فصل: تفسير الآيات (62- 64):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير الآيات (62- 64):

{أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآَخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)}
وقوله سبحانه: {أَلآ إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله...} الآيةُ: {أَلا} استفتاحٌ وتنبيهٌ، و{أَوْلِيَاءَ الله}: هم المؤمنون الذينَ وَالوهُ بالطاعةِ والعبادةِ، وهذه الآية يُعْطِي ظاهرُها أَنَّ مَنْ آمَنَ واتقَى اللَّه، فَهُوَ داخلٌ في أولياء اللَّه، وهذا هو الذي تقتضيه الشريعةُ في الوَلِيِّ، وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ سُئِلَ، مَنْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ؟ فَقَالَ: «الَّذِينَ إِذَا رَأَيْتُهُمْ ذَكَرْتَ اللَّه». قال * ع *: هذا وصفٌ لازِمٌ للمتَّقِين؛ لأنهم يَخْشَعُونَ ويُخْشِّعُونَ، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً أَنَّهُ قَالَ: «أَوْلِيَاءُ اللَّه قَوْمٌ تَحَابُّوا فِي اللَّهِ، وَاجْتَمَعُوا في ذَاتِهِ، لَمْ تَجْمَعْهُمْ قَرَابَةٌ وَلاَ مَالٌ يَتَعَاطَوْنَهُ» وروى الدارقطنيُّ في سننه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ: «خِيَارُ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ إِذَا رؤُوا، ذُكِرَ اللَّهُ، وَشَرُّ عِبَادِ اللَّهِ المَشَّاؤونَ بِالنَّمِيمَةِ المُفَرِّقُونَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ، البَاغُونَ للْبُرَآءِ العَيْبَ» انتهى من الكوكب الدُّرِّيِّ.
وقوله: {لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} يعني: في الآخرةِ، ويحتملُ في الدنيا لا يخافُونَ أَحداً من أَهل الدنيا، ولا من أعراضها، ولا يحزنون على ما فاتهم منها، والأولُ أظهر، والعمومُ في ذلك صحيحٌ: لاَ يَخَافُونَ في الآخرة جملةً، ولا في الدنيا الخَوْفَ الدُّنْيَوِيَّ.
وذكر الطبريُّ عن جماعة من العلماء مثْلَ ما في الحديثِ في الأولياء؛ أنهم هُمُ الَّذِينَ إِذَا رَآهُمُ أَحَدٌ، ذَكَرَ اللَّهَ، وروي فيهم حديث؛ «أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ هُمْ قَوْمٌ يَتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ وَيُجْعَلُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ، وَتُنِيرُ وُجُوهُهُمْ، فَهُمْ في عَرَصَاتِ القِيَامَةِ لاَ يَخَافُونَ وَلاَ يَحْزَنُون» وروى عمر بن الخطاب؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: «إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ عِبَاداً مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلاَ شُهَدَاءَ يَغبُطُهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ؛ لَمَكَانَتِهِمْ مِنَ اللَّهِ، قَالُوا: وَمَنْ هُمُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهَ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ، وَلا أَمْوَالٍ...» الحديثَ، ثم قرأَ: {أَلآ إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}.
* ت * وقد خرَّج هذا الحديثَ أبو داود والنسائيُّ، قال أبو داود في هذا الحديث: فَوَاللَّهِ، إِنَّ وجوههم لَنُورٌ، وإِنهم لَعَلَى نُورٍ، ذكره بإِسنادٍ آخر. انتهى.
ورواه أيضاً ابن المبارك في رقائقه بسنده، عن أبي مالك الأشعريِّ؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ عَلَى النَّاس، فَقَالَ: «يَأَيُّهَا النَّاسُ اسمعوا واعقلوا، واعلموا أَنَّ لِلَّهِ عِبَاداً لَيْسُوا بَأَنْبِيَاءَ وَلاَ شُهَدَاءَ، يَغْبُطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ»، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: انْعَتْهُمْ لَنَا، يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَقَالَ: «هُمْ نَاسٌ مِنْ أَبْنَاءِ النَّاسِ، لَمْ تَصِلْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ مُتَقَارِبَةٌ، تَحَابُّوا فِي اللَّهِ، وتَصَافَوْا فيهِ، يَضَعُ اللَّهُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فَيُجْلِسُهُمْ عَلَيْهَا فَيَجْعَلُ وُجُوهَهُمْ نُوراً وَثِيَابَهُمْ نُوراً، يَفْزَعُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهُمْ لاَ يَفْزَعُونَ، وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ».
انتهى.
وقوله تعالى: {لَهُمُ البشرى...} الآية: أَمَّا بشرَى الآخرة، فهي بالجنَّةِ؛ بلا خلاف قولاً واحداً، وذلك هو الفَضْل الكبير، وأَمَّا بُشْرَى الدنيا، فَتَظاهَرَت الأَحاديث من طرق، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهَا «الرُّؤْيا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُؤْمِنُ أَوْ تُرَى لَهُ»، وقال قتادة والضَّحَّاك: البُشْرَى في الدنيا: هِيَ ما يُبَشَّرُ به المؤمنُ عِنْد موته، وهو حَيٌّ عند المعاينة، ويصح أنْ تكون بُشْرَى الدنيا ما في القرآن من الآيات المبشِّرات؛ ويقوَّى ذلك بقوله: {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله}، ويؤوَّل قوله صلى الله عليه وسلم: «هِيَ الرُّؤْيَا» أنه أعطَى مثالاً يعمُّ جميع الناس.
وقوله سبحانه: {لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله}: يريد: لا خُلْفَ لمواعيده، ولا رَدَّ في أمره، وقد أخذ ذلك ابنُ عُمَرَ علَى نحو غَيْرِ هذا، وجَعَلَ التبديلَ المنفيَّ في الألفاظ، وذلك أنَّه روي أَنَّ الحجاج خَطَبَ، فَقَالَ: أَلاَ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْر قَدْ بَدَّلَ كِتَابَ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: إِنَّكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ أَنْتَ، وَلاَ ابن الزُّبَيْرِ؛ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ، وقد رُوِيَ هذا النظرُ عن ابن عباس في غيرِ مُقَاوَلَةِ الحَجَّاجِ، ذكره البخاريُّ.

