فصل: تفسير الآيات (32- 33):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (32- 33):

{فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)}
وقوله: {فذلكم الله رَبُّكُمُ...} الآية: يقول: فهذا الذي هذه صفاته ربُّكم الحَقُّ، أي: المستوجِبُ للعبادةِ والألوهيَّة، وإِذا كان كذلك، فتشريكُ غيره ضَلاَلٌ وغيرُ حقٍّ.
قال * ع *: وعبارة القُرآن في سوق هذه المَعاني تفُوتُ كلَّ تفسيرٍ براعةً وإِيجازاً ووضوحاً، وحَكَمَتْ هذه الآيةُ بأنه ليس بَيْنَ الحَقِّ والضلال منزلةٌ ثالثةٌ في هذه المسألة التي هي توحيدُ اللَّه تعالَى، وكذلك هو الأمر في نظائرها مِنْ مسائل الأصول التي الحَقُّ فيها في طَرَفٍ واحدٍ؛ لأن الكلام فيها إِنما في تقرير وجودِ ذاتٍ كَيْفَ هِيَ، وذلك بخلافِ مسائِلِ الفُرُوع التي قال اللَّه تعالَى فيها: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا} [المائدة: 48].
وقوله: {فأنى تُصْرَفُونَ}: تقرير؛ كما قال: {فَأيْنَ تَذْهَبُونَ} [التكوير: 26] ثم قال: {كذلك حَقَّتْ} أي: كما كانَتْ صفاتُ اللَّه كما وَصَفَ، وعبادته واجبة كما تقرَّر، وانصراف هؤلاء كما قَدَّرَ عليهم، {كذلك حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ...} الآية، وقرأ أبو عَمْرٍو وغيره: {كَلِمَةُ}؛ على الإِفراد الذي يُرَادُ به الجَمْع؛ كما يقال للقصيدة {كَلِمَةٌ} فَعَبَّر عن وعيدِ اللَّه تعالى ب {كَلِمَة}.

.تفسير الآيات (34- 36):

{قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمْ مَنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)}
وقوله سبحانه: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ...} الآية توقيفٌ على قصور الأصنامِ وعَجْزِها، وتنبيهٌ على قدرة اللَّه عزَّ وجلَّ، و{تُؤْفَكُونَ}: معناه: تُصْرَفُونَ وتُحْرَمُونَ، وأرضٌ مَأْفُوكَةٌ؛ إِذا لم يُصِبْها مَطَرٌ، فهي بمعنى الخَيْبَةِ.
وقوله تعالى: {قُلْ هَلْ مِن شُرَكَائِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الحق}: أي: يبيِّن طرق الصواب، ثم وصف الأصنام بأنها لا تَهْدِي إِلا أنْ تُهْدَى.
وقوله: {إِلاَّ أَن يهدى}: فيه تَجوُّز، لأنا نجدها لا تُهْدَى وإِنْ هُدِيَتْ، وقال بعضهم: هي عبارة عن أنها لا تنتقلُ إِلا أنْ تُنْقَلَ، ويحتمل أنْ يكون ما ذَكَرَ اللَّه مِنْ تسبيح الجمادَاتِ هو اهتداؤها، وقرأ نافع وأبو عمرو: {يَهْدِّي}- بسكون الهاء، وتشديد الدَّال-، وقرأ ابن كثير وابنُ عامر: يَهَدِّي- بفتح الياء والهاء، وتشديد الدَّال- وهذه رواية وَرْشٍ عن نافعٍ، وقرأ حمزة والكسائي: {يَهْدِي}- بفتح الياءِ، وسكون الهاء- ومعنى هذه القراءة: أَمَّنْ لا يَهْدِي أَحداً إِلا أَن يُهْدى ذلك الأَحْدُ، ووقف القُرَّاء: {فَمَا لَكُمْ}، ثم يبدأ: {كَيْفَ تَحْكُمُونَ}.
وقوله سبحانه: {وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا...} الآية: أخبر اللَّه سبحانه عن فساد طريقتهم، وضَعْفِ نَظَرِهم، وأنه ظَنٌّ، ثم بيَّن منزلة الظنِّ من المعارف، وبُعْدَهُ عن الحقِّ.

