فصل: تفسير الآية رقم (10):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآية رقم (10):

{دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)}
وقوله سبحانه: {دعواهم}: أي: دعاؤهم فيها و{سبحانك اللهم}: تَقْدِيسٌ وتسبيحٌ وتنزيهٌ لجلاله سبحانه عن كلِّ ما لا يليق به، وقال علي بن أبي طالب في ذلك: هي كلماتٌ رَضِيَهَا اللَّه تعالى لنفْسه، وقال طلحة بن عبيد اللَّه: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه؛ مَا مَعْنَى سُبْحَانَ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «مَعْنَاهَا: تَنْزِيهاً للَّهِ مِنَ السُّوءِ»، وَحُكِيَ عن بعض المفسِّرين أَنهم رَوَوْا أَنَّ هذه الكلمةَ إِنَّما يقولها المؤمنُ عِنْدَ ما يشتهي الطَّعَام، فإِنه إِذا رأَى طائِراً أَو غير ذلك، قال: {سبحانك اللهم}، فنزلتْ تلك الإِرادة بَيْنَ يديه فَوْقَ ما اشتهى. رواه ابنُ جُرَيْج وسفيانُ بن عُيَيْنة، وعبارة الداووديِّ عن ابنِ جُرَيْج: {دَعْواهُمْ فيها}: قال: إِذا مَرَّ بهم الطائرُ يَشْتَهُونه، كان دعواهم به {سبحانك اللهم}، فيأكلون منه ما يَشْتَهُونَ، ثم يطيرُ، وإِذا جاءتهم الملائكةُ بما يَشْتَهُونَ، سَلَّمُوا عَلَيْهم، فذلك قولُهُ: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ}، وإِذا أَكلوا حاجتهم، قالوا: {الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين}، فذلك قوله: {وَآخِرُ دعواهم أَنِ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين}.
وقوله سبحانه: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ}: يريدُ تسليمَ بعضهم على بعض، والتحيَّة: مأخوذة مِنْ تَمَنِّي الحياةِ للإِنسان والدُّعاءِ بها، يقالُ: حَيَّاهُ ويُحيِّيه؛ ومنه قَوْلُ زُهَيْرِ بن جنَابٍ: [الكامل]
مِنْ كُلِّ مَا نَالَ الفَتَى ** قَدْ نِلْتُهُ إِلاَّ التَّحِيَّهْ

يريد: دعاء الناس للمُلُوكِ بالحياةِ، وقال بعضُ العلماء: {وَتَحِيَّتُهُمْ} يريد: تسليم اللَّه تعالَى عليهم، والسَّلام: مأخوذً من السَّلامة، {وَآخِرُ دعواهم}: أي: خاتمةُ دعائهِم وكلامِهِمْ في كلِّ موطِنٍ حَمْدُ اللَّه وشُكْرُهُ، عَلَى ما أسبغ عليهم من نعمه، وقال ابن العربيِّ في أحكامه. في تفسير هذه الآية قولان:
الأول: أَنَّ المَلَكَ يأتيهم بما يشتهون، فيقول: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ، أي: سَلِمْتُم، فَيَرُدُّون عليه، فإِذا أكلوا، قالوا: {الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين}.
الثاني: أنَّ معنى {تَحِيَّتُهُمْ}: أي: تحيَّة بعضهم بعضاً، فقد ثبت في الخبر: «أن اللَّه تعالى خلق آدَمَ، ثم قَالَ لَهُ: اذْهَبْ إِلى أُولَئِكَ النَّفَر مِنَ المَلاَئِكَةِ فَسَلِّمْ عَلَيْهِمْ، فَجَاءَهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ: سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ، فَقَالُوا لَهُ: وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ: هَذِهِ تَحِيَّتُكَ، وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتَكَ مِنْ بَعْدِكَ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ»، وبَيَّنَ في القرآن هاهنا أنها تحيتهم في الجنَّة، فهي تحيَّة موضوعةٌ من أول الخلقة إلى غير نهاية، وقد رَوَى ابنُ القاسِمُ، عن مالكٍ في قوله تعالى: {وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ} أي: هذا السَّلام الذي بين أظهركم، وهذا أظهر الأقوال، واللَّه أعلم. انتهى.
وقرأ الجمهور: {أَنِ الحَمْدُ لِلَّهِ}، وهي عند سَيْبَوَيْهِ {أن} المخفَّفَةُ من الثقيلة؛ قال أبو الفتح: فهي بمنزلة قول الأعْشَى: [البسيط]
فِي فِتْيَةٍ كَسُيُوفِ الهِنْدِ قَدْ عَلِمُوا ** أَنْ هَالِكٌ كُلُّ مَنْ يَحْفَى وَيَنْتَعِلُ