.تفسير الآيات (65- 66):

{وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66)}
وقوله تعالى: {وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ}: أي: قولُ قُرَيشٍ، فهذه الآية تسليةٌ للنبيِّ صلى الله عليه وسلم، ولفظةُ القولِ تعمُّ جحودَهُمْ واستزاءَهُمْ وخِدَاعهم وغَيْرَ ذلك، ثم ابتدأ تعالى، فقال {إِنَّ العزة لِلَّهِ جَمِيعاً} أي: لا يقدرون لَكَ عَلَى شيء، ولا يؤذُونَكَ، إِلاَّ بما شاء اللَّه، ففي الآية وعيدٌ لهم، ثم استفتح بقوله: {أَلآ إِنَّ لِلَّهِ مَن فِي السموات وَمَن فِي الأرض} أي: بالمُلْك والإِحاطة.
وقوله تعالى: {وَمَا يَتَّبِعُ}: يصح أنْ تكونَ {ما} استفهاما، ويصحُّ أَنْ تكون نافيةً.
* ت *: ورجح هذا الثاني.
وقوله: {إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ} {إِنْ}: نافيةٌ، و{يَخْرُصُونَ}: معناه: يَحْدِسُونَ وَيُخَمِّنون.

.تفسير الآيات (67- 69):

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69)}
وقوله عز وجل: {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِتَسْكُنُواْ فِيهِ...} الآية: في هذه الألفاظ إِيجازٌ وإِحالةٌ على ذِهْنِ السَّامع؛ لأن العبرة في أنَّ الليل مُظْلِمٌ يُسكن فيه، والنَّهار مُبْصِر يُتصرَّف فيه، فذكر طرفاً من هذا وطرفاً من الجهة الثانية، ودلَّ المذكوران على المتروكين.
وقوله: {يَسْمَعُونَ} يريد: يوعون، والضمير في {قَالُواْ} لكفَّارِ العرب، ثم الآية بعدُ تعمُّ كلَّ من قال نحو هذا القول؛ كالنَّصَارَى، و{سبحانه} معناه: تنزيهاً له، وبراءةً من ذلك؛ فسَّره بهذا النبيُّ صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بهذا} {إِنْ} نافيةٌ، والسلطانُ: الحُجَّة، وكذلك معناه حيث تكرَّر في القرآن، ثم وبَّخهم تعالى بقوله: {أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
وقوله سبحانه: {إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ...} الآية: توعُّد لهم بأنهم لا يظفرون ببُغْيَة، ولا يَبْقَوْن في نعمة، إِذ هذه حالُ مَنْ يصير إِلى العذاب، وإِنْ نُعِّمَ في دنياه يسيراً.