.تفسير الآيات (37- 40):

{وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآَنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)}
وقوله سبحانه: {وَمَا كَانَ هذا القرآن أَن يفترى مِن دُونِ الله ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ}: هذا ردٌّ لقول من يقول: إِنَّ محمداً يَفْتَرِي القرآن، و{الذي بَيْنَ يَدَيْهِ}: التوراةُ والإِنجيل، وهم يقطعون أنَّه لم يطالِعْ تلك الكُتُب، ولا هي في بَلَدِهِ، ولا في قومه، و{وَتَفْصِيلَ الكتاب} هو تبيينه.
وقوله: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه...} الاية: {أم} هذه ليست بالمعادلة لهمزة الاستفهام، في قوله: أزيْدٌ قام أمْ عمرو؟ ومذهَبُ سِيبَوَيْهِ: أنها بمنزلة {بَلْ} ثم عجَّزهم سبحانه بقوله: {قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وادعوا مَنِ استطعتم...} الآية: والتحدِّي في هذه الآية عند الجُمْهُور وقَعَ بجهتَي الإِعجاز اللَّتَيْنِ في القرآنِ:
إِحْداهما: النَّظْم والرَّصْف والإِيجازُ وَالجَزَالَة، كلُّ ذلك في التعريف.
والأُخرَى: المعاني مِنَ الغَيْبِ لِمَا مَضَى، ولما يُسْتَقْبَلُ.
وحين تحدَّاهم ب عَشْرٍ مفترياتٍ إِنما تحدَّاهم بالنَّظْم وحْده، ثم قال * ع *: هذا قول جماعة المتكلِّمين، ثم اختار أنَّ الإِعجاز في الآيتين إِنما وقع في النَّظْمِ لا في الإِخبارِ بالغُيُوبِ.
* ت *: والصوابُ ما تَقَدَّم للجمهور، وإليه رَجَعَ في سورة هود وأوجُهُ إِعجاز القرآن أَكْثَرُ من هذا وانظر الشِّفَا.
وقوله: {مَنِ استطعتم}: إِحالةٌ على شركائهم.
وقوله سبحانه: {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ...} الآية: المعنى: ليس الأمر كما قالوا مِنْ أنه مفترًى، {بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ}، أي: تفسيره، وبيانُهُ، ويحتمل أنْ يريد بما لم يأتهم تأويله، أي: ما يؤول إليه أمره؛ كما هو في قوله: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} [الأعراف: 53] وعَلَى هذا، فالآيةُ تتضمَّن وعيداً، و{الذين مِن قَبْلِهِمْ}: مَنْ سلف من أمم الأنبياء.
وقوله سبحانه: {وَمِنهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ...} الآية: أيْ: ومِنْ قريشٍ مَنْ يؤمن بهذا الرسُولِ، ولهذا الكلام معنيان:
قالتْ فرقة: معناه: مِنْ هؤلاء القومِ مَنْ سيؤمن في المستقبل، ومِنْهُم من حَتَمَ اللَّه عَلَيْهِ أنَّه لا يؤمن به أبداً.
وقالتْ فرقة: معناه: ومنهم مَنْ يؤمن بهذا الرسُولِ إِلاَّ أنَّه يَكْتُم إِيمانه حفْظاً لرئاسته، أو خوفاً مِنْ قومه، كالفِتْية الذين قُتِلُوا مع الكُفَّار بِبَدْرٍ.
قال * ع *: وفائدة الآية على هذا التأويل: التفريقُ لكلمة الكُفَّار، وإِضعافُ نفوسهم، وفي قوله: {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين} تهديدٌ ووعيدٌ.