.تفسير الآيات (11- 14):

{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)}
وقوله سبحانه: {وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ...} الآية: هذه الآيةُ نزلَت، في دعاء الرَّجُل على نَفْسه أو ولده، أو ماله، فأخبر سبحانه أنَّه لو فعل مع النَّاس في إِجابته إِلى المَكْروه مثْلَ ما يريدُ فعله معهم في إِجابته إِلى الخَيْر، لأهلكهم، وحُذِفَ بعد ذلك جملة يتضمَّنها الظاهرُ، تقديرها: فلا يفعلْ ذلك، ولكنْ يَذَرُ {الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا...} الآية، وقيل: إِن هذه الآية نزلَتْ في قولهم: {إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السماء} [الأنفال: 32]، وقيل: نَزَلَتْ في قولهم: {فأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا} [هود: 32]، وما جرى مجراه، والعَمَهُ: الخبط في ضلال.
وقوله سبحانه: {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ...} الآية: هذه الآية أيضاً عتاب على سوء الخُلُقِ من بعض الناس، ومضمَّنه النهْيُ عن مثل هذا، والأَمرُ بالتسليم إِلى اللَّه والضَّراعة إِليه في كلِّ حال، والعلْمُ بأنَّ الخير والشر منه، لا رَبَّ غيره، وقوله: {لِجَنبِهِ}، في موضع الحال؛ كأنه قال: مُضْطَجِعاً، والضُّرُّ عامٌ لجميع الأمراض والرزايا.
وقوله: {مَرَّ} يقتضي أن نزولها في الكفَّار، ثم هي بعد تتناوَلُ كلَّ من دَخَلَ تحْتَ معناها مِنْ كافرٍ وعاصٍ.
وقوله سبحانه: {وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا القرون مِن قَبْلِكُمْ...} الآية: آيةُ وعيدٍ للكفَّار، وضرْبِ أمثالٍ لهم، و{خلائف}: جمع خليفة.
وقوله: {لِنَنظُرَ}: معناه: لنبيِّن في الوجود ما عَلِمْناه أزلاً، لكنْ جرى القول على طريق الإِيجاز والفصاحةِ والمجازِ، وقال عمر رضي اللَّه عنه: إِنَّ اللَّه تعالَى إِنما جَعَلَنَا خلفاءَ؛ لينظر كَيْفَ عَمَلُنَا؛ فَأَرُوا اللَّه حُسْنَ أَعمالكم في السر والعلانية.

.تفسير الآيات (15- 18):

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)}
وقوله سبحانه: {وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آياتنا بَيِّنَاتٍ قَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَاءَنَا} يعني: بعْضَ كفار قريش: {ائت بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ}، ثم أمر سبحانه نبيه أَنْ يردَّ عليهم بالحق الواضح، فقال: {قُل لَّوْ شَاءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ} ولا أعلمكم به، و{أدراكم} بمعنى: أعلمكم، تقول: دَرَيْتُ بالأَمْرِ، وأَدْرَيْتُ بِهِ غيري، ثم قال: {فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ} يعني: الأربعين سنةً قبل بعثته عليه السلام، أي: فلم تجرِّبوني في كَذِبٍ، ولا تكلَّمتُ في شيءٍ مِنْ هذا {أَفَلاَ تَعْقِلُونَ}؛ أنَّ من كان على هذه الصفة لا يصحُّ منه كذب بعد أَنْ ولَّى عمره، وتقاصَرَ أملُهُ، واشتدَّت حِنْكَته وخوفُه لربِّه.
وقوله: {فَمَنْ أَظْلَمُ}: استفهام وتقريرٌ، أي: لا أحد أظلم ممَّن افترى على اللَّه كذباً، أو ممَّن كذَّب بآياته؛ بَعْد بيانها، والضمير في {يَعْبُدُونَ} لكفَّار قريش، وقولهم: {هَؤُلاءِ شفعاؤنا عِندَ الله}: هذا قول النبلاء منهم، ثم أمر سبحانه نبيَّه أن يقرِّرهم ويوبِّخهم بقوله: {أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السموات وَلاَ فِي الأرض}، وذكر السموات؛ لأن من العرب من يعبد الملائكَةَ والشِّعْرَى، وبحسب هذا حَسُنَ أن يقول: {هَؤُلاءِ شفعاؤنا}، وقيل: ذلك على تجوُّز في الأصنام التي لا تَعْقِلُ.