.تفسير الآيات (70- 72):

{مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآَيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72)}
وقوله تعالى: {متاع} مرفوعٌ على خبر ابتداء؛ أي: ذلك متاعٌ.
قال * ص *: {متاع} جوابُ سؤالٍ مقدَّر، كأنه قيل: كيف لا يُفْلِحون، وهُمْ في الدنيا مفلحون بأنواعِ التلذُّذات؟! فقيل: ذَلِكَ مَتَاعٌ، فهو خبر مبتدإٍ محذوف. انتهى، وهذا الذي قدَّره.
* ص *: يُفْهَمُ من كلام * ع *.
وقول نوح عليه السلام: {ياقوم إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي...} الآية: المَقَامُ: وقوف الرجل لكلامٍ أو خُطْبَةٍ أَو نحوه، والمُقَام- بضم الميم-: إِقامته ساكناً في موضعٍ أو بلدٍ، ولم يقرأ هنا بضَمِّ الميم فيما علمتُ، وتذكيره: وعظُه وزَجْره، وقوله: {فَأَجْمِعُواْ}: من أَجْمَعَ الرَّجُلُ عَلَى الشَّيْءِ، إِذا عزم عليه؛ ومنه الحديثُ: ما لم يجمعْ مكثاً، و{أَمْرَكُمْ}: يريد به: قُدْرَتكُم وحِيَلكُمْ، ونصب الشركاء بفعل مضمر؛ كأنه قال: وادعوا شَركَاءَكُمْ؛ فهو مِنْ باب: [الرجز]
عَلَفْتُهَا تِبْناً وَمَاءً بَارِدَا ** حَتَّى شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا

وفي مصحفِ أبيٍّ: {فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ، وادعوا شُرَكَاءَكُمْ} قال الفارسيُّ: وقد ينتصب الشركاء ب واو مع؛ كما قالوا: جَاءَ البَرْدُ وَالطَّيَالِسَةَ.
وقوله: {ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً}: أيْ: ملتبساً مشكلاً؛ ومنه قوله عليه السلام في الهلال: «فَإِنْ غُمَّ عَلَيْكُم».
وقوله: {ثُمَّ اقضوا إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونَ}: أي: أنفذوا قضاءكُمْ نَحْوِي، ولا تؤخِّروني، والنَّظِرَةُ: التأخير.

.تفسير الآيات (73- 75):

{فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآَيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75)}
وقوله سبحانه: {فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ}: مضَى شرح هذه المعاني.
وقوله سبحانه: {فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين}: مخاطبة للنبيِّ صلى الله عليه وسلم يشاركُه في معناها جميعُ الخَلْق.
وقوله سبحانه: {ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ}: الضمير في {مِن بَعْدِهِ} عائدٌ عَلى نوحٍ عليه السلام.
وقوله تعالى: {فَجَاءُوهُمْ بالبينات فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كذلك نَطْبَعُ على قُلوبِ المعتدين * ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم موسى وهارون إلى فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِ * بآياتنا فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ}: معنى هذه الآية ضَرْبُ المثلِ لحاضِرِي نبِيِّنا محمَّد عليه السلام؛ ليعتبروا بمَنْ سلف، و{البينات} المعجزاتُ، والضمائر في {مَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ} وفي {كَذَّبُواْ} تعود الثلاثةُ على قوم الرسل، وقيل: الضمير في كذَّبوا يعود على قوم نوح وقد تقدَّم تفسير نظيرها في الأعراف.