.تفسير الآيات (41- 45):

{وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)}
وقوله سبحانه: {وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّى عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ} الآية فيها منابذةٌ ومتارَكَةٌ، قال كثير من المفسِّرين، منهم ابن زيد: هذه الآية منسوخةٌ بالقتال، وباقي الآية بيِّن.
وقوله سبحانه: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ...} الآية: وعيدٌ بالحشر وخِزْيِهِم فيه، وتعارُفُهُمْ على جهة التلاؤمِ والخزْيِ من بَعْضِهِم لبعضٍ، حيث لا ينفع ذلك.
وقوله سبحانه: {قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَاءِ الله...} إلى آخرها: حُكْمٌ من اللَّه عزَّ وجلَّ على المكذِّبين بالخُسْران، وفي اللفظ إِغلاظٌ، وقيل: إِن هذا الكلام من كلام المحشُورِينَ، عَلى جهة التوبيخ لأَنْفُسِهم.
* ت *: والأول أبْيَنُ.

.تفسير الآيات (46- 47):

{وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)}
وقوله: {وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ...} الآية: {إما} شرطٌ، وجوابه: {فَإِلَيْنَا}، والرؤية في {نُرِيَنَّكَ} بصريةٌ، ومعنى هذه الآية: الوعيدُ بالرجوعِ إلى اللَّه تعالى، أي: إِنْ أَرَيْنَاكَ عقوبتهم، أو لم نُرِكَهَا، فهم عَلى كلِّ حال راجعُونَ إِلينا إلى الحسَابِ والعذابِ، ثم مع ذلك، فاللَّهُ شَهيدٌ من أوَّل تكليفهم عَلى جميعِ أَعمالهم، وَ{ثُمَّ} لترتيب الأَخبار لا لترتيب القصص في أنفسها، وإِما هي إِنْ، زيدَتْ عليها ما، ولأجلها جازَ دخُولُ النون الثقيلة، ولو كانت إِنْ وحدها، لم يجز.
* ص *: واعترض بأنَّ مذهب سيبَوَيْهِ جوازُ دخولها، وإِن لم تَكُنْ ما انتهى.
وقوله سبحانه: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط}: قال مجاهد وغيره: المعنَى: فإِذا جاء رسولهم يوم القيامة للشَّهادة عليهم، صُيِّرَ قومٌ للجنَّة، وقومٌ للنار، فذلك القضاءُ بينهم بالقسْطِ.

.تفسير الآيات (48- 53):

{وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آَمَنْتُمْ بِهِ آَلْآَنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53)}
وقوله سبحانه: {وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صادقين قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاءَ الله لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ...} الآية: الضميرُ في {يَقُولُونَ} لكفَّار قريش، وسؤالهم عن الوعدِ تحريرٌ منهم- بزعمهم- للحجَّة أي: هذا العذابُ الذي تُوُعِّدْنا به، حَدِّدْ لنا وقته؛ لِنَعْلَمَ الصِّدْق في ذلك من الكَذِب، ثم أمر اللَّه تعالى نبيَّه أنْ يقول على جهة الردِّ عليهم: {قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا إِلاَّ مَا شَاءَ الله}، ولكن {لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} انفرد اللَّه بعلْمِ حدِّه ووقتِهِ، وباقي الآية بَيِّن.
وقوله: {مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون}: أي: فمَا تستعجلون منه، وأنتم لا قِبَلَ لكم بِهِ، والضمير في {مِنْهُ} يحتمل أنْ يعود على اللَّه عزَّ وجلَّ، ويحتمل أن يعود على العَذَابِ.
وقوله: {أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنتُم بِهِ} المعنى: إِذا وقع العذابُ وعاينتموه، آمنتم حينئذٍ، وذلك غَيْر نافعكم، بل جوابُكُمْ: الآن وقَدْ كُنْتُمْ تستعجلونَهُ مكذِّبين به، {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ}: معناه: يستخبرُونَك، وهي عَلَى هذا تتعدَّى إِلى مفعولَيْنِ؛ أَحدُهما: الكافُ، والآخرُ: الجملة، وقيل: هي بمعنى يَسْتَعلِمُونَكَ؛ فعلى هذا تحتاجُ إِلَى ثَلاَثةِ مَفَاعِيلَ.
* ص *: ورُدَّ بأن الاستنباء لا يُحْفَظُ تعديه إِلى ثلاثةٍ، ولاَ اسْتَعْلَمَ الذي هو بِمَعْنَاه. انتهى.
و{أَحَقٌّ هُوَ} قيل: الإِشارة إِلى الشرعِ والقُرآن، وقيل: إِلى الوعيدِ؛ وهو أَظْهر.
وقوله: {إِي وَرَبِّي}: أي: بمعنى نَعَمْ، وهي لفظة تتقدَّم القَسَم، ويجيء بعدها حَرْفُ القسم، وقد لا يجيء؛ تقُولُ: إِي ورَبِّي، وإِي رَبِّي، و{مُعْجِزِينَ}: معناه مفلتين.