.تفسير الآيات (19- 21):

{وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)}
وقوله سبحانه: {وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا} قالت فرقة: المراد آدم كان أُمة وحده، ثم اختلف الناس بعده، وقالت فرقة: المراد آدم وبنوه مِنْ لدن نزوله إلى قتل أحد ابنيه الآخَرَ، ويحتمل أن يريد: كان الناس صِنْفاً واحداً بالفِطْرة معدًّا للاهتداء، وقد تقدَّم الكلام علَى هذا في قوله سبحانه: {كَانَ الناس أُمَّةً واحدة} [البقرة: 213].
وقوله سبحانه: {وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ} يريد: قضاءه وتقديره لبني آدم بالآجال المؤقَّتة، ويحتمل أنْ يريد: الكَلِمَةَ في أمر القيامة، وأنَّ العقابَ والثوابَ إِنما يكونُ حينئذٍ.
وقوله: {فَقُلْ إِنَّمَا الغيب لِلَّهِ} أي: إِنْ شاء فَعَلَ، وإِن شاء لَمْ يَفْعَلْ.
وقوله: {فانتظروا}: وعيدٌ.
وقوله سبحانه: {وَإِذَا أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ...} الآية: هذه الآية في الكفَّار، وهي بعْدُ تتناول من العُصَاةِ مَنْ لا يؤدي شكر اللَّه عند زوال المَكْروه عنه، ولا يرتدعُ بذلك عن معاصيه، وذلك في الناس كثيرٌ، والرحمة هنا بعد الضرَّاء؛ كالمطر بعد القَحْط، والأمن بعد الخَوْف ونحو هذا ممَّا لا ينحصر، والمَكْر: الاستهزاء والطَّعْن عليها مِن الكُفَّار واطراح الشكر والخوف من العصاة.
وقال أبو عليٍّ: {أَسْرَعُ} من سَرُعَ لا من أَسْرَعَ يُسْرِعُ، إِذ لو كان من أَسْرَعَ، لكان شاذًّا.
قال * ع * وفي الحديث في نار جهنم: «لَهِيَ أَسْوَدُ مِنَ القَارِ» وما حفظ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، فليس بشَاذٍ. * ص *: وَرُدَّ بأَنْ أَسْوَدُ مِنْ فَعِلَ لا من افعل: تقولُ: سَوِدَ فَهُوَ أَسْوَدُ، وإِنما امتنع من سَوِدَ ونحوِه عِنْد البَصْرِيِّين؛ لأنه لَوْنٌ. انتهى.

.تفسير الآيات (22- 25):

