السؤال هل صدر من إبراهيم عن شك أم لا؟ فقال الجمهور: لم يكن إبراهيم عليه السلام شاكا في إحياء الله الموتى قط وإنما طلب المعاينة، وذلك أن النفوس مستشرقة إلى رؤية ما أخبرت به، ولهذا قال عليه السلام: «ليس الخبر كالمعاينة» رواه ابن عباس ولم يروه غيره، قاله أبو عمر. قال الأخفش: لم يرد رؤية القلب وإنما أراد رؤية العين.
وقال الحسن وقتادة وسعيد بن جبير والربيع: سأل ليزداد يقينا إلى يقينه. قال ابن عطية: وترجم الطبري في تفسيره فقال: وقال آخرون سأل ذلك ربه، لأنه شك في قدرة الله تعالى. وأدخل تحت الترجمة عن ابن عباس قال: ما في القرآن آية أرجى عندي منها. وذكر عن عطاء بن أبى رباح أنه قال: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فقال: رب أرني كيف تحيى الموتى. وذكر حديث أبى هريرة أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» الحديث، ثم رجح الطبري هذا القول.
قلت: حديث أبى هريرة خرجه البخاري ومسلم عنه أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال ر ب أرني كيف تحيى الموتى قال أولم تؤمن قال بلى ولكن ليطمئن قلبي ويرحم الله لوطا لقد كان يأوي إلى ركن شديد ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي». قال ابن عطية: وما ترجم به الطبري عندي مردود، وما أدخل تحت الترجمة متأول، فأما قول ابن عباس: «هي أرجى آية» فمن حيث فيها الا دلال على الله تعالى وسؤال الأحياء في الدنيا وليست مظنة ذلك. ويجوز أن يقول: هي أرجى آية لقوله: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} أي إن الايمان كاف لا يحتاج معه إلى تنقير وبحث. وأما قول عطاء: دخل قلب إبراهيم بعض ما يدخل قلوب الناس فمعناه من حيث المعاينة على ما تقدم. وأما قول النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نحن أحق بالشك من إبراهيم» فمعناه أنه لو كان شاكا لكنا نحن أحق به ونحن لا نشك فإبراهيم عليه السلام أحرى ألا يشك، فالحديث مبنى على نفى الشك عن إبراهيم، والذي روى فيه عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «ذلك محض الايمان» إنما هو في الخواطر التي لا تثبت، وأما الشك فهو توقف بين أمرين لا مزية لأحدهما على الآخر، وذلك هو المنفي عن الخليل عليه السلام. وإحياء الموتى إنما يثبت بالسمع وقد كان إبراهيم عليه السلام أعلم به، يدلك على ذلك قوله: {رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ} فالشك يبعد على من تثبت قدمه في الايمان فقط فكيف بمرتبة النبوة والخلة، والأنبياء معصومون من الكبائر ومن الصغائر التي فيها رذيلة إجماعا. وإذا تأملت سؤاله عليه السلام وسائر ألفاظ الآية لم تعط شكا، وذلك أن الاستفهام بكيف إنما هو سؤال عن حالة شيء موجود متقرر الوجود عند السائل والمسئول، نحو قولك: كيف علم زيد؟ وكيف نسج الثوب؟ ونحو هذا. ومتى قلت: كيف ثوبك؟ وكيف زيد؟ فإنما السؤال عن حال من أحواله. وقد تكون {كيف} خبرا عن شيء شأنه أن يستفهم عنه بكيف، نحو قولك: كيف شئت فكن، ونحو قول البخاري: كيف كان بدء الوحى. و{كَيْفَ} في هذه الآية إنما هي استفهام عن هيئة الأحياء، والأحياء متقرر، ولكن لما وجدنا بعض المنكرين لوجود شيء قد يعبرون عن إنكاره بالاستفهام عن حالة لذلك الشيء يعلم أنها لا تصح، فيلزم من ذلك أن الشيء في نفسه لا يصح، مثال ذلك أن يقول مدع: أنا أرفع هذا الجبل، فيقول المكذب له: أرني كيف ترفعه! فهذه طريقة مجاز في العبارة، ومعناها تسليم جدلي، كأنه يقول: افرض أنك ترفعه، فأرني كيف ترفعه! فلما كانت عبارة الخليل عليه السلام بهذا الاشتراك المجازى، خلص الله له ذلك وحمله على أن بين له الحقيقة فقال له: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى} فكمل الامر وتخلص من كل شك، ثم علل عليه السلام سؤاله بالطمأنينة.
قلت: هذا ما ذكره ابن عطية وهو بالغ، ولا يجوز على الأنبياء صلوات الله عليهم مثل هذا الشك فإنه كفر، والأنبياء متفقون على الايمان بالبعث. وقد أخبر الله تعالى أن أنبياءه وأولياءه ليس للشيطان عليهم سبيل فقال: {إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ} وقال اللعين: إلا عبادك منهم المخلصين، وإذا لم يكن له عليهم سلطنة فكيف يشككهم، وإنما سأل أن يشاهد كيفية جمع أجزاء الموتى بعد تفريقها وإيصال الأعصاب والجلود بعد تمزيقها، فأراد أن يترقى من علم اليقين إلى علم اليقين، فقوله: {أَرِنِي كَيْفَ} طلب مشاهدة الكيفية.
وقال بعض أهل المعاني: إنما أراد إبراهيم من ربه أن يريه كيف يحيى القلوب، وهذا فاسد مردود بما تعقبه من البيان، ذكره الماوردي وليست الألف في قوله: {أَوَلَمْ تُؤْمِنْ} ألف استفهام وإنما هي ألف إيجاب وتقرير كما قال جرير:
ألستم خير من ركب المطايا