.تفسير الآيات (54- 56):

{وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)}
وقوله سبحانه: {وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأرض لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ الندامة...} الآية، و{أَسَرُّواْ}: لفظة تجيءُ بمعنى أَخْفَوا، وهي حينئذٍ من السِّرِّ، وتجيء بمعنى أظْهَرُوا، وهي حينئذٍ من أسارِيرِ الوَجْهِ.
* ص *: قال أبو البقاء: وهو مستأنَفٌ، وهو حكاية ما يكون في الآخرة.
وقوله تعالى: {أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السموات والأرض...} الآية، {أَلاَ} استفتاح وتنبيهٌ، وباقي الآية بيِّن.

.تفسير الآيات (57- 59):

{يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آَللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)}
وقوله سبحانه: {ياأيها الناس قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ...} الآية: هذه آية خُوطِبَ بها جميعُ العَالَم، وال {مَّوْعِظَةٌ}: القرآن؛ لأن الوعظ إِنما هو بقولٍ يأْمُرُ بالمعروف ويزجُرُ، ويرقِّق القلوب، ويَعِدُ ويُوعِدُ، وهذه صفة الكتاب العزيز، وقوله: {مِّن رَّبِّكُمْ} يريد: لم يختلقْها محمَّد ولا غيره، و{مَا فِي الصدور}: يريد به الجَهْلَ ونحوَهُ، وجَعْلُهُ موعظةً بحَسَب النَّاسِ أَجْمَعَ، وجعْلُه هدىً ورحمةً بحسب المؤمنين فَقَطْ، وهذا تفسيرٌ صحيحُ المعنَى، إِذا تُؤُمِّلَ، بان وجْهُه.
وقوله سبحانه: {قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فبذلك فَلْيَفْرَحُواْ}، قال ابن عباس وغيره: الفضل: الإِسلام، والرحمة: القرآن، وقال أبو سعيد الخُدْرِيُّ: الفَضْل: القرآن، والرحمة: أن جعلهم مِنْ أهله.
وقال زيْدُ بن أسلم والضَّحَّاك: الفَضْل: القرآن، والرحمة: الإِسلام.
قال * ع *: ولا وجْه عندي لشيْءٍ من هذا التخْصيصِ إِلاَّ أن يستند شيءٌ منْه إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وإِنما الذي يقتضيه اللفظُ، ويلزم منْه أنَّ الفضْلَ: هو هدايةُ اللَّه تعالى إِلَى دِينِهِ، والتوفيقُ إِلى اتباع شرعه، والرحمةُ هي عفوه وسُكْنَى جنَّته التي جَعَلَها جزاءً على التشرُّع بالإِسلام والإِيمان به، ومعنى الآية: قل، يا محمَّد، لجميع النَّاس: بفضلِ اللَّه ورحمته فَلْيَقَعِ الفَرِحُ منكم، لا بأمور الدنيا وما يُجْمَعُ من حُطَامها، فإِن قيل: كيف أمر اللَّه بالفَرَحِ في هذه الآية، وقد وَرَدَ ذمُّه في قوله: {لَفَرِحٌ فَخُورٌ} [هود: 10] وفي قوله: {لاَ تَفْرَحْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين} [القصص: 76].
قيل: إِن الفرح إِذا ورد مقيَّداً في خيرٍ، فليس بمذمومٍ، وكذلك هو في هذه الآية، وإِذا ورد مقيَّداً في شرٍّ، أو مطلقاً لَحِقَهُ ذمٌّ، إِذ ليس من أفعال الآخرة، بل ينبغي أنْ يغلب على الإِنسان حُزْنُهُ على دينه، وخوفُه لربِّه.
وقوله: {مِّمَّا يَجْمَعُونَ}: يريد: مالَ الدنيا وحُطَامَها الفانِيَ المُرْدِيَ في الآخرة.
وقوله سبحانه: {قُلْ أَرَءَيْتُم مَّا أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَامًا وَحَلاَلاً...} الآية.
قال * ص *: {أَرَءَيْتُم}: مضمَّن معنى: أَخْبِروني، وما موصولة.
قال * ع *: هذه المخاطبة لكفَّار العرب الذين جعلوا البحائِرَ والسَّوائب وغَيْرَ ذلك، وقوله: {أَنَزلَ}: لفظةً فيها تجوُّز.