{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)}
وقوله سبحانه: {هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر...} الآية: تعديدُ نِعَمٍ منه سبحانه على عباده.
وقوله سبحانه: {دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين}: أي: نسوا الأصنام والشركاء، وأفردوا الدعاء للَّه سبحانه، وذكَر الطبريُّ في ذلك، عَنْ بعض العلماء حكايةَ قَوْلِ العَجَمِ: هيا شرا هيا، ومعناه: يا حَيُّ يَا قَيُّومُ، و{يَبْغُونَ}: معناه: يُفسدون.
وقوله: {مَّتَاعَ الحياة الدنيا} متاع: خبر مبتدأ محذوفٍ، تقديره هو متاع، أو ذلك مَتَاعٌ، ومعنى الآية: إِنما بغيكم وإِفسادكم مُضِرٌّ لكم، وهو في حالة الدنيا، ثم تَلْقَوْنَ عقابه في الآخرة، قال سفيان بن عُيَيْنة: إِنما بغيكم علَى أنفسِكُمْ متاع الحياة الدنيا: أي تُعَجَّلُ لكم عقوبته؛ وعلى هذا قالوا: البَغْيُ يَصْرَعُ أهله.
قال * ع *: وقالوا: البَاغِي مصروعٌ: قال تعالى: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنصُرَنَّهُ الله} [الحج: 60]، وقال النبيُّ عليه السلام: «ما ذَنْبٌ أَسْرَعُ عُقُوبَةً مِنْ بَغْيٍ». وقوله سبحانه: {إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا} أي: تفاخُرُ الحياة الدنيا وزينَتُها بالمَالِ والبَنِينَ، إِذ مصيرُ ذلك إِلى الفَناءِ؛ كمطرٍ نَزَلَ من السماءِ، {فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض}، أي: اختلط النباتُ بعْضُهُ ببعض بسَبَبِ الماء، ولفظ البخاريِّ: قال ابن عباس: {فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض}: فنبت بالماء مِنْ كلِّ لونٍ انتهى. و{أَخَذَتِ الأرض} لَفْظَةٌ كثُرت في مثل هذا، كقوله: {خُذُواْ زِينَتَكُمْ} [الأعراف: 31] والزُّخْرُف: التزيينُ بالألوان، وقرأ ابن مسعود وغيره: {وتَزَيَّنَتْ} وهذه أصل قراءة الجمهور.
وقوله: {وَظَنَّ أَهْلُهَا}: على بابها، وهذا الكلامُ فيه تشبيهُ جملة أمْرِ الحياة الدنيا بهذه الجُمْلَةَ الموصُوفَة أحوالُهَا، و{حتى} غايةٌ، وهي حرفُ ابتداء؛ لدخولها على إِذا، ومعناهما متَّصِلٌ إِلى قوله: {قَادِرُونَ عَلَيْهَا}، ومن بعد ذلك بدأ الجوابُ، والأمْرُ الآتي: واحدُ الأمور؛ كالرِّيحِ، والصِّرِّ والسَّمُومِ، ونحوِ ذلك، وتقسيمُهُ {لَيْلاً أَوْ نَهَارًا}، تنبيهٌ على الخَوْف وارتفاع الأمْنِ في كلِّ وقت، و{حَصِيداً}، بمعنى محصوداً، أي: تالفاً مستهلكاً، {كَأَن لَّمْ تَغْنَ}: أي: لم تنضر، ولم تنعم، ولم تعمر بغَضَارتها، ومعنى الآية: التحذير من الاغترار بالدنيا؛ إِذ هي معرَّضة للتلف؛ كنبات هذه الأرض وخَصَّ المتفكِّرين بالذكْر؛ تشريفاً للمنزلة؛ وليقَعَ التسابُقُ إِلى هذه الرتبة.
{والله يَدْعُواْ إِلَى دَارِ السلام...} الآية: نصٌّ أن الدعاء إِلى الشرْع عامٌّ في كل بَشَرٍ، والهداية التي هي الإِرشادُ مختصَّةٌ بمَنْ قدِّر إِيمانه، و{السلام}؛ هنا: قيل: هو اسم من أسماء اللَّه تعالى، والمعنَى: يدعو إِلى داره التي هي الجنَّة، وقيل: {السلام} بمعنى السَّلامة.

.تفسير الآيات (26- 31):

{لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31)}
وقوله سبحانه: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ}: قال الجمهور: {الحسنى}: الجنةُ، وال {زِيَادَةٌ}: النَّظَر إِلَى وجهِ اللَّه عزَّ وجلَّ؛ وفي صحيح مسلمٍ من حديثِ صُهَيْبٍ: «فَيَكْشِفُ الحِجَابَ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئاً أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ»، وفي رواية: ثُمَّ تَلاَ هَذِهِ الآيَةِ: {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ} وأخرج هذه الزيادةَ النَّسَائِيُّ عن صُهَيْبٍ، وأَخْرَجَهَا عن صُهَيْبٍ أَيضاً أَبو دَاوُدَ الطَّيَالِسي انتهى. من التذكرة.
وقوله سبحانه: {وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ...} الآية. و{يَرْهَقُ} معناه: يَغْشَى مع غلبةٍ وتضييقٍ، وال {قَتَرٌ}: الغُبَار المُسْوَدُّ.
وقوله سبحانه: {والذين كَسَبُواْ السيئات جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا} قالت فِرْقَةٌ: التقديرُ لهم جزاءُ سيئةٍ بمثلها، وقالت فرقة: التقديرِ جزاءُ سيِّئة مثلها، والباء زائدةٌ، وتعم السيئاتُ هاهنا الكُفْرَ والمعاصِيَ، وال {عَاصِمٍ}: المنجِّي والمُجير، و{أُغْشِيَتْ}: كُسَيَتْ، والقَطْع: جمع قِطْعة، وقرأ ابن كثيرٍ والكِسَائِيُّ: {قَطْعاً مِنَ اللَّيْلِ}- بسكون الطاء-، وهو الجُزْء من الليل، والمراد: الجُزْء من سواده، وباقي الآية بيِّن.
و{مَكَانَكُمْ}: اسم فعلِ الأَمْرِ، ومعناه: قِفُوا واسكنوا، * ت *: قال * ص *: وقدِّر ب اثبتوا وأما من قدَّره ب الزموا مكانَكُمْ، فمردودٌ، لأن الزموا متعدٍّ، و{مَكَانَكُمْ}: لا يتعدَّى، فلا يقدَّر به، وإلا لكان متعدياً، واسم الفعل عَلَى حَسَب الفعلِ إِنْ متعدياً فمتعدٍّ، وإِنْ لازماً فلازِمٌ، ثم اعتذر بأنه يمكن أن يكون تقديره ب الزموا تقديرَ معنًى، لا تقديرَ إِعرابٍ، فلا اعتراض، انتهى.
قال * ع *: فأخبر سبحانَهُ عن حالةٍ تكُونُ لعبدة الأوثانِ يوم القيامة يُؤْمَرُوْنَ بالإِقامة في موقف الخِزْيِ مع أصنامهم، ثم يُنْطِقُ اللَّه شركاءهم بالتبريِّ منهم.
وقوله: {فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ}: معناه: فرَّقنا في الحُجَّةِ، والمذهب روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أَنَّ الكُفَّار، إِذَا رَأَوا العَذَابَ، وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ، قِيلَ لَهُمُ: اتَّبِعُوا مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ، فَيَقُولُونَ: كُنَّا نَعْبُدُ هَؤُلاَءِ، فَتَقُولُ الأَصْنَامُ: وَاللَّهِ، مَا كُنَّا نَسْمَعُ، وَلاَ نَعْقِلُ، وَمَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تعْبُدُونَ، فَيَقُولُونَ: واللَّهِ، لإِيَّاكُمْ كُنَّا نَعْبُد، فَتَقُولُ الآلِهَةُ: {فكفى بالله شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ...} الآية، وظاهر الآية أنَّ محاورتهم إِنما هي مَعَ الأصنام دون المَلاَئِكَةِ وَعِيسَى؛ بدليل القوْلِ لهم: {مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ}، ودون فِرْعَونَ ومَنْ عُبِدَ من الجنِّ؛ بدليل قولهم: {إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لغافلين}، و{إنْ} هذه عند سيبَوَيْه المخَفَّفَةُ من الثقيلة موجبَةٌ، ولزمتها اللام، فرقاً بينها وبين إِنِ النافيةِ، وعندَ الفَرَّاء: إِنْ نافيةٌ بمعنَى مَا، واللامُ بمعنى إِلاَّ، وقرأ نافعٌ وغيره: {تَبْلُوا}- بالباء الموحَّدة-؛ بمعنى: تختبر، وقرأ حمزة والكسائي: {تَتْلُوا}- بتاءين-؛ بمعنى تَتْبَعُ وتطلب ما أَسْلَفَتْ من أعمالها * ت *: قال * ص *: كقوله: [الرجز]
إِنَّ المُرِيبَ يَتْبَعُ المُرِيبَا ** كَمَا رَأَيْتَ الذِّيَبِ يَتْلُو الذِّيَبَا

أي: يتبعه. انتهى. ويصحُّ أَن يكون بمعنى تَقْرَأُ كُتُبَهَا التي تُدْفَع إِليها.
وقوله: {وَمَن يُدَبِّرُ الأمر...} الآية: تدبيرُ الأمْرِ عامٌّ في جميع الأشياءِ، وذلك استقامة الأمور كلِّها على إِرادته عزَّ وجلَّ، وليس تدبيره سبحانه بفكْرٍ ورويَّةٍ وتغييراتٍ- تعالَى عن ذلك- بل علمه سبحانه محيطٌ كاملٌ دائمٌ.
{فَسَيَقُولُونَ الله}: أي: لا مَنْدُوحَةَ لهم عن ذلك، ولا تُمْكِنهم المباهَتَةُ بسواه، فإِذا أقرُّوا بذلك، {فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} في افترائكم، وجَعْلِكم الأصنام آلهة.