والواو واو الحال. و{تُؤْمِنْ} معناه إيمانا مطلقا، دخل فيه فضل إحياء الموتى. {قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} أي سألتك ليطمئن قلبي بحصول الفرق بين المعلوم برهانا والمعلوم عيانا. والطمأنينة: اعتدال وسكون، فطمأنينة الأعضاء معروفة، كما قال عليه السلام: «ثم اركع حتى تطمئن راكعا» الحديث. وطمأنينة القلب هي أن يسكن فكره في الشيء المعتقد. والفكر في صورة الأحياء غير محظور، كما لنا نحن اليوم أن نفكر فيها إذ هي فكر فيها عبر فأراد الخليل أن يعاين فيذهب فكره في صورة الأحياء.
وقال الطبري: معنى: {لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} ليوقن، وحكى نحو ذلك عن سعيد بن جبير، وحكى عنه ليزداد يقينا، وقاله إبراهيم وقتادة.
وقال بعضهم: لازداد إيمانا مع إيماني. قال ابن عطية: ولا زيادة في هذا المعنى تمكن إلا السكون عن الفكر وإلا فاليقين لا يتبعض.
وقال السدى وابن جبير أيضا: أولم تؤمن بأنك خليلي؟ قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي بالخلة.
وقيل: دعا أن يريه كيف يحيى الموتى ليعلم هل تستجاب دعوته، فقال الله له: أو لم تؤمن أنى أجيب دعاءك، قال: بلى ولكن ليطمئن قلبي أنك تجيب دعائي. واختلف في المحرك له على ذلك، فقيل: إن الله وعده أن يتخذه خليلا فأراد آية على ذلك، قاله السائب بن يزيد.
وقيل: قول النمروذ: أنا أحيى وأميت.
وقال الحسن: رأى جيفة نصفها في البر توزعها السباع ونصفها في البحر توزعها دواب البحر، فلما رأى تفرقها أحب أن يرى انضمامها فسأل ليطمئن قلبه برؤية كيفية الجمع كما رأى كيفية التفريق، فقيل له: {فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ} قيل: هي الديك والطاوس والحمام والغراب، ذكر ذلك ابن إسحاق عن بعض أهل العلم، وقاله مجاهد وابن جريج وعطاء بن يسار وابن زيد.
وقال ابن عباس مكان الغراب الكركي، وعنه أيضا مكان الحمام النسر. فأخذ هذه الطير حسب ما أمر وذكاها ثم قطعها قطعا صغارا، وخلط لحوم البعض إلى لحوم البعض مع الدم والريش حتى يكون أعجب، ثم جعل من ذلك المجموع المختلط جزءا على كل جبل، ووقف هو من حيث يرى تلك الاجزاء وأمسك رءوس الطير في يده، ثم قال: تعالين بإذن الله، فتطايرت تلك الاجزاء وطار الدم إلى الدم والريش إلى الريش حتى التأمت مثل ما كانت أولا وبقيت بلا رءوس، ثم كرر النداء فجاءته سعيا، أي عدوا على أرجلهن. ولا يقال للطائر: سعى إذا طار إلا على التمثيل، قاله النحاس. وكان إبراهيم إذا أشار إلى واحد منها بغير رأسه تباعد الطائر، وإذا أشار إليه برأسه قرب حتى لقى كل طائر رأسه، وطارت بإذن الله.
وقال الزجاج: المعنى ثم أجعل على كل جبل من كل واحد جزءا. وقرأ أبو بكر عن عاصم وأبو جعفر {جزوا} على فعل. وعن أبى جعفر أيضا {جزا} مشددة الزاي. الباقون مهموز مخفف، وهى لغات، ومعناه النصيب. {يَأْتِينَكَ سَعْياً} نصب على الحال. و{فَصُرْهُنَّ} معناه قطعهن، قاله ابن عباس ومجاهد وأبو عبيدة وابن الأنباري، يقال: صار الشيء يصوره أي قطعه، وقاله ابن إسحاق. وعن أبى الأسود الدؤلي: هو بالسريانية التقطيع، قال توبة بن الحمير يصفه:
فلما جذبت الحبل أطت نسوعه ** بأطراف عيدان شديد سيورها