.تفسير الآيات (60- 61):

{وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)}
وقوله: {وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب يَوْمَ القيامة} آية وعيدٍ- لمَّا تحقَّقَ عليهم بتقسيمِ الآية التي قبلها؛ أنهم مفترون على اللَّه- عَظَّمَ في هذه الآية جُرْمَ الافتراء، أي: ظَنُّهم في غايَةِ الرداءة؛ بحسب سُوء أفعالهم، ثم ثَنَّى بذكْرِ الفَضْل على النَّاس في الإِمهال لهم مع الافتراء والعصيان؛ إِذ الإِمهال لهم داعيَةٌ إِلى التوبةِ والإِنابةِ، ثم الآية تُعمُّ جميعَ فَضْل اللَّه سبحانَهُ، وجميعَ تَقْصير الخَلْقِ.
وقوله سبحانه: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ...} الآية: مَقْصِدُ هذه الآية وصْفُ إِحاطة اللَّه عزَّ وجلَّ بكلِّ شيء، لا ربَّ غيره، ومعنى اللفْظِ: وما تكُونُ يا محمَّد، والمرادُ هو وَغَيْرُهُ في شأن من جميع الشؤون، {وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ}: الضمير عائدٌ على شَأْن أي: فيه وبسببه {مِن قُرْآنٍ}، ويحتمل أنْ يعود الضميرُ على جميع القرآن.
وقال * ص *: ضمير منه عائدٌ على شأن و{مِن قُرْآنٍ}: تفسيرٌ للضمير. انتهى. وهو حَسَن، ثم عمَّ سبحانه بقوله: {وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ}، وفي قوله سبحانه: {إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا} تحذيرٌ وتنبيهٌ.
* ت * وهذه الآية عظيمةُ المَوْقِعِ لأَهْل المراقبة تثيرُ من قلوبهم أسراراً، ويغترفون من بَحْر فيضها أنواراً، و{تُفِيضُونَ} معناه: تأخذون وتَنْهَضُون بِجِدٍّ، {وَمَا يَعْزُبُ}: معناه: وما يَغِيبُ {عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ} والكتابُ المُبينُ هو اللوحُ المحفوظُ، ويحتملُ ما كتبته الحَفَظَةُ.