.تفسير الآيات (76- 82):

{فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)}
وقوله سبحانه: {فَلَمَّا جَاءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ} الآية: يريد ب {الحق} آيَتَيِ العَصَا واليد.
وقوله: {أَسِحْرٌ هذا}: قالت فرقة: هو حكايةٌ عن موسَى عنهم، ثم أخبرهم موسَى عن اللَّه؛ أَنَّ الساحِرِينَ لا يُفلحون، ثم اختلفوا في معنى قول قَوْمِ فرعونَ، فقال بعضهم: قالها منهم كلُّ مستفهِمٍ جاهلٍ بالأمر، فهو يسأل عنه، وهذا ضعيفٌ، وقال بعضهم: بل قالوا ذلك عَلَى معنى التعظيم للسحْرِ الذي رأَوْهُ، وقالت فرقة: ليس ذلك حكايةً عن موسَى عنهم، وإِنما هو من كلام موسَى، وتقدير الكلامِ: أَتقولون للحَقِّ لما جاءكم سِحْرٌ، ثم ابتدأ يوقِّفهم بقوله: {أَسِحْرٌ هذا} على جهة التوبيخ.
وقولهم: {لِتَلْفِتَنَا}: أي: لتصرفنا وتلوينا وتَرُدَّنا عن دين آبائنا، يقال: لفتَ الرَّجُلُ عُنُقَ الآخَرِ؛ إِذا أَلواه، ومنه قولهم: التفت؛ فَإِنَّهُ افتعل مِنْ لَفَتَ عُنُقَهُ إِذَا أَلواه، و{الكبرياء}: مصْدَر من الكِبْرِ، والمراد به في هذا الموضع المُلْك؛ قاله أكثر المتأوِّلين؛ لأنه أعظم تَكَبُّرِ الدنيا، وقرأ أبو عَمْرٍو وحده: {به آلسِّحْرُ}- بهمزةِ استفام ممدودةٍ-، وفي قراءة أُبيٍّ: {مَا أَتَيْتُمْ بِهِ سِحْرٌ}، والتعريف هنا في السِّحْرِ أَرْتَبُ؛ لأنه تقدَّم منكَّراً في قولهم: {إِنَّ هذا لَسَحِرٌ}، فجاء هنا بلامِ العَهْدِ.
قال * ص *: قال الفَّرَّاء: إِنما قال: السِّحْر ب أَلْ، لأن النكرة إِذا أُعيدَتْ، أُعيدَتْ ب أَلْ، وتبعه ابن عطية، ورُدَّ بأن شرط ما ذكراه اتحاد مدلول النكرةِ المُعَادة؛ كقوله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فعصى فِرْعَوْنُ الرسول} [المزمل: 15، 16] وهنا السِّحْر المنكَّر هو ما أتَى به موسَى، والمعروفُ ما أتَوْا به هُمْ، فاختلف مدلولُهما، والاستفهام هنا: على سبيل التحقِيرِ. انتهى. وهو حَسَن.
وقوله: {إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ}: إِيجاب عن عِدَّةٍ من اللَّه تعالى.
وقوله: {إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين}: يحتمل أنْ يكون ابتداءَ خَبَرٍ مِنَ اللَّهِ عزَّ وجلَّ، ويحتملُ أَنْ يكون من كلام موسَى عليه السلام، وكذلك قوله: {وَيُحِقُّ الله الحق...} الآية، محتملٌ للوجهين، وكون ذلك كلُّه من كلام موسَى أقربُ، وهو الذي ذكر الطبريُّ، وأما قوله: {بكلماته}: فمعناه بكلماته السابقةِ الأزليَّة في الوَعْد بذلك.

.تفسير الآيات (83- 86):