فأدنت لي الأسباب حتى بلغتها ** بنهضي وقد كاد ارتقائي يصورها

أي يقطعها. والصور: القطع.
وقال الضحاك وعكرمة وابن عباس في بعض ما روى عنه: إنها لفظة بالنبطية معناه قطعهن.
وقيل: المعنى أملهن إليك، أي اضممهن واجمعهن إليك، يقال: رجل أصور إذا كان مائل العنق. وتقول: إنى إليكم لاصور، يعني مشتاقا مائلا. وامرأة صوراء، والجمع صور مثل أسود وسود، قال الشاعر:
الله يعلم أنا في تلفتنا ** يوم الفراق إلى جيراننا صور

فقوله: {إِلَيْكَ} على تأويل التقطيع متعلق ب {فَخُذْ} ولا حاجة إلى مضمر، وعلى تأويل الإمالة والضم متعلق ب {فَصُرْهُنَّ} وفى الكلام متروك: فأملهن إليك ثم قطعهن. وفيها خمس قراءات: اثنتان في السبع وهما ضم الصاد وكسرها وتخفيف الراء. وقرأ قوم {فصرهن} بضم الصاد وشد الراء المفتوحة، كأنه يقول فشدهن، ومنه صرة الدنانير. وقرأ قوم {فصرهن} بكسر الصاد وشد الراء المفتوحة، ومعناه صيحهن، من قولك: صر الباب والقلم إذا صوت، حكاه النقاش. قال ابن جنى: هي قراءة غريبة، وذلك أن يفعل بكسر العين في المضاعف المتعدي قليل، وإنما بابه يفعل بضم العين، كشد يشد ونحوه، ولكن قد جاء منه نم الحديث ينمه وينمه، وهر الحرب يهرها ويهرها، ومنه بيت الأعشى:
ليعتورنك القول حتى تهرّه

إلى غير ذلك في حروف قليلة. قال ابن جنى: وأما قراءة عكرمة بضم الصاد فيحتمل في الراء الضم والفتح والكسر كمد وشد والوجه ضم الراء من أجل ضمة الهاء من بعد. القراءة الخامسة {صرهن} بفتح الصاد وشد الراء مكسورة، حكاها المهدوي وغيره عن عكرمة، بمعنى فاحبسهن، من قولهم: صرى يصري إذا حبس، ومنه الشاة المصراة. وهنا اعتراض ذكره الماوردي وهو يقال: فكيف أجيب إبراهيم إلى آيات الآخرة دون موسى في قوله: {رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ}؟ فعنه جوابان: أحدهما أن ما سأله موسى لا يصح مع بقاء التكليف، وما سأله إبراهيم خاص يصح معه بقاء التكليف.
الثاني أن الأحوال تختلف فيكون الأصلح في بعض الأوقات الإجابة، وفى وقت آخر المنع فيما لم يتقدم فيه إذن.
وقال ابن عباس: أمر الله تعالى إبراهيم بهذا قبل أن يولد له وقبل أن ينزل عليه الصحف، والله أعلم.

.تفسير الآية رقم (261):

{مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261)}
فيه خمس مسائل:
الأولى: لما قص الله سبحانه ما فيه من البراهين، حث على الجهاد، وأعلم أن من جاهد بعد هذا البرهان الذي لا يأتي به إلا نبى فله في جهاده الثواب العظيم. ورى البستي في صحيح مسنده عن ابن عمر قال: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رب زد أمتي» فنزلت {مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً} قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «رب زد أمتي» فنزلت {إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ}. وهذه الآية لفظها بيان مثال لشرف النفقة في سبيل الله ولحسنها، وضمنها التحريض على ذلك. وفى الكلام حذف مضاف تقديره مثل نفقة الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة. وطريق آخر: مثل الذين ينفقون أموالهم كمثل زارع زرع في الأرض حبة فأنبتت الحبة سبع سنابل، يعني أخرجت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة، فشبه المتصدق بالزارع وشبه الصدقة بالبذر فيعطيه الله بكل صدقة له سبعمائة حسنة، ثم قال تعالى: {وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ} يعني على سبعمائة، فيكون مثل المتصدق مثل الزارع، إن كان حاذقا في عمله، ويكون البذر جيدا وتكون الأرض عامرة يكون الزرع أكثر، فكذلك المتصدق إذا كان صالحا والمال طيبا ويضعه موضعه فيصير الثواب أكثر، خلافا لمن قال: ليس في الآية تضعيف على سبعمائة، على ما نبينه إن شاء الله.
الثانية: روى أن هذه الآية نزلت في شأن عثمان بن عفان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله عنهما، وذلك أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما حث الناس على الصدقة حين أراد الخروج إلى غزوة تبوك جاءه عبد الرحمن بأربعة آلاف فقال: يا رسول الله، كانت لي ثمانية آلاف فأمسكت لنفسي ولعيالي أربعة آلاف، وأربعة آلاف أقرضتها لربي. فقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «بارك الله لك فيما أمسكت وفيما أعطيت».
وقال عثمان: يا رسول الله على جهاز من لا جهاز له، فنزلت هذه الآية فيهما.
وقيل: نزلت في نفقة التطوع.
وقيل: نزلت قبل آية الزكاة ثم نسخت بآية الزكاة، ولا حاجة إلى دعوى النسخ، لأن الإنفاق في سبيل الله مندوب إليه في كل وقت. وسبل الله كثيرة وأعظمها الجهاد لتكون كلمة الله هي العليا.
الثالثة: قوله تعالى: {كَمَثَلِ حَبَّةٍ} الحبة اسم جنس لكل ما يزدرعه ابن آدم ويقتاته، وأشهر ذلك البر فكثيرا ما يراد بالحب، ومنه قول المتلمس:
آليت حب العراق الدهر أطعمه ** والحب يأكله في القرية السوس