{فَمَا آَمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)}
وقوله عز وجل: {فَمَا آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلإِيْهِمْ} اختلف المتأوِّلون في عود الضمير الذي في {قَوْمِهِ}، فقالتْ فرقة: هو عائدٌ على موسَى، وذلك في أول مبعثه، وَمَلأُ الذُّرِّيَّةِ، هم أشرافُ بني إِسرائيل.
قال * ص *: وهذا هو الظاهر، وقالت فرقةٌ: الضميرُ في {قَوْمِهِ} عائدٌ على {فِرْعَوْنَ}، وضمير {مَلإِيْهِمْ} عائدٌ على الذريَّة.
قال * ع *: ومما يضعِّف عوْدَ الضميرِ علَى موسَى: أَنَّ المعروفَ مِنْ أخبار بني إِسرائيل أنهم كانوا قوماً تقدَّمت فيهم النبوَّاتِ، ولم يُحفَظْ قطُّ أَنَّ طائفة من بَني إِسرائيل كَفَرَتْ به، فدَلَّ على أن الذريَّة مِنْ قوم فِرعون.
وقوله سبحانه: {وَقَالَ موسى ياقوم إِن كُنتُم آمَنتُم بالله فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ...} الآية: هذا ابتداءُ حكايةِ قوْلِ موسَى لجماعةِ بني إِسرائيل؛ مُؤَنِّساً لهم، ونادباً إِلى التوكُّل على اللَّه عزَّ وجلَّ الذي بيده النصْرُ قال المُحَاسِبيُّ: قُلْتُ لأبي جعفرٍ محمَّدِ بنِ موسَى: إِنَّ اللَّه عزَّ وجلَّ يقول: {وَعَلَى الله فَتَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [المائدة: 23] فما السَّبِيلُ إِلى هذا التوكُّل الذي نَدَبَ اللَّه إِلَيْهِ، وكيف دُخُولُ الناس فيه؟ قال: إِن الناس متفاوِتُون في التوكُّل، وتوكُّلُهم علَى قَدْرِ إِيمانهم وقوَّةِ عُلُومهم، قُلْتُ: فما معنى إِيمانهم؟ قال: تصديقُهُم بمواعيدِ اللَّه عزَّ وجلَّ، وثِقَتُهُم بضَمَانِ اللَّه تبارَكَ وتعالَى، قلْتُ: مِنْ أَيْنَ فَضَلَتِ الخاصَّة منهم على العامَّة، والتوكُّل في عَقْد الإِيمان مع كلِّ من آمن باللَّه عزَّ وجلَّ؟ قال: إِنَّ الذي فَضَلَتْ به الخاصَّة على العامَّة دَوَامُ سكونِ القَلْب عن الاضطراب والهُدُوِّ عن الحرَكَة، فعندها، يا فَتَى، استراحوا من عذاب الحِرْصِ، وفُكُّوا مِنْ أُسْرِ الطمع، وأُعْتِقُوا من عُبُودِيَّة الدنيا، وأبنائِها، وحَظُوا بالرَّوْحِ في الدَّارَيْنِ جميعاً، فطوبَى لهم وحُسْنُ مَآب، قلْتُ: فما الذي يولِّدُ هذا؟ قال: حَالَتَانِ:
دَوَامُ لُزُومِ المعرفة، والاعتماد على اللَّه عزَّ وجلَّ، وتَرْكُ الحِيل.
والثانية: الممارسَةُ حتى يَأْلَفَهَا إِلْفاً، ويختارها اختيارا، فيصير التوكُّل والهُدُوُّ والسكونُ والرضا والصبْرُ له شعاراً ودثاراً. انتهى من كتاب القَصْدِ إِلى اللَّه سبحانه.
وقولهم: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين}: المعنى: لا تُنْزِلْ بنا بلاءً بأيديهم أو بغير ذلك مدَّةَ محاربتنا لهم؛ فَيُفْتَنُونَ لذلك، ويعتقدون صلاَحَ دينهم، وفَسَاد ديننا؛ قاله مجاهد وغيره، فهذا الدعاءُ على هذا التأويل يتضمَّن دفْعَ فصلين:
أحدُهما: القَتْل والبلاء الذي توقَّعه المؤمنون.
والآخر: ظُهُورُ الشَّرك باعتقاد أهله أنَّهم أَهْلُ الحَقِّ.
ونحو هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «بِئْسَ المَيِّتُ أَبُو أُمَامَةَ» لأن اليَهُودَ وَالمُشْرِكِينَ يَقُولُونَ: لَوْ كَانَ نَبِيًّا لَمْ يَمُتْ صَاحِبُهُ.
ورَجَّحَ * ع * في سورة [الممتحنة: 5] قولَ ابْنِ عباس: إِن معنى: {لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ}: لا تسلِّطهم علينا؛ فيفتنونا؛ انظره هناك.