وحبة القلب: سويداؤه، ويقال ثمرته وهو ذاك. والحبة بكسر الحاء: بذور البقول مما ليس بقوت، وفي حديث الشفاعة: «فينبتون كما تنبت الحبة في حميل السيل» والجمع حبب. والحبة بضم الحاء الحب، يقال: نعم وحبة وكرامة. والحب المحبة، وكذلك الحب بالكسر. والحب أيضا الحبيب، مثل خدن وخدين وسنبلة فنعلة من أسبل الزرع إذا صار فيه السنبل، أي استرسل بالسنبل كما يسترسل الستر بالاسبال.
وقيل: معناه صار فيه حب مستور كما يستر الشيء بإسبال الستر عليه. والجمع سنابل. ثم قيل: المراد سنبل الدخن فهو الذي يكون في السنبلة منه هذا العدد.
قلت: هذا ليس بشيء فإن سنبل الدخن يجئ في السنبلة منه أكثر من هذا العدد بضعفين وأكثر، على ما شاهدناه. قال ابن عطية: وقد يوجد في سنبل القمح ما فيه مائة حبة، فأما في سائر الحبوب فأكثر ولكن المثال وقع بهذا القدر.
وقال الطبري في هذه الآية: إن قوله: {فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} معناه إن وجد ذلك، وإلا فعلى أن يفرضه، ثم نقل عن الضحاك أنه قال: {فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ} معناه كل سنبلة أنبتت مائة حبة. قال ابن عطية: فجعل الطبري قول الضحاك نحو ما قال، وذلك غير لازم من قول الضحاك.
وقال أبو عمرو الداني: وقرأ بعضهم {مائة} بالنصب على تقدير أنبتت مائة حبة.
قلت: وقال يعقوب الحضرمي: وقرأ بعضهم {في كل سنبلة مائة حبة} على: أنبتت مائة حبة، وكذلك قرأ بعضهم {وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ} على {وَأَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ} وأعتدنا للذين كفروا عذاب جهنم. وقرأ أبو عمرو وحمزة والكسائي {أنبتت سبع سنابل} بإدغام التاء في السين، لأنهما مهموستان، ألا ترى أنهما يتعاقبان. وأنشد أبو عمرو:
يا لعن الله بنى السعلاة ** عمرو بن ميمون لئام النات

أراد الناس فحول السين تاء. الباقون بالإظهار على الأصل لأنهما كلمتان.
الرابعة: ورد القرآن بأن الحسنة في جميع أعمال البر بعشر أمثالها، واقتضت هذه الآية أن نفقة الجهاد حسنتها بسبعمائة ضعف. واختلف العلماء في معنى قوله: {وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ} فقالت طائفة: هي مبينة مؤكدة لما تقدم من ذكر السبعمائة، وليس ثم تضعيف فوق السبعمائة. وقالت طائفة من العلماء: بل هو إعلام بأن الله تعالى يضاعف لمن يشاء أكثر من سبعمائة ضعف.
قلت: وهذا القول أصح لحديث ابن عمر المذكور أول الآية.
وروى ابن ماجه حدثنا هارون بن عبد الله الحمال حدثنا ابن أبى فديك عن الخليل بن عبد الله عن الحسن عن علي بن أبى طالب وأبى الدرداء وعبد الله بن عمرو وأبى أمامة الباهلي وعبد الله بن عمرو وجابر بن عبد الله وعمران بن حصين كلهم يحدث عن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم- ثم تلا هذه الآية- والله يضاعف لمن يشاء الله». وقد روى عن ابن عباس أن التضعيف ينتهى لمن شاء الله إلى ألفى ألف. قال ابن عطية: وليس هذا بثابت الاسناد عنه.
الخامسة: في هذه الآية دليل على أن اتخاذ الزرع من أعلى الحرف التي يتخذها الناس والمكاسب التي يشتغل بها العمال، ولذلك ضرب الله به المثل فقال: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ} الآية. وفى صحيح مسلم عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له صدقة».
وروى هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة قالت قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم: «التمسوا الرزق في خبايا الأرض» يعني الزرع، أخرجه الترمذي.
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في النخل: «هي الراسخات في الوحل المطعمات في المحل». وهذا خرج مخرج المدح. والزراعة من فروض الكفاية فيجب على الامام أن يجبر الناس عليها وما كان في معناها من غرس الأشجار. ولقى عبد الله بن عبد الملك ابن شهاب الزهري فقال: دلني على مال أعالجه، فأنشأ ابن شهاب يقول:
أقول لعبد الله يوم لقيته ** وقد شد أحلاس المطي مشرقا

تتبع خبايا الأرض وادع مليكها ** لعلك يوما أن تجاب فترزقا

فيؤتيك مالا واسعا ذا مثابة ** إذا ما مياه الأرض غارت تدفقا

وحكى عن المعتضد أنه قال: رأيت علي بن أبى طالب رضي الله عنه في المنام يناولني مسحاة وقال: خذها فإنها مفاتيح خزائن الأرض.